الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٦
إِقْرَاءٌ
التَّعْرِيفُ:
١ - الإِْقْرَاءُ لُغَةً: الْحَمْل عَلَى الْقِرَاءَةِ، يُقَال: أَقْرَأَ غَيْرَهُ يُقْرِئُهُ إِقْرَاءً. وَأَقْرَأَهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ مُقْرِئٌ، وَإِذَا قَرَأَ الرَّجُل الْقُرْآنَ أَوِ الْحَدِيثَ عَلَى الشَّيْخِ يَقُول: أَقْرَأَنِي فُلاَنٌ، أَيْ حَمَلَنِي عَلَى أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْهِ (١) .
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لَهُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ. (الْحَمْل عَلَى الْقِرَاءَةِ) سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ بِقَصْدِ الاِسْتِمَاعِ وَالذِّكْرِ، أَمْ كَانَ بِقَصْدِ التَّعْلِيمِ وَالْحِفْظِ. (٢)
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقِرَاءَةُ وَالتِّلاَوَةُ:
٢ - الْقِرَاءَةُ وَالتِّلاَوَةُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، تَقُول: فُلاَنٌ يَتْلُو كِتَابَ اللَّهِ: أَيْ يَقْرَؤُهُ وَيَتَكَلَّمُ بِهِ، قَال اللَّيْثُ: تَلاَ يَتْلُو تِلاَوَةً يَعْنِي: قَرَأَ، وَالْغَالِبُ فِي التِّلاَوَةِ أَنَّهَا تَكُونُ لِلْقُرْآنِ، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ أَعَمَّ مِنْ تِلاَوَةِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ. (٣)
_________
(١) لسان العرب مادة: (قرأ) .
(٢) المهذب ١ / ٢٠١، والمغني ٣ / ٢٠٤ ط الرياض، ومنح الجليل ١ / ٤٢٧.
(٣) لسان العرب مادة (قرأ) و(تلا) .
ب - الْمُدَارَسَةُ:
٣ - الْمُدَارَسَةُ هِيَ: أَنْ يَقْرَأَ الشَّخْصُ عَلَى غَيْرِهِ، وَيَقْرَأَ غَيْرُهُ عَلَيْهِ (١) .
ج - الإِْدَارَةُ:
٤ - الإِْدَارَةُ هِيَ: أَنْ يَقْرَأَ بَعْضُ الْجَمَاعَةِ قِطْعَةً، ثُمَّ يَقْرَأَ غَيْرُهُمْ مَا بَعْدَهَا، وَهَكَذَا (٢) .
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ:
٥ - الإِْقْرَاءُ بِقَصْدِ الذِّكْرِ وَاسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ - وَخَاصَّةً مِمَّنْ كَانَ صَوْتُهُ حَسَنًا - أَمْرٌ مُسْتَحَبٌّ. فَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: قَال لِي رَسُول اللَّهِ ﷺ: اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ، فَقُلْت: يَا رَسُول اللَّهِ أَقْرَأُ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ أُنْزِل؟ قَال: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي، قَال: فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى جِئْتُ إِلَى هَذِهِ الآْيَةِ: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُل أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا﴾ قَال: حَسْبُكَ الآْنَ، فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ فَإِذَا عَيَّنَاهُ تَذْرِفَانِ (٣) . وَفِي ذَلِكَ تَفْصِيلٌ: (ر: اسْتِمَاع - قُرْآن) .
٦ - وَالإِْقْرَاءُ بِقَصْدِ التَّعْلِيمِ وَالْحِفْظِ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنْسَى﴾ (٤) . فَهُوَ يُعْتَبَرُ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ. جَاءَ فِي مِنَحِ الْجَلِيل: مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ الْقِيَامُ بِعُلُومِ الشَّرْعِ مِمَّنْ هُوَ أَهْلٌ لَهُ، غَيْرِ مَا يَجِبُ عَيْنًا، وَهُوَ مَا يَحْتَاجُهُ الشَّخْصُ فِي
_________
(١) حاشية ترشيح المستفيدين على فتح المعين ص ١٦٥.
(٢) المرجع السابق.
(٣) حديث ابن مسعود: أخرجه البخاري (٩ / ٩٨ الفتح ط السلفية)، ومسلم (١ / ٥٥١ ط الحلبي) .
(٤) سورة الأعلى / ٦.
نَفْسِهِ، ثُمَّ قَال: وَالْمُرَادُ بِالْقِيَامِ بِهَا حِفْظُهَا وَإِقْرَاؤُهَا وَقِرَاءَتُهَا وَتَحْقِيقُهَا. (١)
وَيَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ أَحْكَامٌ مُخْتَلِفَةٌ كَأَخْذِ الأُْجْرَةِ عَلَى ذَلِكَ. وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي - (تَعْلِيم - إِجَارَة - اعْتِكَاف) .
إِقْرَارٌ
التَّعْرِيفُ
١ - مِنْ مَعَانِي الإِْقْرَارِ فِي اللُّغَةِ: الاِعْتِرَافُ. يُقَال: أَقَرَّ بِالْحَقِّ إِذَا اعْتَرَفَ بِهِ. وَأَقَرَّ الشَّيْءَ أَوِ الشَّخْصَ فِي الْمَكَانِ: أَثْبَتَهُ وَجَعَلَهُ يَسْتَقِرُّ فِيهِ. (٢)
وَفِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ، الإِْقْرَارُ: هُوَ الإِْخْبَارُ عَنْ ثُبُوتِ حَقٍّ لِلْغَيْرِ عَلَى الْمُخْبِرِ، وَهَذَا تَعْرِيفُ الْجُمْهُورِ (٣) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ إِنْشَاءٌ، وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّهُ إِخْبَارٌ مِنْ وَجْهٍ، وَإِنْشَاءٌ مِنْ وَجْهٍ. (٤)
_________
(١) منح الجليل ١ / ٧٠٩.
(٢) المصباح، والقاموس المحيط، واللسان.
(٣) الفتاوى الهندية ٤ / ١٥٦، وتبيين الحقائق ٥ / ٢، ومواهب الجليل ٥ / ٢١٦، والشرح الصغير ٣ / ٥٢٥، والبناني على شرح الزرقاني ٦ / ٩١، ونهاية المحتاج ٥ / ٦٤ - ٦٥، وحاشية قليوبي ٣ / ٢، وكشاف القناع ٦ / ٤٥٢.
(٤) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين ٤ / ٤٤٨، ٤٤٩، وحاشية الطحطاوي ٣ / ٣٢٧.
وَالإِْقْرَارُ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ وَالأُْصُولِيِّينَ هُوَ: عَدَمُ الإِْنْكَارِ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ صَدَرَ أَمَامَهُ. وَتُنْظَرُ أَحْكَامُهُ فِي مُصْطَلَحِ (تَقْرِير)، وَالْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الاِعْتِرَافُ:
٢ - الاِعْتِرَافُ لُغَةً: مُرَادِفٌ لِلإِْقْرَارِ. يُقَال: اعْتَرَفَ بِالشَّيْءِ: إِذَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ. وَهُوَ كَذَلِكَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ.
يَقُول قَاضِي زَادَهْ: رُوِيَ فِي السُّنَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَجَمَ مَاعِزًا بِإِقْرَارِهِ بِالزِّنَا، وَالْغَامِدِيَّةَ بِاعْتِرَافِهَا، وَقَال فِي قِصَّةِ الْعَسِيفِ: وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إِلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا (١) . فَأَثْبَتَ الْحَدَّ بِالاِعْتِرَافِ. فَالاِعْتِرَافُ إِقْرَارٌ، وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ: إِنَّهُ تَفْسِيرٌ بِالْمُرَادِفِ. (٢)
ب - الإِْنْكَارُ:
٣ - الإِْنْكَارُ: ضِدُّ الإِْقْرَارِ. يُقَال فِي اللُّغَةِ: أَنْكَرْتُ حَقَّهُ: إِذَا جَحَدْتُهُ. (٣)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (ر: مُصْطَلَحَ: إِنْكَار) .
_________
(١) حديث: " رجم ماعز. . . " أخرجه البخاري (الفتح ١٢ / ١٣٥ - ط السلفية)، ومسلم (٣ / ١٣٢٠ ط عيسى الحلبي)، وحديث رجم الغامدية أخرجه مسلم (٣ / ١٣٢٢ ط عيسى الحلبي) . وحديث: " اغديا يا أنيس. . . " أخرجه البخاري (الفتح ١٢ / ١٣٧ - ط السلفية) ومسلم (٣ / ١٣٢٥ - ط الحلبي) .
(٢) نتائج الأفكار " تكملة الفتح " ٦ / ٢٨١، وحاشية قليوبي ٣ / ٢، وروض الطالب ٢ / ٢٨٧، والمغني ٥ / ١٤٩.
(٣) المصباح المنير.
وَالْمُنْكِرُ فِي الاِصْطِلاَحِ: مَنْ يَتَمَسَّكُ بِبَقَاءِ الأَْصْل (١) .
ج - الدَّعْوَى:
٤ - الدَّعْوَى فِي الاِصْطِلاَحِ: مُبَايِنَةٌ لِلإِْقْرَارِ، فَهِيَ قَوْلٌ مَقْبُولٌ عِنْدَ الْقَاضِي يُقْصَدُ بِهِ طَلَبُ حَقٍّ قِبَل الْغَيْرِ، أَوْ دَفْعُ الْخَصْمِ عَنْ حَقِّ نَفْسِهِ (٢) .
د - الشَّهَادَةُ:
٥ - الشَّهَادَةُ هِيَ: الإِْخْبَارُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ لإِثْبَاتِ حَقٍّ لِلْغَيْرِ عَلَى الْغَيْرِ (٣) .
فَيَجْمَعُ كُلًّا مِنَ الإِْقْرَارِ وَالدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ أَنَّهَا إِخْبَارَاتٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا أَنَّ الإِْخْبَارَ إِنْ كَانَ عَنْ حَقٍّ سَابِقٍ عَلَى الْمُخْبِرِ وَيَقْتَصِرُ حُكْمُهُ عَلَيْهِ فَإِقْرَارٌ، وَإِنْ لَمْ يَقْتَصِرْ: فَإِمَّا أَلاَّ يَكُونَ لِلْمُخْبِرِ فِيهِ نَفْعٌ، وَإِنَّمَا هُوَ إِخْبَارٌ عَنْ حَقٍّ لِغَيْرِهِ عَلَى غَيْرِهِ فَهُوَ الشَّهَادَةُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْمُخْبِرِ نَفْعٌ فِيهِ، لأَِنَّهُ إِخْبَارٌ بِحَقٍّ لَهُ، فَهُوَ الدَّعْوَى. (٤)
كَمَا تَفْتَرِقُ مِنْ نَاحِيَةِ أَنَّ الإِْقْرَارَ يَصِحُّ بِالْمُبْهَمِ وَيَلْزَمُ تَعْيِينُهُ.
أَمَّا الدَّعْوَى بِالْمُبْهَمِ فَإِنْ كَانَتْ بِمَا يَصِحُّ وُقُوعُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ مُبْهَمًا كَالْوَصِيَّةِ فَإِنَّهَا تَصِحُّ.
_________
(١) حاشية ابن عابدين ٣ / ١٤٤.
(٢) الدر المختار ٤ / ٤١٩.
(٣) الدر بحاشية الطحطاوي ٣ / ٢٢٧، وحاشية قليوبي ٤ / ٣١٨.
(٤) الدر المختار بحاشية ابن عابدين ٤ / ٤٤٨، وتبيين الحقائق ٥ / ٢، ومواهب الجليل ٥ / ٢١٦، والشرح الصغير ٣ / ٥٢٥، والشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه ٣ / ٣٩٧، وبلغة السالك ٢ / ١٩٠، ونهاية المحتاج ٥ / ٦٥، وحاشية قليوبي ٣ / ٢.
وَأَمَّا الدَّعْوَى عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْمُبْهَمِ فَلاَ تَصِحُّ، وَلاَ تُسْمَعُ.
وَأَمَّا الشَّهَادَةُ بِالْمُبْهَمِ فَإِنْ كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ يَصِحُّ مُبْهَمًا صَحَّتِ الشَّهَادَةُ بِهِ كَالْعِتْقِ وَالطَّلاَقِ، وَإِلاَّ لَمْ تَصِحَّ، لاَ سِيَّمَا الشَّهَادَةِ الَّتِي لاَ تَصِحُّ بِدُونِ دَعْوَى (١) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
٦ - الأَْصْل فِي الإِْقْرَارِ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ الْوُجُوبُ، وَمِنْ ذَلِكَ: الإِْقْرَارُ بِالنَّسَبِ الثَّابِتِ لِئَلاَّ تَضِيعَ الأَْنْسَابُ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ ﵁ أَنَّ رَسُول اللَّهِ ﷺ قَال حِينَ نَزَلَتْ آيَةُ الْمُلاَعَنَةِ: أَيُّمَا رَجُلٍ جَحَدَ وَلَدَهُ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ احْتَجَبَ اللَّهُ عَنْهُ وَفَضَحَهُ اللَّهُ عَلَى رُءُوسِ الأَْوَّلِينَ وَالآْخِرِينَ (٢)
وَكَذَلِكَ الإِْقْرَارُ بِالْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ لِلْغَيْرِ إِذَا كَانَ مُتَعَيِّنًا لإِثْبَاتِهِ، لأَِنَّ مَا لاَ يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ.
دَلِيل مَشْرُوعِيَّةِ الإِْقْرَارِ:
٧ - ثَبَتَتْ حُجِّيَّةُ الإِْقْرَارِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ وَالْمَعْقُول.
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلْيُمْلِل الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ﴾ (٣) أَمَرَهُ بِالإِْمْلاَل، فَلَوْ لَمْ يَقْبَل إِقْرَارَهُ لَمَّا كَانَ لإِمْلاَلِهِ مَعْنًى.
_________
(١) القواعد لابن رجب ص ٢٣٤.
(٢) حديث: " أيما رجل جحد ولده. . . . " أخرجه أبو داود (٢ / ٦٩٥ - ط عزت عبيد دعاس) وأعله ابن حجر في التلخيص (٣ / ٢٢٦ - ط دار المحاسن) .
(٣) سورة البقرة / ٢٨٢.
وقَوْله تَعَالَى: ﴿بَل الإِْنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾ (١) أَيْ شَاهِدٌ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمَا رُوِيَ أَنَّهُ ﵊ رَجَمَ مَاعِزًا وَالْغَامِدِيَّةَ بِإِقْرَارِهِمَا، فَإِذَا وَجَبَ الْحَدُّ بِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ فَالْمَال أَوْلَى أَنْ يَجِبَ.
وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ: فَلأَِنَّ الأُْمَّةَ أَجْمَعَتْ عَلَى أَنَّ الإِْقْرَارَ حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ عَلَى الْمُقِرِّ، حَتَّى أَوْجَبُوا عَلَيْهِ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ بِإِقْرَارِهِ، وَالْمَال أَوْلَى.
وَأَمَّا الْمَعْقُول: فَلأَِنَّ الْعَاقِل لاَ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ كَاذِبًا بِمَا فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ، فَتَرَجَّحَتْ جِهَةُ الصِّدْقِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، لِعَدَمِ التُّهْمَةِ، وَكَمَال الْوِلاَيَةِ. (٢)
أَثَرُ الإِْقْرَارِ:
٨ - أَثَرُ الإِْقْرَارِ ظُهُورُ مَا أَقَرَّ بِهِ، أَيْ ثُبُوتُ الْحَقِّ فِي الْمَاضِي، لاَ إِنْشَاءُ الْحَقِّ ابْتِدَاءً، فَلَوْ أَقَرَّ لِغَيْرِهِ بِمَالٍ وَالْمُقَرُّ لَهُ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُقِرَّ كَاذِبٌ فِي إِقْرَارِهِ، لاَ يَحِل لَهُ أَخْذُ الْمَال عَنْ كُرْهٍ مِنْهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، إِلاَّ أَنْ يُسَلِّمَهُ إِيَّاهُ بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ فَيَكُونَ تَمْلِيكًا مُبْتَدَأً عَلَى سَبِيل الْهِبَةِ.
وَقَال صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَمَنْ يَحْذُو حَذْوَهُ: حُكْمُهُ لُزُومُ مَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى الْمُقِرِّ (٣) .
_________
(١) سورة القيامة / ١٤.
(٢) تبيين الحقائق ٥ / ٣ وحاشية الطحطاوي ٣ / ٣٢٦ والمغني ٥ / ١٤٩، وكشاف القناع ٦ / ٤٥٣، وانظر تفسير القرطبي ٣ / ٣٨٥
(٣) تكملة فتح القدير ٦ / ٢٨٠ - ٢٨٢.
حُجِّيَّةُ الإِْقْرَارِ:
٩ - الإِْقْرَارُ خَبَرٌ، فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ بِاعْتِبَارِ ظَاهِرِهِ، وَلَكِنَّهُ جُعِل حُجَّةً لِظُهُورِ رُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ فِيهِ، إِذِ الْمُقِرُّ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِيمَا يُقِرُّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ.
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: الْحُكْمُ بِالإِْقْرَارِ يَلْزَمُ قَبُولُهُ بِلاَ خِلاَفٍ. (١)
وَالأَْصْل أَنَّ الإِْقْرَارَ حُجَّةٌ بِنَفْسِهِ، وَلاَ يَحْتَاجُ لِثُبُوتِ الْحَقِّ بِهِ إِلَى الْقَضَاءِ، فَهُوَ أَقْوَى مَا يُحْكَمُ بِهِ، وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْبَيِّنَةِ. (٢) وَلِهَذَا يَبْدَأُ الْحَاكِمُ بِالسُّؤَال عَنْهُ قَبْل السُّؤَال عَنِ الشَّهَادَةِ. قَال الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: وَلِهَذَا لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ لِلْمُدَّعِي ثُمَّ أَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ حُكِمَ بِالإِْقْرَارِ وَبَطَلَتِ الشَّهَادَةُ. (٣) وَلِذَا قِيل: إِنَّهُ سَيِّدُ الْحُجَجِ.
عَلَى أَنَّ حُجِّيَّتَهُ قَاصِرَةٌ عَلَى الْمُقِرِّ وَحْدَهُ لِقُصُورِ وِلاَيَةِ الْمُقِرِّ عَنْ غَيْرِهِ فَيَقْتَصِرُ عَلَيْهِ. (٤) فَلاَ يَصِحُّ إِلْزَامُ أَحَدٍ بِعُقُوبَةٍ نَتِيجَةَ إِقْرَارِ آخَرَ بِأَنَّهُ شَارَكَهُ فِي جَرِيمَتِهِ. وَهَذَا مَا جَرَى عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِي عَهْدِ الرَّسُول ﷺ. فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَال: إِنَّهُ قَدْ زَنَى بِامْرَأَةٍ - سَمَّاهَا - فَأَرْسَل النَّبِيُّ ﷺ إِلَى الْمَرْأَةِ فَدَعَاهَا فَسَأَلَهَا عَمَّا قَال، فَأَنْكَرَتْ فَحَدَّهُ وَتَرَكَهَا (٥) .
_________
(١) الطرق الحكمية ص ١٩٤ وبداية المجتهد ٢ / ٣٩٣ ط الخانجي.
(٢) الطرق الحكمية ص ١٩٦.
(٣) حاشية الرملي الكبير على أسنى المطالب ٢ / ٢٨٨.
(٤) الهداية وتكملة الفتح ١ / ٢٨٢، وتبيين الحقائق ٥ / ٣
(٥) سبل السلام ٤ / ٦ الطبعة الثانية سنة ١٩٥٠، والهداية وتكملة الفتح ٦ / ٢٨٢. وحديث: " جاء رجل إلى النبي ﷺ: فقال: إنه قد زنا بامرأة. . . " أخرجه أبو داود (٤ / ٦١١ - ط عزت عبيد دعاس) وذكره الشوكاني في النيل (٧ / ١٠٦ - ط العثمانية) وذكر أن النسائى استنكره، وذكر أن فيه من يتكلم فيه.
غَيْرَ أَنَّ هُنَاكَ بَعْضَ حَالاَتٍ لاَ بُدَّ فِيهَا لِلْحُكْمِ بِمُقْتَضَى الإِْقْرَارِ مِنْ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ أَيْضًا. وَهَذَا إِذَا مَا طَلَبَ تَعَدِّيَ الْحُكْمِ إِلَى الْغَيْرِ. فَلَوِ ادَّعَى شَخْصٌ عَلَى مَدِينِ الْمَيِّتِ أَنَّهُ وَصِيُّهُ فِي التَّرِكَةِ، وَصَدَّقَهُ الْمَدِينُ فِي دَعْوَى الْوِصَايَةِ وَالدَّيْنِ، فَإِنَّ الْوِصَايَةَ لاَ تَثْبُتُ بِهَذَا الإِْقْرَارِ بِالنِّسْبَةِ لِمَدِينٍ آخَرَ يُنْكِرُ الْوِصَايَةَ وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إِلَى بَيِّنَةٍ.
وَفِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ: أَحَدُ الْوَرَثَةِ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ الْمُدَّعَى بِهِ عَلَى مُورَثِهِ، وَجَحَدَهُ الْبَاقُونَ، يَلْزَمُهُ الدَّيْنُ كُلُّهُ إِنْ وَفَّتْ حِصَّتُهُ مِنَ الْمِيرَاثِ بِهِ، وَقِيل: لاَ يَلْزَمُهُ إِلاَّ حِصَّتُهُ مِنَ الدَّيْنِ رَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ، لأَِنَّهُ إِنَّمَا أَقَرَّ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِكُل التَّرِكَةِ.
وَهُوَ قَوْل الشَّعْبِيِّ وَالْبَصْرِيِّ وَالثَّوْرِيِّ وَمَالِكٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَابِدِينَ، وَلَوْ شَهِدَ هَذَا الْمُقِرُّ مَعَ آخَرَ أَنَّ الدَّيْنَ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهُ إِلاَّ مَا يَخُصُّهُ.
وَبِهَذَا عُلِمَ أَنَّهُ لاَ يَحِل الدَّيْنُ فِي نَصِيبِهِ بِمُجَرَّدِ إِقْرَارِهِ، بَل بِقَضَاءِ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ. يَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: وَلَوْ أَقَرَّ مَنْ عِنْدَهُ الْعَيْنُ أَنَّهُ وَكِيلٌ بِقَبْضِهَا لاَ يَكْفِي إِقْرَارُهُ، وَيُكَلَّفُ الْوَكِيل إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى إِثْبَاتِ الْوَكَالَةِ حَتَّى يَكُونَ لَهُ قَبْضُ ذَلِكَ.
ثُمَّ الإِْقْرَارُ حُجَّةٌ فِي النَّسَبِ، وَيَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ إِلاَّ إِذَا كَذَّبَهُ الْوَاقِعُ، كَأَنْ يُقِرَّ بِنَسَبِ مَنْ لاَ يُولَدُ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ. (١)
_________
(١) حاشية ابن عابدين ٤ / ٤٥٦ - ٤٥٧، والزرقاني على خليل ٦ / ١٠٤، ١٠٥، ومغني المحتاج ٢ / ٢٥٩، وابن عابدين ٤ / ٤٦٥، والمغني ٥ / ٢٠٠.
سَبَبُ الإِْقْرَارِ:
١٠ - سَبَبُ الإِْقْرَارِ كَمَا يَقُول الْكَمَال بْنُ الْهُمَامِ: إِرَادَةُ إِسْقَاطِ الْوَاجِبِ عَنْ ذِمَّتِهِ بِإِخْبَارِهِ وَإِعْلاَمِهِ، لِئَلاَّ يَبْقَى فِي تَبَعَةِ الْوَاجِبِ (١) .
رُكْنُ الإِْقْرَارِ:
١١ - أَرْكَانُ الإِْقْرَارِ عِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ أَرْبَعَةٌ: مُقِرٌّ، وَمُقَرٌّ لَهُ، وَمُقَرٌّ بِهِ، وَصِيغَةٌ (٢)، وَذَلِكَ لأَِنَّ الرُّكْنَ عِنْدَهُمْ هُوَ مَا لاَ يَتِمُّ الشَّيْءُ إِلاَّ بِهِ، سَوَاءٌ أَكَانَ جُزْءًا مِنْهُ أَمْ لاَزِمًا لَهُ. وَزَادَ بَعْضُهُمْ كَمَا يَقُول الرَّمْلِيُّ: الْمُقَرُّ عِنْدَهُ مِنْ حَاكِمٍ أَوْ شَاهِدٍ، وَقَال: وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ مَحَل نَظَرٍ، إِذْ لَوْ تَوَقَّفَ تَحَقُّقُ الإِْقْرَارِ عَلَى ذَلِكَ لَزِمَ أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ خَالِيًا بِحَيْثُ لاَ يَسْمَعُهُ شَاهِدٌ، وَلَمْ يَكُنْ أَمَامَ قَاضٍ، ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَقَرَّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي يَوْمِ كَذَا، لَمْ يُعْتَدَّ بِهَذَا الإِْقْرَارِ، لِعَدَمِ وُجُودِ هَذَا الرُّكْنِ الزَّائِدِ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ، وَلِذَا فَإِنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ (٣) .
وَأَمَّا رُكْنُ الإِْقْرَارِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَهُوَ الصِّيغَةُ فَقَطْ، صَرَاحَةً كَانَتْ أَوْ دَلاَلَةً، وَذَلِكَ لأَِنَّ الرُّكْنَ عِنْدَهُمْ: مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُ الشَّيْءِ، وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ مَاهِيَّتِهِ.
الْمُقِرُّ وَمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ:
الْمُقِرُّ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الإِْخْبَارُ عَنْ ثُبُوتِ حَقٍّ لِلْغَيْرِ عَلَى نَفْسِهِ وَتُشْتَرَطُ فِيهِ أُمُورٌ:
الشَّرْطُ الأَْوَّل: الْمَعْلُومِيَّةُ.
١٢ - أَوَّل مَا يُشْتَرَطُ لاِعْتِبَارِ الإِْقْرَارِ وَالأَْخْذِ بِهِ أَنْ
_________
(١) فتح القدير على الهداية ٤ / ٢٨٠.
(٢) التاج والإكليل ٥ / ٢١٦، والشرح الصغير ٣ / ٥٢٩، وأسنى المطالب ٢ / ٢٨٧ - ٢٨٨، ونهاية المحتاج ٥ / ٦٥.
(٣) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج ٥ / ٦٥.