الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٦
وَأَثَرٌ رَجْعِيٌّ، وَإِنَّمَا يَسْرِي حُكْمُهُ عَلَى الْمُسْتَقْبَل فَقَطْ مِنْ تَارِيخِ وُقُوعِهِ، وَذَلِكَ فِي الْعُقُودِ الاِسْتِمْرَارِيَّةِ كَالشَّرِكَةِ وَكَالإِْجَارَةِ.
فَالْفَسْخُ أَوِ الاِنْفِسَاخُ يَقْطَعَانِ تَأْثِيرَ هَذِهِ الْعُقُودِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُسْتَقْبَل، أَمَّا مَا مَضَى فَيَكُونُ عَلَى حُكْمِ الْعَقْدِ، وَكَذَا انْحِلاَل الْوَكَالَةِ بِالْعَزْل لاَ يَنْقُضُ تَصَرُّفَاتِ الْوَكِيل السَّابِقَةَ. (١)
ثُمَّ يُسْتَحْسَنُ التَّمْيِيزُ فِي تَسْمِيَةِ انْحِلاَل الْعَقْدِ بَيْنَ حَالَتَيِ الاِسْتِنَادِ وَالاِقْتِصَارِ، فَيُقْتَرَحُ تَسْمِيَةُ الْحِل وَالاِنْحِلاَل فِي حَالَةِ الاِسْتِنَادِ: فَسْخًا وَانْفِسَاخًا، وَفِي حَالَةِ الاِقْتِصَارِ: إِنْهَاءً وَانْتِهَاءً. (٢)
٧ - هَذَا، وَلَمْ نَرَ التَّصْرِيحَ بِهَذَيْنِ الْمُصْطَلَحَيْنِ فِي مَذْهَبِ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ، إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ فَرَّقُوا بَيْنَ حَالَتَيْنِ فِي الْفَسْخِ.
قَال الإِْمَامُ السُّيُوطِيُّ فِي كِتَابِهِ الأَْشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ (٣): الْفَسْخُ هَل يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ أَصْلِهِ، أَوْ مِنْ حِينِهِ؟ يُمْكِنُ أَنْ نَفْهَمَ مِنْ قَوْل السُّيُوطِيِّ هَذَا أَنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَ مَا يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ أَصْلِهِ وَبَيْنَ مَا يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ حِينِهِ، فَيَصْدُقُ عَلَى الأَْوَّل الاِسْتِنَادُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَلَى الثَّانِي الاِقْتِصَارُ عِنْدَهُمْ أَيْضًا.
فَقَدْ فَرَّقَ السُّيُوطِيُّ هُنَا بَيْنَ مَا لَهُ أَثَرٌ رَجْعِيٌّ، وَبَيْنَ مَا لَيْسَ لَهُ أَثَرٌ رَجْعِيٌّ.
٨ - وَقَدْ مَثَّلُوا لِمَا يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ حِينِهِ بِمَا يَلِي:
أ - الْفَسْخُ بِخِيَارِ الْعَيْبِ، وَالتَّصْرِيَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَالأَْصَحُّ أَنَّهُ مِنْ حِينِهِ.
ب - فَسْخُ الْبَيْعِ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ أَوِ الشَّرْطِ فِيهِ
_________
(١) المرجع السابق: ص ٥٣٤.
(٢) المدخل الفقهي العام: ٥٣٥.
(٣) الأشباه والنظائر ٣١٧ - ٣١٨.
وَجْهَانِ، أَصَحُّهُمَا فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ مِنْ حِينِهِ.
ج - الْفَسْخُ بِالْفَلَسِ مِنْ حِينِهِ قَطْعًا.
هـ - الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ مِنْ حِينِهِ قَطْعًا.
- وَفَسْخُ النِّكَاحِ بِأَحَدِ الْعُيُوبِ، وَالأَْصَحُّ: أَنَّهُ مِنْ حِينِهِ
ز - فَسْخُ الْحَوَالَةِ: انْقِطَاعٌ مِنْ حِينِهِ.
٩ - وَمَثَّل لِمَا يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ أَصْلِهِ أَيْضًا بِقَوْلِهِمْ: إِذَا كَانَ رَأْسُ مَال السَّلَمِ فِي الذِّمَّةِ، وَعَيَّنَ فِي الْمَجْلِسِ، ثُمَّ انْفَسَخَ السَّلَمُ بِسَبَبٍ يَقْتَضِيهِ وَرَأْسُ الْمَال بَاقٍ، فَهَل يَرْجِعُ إِلَى عَيْنِهِ أَوْ بَدَلِهِ؟ وَجْهَانِ: الأَْصَحُّ الأَْوَّل. قَال الْغَزَالِيُّ: وَالْخِلاَفُ يَلْتَفِتُ إِلَى أَنَّ الْمُسَلَّمَ فِيهِ إِذَا رُدَّ بِالْعَيْبِ هَل يَكُونُ نَقْضًا لِلْمِلْكِ فِي الْحَال، أَوْ هُوَ مُبَيِّنٌ لِعَدَمِ جَرَيَانِ الْمِلْكِ؟ .
وَمُقْتَضَى هَذَا التَّفْرِيعِ: أَنَّ الأَْصَحَّ هُنَا، أَنَّهُ رَفْعٌ لِلْعَقْدِ مِنْ أَصْلِهِ، وَيَجْرِي ذَلِكَ أَيْضًا فِي نُجُومِ الْكِتَابَةِ (أَقْسَاطِهَا)، وَبَدَل الْخُلْعِ إِذَا وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّهُ.
لَكِنْ فِي الْكِتَابَةِ يَرْتَدُّ الْعِتْقُ لِعَدَمِ الْقَبْضِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ.
وَفِي الْخُلْعِ: لاَ يَرْتَدُّ الطَّلاَقُ بَل يَرْجِعُ إِلَى بَدَل الْبُضْعِ. (١)
هَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الإِْمَامُ السُّيُوطِيُّ فِي الأَْشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ، فِي أَنَّ الْفَسْخَ يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ أَصْلِهِ حِينًا وَمِنْ حِينِهِ حِينًا آخَرَ.
إِلاَّ أَنَّنَا حِينَمَا نَرْجِعُ إِلَى الرَّوْضَةِ نَجِدُ الإِْمَامَ النَّوَوِيَّ يُرَجِّحُ أَنَّ الْفَسْخَ يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ حِينِهِ، وَأَنَّ الرَّفْعَ مِنَ الأَْصْل ضَعِيفٌ. (٢)
_________
(١) الأشباه والنظائر للسيوطي ٣١٧ - ٣١٨.
(٢) الروضة ٣ / ٤٨٩.
وَقَدْ تَبِعَهُ فِي ذَلِكَ الْقَلْيُوبِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى شَرْحِ الْمِنْهَاجِ لِلْمَحَلِّيِّ (١)، فَيَقُول: إِنَّ الْفَسْخَ يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ أَصْلِهِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَيَقُول الْمَحَلِّيُّ، بِنَاءً عَلَى الأَْصَحِّ: إِنَّ الْفَسْخَ يَرْفَعُ الْعَقْدَ مِنْ حِينِهِ. (٢)
التَّبْيِينُ (٣):
١٠ - التَّبْيِينُ: أَنْ يَظْهَرَ فِي الْحَال أَنَّ الْحُكْمَ كَانَ ثَابِتًا مِنْ قَبْل، مِثْل أَنْ يَقُول فِي الْيَوْمِ: إِنْ كَانَ زَيْدٌ فِي الدَّارِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَتَبَيَّنَ فِي الْغَدِ وُجُودُهُ فِيهَا، يَقَعُ الطَّلاَقُ فِي الْيَوْمِ، وَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِنْهُ (٤) .
وَيُخَالِفُ التَّبْيِينُ الاِقْتِصَارَ فِي أَنَّ الْحُكْمَ فِي التَّبْيِينِ يَظْهَرُ أَنَّهُ كَانَ ثَابِتًا مِنْ قَبْل، فِي حِينِ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الاِقْتِصَارِ يَثْبُتُ فِي الْحَال فَقَطْ.
هَذَا، وَلَمَّا كَانَ الاِقْتِصَارُ إِنْشَاءً لِلْعُقُودِ، أَوِ الْفُسُوخِ الْمُنَجَّزَةِ، شَمَلَهَا جَمِيعًا، لأَِنَّ التَّنْجِيزَ هُوَ الأَْصْل فِيهَا.
مِثَال الْعُقُودِ: الْبَيْعُ وَالسَّلَمُ وَالإِْجَارَةُ وَالْقِرَاضُ وَغَيْرُ ذَلِكَ.
وَمِثَال الْفُسُوخِ: الطَّلاَقُ وَالْعِتَاقُ وَغَيْرُ ذَلِكَ.
أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْفُسُوخُ غَيْرَ مُنَجَّزَةٍ، بِأَنْ كَانَ لَهَا أَثَرٌ رَجْعِيٌّ، وَانْسَحَبَ حُكْمُهَا عَلَى الْمَاضِي، فَتَدْخُل حِينَئِذٍ فِي بَابِ الاِسْتِنَادِ. وَمِثَالُهُ مَا لَوْ قَال: أَنْتِ طَالِقٌ قَبْل مَوْتِ فُلاَنٍ بِشَهْرٍ، لَمْ تُطَلَّقْ حَتَّى
_________
(١) القليوبي على شرح المنهاج ٢ / ٣٢٦.
(٢) شرح المحلي على المنهاج ٢ / ٢٠٨.
(٣) قال ابن عابدين في حاشيته على الدر المختار: كذا عبارتهم فهو مصدر بمعنى التبين، أي الظهور " ٢ / ٤٤٣
(٤) الأشباه والنظائر مع الحموي ٢ / ١٥٧.
يَمُوتَ فُلاَنٌ بَعْدَ الْيَمِينِ بِشَهْرٍ، فَإِنْ مَاتَ لِتَمَامِ الشَّهْرِ طُلِّقَتْ مُسْتَنِدًا إِلَى أَوَّل الشَّهْرِ، فَتُعْتَبَرُ الْعِدَّةُ أَوَّلَهُ.
اقْتِضَاءٌ
التَّعْرِيفُ:
١ - الاِقْتِضَاءُ: مَصْدَرُ اقْتَضَى، يُقَال: اقْتَضَيْتُ مِنْهُ حَقِّي، وَتَقَاضَيْتُهُ: إِذَا طَلَبْتُهُ وَقَبَضْتُهُ وَأَخَذْتُهُ مِنْهُ، وَأَصْلُهُ مِنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ. (١)
وَالاِقْتِضَاءُ فِي اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.
وَيَسْتَعْمِلُهُ الأُْصُولِيُّونَ بِمَعْنَى الدَّلاَلَةِ. يَقُولُونَ: الأَْمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ أَيْ يَدُل عَلَيْهِ، وَيَسْتَعْمِلُونَهُ أَيْضًا بِمَعْنَى الطَّلَبِ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْقَضَاءُ:
٢ - الْقَضَاءُ: إِعْطَاءُ الْحَقِّ وَالْفَرَاغُ مِنْهُ، وَمِنْهُ أَدَاءُ مَا عَلَى الإِْنْسَانِ مِنْ حُقُوقٍ لِلَّهِ تَعَالَى، سَوَاءٌ كَانَ أَدَاؤُهَا فِي الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ لَهَا، وَمِنْهُ قَوْل اللَّهِ ﷿: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ﴾ (٢) أَيْ أَدَّيْتُمُوهَا وَفَرَغْتُمْ مِنْهَا، أَوْ كَانَ أَدَاؤُهَا بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا كَقَضَاءِ الْفَائِتَةِ.
وَبَعْضُ الأُْصُولِيِّينَ يَقُول: إِنَّ لَفْظَ الْقَضَاءِ عَامٌّ
_________
(١) لسان العرب والمصباح مادة (قضى)، وفيض القدير ٤ / ٢٦، وفتح الباري ٤ / ٢٤٥.
(٢) سورة البقرة / ٢٠٠.
يَجُوزُ إِطْلاَقُهُ عَلَى تَسْلِيمِ عَيْنِ الْوَاجِبِ (وَهُوَ الأَْدَاءُ)، أَوْ تَسْلِيمُ مِثْلِهِ (وَهُوَ الْقَضَاءُ)، لأَِنَّ مَعْنَى الْقَضَاءِ: الإِْسْقَاطُ وَالإِْتْمَامُ وَالإِْحْكَامُ، وَهَذِهِ الْمَعَانِي مَوْجُودَةٌ فِي تَسْلِيمِ عَيْنِ الْوَاجِبِ، كَمَا هِيَ مَوْجُودَةٌ فِي تَسْلِيمِ مِثْلِهِ، فَيَجُوزُ إِطْلاَقُ الْقَضَاءِ عَلَى الأَْدَاءِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ لِعُمُومِ مَعْنَاهُ، إِلاَّ أَنَّهُ لَمَّا اخْتَصَّ بِتَسْلِيمِ الْمِثْل عُرْفًا أَوْ شَرْعًا كَانَ فِي غَيْرِهِ مَجَازًا، وَكَانَ إِطْلاَقُهُ عَلَى الأَْدَاءِ حَقِيقَةً لُغَوِيَّةً، مَجَازًا عُرْفِيًّا أَوْ شَرْعِيًّا. (١)
وَيَشْمَل أَيْضًا أَدَاءَ مَا عَلَى الإِْنْسَانِ مِنْ حُقُوقٍ لِغَيْرِهِ كَقَوْلِهِمْ: لَوْ عَرَفَ الْوَصِيُّ دَيْنًا عَلَى الْمَيِّتِ فَقَضَاهُ لاَ يَأْثَمُ. (٢) .
ب - الاِسْتِيفَاءُ:
٣ - الاِسْتِيفَاءُ: طَلَبُ الْوَفَاءِ، يُقَال: اسْتَوْفَيْتُ مِنْ فُلاَنٍ مَا لِي عَلَيْهِ، أَيْ: أَخَذْتُهُ حَتَّى لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَاسْتَوْفَيْتُ الْمَال: إِذَا أَخَذْتُهُ كُلَّهُ. (٣) وَهُوَ بِذَلِكَ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الاِقْتِضَاءِ.
دَلاَلَةُ الاِقْتِضَاءِ:
٤ - دَلاَلَةُ الاِقْتِضَاءِ هِيَ تَقْدِيرُ مَحْذُوفٍ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِحَّةُ الْكَلاَمِ أَوْ صِدْقُهُ.
وَالْكَلاَمُ الَّذِي لاَ يَصِحُّ إِلاَّ بِالزِّيَادَةِ هُوَ الْمُقْتَضِي، وَالْمَزِيدُ هُوَ الْمُقْتَضَى، وَطَلَبُ الزِّيَادَةِ هُوَ الاِقْتِضَاءُ، وَالْحُكْمُ الَّذِي ثَبَتَ بِهِ هُوَ حُكْمُ الْمُقْتَضَى، وَمِثَالُهُ مَا يُتَوَقَّفُ عَلَيْهِ لِصِحَّةِ قَوْل الْقَائِل: أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي بِأَلْفٍ، فَنَفْسُ هَذَا
_________
(١) كشف الأسرار ١ / ١٣٧.
(٢) ابن عابدين ٢ / ٧٠٣.
(٣) لسان العرب مادة (وفى) .
الْكَلاَمِ هُوَ الْمُقْتَضِي، لِعَدَمِ صِحَّتِهِ فِي نَفْسِهِ شَرْعًا، لأَِنَّ الْعِتْقَ فَرْعُ الْمِلْكِيَّةِ، فَكَأَنَّهُ قَال: بِعْنِي عَبْدَكَ بِكَذَا أَوْ وَكَّلْتُكَ فِي إِعْتَاقِهِ، وَطَلَبُ الزِّيَادَةِ الَّتِي يَصِحُّ بِهَا الْكَلاَمُ هِيَ الاِقْتِضَاءُ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ (وَهِيَ الْبَيْعُ) هِيَ الْمُقْتَضَى، وَمَا ثَبَتَ بِالْبَيْعِ (وَهُوَ الْمِلْكُ) هُوَ حُكْمُ الْمُقْتَضِي، وَمِثَالُهُ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِدْقُ الْمُتَكَلِّمِ، كَقَوْل النَّبِيِّ ﷺ رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (١) فَإِنَّ رَفْعَ الْخَطَأِ وَغَيْرِهِ مَعَ تَحَقُّقِهِ مُمْتَنِعٌ فَلاَ بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ نَفْيِ حُكْمٍ يُمْكِنُ نَفْيُهُ، كَنَفْيِ الْمُؤَاخَذَةِ وَالْعِقَابِ.
وَمِنْهُ مَا أُضْمِرَ لِصِحَّةِ الْكَلاَمِ عَقْلًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَاسْأَل الْقَرْيَةَ﴾ (٢)، فَإِنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ إِضْمَارِ (أَهْل) لِصِحَّةِ الْمَلْفُوظِ بِهِ عَقْلًا. (٣)
الاِقْتِضَاءُ بِمَعْنَى الطَّلَبِ:
٥ - الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ هُوَ: خِطَابُ اللَّهِ تَعَالَى الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَال الْمُكَلَّفِينَ بِالاِقْتِضَاءِ أَوِ التَّخْيِيرِ. وَالاِقْتِضَاءُ - وَهُوَ الطَّلَبُ - إِمَّا أَنْ يَكُونَ طَلَبَ الْفِعْل أَوْ طَلَبَ تَرْكِهِ (٤) .
_________
(١) حديث: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " قال العجلوني في كشف الخفاء (١ / ٥٢٢ - ط الرسالة): قال في اللآلئ: لا يوجد بهذا اللفظ، وأقرب ما وجد ما رواه ابن عدي عن أبي بكرة بلفظ: " رفع الله عن هذه الأمة ثلاثا: الخطأ، والنسيان والأمر يكرهون عليه " ثم نقل استنكار ابن عدي لهذه الرواية، وكذلك إعلال الإمام أحمد له. وذكر أنه ورد بلفظ: " وضع. . . الحديث ". أخرجه ابن ماجه (١ / ٦٥٩ - ط الحلبي) وقال: " رجاله ثقات ".
(٢) سورة يوسف / ٨٢، وهل يقدر المقتضى عاما أو خاصا، هذه مسألة خلافية تنظر في الملحق الأصولي.
(٣) كشف الأسرار ١ / ٧٦، والأحكام للآمدي ٢ / ١٤١.
(٤) الأحكام للآمدي ١ / ٤٩.
وَطَلَبُ الْفِعْل، إِنْ كَانَ عَلَى سَبِيل الْجَزْمِ فَهُوَ الإِْيجَابُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ جَازِمٍ فَهُوَ النَّدْبُ. وَأَمَّا طَلَبُ التَّرْكِ، فَإِنْ كَانَ جَازِمًا فَهُوَ التَّحْرِيمُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ جَازِمٍ فَهُوَ الْكَرَاهَةُ.
أَمَّا التَّخْيِيرُ فَهُوَ قَسِيمُ الاِقْتِضَاءِ، إِذْ هُوَ مَا كَانَ فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ عَلَى السَّوَاءِ.
اقْتِضَاءُ الْحَقِّ:
٦ - الشَّائِعُ فِي اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ هُوَ التَّعْبِيرُ بِلَفْظِ (الاِسْتِيفَاءِ) مَقْصُودًا بِهِ أَخْذَ الْحَقِّ، سَوَاءٌ أَكَانَ حَقًّا مَالِيًّا كَاسْتِيفَاءِ الأَْجِيرِ أُجْرَتَهُ، أَمْ كَانَ حَقًّا غَيْرَ مَالِيٍّ كَاسْتِيفَاءِ الْمَنَافِعِ وَالْقِصَاصِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. (١)
وَيَأْتِي الاِقْتِضَاءُ بِمَعْنَى طَلَبِ قَضَاءِ الْحَقِّ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ: رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى (٢) قَال ابْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِهِ: أَيْ طَلَبَ قَضَاءَ حَقِّهِ بِسُهُولَةٍ وَعَدَمِ إِلْحَافٍ. (٣) (ر: اتِّبَاع. اسْتِيفَاء) .
اقْتِنَاءٌ
التَّعْرِيفُ:
١ - الاِقْتِنَاءُ: مَصْدَرُ اقْتَنَى الشَّيْءَ يَقْتَنِيهِ، إِذَا
_________
(١) نهاية المحتاج ٥ / ٣٠٥، وبدائع الصنائع ٧ / ٢٤٧.
(٢) حديث: " رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى " أخرجه البخاري (٤ / ٣٠٦ - الفتح - ط السلفية) .
(٣) فتح الباري ٤ / ٢٤٥ ط - البهية.
اتَّخَذَهُ لِنَفْسِهِ، لاَ لِلْبَيْعِ أَوْ لِلتِّجَارَةِ. يُقَال: هَذِهِ الْفَرَسُ قُنْيَةٌ، وَقِنْيَةٌ (بِكَسْرِ الْقَافِ وَضَمِّهَا) إِذَا اتَّخَذَهَا لِلنَّسْل أَوْ لِلرُّكُوبِ وَنَحْوِهِمَا، لاَ لِلتِّجَارَةِ. (١) وَقَنَوْتُ الْبَقَرَةَ، وَقَنَيْتُهَا: أَيِ اتَّخَذْتُهَا لِلْحَلْبِ أَوِ الْحَرْثِ. وَمَال قُنْيَانٍ: إِذَا اتَّخَذْتَهُ لِنَفْسِكَ.
وَالْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ لِهَذَا اللَّفْظِ لاَ يَفْتَرِقُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
حُكْمُ الاِقْتِنَاءِ:
٢ - الاِقْتِنَاءُ لِلأَْشْيَاءِ قَدْ يَكُونُ مُبَاحًا، بَل قَدْ يَكُونُ مَنْدُوبًا، مِثْل اقْتِنَاءِ الْمَصَاحِفِ وَكُتُبِ الْحَدِيثِ وَالْعِلْمِ.
وَقَدْ يَكُونُ مُبَاحًا فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ، مِثْل اقْتِنَاءِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَاقْتِنَاءِ الْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمُبَاحَاتِ بِشُرُوطِهَا، يُنْظَرُ تَفْصِيلُهَا فِي مُصْطَلَحِ (إِبَاحَة) .
وَقَدْ يَكُونُ حَرَامًا مِثْل الْخِنْزِيرِ وَالْخَمْرِ وَآلاَتِ اللَّهْوِ الْمُحَرَّمِ. (٢)
٣ - وَقَدْ تَعَرَّضَ الْفُقَهَاءُ لِزَكَاةِ الْمُقْتَنَيَاتِ وَقَالُوا: لاَ يُزَكَّى الْمُقْتَنَى مِنَ النَّعَمِ فِي الْجُمْلَةِ إِلاَّ مَا أُسِيمَ لِحَمْلٍ أَوْ رُكُوبٍ أَوْ نَسْلٍ، إِذَا بَلَغَتْ نِصَابًا، لِقَوْلِهِ ﵊ فِي خَمْسٍ مِنَ الإِْبِل السَّائِمَةِ صَدَقَةٌ (٣)
_________
(١) لسان العرب والمصباح المنير والقاموس المحيط.
(٢) قليوبي ٢ / ١٥٧، ٣ / ٨، ١٥٧، ٢٩٧، وابن عابدين ٥ / ١٣٤، ١٤٧، ٢١٧، وجواهر الإكليل ٢ / ٤، ٣٥، والشرح الصغير ٣ / ٢٢، ٢٤، ٤ / ١٤١، ٤٧٤، والمغني ١ / ٧٧، ٣ / ١٥، ٤ / ٢٥١ - ٢٥٥، ٨ / ٣٢١.
(٣) حديث: " في خمس من الإبل. . . " ورد بلفظ: " من لم يكن معه إلا أربع من الإبل فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها، فإذا بلغت خمسا من الإبل ففيها شاة ". أخرجه البخاري (الفتح ٣ / ٣١٧ - ط السلفية) .
كَمَا يُزَكَّى الْمُقْتَنَى مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مَضْرُوبِهَا وَتِبْرِهَا وَحُلِيِّهَا وَآنِيَتِهَا، نَوَى التِّجَارَةَ أَوْ لَمْ يَنْوِ، إِذَا بَلَغَ ذَلِكَ نِصَابًا. وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْجُمْلَةِ، إِلاَّ فِي حُلِيِّ النِّسَاءِ. (١) (ر: زَكَاة) .
اقْتِيَاتٌ
التَّعْرِيفُ:
١ - الاِقْتِيَاتُ لُغَةً: مَصْدَرُ اقْتَاتَ، وَاقْتَاتَ: أَكَل الْقُوتَ، وَالْقُوتُ: مَا يُؤْكَل لِيَمْسِكَ الرَّمَقَ، (٢) كَالْقَمْحِ وَالأُْرْزِ. وَالأَْشْيَاءُ الْمُقْتَاتَةُ: هِيَ الَّتِي تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ قُوتًا تُغَذَّى بِهِ الأَْجْسَامُ عَلَى الدَّوَامِ، بِخِلاَفِ مَا يَكُونُ قِوَامًا لِلأَْجْسَامِ لاَ عَلَى الدَّوَامِ. (٣)
وَيُسْتَعْمَل الاِقْتِيَاتُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، إِذْ عَرَّفَهُ الدُّسُوقِيُّ بِأَنَّهُ: مَا تَقُومُ الْبِنْيَةُ بِاسْتِعْمَالِهِ بِحَيْثُ لاَ تَفْسُدُ عِنْدَ الاِقْتِصَارِ عَلَيْهِ (٤) .
وَالأَْغْذِيَةُ أَعَمُّ مِنَ الْقُوتِ، فَإِنَّهَا قَدْ يَتَنَاوَلُهَا الإِْنْسَانُ تَقَوُّتًا أَوْ تَأَدُّمًا أَوْ تَفَكُّهًا أَوْ تَدَاوِيًا.
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ: وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
٢ - يَتَكَلَّمُ الْفُقَهَاءُ عَنِ الاِقْتِيَاتِ فِي الزَّكَاةِ، وَفِي بَيْعِ
_________
(١) الاختيار ١ / ١٠٧، ١١٠، والوجيز ١ / ٧٩، والمغني ٢ / ٥٧٥، ٥٧٧. والكافي ١ / ٢٨٤، ٢٨٦، وجواهر الإكليل ١ / ١١٨، ١٣٨.
(٢) المصباح مادة: (قوت) .
(٣) النظم المستعذب ١ / ١٦٠، ١٦١ نشر دار المعرفة.
(٤) الدسوقي ٣ / ٤٧ نشر دار الفكر.
الرِّبَوِيَّاتِ، وَفِي الاِحْتِكَارِ.
فَفِي الزَّكَاةِ لاَ يُخَالِفُ أَحَدٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ إِنْ كَانَتْ مِمَّا يُقْتَاتُ اخْتِيَارًا وَيُدَّخَرُ، أَمَّا غَيْرُ الْقُوتِ فَفِي بَعْضِ أَنْوَاعِهِ زَكَاةٌ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ، وَلاَ زَكَاةَ فِيهِ عِنْدَ الْبَعْضِ الآْخَرِ. (١)
٣ - وَفِي بَيْعِ الرِّبَوِيَّاتِ لاَ يُعْتَبَرُ الاِقْتِيَاتُ عِلَّةً فِي الرِّبَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: عِلَّةُ الرِّبَا الاِقْتِيَاتُ وَالاِدِّخَارُ، إِذْ حَرَّمُوا الرِّبَا فِي كُل مَا كَانَ قُوتًا مُدَّخَرًا، وَنَفَوْهُ عَمَّا لَيْسَ بِقُوتٍ كَالْفَوَاكِهِ، وَعَمَّا هُوَ قُوتٌ لاَ يُدَّخَرُ كَاللَّحْمِ، وَفِي مَعْنَى الاِقْتِيَاتِ عِنْدَهُمْ: مَا يُصْلِحُ الْقُوتَ كَالْمِلْحِ وَالتَّوَابِل. (٢)
وَفِي الاِحْتِكَارِ يَتَّفِقُ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَنْعِ احْتِكَارِ الأَْقْوَاتِ عَلَى اخْتِلاَفٍ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ الْمَنْعِ، فَأَغْلَبُهُمْ عَلَى تَحْرِيمِهِ.
وَنَظَرًا لأَِهَمِّيَّةِ الأَْقْوَاتِ لِكُل النَّاسِ قَال أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ: الاِحْتِكَارُ لاَ يَجْرِي إِلاَّ فِي الأَْقْوَاتِ. (٣) وَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي بَحْثِ (احْتِكَار) . .
أَقْرَاءُ
انْظُرْ: قُرْء.
_________
(١) تببين الحقائق ١ / ٠ ٢٩ نشر دار المعرفة، والخرشي ٢ / ١٦٨، والمغني ٢ / ٠ ٦٩، ١ ٦٩، والمهذب ١ / ١٦٠ نشر دار المعرفة.
(٢) جواهر الإكليل ٢ / ١٧.
(٣) حاشية الشرنبلالي على درر الحكام ١ / ٤٠٠ ط الأستانة، ومواهب الجليل ٤ / ٣٨٠ ط ليبيا، والمغني ٤ / ٢٤٤،٢٤٣ ط الرياض، ونهاية المحتاج ٣ / ٤٥٦.