الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٥
يَنُصَّا عَلَى الثَّمَرَةِ لِمَنْ تَكُونُ، فَإِنَّهَا بَعْدَ التَّأْبِيرِ لِلْبَائِعِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ مَتْرُوكَةٌ إِلَى الْجُذَاذِ، وَكَذَا سَائِرُ الشَّجَرِ سِوَى النَّخْل، إِذَا بِيعَ بَعْدَ أَنْ تَفَتَّحَتْ أَكْمَامُهُ أَوْ ظَهَرَتِ الثَّمَرَةُ. وَفِي ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ ضِمْنَ (بَابِ بَيْعِ الأُْصُول وَالثِّمَارِ) مِنْ كِتَابِ الْبَيْعِ. (١)
ي - أَصْل الْمَسْأَلَةِ:
أَصْل الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَالأُْصُولِيِّينَ:
١٤ - يُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ لَفْظَ " أَصْل الْمَسْأَلَةِ " عَلَى الْقَاعِدَةِ الْفِقْهِيَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَاَلَّتِي تَشْهَدُ لَهَا الْفُرُوعُ بِالصِّحَّةِ، (٢) كَمَا سَبَقَ.
كَمَا يُطْلِقُونَهُ فِي الْمِيرَاثِ عَلَى أَقَل عَدَدٍ يَخْرُجُ مِنْهُ فَرْضُ الْمَسْأَلَةِ أَوْ فُرُوضُهَا. (٣)
وَيُعْرَفُ أَصْل الْمَسْأَلَةِ فِي الْمِيرَاثِ بِالنَّظَرِ فِي مَخَارِجِ فُرُوضِ الْوَرَثَةِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْمِيرَاثِ:
فَإِنْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَارِثٌ وَاحِدٌ فَأَصْل الْمَسْأَلَةِ مِنْ مَخْرَجِ فَرْضِهِ.
وَإِنْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ أَكْثَرُ مِنْ وَارِثٍ، وَلَكِنَّ مَخَارِجَ فَرَائِضِ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ مِنْ مُضَاعَفَاتِ مَخْرَجِ النِّصْفِ فَقَطْ، أَوْ مِنْ مُضَاعَفَاتِ مَخْرَجِ الثُّلُثِ فَقَطْ، فَأَصْل الْمَسْأَلَةِ يَكُونُ أَكْبَرَ مَخْرَجٍ مِنْ هَذِهِ الْفَرَائِضِ.
كَمَا إِذَا اجْتَمَعَ فِي الْمَسْأَلَةِ ٢: ١ (نِصْفٌ) وَ٤: ١
_________
(١) المغني ٤ / ٧٤ - ١٠٣.
(٢) المقدمات الممهدات لابن رشد ١ / ٢٢ طبع مطبعة السعادة، والموافقات للشاطبي ١ / ٢٩ وما بعدها - المقدمة الأولى، طبع المكتبة التجارية الكبرى.
(٣) العذب الفائض شرح عمدة الفارض ١ / ١٥٨ طبع مصطفى البابي الحلبي، وحاشية القليوبي ٣ / ١٥١ طبع عيسى البابي الحلبي.
(رُبْعٌ) وَ٨: ١ (ثُمُنٌ) فَأَصْل الْمَسْأَلَةِ مِنْ (٨) لأَِنَّهُ أَكْبَرُ هَذِهِ الْمَخَارِجِ.
وَكَمَا إِذَا اجْتَمَعَ ٣: ١ (ثُلُثٌ)، ٣: ٢ (ثُلُثَانِ)، ٦: ١ (سُدُسٌ) فَأَصْل الْمَسْأَلَةِ مِنْ (٦)، لأَِنَّهُ أَكْبَرُ هَذِهِ الْمَخَارِجِ.
أَمَّا إِذَا اجْتَمَعَ فِي الْمَسْأَلَةِ مَا كَانَ مَخْرَجَهُ ٢: ١ (نِصْفٌ) أَوْ مُضَاعَفَاتُهُ، مَعَ مَا كَانَ مَخْرَجَهُ ٣: ١ (ثُلُثٌ) أَوْ مُضَاعَفَاتُهُ فَيُنْظَرُ:
فَإِنْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ ٢: ١ (نِصْفٌ) وَ٣: ١ (ثُلُثٌ) فَأَصْل الْمَسْأَلَةِ مِنْ (٦)
وَإِنْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ ٤: ١ (رُبْعٌ) وَ٣: ١ (ثُلُثٌ) فَأَصْل الْمَسْأَلَةِ مِنْ (١٢)
وَإِنْ كَانَ فِي الْمَسْأَلَةِ ٨: ١ (ثُمُنٌ) وَ٦: ١ (سُدُسٌ) فَأَصْل الْمَسْأَلَةِ مِنْ (٢٤)
وَتَفْصِيل ذَلِكَ كُلِّهِ مَوْجُودٌ فِي الإِْرْثِ عِنْدَ بَحْثِ (أُصُول الْمَسَائِل) .
تَغَيُّرُ أُصُول الْمَسَائِل:
١٥ - هَذِهِ الأُْصُول قَدْ يَحْدُثُ أَنْ تَكُونَ صَالِحَةً لِلْقِسْمَةِ عَلَى الْمُسْتَحِقِّينَ، وَقَدْ لاَ تَكُونُ صَالِحَةً، وَعِنْدَئِذٍ تَحْتَاجُ إِلَى تَصْحِيحٍ بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهَا، أَوِ الإِْنْقَاصِ مِنْهَا أَوْ إِجْرَاءِ إِصْلاَحٍ عَلَيْهَا.
أ - تَكُونُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا إِذَا زَادَتْ سِهَامُ الْمُسْتَحِقِّينَ عَلَى أَصْل الْمَسْأَلَةِ، وَعِنْدَئِذٍ يُقَال: إِنَّ الْمَسْأَلَةَ قَدْ عَالَتْ (ر: عَوْلٌ) .
ب - وَيَكُونُ الإِْنْقَاصُ مِنْهَا إِذَا نَقَصَتْ سِهَامُ الْمُسْتَحِقِّينَ عَنْ عَدَدِ سِهَامِ أَصْل الْمَسْأَلَةِ، وَعِنْدَئِذٍ يُقَال: إِنَّ الْمَسْأَلَةَ رَدِّيَّةٌ (ر: رَدٌّ) .
ج - وَيَكُونُ الإِْصْلاَحُ بِتَغْيِيرٍ يَطْرَأُ عَلَى الشَّكْل لاَ عَلَى الْقِيمَةِ، وَذَلِكَ فِي حَالاَتٍ:
الْحَالَةُ الأُْولَى: إِذَا كَانَتْ الْحِصَّةُ الْخَارِجَةُ مِنْ أَصْل الْمَسْأَلَةِ لِبَعْضِ الْوَرَثَةِ غَيْرَ صَالِحَةٍ لِلْقِسْمَةِ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ كَسْرٍ، وَعِنْدَئِذٍ يُضْطَرُّ لإِجْرَاءِ الإِْصْلاَحِ لإِزَالَةِ الْكَسْرِ، وَيُسَمَّى هَذَا الإِْصْلاَحُ بِ (تَصْحِيحِ الْمَسَائِل) .
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا اضْطُرَّ لِتَقْسِيمِ التَّرِكَةِ بِاعْتِبَارَيْنِ، لإِعْطَاءِ الْوَرَثَةِ الأَْقَل مِنَ الْحَظَّيْنِ - كَمَا فِي حَالَةِ وُجُودِ حَمْلٍ فِي بَطْنِ زَوْجَةِ الْمَيِّتِ حِينَ وَفَاتِهِ - حَيْثُ تُحْسَبُ الْمَسْأَلَةُ مَرَّتَيْنِ: الأُْولَى يُفْرَضُ فِيهَا الْحَمْل ذَكَرًا، وَالثَّانِيَةُ يُفْرَضُ فِيهَا الْحَمْل أُنْثَى، ثُمَّ يَجْرِي إِصْلاَحٌ عَلَى أَصْلَيِ الْمَسْأَلَتَيْنِ، بِصُنْعِ الْمَسْأَلَةِ الْجَامِعَةِ، كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي كُتُبِ الْمَوَارِيثِ فِي مَبْحَثِ (إِرْثِ الْحَمْل) .
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا اتَّفَقَ الْوَرَثَةُ مَعَ أَحَدِهِمْ عَلَى إِخْرَاجِهِ مِنَ الْبَيِّنِ عَلَى مَبْلَغٍ يُؤَدُّونَهُ إِلَيْهِ، اقْتِسَامُ حِصَّتِهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَهَذَا مَا يُعْرَفُ بِ (التَّخَارُجِ) (ر: تَخَارُجٌ) .
الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: إِذَا تُوُفِّيَ رَجُلٌ وَلَمْ يُقْسَمْ مِيرَاثُهُ إِلاَّ بَعْدَ وَفَاةِ بَعْضِ الْوَرَثَةِ، وَكَانَ لِهَذَا الْمَيِّتِ الثَّانِي وَرَثَةٌ، وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِالْمُنَاسَخَةِ (ر: مُنَاسَخَةٌ) . وَكُل ذَلِكَ مَبْسُوطٌ بِالتَّفْصِيل فِي كُتُبِ الْمَوَارِيثِ.
ك - الأَْصْل فِي بَابِ الرِّوَايَةِ:
١٦ - الأَْصْل عِنْدَ رُوَاةِ الأَْحَادِيثِ وَنَقَلَةِ الأَْخْبَارِ هُوَ: الشَّيْخُ الْمَرْوِيُّ عَنْهُ، فِي مُقَابَلَةِ " الْفَرْعِ " وَهُوَ: الرَّاوِي عَنْ ذَلِكَ الشَّيْخِ. (١) وَيُقَال مِثْل ذَلِكَ فِي
_________
(١) شرح مسلم الثبوت ٢ / ١٧٠.
نُسَخِ الْكُتُبِ، فَالأَْصْل هُوَ النُّسْخَةُ الْمَنْقُول مِنْهَا، وَالْفَرْعُ النُّسْخَةُ الْمَنْقُولَةُ.
هَذَا وَيَذْكُرُ الأُْصُولِيُّونَ أَنَّ الأَْصْل إِذَا كَذَّبَ الْفَرْعَ فِي رِوَايَتِهِ عَنْهُ سَقَطَ الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ اتِّفَاقًا، لاِنْتِفَاءِ صِدْقِهِمَا مَعًا فِي هَذَا الْحَدِيثِ، إِذْ يُشْتَرَطُ لِلصِّحَّةِ صِدْقُهُمَا جَمِيعًا.
وَبِفَوَاتِ ذَلِكَ تَفُوتُ الْحُجِّيَّةُ. فَقَدْ أَوْرَثَ هَذَا التَّكْذِيبُ رِيبَةً قَوِيَّةً لاَ حُجِّيَّةَ بَعْدَهَا.
لَكِنْ لَوْ قَال الأَْصْل: " لاَ أَدْرِي " أَيْ لَمْ يُكَذِّبِ الْفَرْعَ صَرِيحًا، فَالأَْكْثَرُ قَالُوا: يَبْقَى الْمَرْوِيُّ حُجَّةً وَلاَ تَسْقُطُ بِذَلِكَ حُجِّيَّتُهُ، خِلاَفًا لِلْكَرْخِيِّ وَأَبِي زَيْدٍ، وَلِلإِْمَامِ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ. وَيُنْظَرُ تَمَامُ الْبَحْثِ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ، وَبَابِ السُّنَّةِ مِنْ كُتُبِ الأُْصُول. (١)
ل - أُصُول الْعُلُومِ:
١٧ - كَثِيرًا مَا يُضَافُ لَفْظُ (الأُْصُول) إِلَى أَسْمَاءِ الْعُلُومِ، وَيُرَادُ بِهِ حِينَئِذٍ الْقَوَاعِدُ الْعَامَّةُ الَّتِي يَتْبَعُهَا أَصْحَابُ ذَلِكَ الْعِلْمِ فِي دِرَاسَتِهِ، وَاَلَّتِي تَحْكُمُ طُرُقَ الْبَحْثِ وَالاِسْتِنْبَاطِ فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ. وَقَدْ تَكُونُ تِلْكَ الأُْصُول عِلْمًا مُسْتَقِلًّا.
فَمِنْ ذَلِكَ أُصُول التَّفْسِيرِ، وَأُصُول الْحَدِيثِ، وَأُصُول الْفِقْهِ. أَمَّا (أُصُول الدِّينِ) - وَيُسَمَّى أَيْضًا عِلْمَ الْعَقَائِدِ، وَعِلْمَ الْكَلاَمِ، وَالْفِقْهَ الأَْكْبَرَ - فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، بَل هُوَ - كَمَا قَال صَاحِبُ كَشْفِ الظُّنُونِ -: " عِلْمٌ يُقْتَدَرُ بِهِ عَلَى إِثْبَاتِ الْعَقَائِدِ الدِّينِيَّةِ بِإِيرَادِ الْحُجَجِ عَلَيْهَا، وَدَفْعِ الشُّبَهِ عَنْهَا ". (٢) وَسُمِّيَ أُصُولًا لاَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ قَوَاعِدُ اسْتِنْبَاطٍ وَدِرَاسَةٍ، بَل مِنْ حَيْثُ إِنَّ الدِّينَ يَبْتَنِي
_________
(١) شرح مسلم الثبوت ٢ / ١٧٢.
(٢) كشاف اصطلاحات الفنون ١ / ٢٧.
عَلَيْهِ، فَإِنَّ الإِْيمَانَ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَسَاسُ الإِْسْلاَمِ بِفُرُوعِهِ الْمُخْتَلِفَةِ.
أ - أُصُول التَّفْسِيرِ:
١٨ - عِلْمُ أُصُول التَّفْسِيرِ: مَجْمُوعَةُ الْقَوَاعِدِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يَسِيرَ عَلَيْهَا الْمُفَسِّرُونَ فِي فَهْمِ الْمَعَانِي الْقُرْآنِيَّةِ، وَتَعَرُّفِ الْعِبَرِ وَالأَْحْكَامِ مِنَ الآْيَاتِ. أَوْ - عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ كَلاَمِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ - هُوَ قَوَاعِدُ كُلِّيَّةٌ تُعِينُ عَلَى فَهْمِ الْقُرْآنِ وَمَعْرِفَةِ تَفْسِيرِهِ وَمَعَانِيهِ، وَعَلَى التَّمْيِيزِ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِل. (١)
ب - أُصُول الْحَدِيثِ:
١٩ - وَيُسَمَّى أَيْضًا (عُلُومَ الْحَدِيثِ) (وَمُصْطَلَحَ الْحَدِيثِ) وَعِلْمَ (دِرَايَةِ الْحَدِيثِ) وَعِلْمَ (الإِْسْنَادِ) . وَهُوَ مَجْمُوعَةُ الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا صَحِيحُ الْحَدِيثِ مِنْ سَقِيمِهِ، وَمَقْبُولُهُ مِنْ مَرْدُودِهِ، وَذَلِكَ بِمَعْرِفَةِ أَحْوَال الْحَدِيثِ سَنَدًا وَمَتْنًا، لَفْظًا وَمَعْنًى، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ كَيْفِيَّةِ تَحَمُّل الْحَدِيثِ وَكِتَابَتِهِ وَآدَابِ رُوَاتِهِ وَطَالِبِيهِ.
ج - أُصُول الْفِقْهِ:
٢٠ - وَهُوَ عِلْمٌ يُتَعَرَّفُ مِنْهُ كَيْفِيَّةُ اسْتِنْبَاطِ الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ مِنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ. وَمَوْضُوعُ عِلْمِ أُصُول الْفِقْهِ الأَْدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ الْكُلِّيَّةُ مِنْ حَيْثُ كَيْفِيَّةُ اسْتِنْبَاطِ الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ مِنْهَا، وَمَبَادِئُهُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ وَبَعْضُ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ كَعِلْمِ الْكَلاَمِ وَالتَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ، وَبَعْضُ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ.
_________
(١) مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية ص ٣ مطبعة الترقي بدمشق.
وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَحْصِيل مَلَكَةِ اسْتِنْبَاطِ الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ مِنْ أَدِلَّتِهَا الأَْرْبَعَةِ: الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالإِْجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ. وَفَائِدَتُهُ اسْتِنْبَاطُ تِلْكَ الأَْحْكَامِ عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ.
وَالدَّاعِي إِلَى وَضْعِهِ: أَنَّهُمْ نَظَرُوا فِي تَفَاصِيل الأَْحْكَامِ وَالأَْدِلَّةِ وَعُمُومِهَا، فَوَجَدُوا الأَْدِلَّةَ رَاجِعَةً إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ، وَوَجَدُوا الأَْحْكَامَ رَاجِعَةً إِلَى الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ وَالإِْبَاحَةِ وَالْكَرَاهَةِ وَالْحُرْمَةِ، وَتَأَمَّلُوا فِي كَيْفِيَّةِ الاِسْتِدْلاَل بِتِلْكَ الأَْدِلَّةِ عَلَى تِلْكَ الأَْحْكَامِ إِجْمَالًا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى تَفَاصِيلِهَا إِلاَّ عَلَى سَبِيل التَّمْثِيل. فَحَصَل لَهُمْ قَضَايَا كُلِّيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِكَيْفِيَّةِ الاِسْتِدْلاَل بِتِلْكَ الأَْدِلَّةِ عَلَى الأَْحْكَامِ إِجْمَالًا، وَبَيَانُ طُرُقِهِ وَشَرَائِطِهِ، لِيُتَوَصَّل بِكُلٍّ مِنْ تِلْكَ الْقَضَايَا إِلَى اسْتِنْبَاطِ كَثِيرٍ مِنَ الأَْحْكَامِ الْجُزْئِيَّةِ مِنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ، فَضَبَطُوهَا وَدَوَّنُوهَا وَأَضَافُوا إِلَيْهَا مِنَ اللَّوَاحِقِ، وَسَمَّوْا الْعِلْمَ الْمُتَعَلِّقَ بِهَا أُصُول الْفِقْهِ. وَأَوَّل مَنْ صَنَّفَ فِيهِ الإِْمَامُ الشَّافِعِيُّ ﵁. (١)
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفِقْهِ وَأُصُول الْفِقْهِ: أَنَّ الْفِقْهَ مَعْرِفَةُ الأَْحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ الْمُسْتَمَدَّةِ مِنَ الأَْدِلَّةِ التَّفْصِيلِيَّةِ. فَقَوْلُهُمُ الصَّلاَةُ وَاجِبَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ﴾، (٢) وَالأَْمْرُ لِلْوُجُوبِ، يَشْتَمِل عَلَى حُكْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِقْهِيٌّ، وَالآْخَرُ أُصُولِيٌّ أَمَّا قَوْلُهُمْ: الصَّلاَةُ وَاجِبَةٌ، فَهِيَ مَسْأَلَةٌ فِقْهِيَّةٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: الأَْمْرُ لِلْوُجُوبِ، فَهُوَ قَاعِدَةٌ أُصُولِيَّةٌ.
_________
(١) كشف الظنون ١ / ١١٠، وكشاف اصطلاحات الفنون ١ / ٢٧.
(٢) سورة البقرة / ٤٣.
أَصْل الْمَسْأَلَةِ
انْظُرْ: أَصْلٌ
إِصْلاَحٌ
التَّعْرِيفُ:
١ - الإِْصْلاَحُ لُغَةً: نَقِيضُ الإِْفْسَادِ، وَالإِْصْلاَحُ: التَّغْيِيرُ إِلَى اسْتِقَامَةِ الْحَال عَلَى مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحِكْمَةُ. (١)
وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى. وَمِنْ هَذَا التَّعْرِيفِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ كَلِمَةَ " إِصْلاَحٌ " تُطْلَقُ عَلَى مَا هُوَ مَادِّيٌّ، وَعَلَى مَا هُوَ مَعْنَوِيٌّ، فَيُقَال: أَصْلَحْتُ الْعِمَامَةَ، وَأَصْلَحْتُ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - التَّرْمِيمُ:
٢ - تُطْلَقُ كَلِمَةُ تَرْمِيمٍ عَلَى إِصْلاَحِ نَحْوِ الْحَبْل
_________
(١) لسان العرب، والصحاح، والقاموس المحيط، والمصباح المنير مادة: " صلح " والفروق في اللغة لأبي هلال العسكري ص ٢٠٤.
وَالدَّارِ إِذَا فَسَدَ بَعْضُهَا. وَهِيَ أُمُورٌ مَادِّيَّةٌ مَحْضَةٌ. وَإِنْ أُطْلِقَتْ كَلِمَةُ " تَرْمِيمٌ " عَلَى مَا هُوَ مَعْنَوِيٌّ فَهُوَ إِطْلاَقٌ مَجَازِيٌّ، يُقَال: " أَحْيَا رَمِيمَ الأَْخْلاَقِ " مِنْ بَابِ الْمَجَازِ. (١)
فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الإِْصْلاَحَ أَعَمُّ، لأَِنَّهُ يُطْلَقُ حَقِيقَةً عَلَى الْمَادِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ، وَيَكُونُ فِي الْغَالِبِ شَامِلًا، فِي حِينِ أَنَّ التَّرْمِيمَ جُزْئِيٌّ فِي الْغَالِبِ.
ب - الإِْرْشَادُ:
٣ - الإِْرْشَادُ فِي اللُّغَةِ: الدَّلاَلَةُ، وَيَسْتَعْمِلُهُ الْفُقَهَاءُ بِمَعْنَى الدَّلاَلَةِ عَلَى الْخَيْرِ وَالْمَصْلَحَةِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ دُنْيَوِيَّةً أَمْ أُخْرَوِيَّةً.
وَيُطْلَقُ لَفْظُ الإِْرْشَادِ عَلَى التَّبْيِينِ، وَلاَ يَلْزَمُ أَنْ يُلاَزِمَ التَّبَيُّنُ الإِْصْلاَحَ، فِي حِينِ أَنَّ الإِْصْلاَحَ يَتَضَمَّنُ حُصُول الصَّلاَحِ.
مَا يَدْخُلُهُ الإِْصْلاَحُ وَمَا لاَ يَدْخُلُهُ:
٤ - التَّصَرُّفَاتُ عَلَى، نَوْعَيْنِ:
أ - تَصَرُّفَاتٌ هِيَ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ إِذَا طَرَأَ الْخَلَل عَلَى شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِهَا، أَوْ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهَا فَإِنَّهَا لاَ يَلْحَقُهَا إِصْلاَحٌ أَلْبَتَّةَ، كَمَا إِذَا تَرَكَ الْمُصَلِّي قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فِي صَلاَتِهِ، وَتَرَكَ الْحَاجُّ الْوُقُوفَ فِي عَرَفَاتٍ، فَإِنَّهُ لاَ سَبِيل لإِصْلاَحِ هَذِهِ الصَّلاَةِ وَلاَ ذَلِكَ الْحَجُّ، كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي كِتَابَيِ الصَّلاَةِ وَالْحَجِّ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
أَمَّا إِذَا طَرَأَ الْخَلَل عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ فِيهَا، فَإِنَّهَا يَلْحَقُهَا الإِْصْلاَحُ، كَإِصْلاَحِ الصَّلاَةِ بِسُجُودِ السَّهْوِ، وَإِصْلاَحِ الْحَجِّ بِالدَّمِ فِي حَال حُدُوثِ مُخَالَفَةٍ
_________
(١) انظر لإظهار الفرق: لسان العرب، وأساس البلاغة، المواد المشار إليها، والفروق في اللغة من صفحة ٢٠٣ - ٢٠٧.
مِنْ مُخَالَفَاتِ الإِْحْرَامِ مَثَلًا، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
ب - وَتَصَرُّفَاتٌ هِيَ حُقُوقُ الْعِبَادِ، وَهِيَ عَلَى نَوْعَيْنِ:
(١) تَصَرُّفَاتٌ غَيْرُ عَقَدِيَّةٍ، كَالإِْتْلاَفِ، وَالْقَذْفِ، وَالْغَصْبِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَذِهِ إِذَا وَقَعَتْ لاَ يَلْحَقُهَا إِصْلاَحٌ أَلْبَتَّةَ، وَلَكِنْ ذَلِكَ لاَ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَلْحَقَ الإِْصْلاَحُ الآْثَارَ الْمُتَرَتِّبَةَ عَلَيْهَا، وَعَلَى هَذَا فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ الضَّرَرُ مِنْ آثَارِ الإِْتْلاَفِ مَثَلًا، فَإِنَّ الضَّرَرَ يُرْفَعُ بِالضَّمَانِ، كَمَا سَيَأْتِي.
(٢) تَصَرُّفَاتٌ عَقَدِيَّةٌ: وَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ إِنْ كَانَ الْخَلَل طَارِئًا عَلَى أَحَدِ أَرْكَانِهَا، حَتَّى يُصْبِحَ الْعَقْدُ غَيْرَ مَشْرُوعٍ بِأَصْلِهِ وَلاَ بِوَصْفِهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَلْحَقُهُ إِصْلاَحٌ، كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مُصْطَلَحِ (بُطْلاَنٌ) .
أَمَّا إِنْ كَانَ الْخَلَل طَارِئًا عَلَى الْوَصْفِ دُونَ الأَْصْل، فَإِنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَقُولُونَ بِلَحَاقِ الإِْصْلاَحِ هَذَا الْعَقْدَ، وَيُخَالِفُهُمُ الْجُمْهُورُ فِي ذَلِكَ، كَمَا يَأْتِي فِي مُصْطَلَحِ (فَسَادٌ) . (١)
الْحُكْمُ الإِْجْمَالِيُّ لِلإِْصْلاَحِ:
٥ - مِنَ اسْتِقْرَاءِ كَلاَمِ الْفُقَهَاءِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ أَقَل دَرَجَاتِ الإِْصْلاَحِ النَّدْبُ، كَإِصْلاَحِ الْمَالِكِ الشَّيْءَ الْمُعَارَ لاِسْتِمْرَارِ الاِنْتِفَاعِ بِالْعَارِيَّةِ، كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي كِتَابِ الْعَارِيَّةِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
وَقَدْ يَكُونُ الإِْصْلاَحُ وَاجِبًا، كَمَا هُوَ الْحَال فِي سُجُودِ السَّهْوِ الْوَاجِبِ لإِصْلاَحِ الْخَلَل الَّذِي وَقَعَ فِي الصَّلاَةِ، كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي كِتَابِ الصَّلاَةِ، بَابُ سُجُودِ السَّهْوِ، وَفِي ضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ، كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي كِتَابِ الضَّمَانِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ، وَالإِْصْلاَحُ بَيْنَ
_________
(١) المستصفى ١ / ٩٥، وقليوبي ٣ / ١٩.
الْفِئَتَيْنِ الْبَاغِيَتَيْنِ. (١) كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ وَالْمُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾ . (٢)
وَسَائِل الإِْصْلاَحِ وَمَوَاطِنُ الْبَحْثِ:
٦ - مِنَ اسْتِقْرَاءِ الأَْحْكَامِ الْفِقْهِيَّةِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الإِْصْلاَحَ يَتِمُّ بِوَسَائِل عَدِيدَةٍ مِنْهَا:
أ - إِكْمَال النَّقْصِ، فَمَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ دُونَ أَنْ يَمَسَّهُ الْمَاءُ يَصْلُحُ وُضُوءُهُ بِغُسْل ذَلِكَ الْجُزْءِ الْمَتْرُوكِ بِالْمَاءِ، بِشُرُوطٍ ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ فِي الْوُضُوءِ، وَمِثْل ذَلِكَ الْغُسْل.
وَمِنْ ذَلِكَ وُجُوبُ إِصْلاَحِ الشَّيْءِ الْمُسْتَأْجَرِ عَلَى الْمُؤَجِّرِ، إِنْ كَانَ ذَلِكَ الْخَلَل أَوِ النَّقْصُ مِمَّا تَتَعَطَّل بِهِ الْمَنَافِعُ، كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الإِْجَارَةِ.
ب - التَّعْوِيضُ عَنِ الضَّرَرِ: وَيَتَمَثَّل ذَلِكَ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَى الْجِنَايَاتِ، كَمَا بَيَّنَ ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ، وَفِي ضَمَانِ الإِْتْلاَفَاتِ فِي كِتَابِ الضَّمَانِ، وَكَمَا سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ (إِتْلاَفٌ) .
ج - (الزَّكَوَاتُ): كَزَكَاةِ الْمَال الَّتِي هِيَ طُهْرَةٌ لِلْمُزَكِّي وَكِفَايَةٌ لِلْفَقِيرِ، وَزَكَاةُ الْفِطْرِ الَّتِي هِيَ طُهْرَةٌ لِلصَّائِمِ وَكِفَايَةٌ لِلْفَقِيرِ. (٣)
د - (الْعُقُوبَاتُ): مِنْ حُدُودٍ وَقِصَاصٍ وَتَعْزِيرَاتٍ وَتَأْدِيبٍ، وَكُلُّهَا شُرِعَتْ لِتَكُونَ وَسِيلَةَ إِصْلاَحٍ، قَال تَعَالَى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَْلْبَابِ﴾ . (٤)
هـ - (الْكَفَّارَاتُ): فَإِنَّهَا شُرِعَتْ لإِصْلاَحِ خَلَلٍ فِي
_________
(١) تفسير القرطبي ١٦ / ٣١٧ طبع دار الكتب، وأحكام القرآن للجصاص ٣ / ٤٩٠ الطبعة الأولى.
(٢) سورة الحجرات / ٩.
(٣) إحياء علوم الدين ١ / ٢١٤.
(٤) سورة البقرة / ١٧٩.