الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٤٤
وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لاَ يَلْتَبِسُ مَعْنَاهُ بِمَعْنَى غَيْرِهِ، وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ: فَاصِلًا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِل، أَوْ مَفْصُولًا عَنِ الْبَاطِل وَمَصُونًا عَنْهُ، فَلَيْسَ فِي كَلاَمِهِ بَاطِلٌ أَصْلًا، وَالأَْوَّل أَنْسَبُ.
وَقَوْل عَائِشَةَ ﵂: يَفْهَمُهُ كُل مَنْ يسْمَعُهُ أَيْ مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْل الْفَهْمِ (١) .
ثَانِيًا: تَكْرَارُ كَلِمَاتِ الْوَعْظِ:
٩ - يَنْبَغِي لِلْوَاعِظِ أَنْ يُكَرِّرَ الْكَلِمَاتِ إِذَا لَمْ يَفْهَمْهَا الْمَوْعُوظُ إِلاَّ بِذَلِكَ التَّكْرَارِ، أَوْ إِذَا كَانَ الْغَرَضُ مِنْهُ لِمَزِيدِ الاِعْتِنَاءِ بِمَدْلُول تِلْكَ الْكَلِمَاتِ، أَوْ إِذَا كَانَ ذَلِكَ لِكَثْرَةِ الْمُخَاطَبِينَ، فَيُعِيدُ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ سَمَاعَ الْجَمِيعِ، لِحَدِيثِ أَنَسٍ ﵁ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: " أَنَّهُ كَانَ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلاَثًا حَتَّى تُفْهَمَ عَنْهُ " (٢) .
قَال ابْنُ عَلاَّنَ: الْمُرَادُ بِالْكَلِمَةِ هُنَا مَا يَشْمَل الْجُمْلَةَ وَالْجُمَل مِمَّا لاَ يَتَبَيَّنُ لَفْظُهُ أَوْ مَعْنَاهُ إِلاَّ بِإِعَادَتِهِ، فَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُعِيدُهَا لِذَلِكَ، أَوْ أَنَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا عَرَضَ لِلسَّامِعِينَ مَا خَلَطَ عَلَيْهِمْ فَيُعِيدُهُ لَهُمْ لِيَفْهَمُوهُ، أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا كَثُرُوا لَمْ يَسْتَيْقِنْ سَمَاعَ جَمِيعِهِمْ فَيُعِيدُ لِيَسْمَعَ
_________
(١) فتح الباري شرح البخاري ١ / ١٨٨ - ١٨٩، الفتوحات الربانية ٦ / ٢٩٦، ودليل الفالحين ٣ / ١٦٤.
(٢) حديث: " أن النبي ﷺ كان إذا تكلم. . ". أخرجه البخاري (الفتح ١ / ١٨٨) .
الْكُل، ثُمَّ قَال: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ لِلْمُعَلِّمِ أَنْ يُعِيدَ مَا يَحْتَاجُ إِلَى الإِْعَادَةِ كَيْ يُفْهَمَ عَنْهُ (١) .
ثَالِثًا: مُرَاعَاةُ أَحْوَال النَّاسِ فِي الْوَعْظِ:
١٠ - يُرَاعَى فِي أُسْلُوبِ الْوَعْظِ أَنْ لاَ يُحَدِّثَ الْوَاعِظُ النَّاسَ بِمَا لاَ يَفْهَمُونَهُ مِمَّا لاَ تُطِيقُ عُقُولُهُمْ قَبُولَهُ، أَوْ بِمَا يَخَافُ عَلَيْهِمْ مِنْ تَحْرِيفِهِ إِذَا أَرَادُوا نَقْلَهُ وَالتَّعْبِيرَ عَنْهُ؛ لِعَدَمِ قُدْرَتِهِمْ عَلَى التَّعْبِيرِ عَنْهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ لِغُمُوضِهِ وَدِقَّتِهِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَتَّسِعُ لَهُ عَقْل الْمُخَاطَبِ، كَمَا لاَ يُحَدِّثُهُمْ بِمَا يَخَافُ حَمْلُهُ عَلَى خِلاَفِ الْمُرَادِ الْمُتَبَادَرِ مِنْهُ إِلَى الذِّهْنِ، فَيُنْهَى الْعَالِمُ وَالْوَاعِظُ وَالْقَاصُّ عَنْ ذِكْرِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ الْحَال؛ لِئَلاَّ يَحْمِلَهُ الْمُخَاطَبُ عَلَى خِلاَفِ الْمُرَادِ.
لِمَا وَرَدَ عَنْ عَلِيٍّ ﵁ قَال: " حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، وَدَعُوا مَا يُنْكِرُونَ، وَاتْرُكُوا مَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِمْ فَهْمُهُ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ " (٢) .
قَال ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ فِي فَتْحِ الْبَارِي: وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُتَشَابِهَ لاَ يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ عِنْدَ الْعَامَّةِ (٣) .
وَلِمَا وَرَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ﵁ قَال: " مَا
_________
(١) الفتوحات الربانية ٥ / ٢٩٦، ودليل الفالحين ٣ / ١٦٤، وفتح الباري ١ / ١٨٨.
(٢) أثر علي: " حدثوا الناس بما يعرفون. . " أخرجه البخاري (الفتح ١ / ٢٢٥) .
(٣) الفتوحات الربانية ٦ / ٢٧٩، وما بعدها، وفتح الباري شرح صحيح البخاري ١ / ٢٢٥.
أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لاَ تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلاَّ كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً " (١) .
رَابِعًا: الاِقْتِصَادُ فِي الْوَعْظِ:
١١ - يُرَاعَى فِي الْوَعْظِ أَنْ يَكُونَ مُقْتَصِدًا مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْبَسْطِ الْمُؤَدِّي إِلَى الإِْمْلاَل وَالسَّآمَةِ وَبَيْنَ الإِْيجَازِ الْمُؤَدِّي إِلَى الإِْخْلاَل أَوْ عُسْرِ الْفَهْمِ لِلْمَقَال، لأَِنَّ خَيْرَ الأُْمُورِ أَوْسَطُهَا، وَأَحْسَنُ الْمَوَاعِظِ مَا كَانَ جَزْلًا جَامِعًا بَلِيغًا نَافِعًا، وَلأَِنَّ خَيْرَ الْكَلاَمِ مَا قَل وَدَل، لِمَا رَوَى عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ ﵄ قَال: " سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ ﷺ يَقُول: إِنَّ طُول صَلاَةِ الرَّجُل وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصَّلاَةَ وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ (٢) .
قَال الْعُلَمَاءُ: وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ، لأَِنَّ الْفَقِيهَ يَعْلَمُ أَنَّ الصَّلاَةَ مَقْصُودَةٌ بِالذَّاتِ وَالْخُطْبَةَ تَوْطِئَةٌ لَهَا، فَيَصْرِفُ الْعِنَايَةَ إِلَى مَا هُوَ الأَْهَمُّ، وَلأَِنَّ الصَّلاَةَ عُبُودِيَّةُ الْعَبْدِ، وَالإِْطَالَةُ فِيهَا مُبَالَغَةٌ فِي الْعُبُودِيَّةِ، وَالْخُطْبَةُ الْمُرَادُ مِنْهَا التَّذْكِيرُ، وَمَا قَل وَقَرَّ خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَفَرَّ (٣) .
_________
(١) أثر ابن مسعود: " ما أنت بمحدث قوما. . . " أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه (١ / ١١) .
(٢) حديث: " إن طول صلاة الرجل. . . " أخرجه مسلم (٢ / ٥٩٤) .
(٣) الفتوحات الربانية ٦ / ٢٣٦ وما بعدها، ودليل الفالحين شرح رياض الصالحين ٣ / ١٦٦، ١٦٨، ١٧٢، وانظر فتح الباري ١ / ١٦٣، والآداب الشرعية ١ / ٩٨، ٢ / ٩٣.
١٢ - وَذَهَبَ الْعُلَمَاءُ إِلَى اسْتِحْبَابِ تَعَهُّدِ النَّاسِ بِالْوَعْظِ وَمُرَاعَاةِ الأَْوْقَاتِ فِي وَعْظِهِمْ، وَيَتَحَرَّى مِنَ الأَْوْقَاتِ مَا كَانَ مَظِنَّةَ الْقَبُول، وَلاَ يَعِظُ النَّاسَ كُل يَوْمٍ حَتَّى لاَ يَسْأَمُوا مِنْ سَمَاعِ الْمَوْعِظَةِ.
وَالضَّابِطُ فِي ذَلِكَ الْحَاجَةُ مَعَ مُرَاعَاةِ وُجُودِ النَّشَاطِ مِنَ النَّاسِ، لأَِنَّ الْمَوَاعِظَ إِذَا كَثُرَتْ لَمْ تُؤَثِّرْ فِي الْقُلُوبِ فَتَسْقُطُ بِالإِْكْثَارِ فَائِدَةُ الْمَوَاعِظِ.
وَذَهَبَ الْعُلَمَاءُ أَيْضًا إِلَى اسْتِحْبَابِ أَنْ يَجْعَل الْوَاعِظُ لِوَعْظِهِ وَقْتًا مُحَدَّدًا كَيَوْمِ الْخَمِيسِ (١)، وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مَا وَرَدَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ﵁ قَال: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الأَْيَّامِ كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا (٢) .
وَكَذَلِكَ مَا وَرَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا " أَنَّهُ كَانَ يُذَكِّرُ النَّاسَ فِي كُل خَمِيسٍ، فَقَال لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَوَدِدْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُل يَوْمٍ، قَال: أَمَا إِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ، وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَخَوَّلُنَا بِهَا مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا " (٣) .
_________
(١) فتح الباري ١ / ١٦٢ - ١٦٣، عمدة القارئ ٢ / ٤٤ - ٤٧ الطبعة المنيرية، وقواعد الأحكام ٢ / ١٧٦ ط دار الكتب العلمية، والآداب الشرعية ٢ / ١٠٨ ط مكتبة الرياض الحدثية.
(٢) حديث: " كان النبي ﷺ يتخولنا بالموعظة. . ". أخرجه البخاري (الفتح ١ / ١٦٢) .
(٣) حديث ابن مسعود: " أنه كان يذكر الناس. . " أخرجه البخاري (الفتح ١ / ١٦٣) .
خَامِسًا: التَّعَرُّفُ عَلَى الْمُنْكَرِ وَكَيْفِيَّةُ وَعْظِ مُرْتَكِبِهِ:
١٣ - عَلَى الْوَاعِظِ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا بِالْمُنْكَرِ الَّذِي يَنْهَى عَنْهُ، وَعَارِفًا بِحَال الْمَوْعُوظِ، مِنْ كَوْنِهِ قَدِ ارْتَكَبَهُ عَنْ جَهْلٍ أَوْ عَنْ عِلْمٍ، وَقَدْ نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى دَرَجَاتٍ فِي وَعْظِ كُل وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلاَءِ:
فَالنَّهْيُ بِالْوَعْظِ وَالنُّصْحِ وَالتَّخْوِيفِ بِاللَّهِ ﷿ وَذَلِكَ فِيمَنْ يُقْدِمُ عَلَى الأَْمْرِ، وَهُوَ عَالِمٌ بِكَوْنِهِ مُنْكَرًا، أَوْ فِيمَنْ أَصَرَّ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ عَرَفَ كَوْنَهُ مُنْكَرًا، كَالَّذِي يُوَاظِبُ عَلَى الشَّرَابِ، أَوْ عَلَى الظُّلْمِ أَوْ عَلَى اغْتِيَابِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُوعَظَ، وَيُخَوَّفَ بِاللَّهِ تَعَالَى وَتُورَدَ عَلَيْهِ الأَْخْبَارُ الْوَارِدَةُ بِالْوَعِيدِ فِي ذَلِكَ، وَتُحْكَى لَهُ سِيرَةُ السَّلَفِ وَعِبَادَةُ الْمُتَّقِينَ، وَكُل ذَلِكَ بِشَفَقَةٍ وَلُطْفٍ مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ وَغَضَبٍ؛ بَل يَنْظُرُ إِلَيْهِ نَظَرَ الْمُتَرَحِّمِ عَلَيْهِ، وَيَرَى إِقْدَامَهُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ مُصِيبَةً عَلَى نَفْسِهِ، إِذِ الْمُسْلِمُونَ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ.
وَقَال بَعْضُ السَّلَفِ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوَعْظُ وَالنُّصْحُ فِي سِرٍّ لاَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ أَحَدٌ، فَمَا كَانَ عَلَى الْمَلأَِ فَهُوَ تَوْبِيخٌ وَفَضِيحَةٌ، وَمَا كَانَ فِي السِّرِّ فَهُوَ شَفَقَةٌ وَنَصِيحَةٌ.
فَعَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ ﵂ قَالَتْ: مَنْ وَعَظَ
أَخَاهُ سِرًّا فَقَدْ زَانَهُ، وَمَنْ وَعَظَهُ عَلاَنِيَةً فَقَدْ شَانَهُ (١) .
قَال الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَادِرِ الْكِيلاَنِيُّ: وَالأَْوْلَى لَهُ أَنْ يَأْمُرَهُ وَيَنْهَاهُ فِي خَلْوَةٍ، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَبْلَغَ وَأَمْكَنَ فِي الْمَوْعِظَةِ وَالزَّجْرِ وَالنَّصِيحَةِ لَهُ، وَأَقْرَبَ إِلَى الْقَبُول وَالإِْقْلاَعِ، فَإِنْ فَعَل ذَلِكَ وَلَمْ يَنْفَعْهُ أَظْهَرَ - حِينَئِذٍ - ذَلِكَ، وَاسْتَعَانَ عَلَيْهِ بِأَهْل الْخَيْرِ، وَإِنْ لَمْ يَنْفَعْ فَبِأَصْحَابِ السُّلْطَانِ (٢) .
١٤ - وَقَال الْعُلَمَاءُ: وَمِنْ دَرَجَاتِ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ التَّعْنِيفُ بِالْقَوْل الْغَلِيظِ الْخَشِنِ، وَذَلِكَ يُعْدَل إِلَيْهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ الْمَنْعِ بِاللُّطْفِ وَظُهُورِ مَبَادِئِ الإِْصْرَارِ وَالاِسْتِهْزَاءِ بِالْوَعْظِ وَالنُّصْحِ، وَذَلِكَ مِثْل قَوْل إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ ﴿أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ (٣) .
ثُمَّ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَصْدُ الآْمِرِ النَّاهِي مِنْ تَغْلِيظِ الْقَوْل وَتَخْشِينِهِ رُجُوعَ الْمَأْمُورِ عَنْ ذَلِكَ الْمُنْكَرِ لاَ الاِنْتِصَارَ لِنَفْسِهِ (٤) .
_________
(١) أثر أم الدرجاء: " من وعظ أخاه سرا. . " أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (٦ / ١١٢ - ط دار الكتب العلمية) .
(٢) الكنز الأكبر ٢٣٨ - ٢٤٠، والإحياء ٢ / ١٨٢، والقنية ص٥٨.
(٣) سورة الأنبياء / ٦٧.
(٤) الإحياء ٢ / ٣٣٠، والكنز الأكبر ٢٤٣.
سَادِسًا: مَا يَنْبَغِي اسْتِخْدَامُهُ فِي الْوَعْظِ مِنْ آيَاتٍ وَأَحَادِيثَ وَقِصَصٍ:
١٥ - قَال بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: وَالَّذِي يَنْبَغِي لِلآْمِرِ النَّاهِي بِالْوَعْظِ، وَحَمْل النَّاسِ عَلَى تَرْكِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي أَنْ يَسْتَعْمِل فِي ذَلِكَ أَرْبَعَةَ أَنْوَاعٍ:
الأَْوَّل: أَنْ يَذْكُرَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الآْيَاتِ الْمُخَوِّفَةِ لِلْعَاصِينَ وَالْمُذْنِبِينَ، وَكَذَلِكَ مَا وَرَدَ مِنَ الأَْحَادِيثِ وَالآْثَارِ وَأَقْوَال السَّلَفِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ وَغَيْرِهِمْ.
الثَّانِي: أَنْ يَذْكُرَ حِكَايَاتِ الأَْنْبِيَاءِ وَالسَّلَفِ وَمَا جَرَى عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَصَائِبِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يُقَرِّرَ أَنَّ تَعْجِيل الْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا مُتَوَقَّعٌ عَلَى الذَّنْبِ، وَأَنَّ كُل مَا يُصِيبُ الْعَبْدَ مِنَ الْمَصَائِبِ فَهُوَ بِسَبَبِ جِنَايَاتِهِ، فَكَمْ مِنْ عَبْدٍ يَتَسَاهَل فِي أَمْرِ الآْخِرَةِ وَيَخَافُ مِنْ عُقُوبَةِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا أَكْثَرَ لِفَرْطِ جَهْلِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُخَوَّفَ بِهِ، فَإِنَّ الذُّنُوبَ كُلَّهَا يُتَعَجَّل شُؤْمُهَا فِي الدُّنْيَا، فَفِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ مَرْفُوعًا: إِنَّ الرَّجُل لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِسَبَبِ الذَّنْبِ يُصِيبُهُ. . . " (١) .
قَال ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنِّي لأَحْسَبُ أَنَّ الْعَبْدَ
_________
(١) حديث: " إن الرجل ليحرم الرزق. . . " أخرجه أحمد (٥ / ٢٧٧) وفي إسناده جهالة الراوي عن ثوبان، كما في الميزان للذهبي (٢ / ٤٠٠) .
يَنْسَى الْعَمَل بِذَنْبٍ يُصِيبُهُ.
الرَّابِعُ: مِنْ صِفَةِ الْوَعْظِ أَنْ يَذْكُرَ مَا وَقَعَ مِنَ الْعُقُوبَاتِ عَلَى آحَادِ الذُّنُوبِ فِي مَحَلِّهِ كَالْخَمْرِ وَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالْقَتْل وَالْغَيْبَةِ وَالْكِبْرِ وَالْحَسَدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لاَ يُمْكِنُ حَصْرُهُ (١) ..
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْوَعْظِ:
لِلْوَعْظِ أَحْكَامٌ ذَكَرَهَا الْفُقَهَاءُ فِي مُخْتَلِفِ الأَْبْوَابِ الْفِقْهِيَّةِ مِنْهَا:
أ - وَعْظُ الزَّوْجَةِ:
١٦ - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا نَشَزَتْ يَقُومُ الرَّجُل بِوَعْظِهَا، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا﴾ (٢) .
وَاخْتَلَفُوا فِي وَعْظِهَا إِذَا ظَهَرَتْ أَمَارَاتُ النُّشُورِ.
وَالتَّفْصِيل فِي (نُشُوز ف١٤) .
وَالْوَعْظُ يَكُونُ بِأَنْ يَقُول الزَّوْجُ لَهَا: كُونِي مِنَ الصَّالِحَاتِ الْقَانِتَاتِ الْحَافِظَاتِ لِلْغَيْبِ، وَلاَ تَكُونِي مِنْ كَذَا وَكَذَا، وَيَذْكُرُ لَهَا مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا مِنَ الْحَقِّ وَمَا يَلْحَقُهَا مِنَ الإِْثْمِ بِالْمُخَالَفَةِ، وَمَا يُسْقِطُ بِذَلِكَ مِنَ النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ، وَمَا يُبَاحُ لَهُ مِنْ هَجْرِهَا وَضَرْبِهَا (٣) .
_________
(١) الكنز الأكبر ص٢٤١ - ٢٤٢.
(٢) سورة النساء / ٣٤.
(٣) بدائع الصنائع ٢ / ٣٣٤، وكشاف القناع ٥ / ٢٠٩، ومغني المحتاج ٣ / ٢٥٩.
ب - وَعْظُ الْمُتَلاَعِنَيْنِ:
١٧ - يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يُسَنُّ تَخْوِيفُ الْمُتَلاَعِنَيْنِ بِالْوَعْظِ، بِأَنْ يُقَال لَهُمَا قَبْل الشُّرُوعِ فِي اللَّعَانِ عِنْدَ الأُْولَى وَعِنْدَ الشُّرُوعِ فِي الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ وَخُصُوصًا عِنْدَ الْخَامِسَةِ: إِنَّ الإِْقْدَامَ عَلَى الْحَلِفِ بِاللَّهِ كَاذِبًا فِيهِ الْوَبَال الأُْخْرَوِيُّ وَالدُّنْيَوِيُّ، وَالاِعْتِرَافُ بِالْحَقِّ فِيهِ النَّجَاةُ وَإِنْ لَزِمَهُ الْحَدُّ، لأَِنَّهُ يَكُونُ كَفَّارَةً لَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَقَدْ قَال رَسُول اللَّهِ ﷺ لِهِلاَلٍ: " اتَّقِ اللَّهَ، فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الآْخِرَةِ (١) .
وَيَقْرَأُ عَلَيْهِمَا ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآْخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (٢) وَيُقَال لَهُمَا كَمَا قَال ﷺ لِلْمُتَلاَعِنَيْنِ: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَل مِنْكُمَا مِنْ تَائِبٍ (٣) .
_________
(١) حديث: " اتق الله، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة. . . " أخرجه أبو داود (٢ / ٦٨٩) من حديث ابن عباس.
(٢) سورة آل عمران / ٧٧.
(٣) حديث: " إن الله يعلم أن أحدكما كاذب. . " أخرجه البخاري (الفتح ٨ / ٤٤٩) من حديث ابن عباس.
وَقَال ابْنُ شَاسٍ: فَأَمَّا سُنَّةُ اللِّعَانِ فَأَنْ يُخَوَّفَا، فَيُقَال لِلزَّوْجِ: تُبْ إِلَى اللَّهِ ﷿ تُجْلَدْ وَيَسْقُطْ عَنْكَ الْمَأْثَمُ، وَيُقَال لِلْمَرْأَةِ أَيْضًا نَحْوُ ذَلِكَ.
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يُبَالِغُ الْقَاضِي وَمَنْ فِي حُكْمِهِ فِي وَعْظِ الْمُتَلاَعِنَيْنِ نَدْبًا عِنْدَ الْخَامِسَةِ مِنْ لِعَانِهِمَا قَبْل شُرُوعِهِمَا فِيهَا، فَيَقُول لِلزَّوْجِ: اتَّقِ اللَّهَ فِي قَوْلِكِ: عَلَيَّ لَعْنَةُ اللَّهِ، فَإِنَّهَا مُوجِبَةٌ لِلَّعْنٍ إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا، وَيَقُول لِلزَّوْجَةِ: اتَّقِي اللَّهَ فِي قَوْلِكِ: غَضَبُ اللَّهِ عَلَيَّ، فَإِنَّهَا مُوجِبَةٌ لِلْغَضَبِ إِنْ كُنْتِ كَاذِبَةً، لَعَلَّهُمَا يَنْزَجِرَانِ أَوْ يَتْرُكَانِ، وَيَأْمُرُ رَجُلًا أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَى فِيهِ، وَامْرَأَةً أَنَ تَضَعَ يَدَهَا عَلَى فِيهَا، لِلأَْمْرِ بِذَلِكَ فِي خَبَرِ أَبِي دَاوُدَ (١)، وَيَأْتِي الَّذِي يَضَعُ يَدَهُ مِنْ وَرَائِهِ، فَإِنْ أَبَيَا إِلاَّ إِتْمَامَ اللَّعَّانِ تَرَكَهُمَا عَلَى حَالِهِمَا وَلَقَّنَهُمَا الْخَامِسَةَ (٢) .
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ مَوْعِظَةُ الإِْمَامِ لِلْمُتَلاَعِنَيْنِ بَعْدَ الرَّابِعَةِ وَقَبْل الْخَامِسَةِ، فَإِذَا بَلَغَ كُلٌّ مِنْهُمَا الْخَامِسَةَ أَمَرَ الْحَاكِمُ رَجُلًا فَأَمْسَكَ بِيَدِهِ فَمَ الرَّجُل، وَأَمَرَ امْرَأَةً تَضَعُ يَدَهَا عَلَى فَمِ الْمَرْأَةِ، ثُمَّ يَعِظُهُ فَيَقُول: اتَّقِ اللَّهَ فَإِنَّهَا الْمُوجِبَةُ، وَعَذَابُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الآْخِرَةِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ ﵄ فِي قِصَّةِ هِلاَلٍ قَال: فَشَهِدَ
_________
(١) حديث: " الأمر بوضع اليد على في المتلاعن. . " أخرجه أبو داود (٢ / ٦٨٨) .
(٢) الشرح الصغير ٢ / ٦٦٦، وعقد الجواهر الثمينة ٢ / ٢٤٨، ومغني المحتاج ٣ / ٣٧٨.