الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٤٤
أَرْقَمَ ﵁ مَرْفُوعًا: إِذَا وَعَدَ الرَّجُل وَيَنْوِي أَنْ يَفِيَ بِهِ فَلَمْ يَفِ، فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ (١) .
الْقَوْل الثَّالِثُ: يَجِبُ الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ دِيَانَةً لاَ قَضَاءً، وَهُوَ رَأْيُ تَقِيِّ الدِّينِ السُّبْكِيِّ الشَّافِعِيِّ، قَال: وَلاَ أَقُول يَبْقَى دَيْنًا حَتَّى يُقْضَى مِنْ تَرِكَتِهِ، وَإِنَّمَا أَقُول: يَجِبُ الْوَفَاءُ تَحْقِيقًا لِلصِّدْقِ وَعَدَمِ الإِْخْلاَفِ (٢) .
الْقَوْل الرَّابِعُ: أَنَّ الْوَفَاءَ بِالْوَعْدِ مُسْتَحَبٌّ، فَلَوْ تَرَكَهُ فَاتَهُ الْفَضْل وَارْتَكَبَ الْمَكْرُوهَ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ شَدِيدَةً، وَلَكِنْ لاَ يَأْثَمُ. وَهُوَ رَأْيُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ (٣) .
قَال النَّوَوِيُّ: الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ مُسْتَحَبٌّ اسْتِحْبَابًا مُتَأَكَّدًا، وَيُكْرَهُ إِخْلاَفُهُ كَرَاهَةً شَدِيدَةً، وَدَلاَئِلُهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَعْلُومَةٌ وَلاِتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ الْمَوْعُودَ لاَ يُضَارِبُ بِمَا وُعِدَ بِهِ مَعَ الْغُرَمَاءِ (٤) .
_________
(١) حديث: " إذا وعد الرجل وهو ينوي أن يفي به. . . " أخرجه الترمذي (٥ / ٢٠)، وضعف إسناده لأن فيه راويان مجهولان كما قال.
(٢) الفتوحات الربانية لابن علان ٦ / ٢٥٨، ٢٥٩، وفتح الباري ٥ / ٢٩٠.
(٣) الأذكار مع شرحه الفتوحات الربانية ٦ / ٢٥٨، وإتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين ٧ / ٢٠٧، وكشاف القناع ٦ / ٢٧٩، وشرح منتهى الإرادات ٣ / ٤٥٦.
(٤) روضة الطالبين ٥ / ٣٩٠، وفتح الباري ٥ / ٢٩٠، وتحرير الكلام في مسائل الالتزام ص١٥٤، والفتوحات الربانية ٦ / ٢٦٠.
وَقَال بُرْهَانُ الدِّينِ ابْنُ مُفْلِحٍ: لاَ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ، نَصَّ عَلَيْهِ الإِْمَامُ أَحْمَدُ، وَقَالَهُ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ لأَِنَّهُ فِي مَعْنَى الْهِبَةِ قَبْل الْقَبْضِ (١) .
وَنَصَّ أَبُو بَكْرٍ الْجَصَّاصُ عَلَى أَنَّ الْوَعْدَ بِفِعْلٍ يَفْعَلُهُ فِي الْمُسْتَقْبَل وَهُوَ مُبَاحٌ، فَإِنَّ الأَْوْلَى الْوَفَاءُ بِهِ مَعَ الإِْمْكَانِ (٢) .
الْقَوْل الْخَامِسُ: أَنَّ إِنْجَازَ الْوَعْدِ الْمُجَرَّدِ غَيْرُ وَاجِبٍ، أَمَّا الْوَعْدُ الْمُعَلَّقُ عَلَى شَرْطٍ، فَإِنَّهُ يَكُونُ لاَزِمًا، وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، حَيْثُ نَقَل ابْنُ نُجَيْمٍ عَنِ الْقُنْيَةِ: لاَ يَلْزَمُ الْوَعْدُ إِلاَّ إِذَا كَانَ مُعَلَّقًا (٣) وَفِي الْفَتَاوَى الْبَزَّازِيَّةِ: أَنَّ الْمَوَاعِيدَ بِاكْتِسَاءِ صُوَرِ التَّعْلِيقِ تَكُونُ لاَزِمَةً (٤) . وَنَصَّتِ الْمَادَّةُ (٨٤) مِنْ مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ: الْمَوَاعِيدُ بِصُوَرِ التَّعَالِيقِ تَكُونُ لاَزِمَةً.
مِثَال ذَلِكَ: لَوْ قَال شَخْصٌ لآِخَرَ: ادْفَعْ دَيْنِي مِنْ مَالِكَ، فَوَعَدَهُ الرَّجُل بِذَلِكَ، ثُمَّ امْتَنَعَ عَنِ الأَْدَاءِ، فَإِنَّهُ لاَ يُلْزَمُ الْوَاعِدُ بِأَدَاءِ الدَّيْنِ، أَمَّا قَوْل رَجُلٍ لآِخَرَ: بِعْ هَذَا الشَّيْءَ لِفُلاَنٍ، وَإِنْ لَمْ يُعْطِكَ ثَمَنَهُ فَأَنَا أُعْطِيهِ لَكَ، فَلَمْ يُعْطِ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ،
_________
(١) المبدع ٩ / ٣٤٥.
(٢) أحكام القرآن للجصاص ٣ / ٤٤٢ (ط. استانبول) .
(٣) الأشباه والنظائر لابن نجيم كتاب الحظر والإباحة ص٣٤٤.
(٤) الفتاوى البزازية (بهامش الفتاوى الهندية) ٦ / ٣.
لَزِمَ الْمُوَاعِدَ أَدَاءُ الثَّمَنِ الْمَذْكُورِ بِنَاءً عَلَى وَعْدِهِ (١) .
وَأَسَاسُ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الإِْنْسَانَ إِذَا أَنْبَأَ غَيْرَهُ بِأَنَّهُ سَيَفْعَل أَمْرًا فِي الْمُسْتَقْبَل مَرْغُوبًا لَهُ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الأَْمْرُ غَيْرَ وَاجِبٍ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ بِمُجَرَّدِ الْوَعْدِ؛ لأَِنَّ الْوَعْدَ لاَ يُغَيِّرُ الأُْمُورَ الاِخْتِيَارِيَّةَ إِلَى الْوُجُوبِ وَاللُّزُومِ. أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْمَوَاعِيدُ مُفْرَغَةً فِي قَالَبِ التَّعْلِيقِ، فَإِنَّهَا تَلْزَمُ لِقُوَّةِ الاِرْتِبَاطِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ حُصُول مَضْمُونِ الْجَزَاءِ مَوْقُوفٌ عَلَى حُصُول شَرْطِهِ، وَذَلِكَ يُكْسِبُ الْوَعْدَ قُوَّةً، كَقُوَّةِ الاِرْتِبَاطِ بَيْنَ الْعِلِّيَّةِ وَالْمَعْلُولِيَّةِ، فَيَكُونُ لاَزِمًا (٢) .
عَلَى أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ إِنَّمَا اعْتَبَرُوا الْوُعُودَ بِصُوَرِ التَّعَالِيقِ لاَزِمَةً إِذَا كَانَ الْوَعْدُ مِمَّا يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ شَرْعًا حَسَبَ قَوَاعِدِ مَذْهَبِهِمْ، حَيْثُ إِنَّهُمْ أَجَازُوا تَعْلِيقَ الإِْطْلاَقَاتِ وَالْوَلاَيَاتِ بِالشَّرْطِ الْمُلاَئِمِ دُونَ غَيْرِهِ، وَأَجَازُوا تَعْلِيقَ الإِْسْقَاطَاتِ الْمَحْضَةِ بِالْمُلاَئِمِ وَغَيْرِهِ مِنَ الشُّرُوطِ، أَمَّا التَّمْلِيكَاتُ وَكَذَا التَّقْيِيدَاتُ، فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ
_________
(١) شرح المجلة لعلي حيدر ١ / ٧٧.
(٢) شرح المجلة للأتاسي ١ / ٢٣٨، ٢٣٩، وحاشية الحموي على الأشباه والنظائر ٢ / ١١٠، وانظر الفتاوى البزازية ٦ / ٣، وشرح المجلة لعلي حيدر ١ / ٧٧.
تَعْلِيقُهَا بِالشَّرْطِ عِنْدَهُمْ (١) .
وَالنَّافُونَ لِوُجُوبِ الْوَفَاءِ بِالْوَعْدِ مِنَ الْعُلَمَاءِ حَمَلُوا الْمَحْظُورَ الَّذِي نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَمَقَتَ فَاعِلَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾ ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾ (٢) عَلَى مَنْ وَعَدَ وَفِي ضَمِيرِهِ أَلاَّ يَفِيَ بِمَا وَعَدَ بِهِ، أَوْ عَلَى الإِْنْسَانِ الَّذِي يَقُول عَنْ نَفْسِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا لاَ يَفْعَلُهُ (٣) .
وَأَمَّا حَدِيثُ آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ فَقَالُوا بِأَنَّ ذَمَّ الإِْخْلاَفِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ حَيْثُ تَضَمُّنُهُ الْكَذِبَ الْمَذْمُومَ إِنْ عَزَمَ عَلَى الإِْخْلاَفِ حَال الْوَعْدِ، لاَ إِنْ طَرَأَ لَهُ (٤) .
قَال الإِْمَامُ الْغَزَالِيُّ: وَهَذَا يَنْزِل عَلَى مَنْ وَعَدَ وَهُوَ عَلَى عَزْمِ الْخُلْفِ أَوْ تَرْكِ الْوَفَاءِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَأَمَّا مَنْ عَزَمَ عَلَى الْوَفَاءِ فَعَنَّ لَهُ عُذْرٌ مَنَعَهُ مِنَ الْوَفَاءِ، لَمْ يَكُنْ مُنَافِقًا، وَإِنْ جَرَى عَلَيْهِ مَا هُوَ صُورَةُ النِّفَاقِ (٥) .
_________
(١) شرح المجلة للأتاسي ١ / ٢٣٣، ٢٣٤، ٢٣٩، وانظر رد المحتار لابن عابدين (٤ / ٢٢ ط بولاق) .
(٢) سورة الصف / ٢ - ٣.
(٣) أحكام القرآن للجصاص ٣ / ٤٤٢.
(٤) مرقاة المفاتيح للملا علي القاري ١ / ١٠٦، وحاشية الحموي على الأشباه والنظائر ٢ / ١١٠.
(٥) إحياء علوم الدين ٣ / ١١٥، وانظر الفتوحات الربانية لابن علان ٦ / ٢٥٩.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: الْخُلْفُ فِي الْوَعْدِ حَرَامٌ إِذَا وَعَدَ وَفِي نِيَّتِهِ أَنْ لاَ يَفِيَ بِمَا وَعَدَ، أَمَّا إِذَا وَعَدَ وَفِي نِيَّتِهِ أَنْ يَفِيَ بِمَا وَعَدَ فَلَمْ يَفِ، فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ (١) .
الْقَوْل السَّادِسُ: إِنَّ الْوَعْدَ إِذَا كَانَ مُرْتَبِطًا بِسَبَبٍ وَدَخَل الْمَوْعُودُ فِي السَّبَبِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ كَمَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِالْعَقْدِ، أَمَّا إِذَا لَمْ يُبَاشِرِ الْمَوْعُودُ السَّبَبَ فَلاَ شَيْءَ عَلَى الْوَاعِدِ، وَذَلِكَ كَمَا إِذَا وَعَدَهُ أَنْ يُسْلِفَهُ ثَمَنَ دَارٍ يُرِيدُ شِرَاءَهَا فَاشْتَرَاهَا الْمَوْعُودُ حَقِيقَةً، أَوْ أَنْ يُقْرِضَهُ مَبْلَغَ الْمَهْرِ فِي الزَّوَاجِ، فَتَزَوَّجَ اعْتِمَادًا عَلَى هَذَا الْوَعْدِ. . . فَفِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ وَأَمْثَالِهِمَا يُلْزَمُ الْوَاعِدُ قَضَاءً بِإِنْجَازِ وَعْدِهِ. أَمَّا إِذَا لَمْ يُبَاشِرِ الْمَوْعُودُ السَّبَبَ، فَلاَ يُلْزَمُ الْوَاعِدُ بِشَيْءٍ.
وَهَذَا هُوَ الْقَوْل الْمَشْهُورُ وَالرَّاجِحُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ (٢)، وَعَزَاهُ الْقَرَافِيُّ إِلَى مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ وَسُحْنُونٍ (٣) .
الْقَوْل السَّابِعُ: أَمَّا إِذَا كَانَ الْوَعْدُ مُرْتَبِطًا بِسَبَبٍ فَإِنَّهُ يَجِبَ الْوَفَاءُ بِهِ قَضَاءً، سَوَاءٌ دَخَل
_________
(١) حاشة الحموي على الأشباه ٢ / ١١٠.
(٢) تحرير الكلام في مسائل الالتزام للحطاب ص١٥٥، البيان والتحصيل لابن رشد ٨ / ١٨، والمنتقى شرح الموطأ للباجي ٣ / ٢٢٧.
(٣) الفروق للقرافي ٤ / ٢٥، وانظر مجالس العرفان لجعيط ٢ / ٣٤ وقارن بما نقل ابن عبد البر عن مالك وابن القاسم وسحنون في كتابه التمهيد ٣ / ٢٠٨، ٢٠٩.
الْمَوْعُودُ فِي السَّبَبِ أَوْ لَمْ يَدْخُل فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُرْتَبِطًا بِسَبَبٍ فَلاَ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَعَلَى ذَلِكَ: فَلَوْ قَال شَخْصٌ لآِخَرَ: أَعِدُكَ بِأَنْ أُعِيرَكَ بَقَرِي وَمِحْرَاثِي لِحِرَاثَةِ أَرْضِكَ، أَوْ أُرِيدُ أَنْ أُقْرِضَكَ كَذَا لِتَتَزَوَّجَ. أَوْ قَال الطَّالِبُ لِغَيْرِهِ: أُرِيدُ أَنْ أُسَافِرَ أَوْ أَنْ أَقْضِيَ دَيْنِي أَوْ أَنْ أَتَزَوَّجَ، فَأَقْرِضْنِي مَبْلَغَ كَذَا. فَوَعَدَهُ بِذَلِكَ، ثُمَّ بَدَا لَهُ فَرَجَعَ عَنْ وَعْدِهِ قَبْل أَنْ يُبَاشِرَ الْمَوْعُودُ السَّبَبَ الَّذِي ذَكَرَ مِنْ سَفَرٍ أَوْ زَوَاجٍ أَوْ وَفَاءِ دَيْنٍ أَوْ حِرَاثَةِ أَرْضٍ. . . فَإِنَّ الْوَاعِدَ يَكُونُ مُلْزَمًا بِالْوَفَاءِ، وَيُقْضَى عَلَيْهِ بِالتَّنْفِيذِ جَبْرًا إِنِ امْتَنَعَ. . أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْعِدَةُ غَيْرَ مُرْتَبِطَةٍ بِسَبَبٍ، كَمَا إِذَا قُلْتَ لآِخَرَ: أَسْلِفْنِي كَذَا، وَلَمْ تَذْكُرْ سَبَبًا، أَوْ أَعِرْنِي دَابَّتَكَ أَوْ بَقَرَتَكَ، وَلَمْ تَذْكُرْ سَفَرًا وَلاَ حَاجَةً، فَقَال: نَعَمْ. أَوْ قَال الْوَاعِدُ مِنْ نَفْسِهِ: أَنَا أُسْلِفُكَ كَذَا أَوْ أَهَبُ لَكَ كَذَا، وَلَمْ يَذْكُرْ سَبَبًا، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ، فَلاَ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَهُوَ قُوْلٌ فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ (١) .
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا قَوْل أَصْبَغَ الَّذِي حَكَاهُ الْبَاجِيُّ بِقَوْلِهِ: وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ عِدَةً لاَ تُدْخِل مَنْ وَعَدَ بِهَا فِي شَيْءٍ، فَلاَ يَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ مُفَسَّرَةً أَوْ مُبْهَمَةً.
- فَإِنْ كَانَتْ مُفَسَّرَةً: مِثْل أَنْ يَقُول الرَّجُل
_________
(١) الفروق للقرافي ٤ / ٢٥، وانظر تحرير الكلام في مسائل الالتزام ص١٥٤، والبيان والتحصيل ٨ / ١٨، والأذكار مع الفتوحات الربانية ٦ / ٢٦١، وأحكام القرآن لابن العربي ٤ / ١٨٠٠.
لِلرَّجُل: أَعِرْنِي دَابَّتَكَ إِلَى مَوْضِعِ كَذَا. فَيَقُول: أَنَا أُعِيرُكَ غَدًا، أَوْ يَقُول: عَلَيَّ دَيْنٌ فَأَسْلِفْنِي مِائَةَ دِينَارٍ أَقْضِهِ، فَيَقُول: أَنَا أُسْلِفُكَ.
فَهَذَا قَال أَصْبَغُ فِي الْعُتْبِيَّةِ: يُحْكَمُ بِإِنْجَازِ مَا وَعَدَ بِهِ، كَالَّذِي يُدْخِل الإِْنْسَانَ فِي عَقْدٍ، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عَلَى خِلاَفِ هَذَا؛ لأَِنَّهُ لَمْ يُدْخِلْهُ بِوَعْدِهِ فِي شَيْءٍ يَضْطَرُّهُ إِلَى مَا وَعَدَ.
وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ مُبْهَمَةً: مِثْل أَنْ يَقُول لَهُ: أَسْلِفْنِي مِائَةَ دِينَارٍ، وَلاَ يَذْكُرُ حَاجَتَهُ إِلَيْهَا، أَوْ يَقُول: أَعِرْنِي دَابَّتَكَ أَرْكَبْهَا، وَلاَ يَذْكُرُ لَهُ مَوْضِعًا وَلاَ حَاجَةً. فَهَذَا قَال أَصْبَغُ: لاَ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِهَا.
فَإِذَا قُلْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الأُْولَى: إِنَّهُ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْعِدَةِ إِذَا كَانَ الأَْمْرُ أَدْخَلَهُ فِيهِ، مِثْل أَنْ يَقُول لَهُ: انْكِحْ وَأَنَا أُسْلِفُكَ مَا تُصْدِقُهَا. فَإِنْ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ الْوَعْدِ قَبْل أَنْ يَنْكِحَ مَنْ وُعِدَ، فَهَل يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ أَمْ لاَ؟ قَال أَصْبَغُ فِي الْعُتْبِيَّةِ: يَلْزَمُهُ ذَلِكَ وَيُحْكَمُ بِهِ عَلَيْهِ، أَلْزَمَهُ ذَلِكَ بِالْوَعْدِ (١) .
الاِسْتِثْنَاءُ فِي الْوَعْدِ:
٦ - نَصَّ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْوَاعِدِ أَنْ يَسْتَنْثِيَ فِي وَعْدِهِ بِقَوْل: إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا﴾ ﴿
_________
(١) المنتقى للباجي ٣ / ٢٢٧، وقارن بما نقله القرافي عن أصبغ في الفروق ٤ / ٢٥، وما حكاه جعيط في مجالس العرفان عن أصبغ ٢ / ٣٤.
إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ (١)، وَلأَِنَّ الْوَاعِدَ لاَ يَدْرِي هَل يَقَعُ مِنْهُ الْوَفَاءُ أَمْ لاَ، فَإِذَا اسْتَثْنَى وَعَلَّقَ بِالْمَشِيئَةِ الإِْلَهِيَّةِ خَرَجَ عَنْ صُورَةِ الْكَذِبِ فِي حَال التَّعَذُّرِ.
غَيْرَ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ الاِسْتِثْنَاءِ فِي الْوَعْدِ:
- فَقَال الْغَزَالِيُّ: هُوَ الأَْوْلَى (٢) .
- وَقَال الْجَصَّاصُ: إِنْ لَمْ يَقْرِنْهُ بِالاِسْتِثْنَاءِ فَهُوَ مَكْرُوهٌ (٣) .
- وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَحْرُمُ الْوَعْدُ بِغَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ (٤) .
_________
(١) سورة الكهف / ٢٣ - ٢٤.
(٢) إحياء علوم الدين ٣ / ١١٥.
(٣) أحكام القرآن للجصاص ٣ / ٤٤٢.
(٤) كشاف القناع ٦ / ٢٧٩، وشرح منتهى الإرادات ٣ / ٤٥٦، والمبدع ٩ / ٣٤٥.
الْمُوَاعَدَةُ:
٧ - الْمُوَاعَدَةُ: مُفَاعَلَةٌ مِنْ وَاعَدَ. وَقَدْ عَرَّفَهَا الْمَالِكِيَّةُ: بِأَنْ يَعِدَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ؛ لأَِنَّهَا مُفَاعَلَةٌ لاَ تَكُونُ إِلاَّ مِنَ اثْنَيْنِ، فَإِنْ وَعَدَ أَحَدُهُمَا دُونَ الآْخَرِ فَهَذِهِ الْعِدَةُ.
وَقَدْ تَنَاوَل بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْمُوَاعَدَةَ فِي بَعْضِ صُوَرِهَا، وَذَكَرُوا بَعْضًا مِنْ أَحْكَامِهَا، وَذَلِكَ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أ - الْمُوَاعَدَةُ عَلَى مَا لاَ يَصِحُّ حَالًا:
قَال فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ مِنْ أُصُول مَالِكٍ مَنْعَ الْمُوَاعَدَةِ فِيمَا لاَ يَصِحُّ وُقُوعُهُ فِي الْحَال سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ. وَمِنْ ثَمَّ مَنَعَ مَالِكٌ الْمُوَاعَدَةَ عَلَى النِّكَاحِ فِي الْعِدَّةِ، وَالْمُوَاعَدَةَ عَلَى بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْل قَبْضِهِ، وَعَلَى الْبَيْعِ وَقْتَ نِدَاءِ الْجُمُعَةِ، وَعَلَى بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ (١)، وَجَاءَ فِي قَوَاعِدِ الْوَنْشَرِيسِيِّ: الأَْصْل مَنْعُ الْمُوَاعَدَةِ بِمَا لاَ يَصِحُّ وُقُوعُهُ فِي الْحَال حِمَايَةً (٢) . بِمَعْنَى أَنَّ الْمُوَاعَدَةَ عَلَى عَقْدٍ مَحْظُورٍ - بِالنَّظَرِ لِمَا تَؤُول إِلَيْهِ - كَالْوَسِيلَةِ لِلْغَايَةِ الْمَمْنُوعَةِ، فَتُحْمَى الْمَقَاصِدُ الَّتِي حَظَرَهَا الشَّرْعُ مِنْ أَنْ تُنْتَهَكَ بِسَدِّ الذَّرَائِعِ الَّتِي تُفْضِي إِلَيْهَا.
ب - الْمُوَاعَدَةُ عَلَى عَقْدِ الصَّرْفِ
٩ - أَمَّا الْمُوَاعَدَةُ عَلَى الصَّرْفِ فَفِيهَا ثَلاَثَةُ أَقْوَالٍ عِنْدَهُمْ:
أَحَدُهَا الْجَوَازُ.
_________
(١) إعداد المهج للاستفادة من المنهج لأحمد بن أحمد المختار الشنقيطي ص١٩٥، والمنهج إلى المنهج لمحمد الأمين بن أحمد زيدان الجكني ص٩٠، ومواهب الجليل للحطاب ٣ / ٤١٣، وأحكام القرآن لابن العربي ١ / ٢١٥، وإيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك ص٢٧٨.
(٢) إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك للونشريسي ص٢٧٨.
وَثَانِيهَا الْمَنْعُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ.
وَثَالِثُهَا الْكَرَاهَةُ، وَشُهِرَتْ أَيْضًا نَظَرًا لِجَوَازِ الصَّرْفِ فِي الْحَال، وَشُبِّهَتْ بِعَقْدٍ فِيهِ تَأْخِيرٌ (١) .
وَجَاءَ فِي شَرْحِ الْمَوَّاقِ عَلَى مُخْتَصَرِ خَلِيلٍ: وَأَمَّا الْمُوَاعَدَةُ عَلَى الصَّرْفِ فَتُكْرَهُ، فَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ وَتَمَّ الصَّرْفُ بَيْنَهُمَا عَلَى الْمُوَاعَدَةِ، لَمْ يُفْسَخْ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَقَال أَصْبَغُ: يُفْسَخُ (٢) .
وَقَدْ ذَكَرَ الْوَنْشَرِيسِيُّ وَجْهَ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُوَاعَدَةِ عَلَى الصَّرْفِ فِي حُكْمٍ - حَيْثُ قِيل بِجَوَازِهَا وَبِكَرَاهَتِهَا إِلَى جَانِبِ الْقَوْل بِمَنْعِهَا - وَبَيْنَ الْمُوَاعَدَةِ عَلَى النِّكَاحِ فِي الْعِدَّةِ وَعَلَى بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْل قَبْضِهِ وَنَحْوِهِمَا، فَقَال: وَإِنَّمَا مُنِعَتْ فِيهِمَا؛ لأَِنَّ إِبْرَامَ الْعَقْدِ مُحَرَّمٌ فِيهِمَا، فَجُعِلَتِ الْمُوَاعَدَةُ حَرِيمًا لَهُ، وَلَيْسَ إِبْرَامُ الْعَقْدِ فِي الصَّرْفِ بِمُحَرَّمٍ، فَتُجْعَل الْمُوَاعَدَةُ حَرِيمًا لَهُ (٣) .
ب وَتَعَرَّضَ الإِْمَامُ الشَّافِعِيُّ لِلْمُوَاعَدَةِ فِي الصَّرْفِ فَقَال: إِذَا تَوَاعَدَ الرَّجُلاَنِ الصَّرْفَ، فَلاَ بَأْسَ أَنْ
_________
(١) أحكام القرآن لابن العربي ١ / ٢١٥، الخرشي وحاشية الْعَدَوِيّ عليه ٥ / ٣٨، وشرح المواق على مختصر خليل ٤ / ٣٠٩، وإعداد المهج للاستفادة من المنهج ص١٩٥، والمنهج إلى المنهج ص٩٠، والقوانين الفقهية (ط. الدار العربية للكتاب) ص٢٥٥، والمقدمات الممهدات (ص٥٠٨ ط السعادة بمصر) ص٥٠٨، وإيضاح المسالك ص٢٧٩.
(٢) شرح المواق على مختصر خليل ٤ / ٣٠٩.
(٣) إيضاح المسالك ص٢٨٠.