الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٤٤
الأَْصْلَحُ فِي التَّخْيِيرِ، وَهِيَ فِي جَنَبَةِ الْمُوَلَّى مِنَ الْعُقُودِ الْخَاصَّةِ، لِعَقْدِهِ لَهَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ، فَيَجْرِي عَلَيْهَا حُكْمُ اللُّزُومِ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّرْ جَارِيهِ بِمَا يَصِحُّ فِي الأُْجُورِ لَمْ تَلْزَمْهُ الْمُدَّةُ، وَجَازَ لَهُ الْخُرُوجُ مِنَ الْعَمَل إِذَا شَاءَ بَعْدَ أَنْ يُنْهِيَ إِلَى مُوَلِّيهِ حَال تَرْكِهِ، حَتَّى لاَ يَخْلُوَ عَمَلُهُ مِنْ نَاظِرٍ فِيهِ.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُقَدَّرَ بِالْعَمَل فَيَقُول الْمُوَلِّي فِيهِ: قَدْ قَلَّدْتُكَ خَرَاجَ نَاحِيَةِ كَذَا فِي هَذِهِ السَّنَةِ، أَوْ قَلَّدْتُكَ صَدَقَاتِ بَلَدِ كَذَا فِي هَذَا الْعَامِ، فَتَكُونُ مُدَّةُ نَظَرِهِ مُقَدَّرَةً بِفَرَاغِهِ مِنْ عَمَلِهِ فَإِذَا فَرَغَ مِنْهُ انْعَزَل عَنْهُ، وَهُوَ قَبْل فَرَاغِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا يَجُوزُ أَنْ يَعْزِلَهُ الْمُوَلِّي، وَعَزْلُهُ لِنَفْسِهِ مُعْتَبَرٌ بِصِحَّةِ جَارِيهِ وَفَسَادِهِ.
الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْلِيدُ مُطْلَقًا فَلاَ يُقَدَّرُ بِمُدَّةٍ وَلاَ عَمَلٍ، فَيَقُول فِيهِ: قَدْ قَلَّدْتُكَ خَرَاجَ الْكُوفَةِ، أَوْ أَعْشَارَ الْبَصْرَةِ مَثَلًا، فَهَذَا تَقْلِيدٌ صَحِيحٌ وَإِنْ جُهِلَتْ مُدَّتُهُ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ الإِْذْنُ لِجَوَازِ النَّظَرِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ اللُّزُومَ الْمُعْتَبَرَ فِي عُقُودِ الإِْيجَارَاتِ (١) .
٧ - وَإِذَا صَحَّ التَّقْلِيدُ وَجَازَ النَّظَرُ لَمْ يَخْل حَالُهُ مِنَ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَدِيمًا أَوْ مُنْقَطِعًا.
_________
(١) الأحكام السلطانية للماوردي ٢١٠ - ٢١١، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ٢٤٧.
فَإِنْ كَانَ مُسْتَدِيمًا كَالنَّظَرِ فِي الْجِبَايَةِ وَالْقَضَاءِ وَحُقُوقِ الْمَعَادِنِ فَيَصِحُّ نَظَرُهُ فِيهَا عَامًا بَعْدَ عَامٍ مَا لَمْ يُعْزَل.
وَإِنْ كَانَ مُنْقَطِعًا فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
الضَّرْبُ الأَْوَّل: أَنْ لاَ يَكُونَ مَعْهُودَ الْعَوْدِ فِي كُل عَامٍ كَالْوَالِي عَلَى قَسْمِ الْغَنِيمَةِ، فَيَنْعَزِل بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهَا وَلَيْسَ لَهُ النَّظَرُ فِي قِسْمَةِ غَيْرِهَا مِنَ الْغَنَائِمِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَائِدًا فِي كُل عَامٍ كَالْخَرَاجِ الَّذِي إِذَا اسْتُخْرِجَ فِي عَامٍ عَادَ فِيمَا يَلِيهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَل يَكُونُ إِطْلاَقُ تَقْلِيدِهِ مَقْصُورًا عَلَى نَظَرِ عَامِهِ أَوْ مَحْمُولًا عَلَى كُل عَامٍ مَا لَمْ يُعْزَل، عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَكُونُ مَقْصُورًا لِلنَّظَرِ عَلَى الْعَامِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، فَإِذَا اسْتَوْفَى خَرَاجَهُ أَوْ أَخَذَ أَعْشَارَهُ انْعَزَلَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْعَامِ الثَّانِي إِلاَّ بِتَقْلِيدٍ مُسْتَجَدٍّ اقْتِصَارًا عَلَى الْيَقِينِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ يُحْمَل عَلَى جَوَازِ النَّظَرِ فِي كُل عَامٍ مَا لَمْ يُعْزَل اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ (١) .
النَّوْعُ الثَّانِي: الْوَظَائِفُ الْخَاصَّةُ:
٨ - الْوَظَائِفُ الْخَاصَّةُ وَهِيَ الَّتِي تَرْتَبِطُ
_________
(١) الأحكام السلطانية للماوردي ٢١٠ - ٢١١، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ٢٤٧.
بِالْعُقُودِ الَّتِي يُنْشِئُهَا الْمُتَعَاقِدُونَ فِي تَصَرُّفَاتِهِمُ الْمُخْتَلِفَةِ، فَإِنَّ حَقَّ تَعْيِينِ الْوَظَائِفِ يَكُونُ مِنْ حَقِّ أَصْحَابِ هَذِهِ الْعُقُودِ الْمُنْشِئَةِ لِهَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ فِي حُدُودِ الضَّوَابِطِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَقَدْ نَصَّ الْفُقَهَاءُ فِي الْوَقْفِ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الإِْمَامِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَرْبَابِ الْوِلاَيَاتِ إِحْدَاثُ وَظِيفَةٍ فِيهِ لَمْ تَكُنْ فِي شَرْطِ الْوَاقِفِ، وَلاَ صَرْفُ شَيْءٍ مِنْ مَال الْوَقْفِ فِيهَا، وَلاَ يَجُوزُ لِمَنْ قُرِّرَ فِيهَا أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ مَال الْوَقْفِ، كَمَا لاَ يَجُوزُ لأَِحَدٍ مِمَّنْ ذُكِرَ إِلْغَاءُ وَظِيفَةٍ مِمَّا شَرَطَهُ الْوَاقِفُ، وَيُفَسَّقُ بِهِ مَنْ فَعَل ذَلِكَ، وَيَنْعَزِل النَّاظِرُ بِهِ، وَلاَ يَحِقُّ لأَِحَدٍ غَيْرِ الْوَاقِفِ عَزْل مَنْ وَلاَّهُ الْوَاقِفُ إِلاَّ بِسَبَبٍ ظَاهِرٍ كَعَجْزٍ أَوْ خِيَانَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلاَ يَنْفُذُ الْعَزْل، وَيُفَسَّقُ بِهِ عَازِلُهُ وَيُطَالَبُ بِسَبَبِهِ (١) .
صِيغَةُ تَوْلِيَةِ الْوَظَائِفِ:
٩ - تَوْلِيَةُ الْوَظَائِفِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِأَلْفَاظٍ صَرِيحَةٍ أَوْ بِأَلْفَاظِ كِنَايَةٍ، وَالتَّفْصِيل فِي (تَوْلِيَة ف١٠ - ١٢) .
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ التَّوْلِيَةِ بِاللَّفْظِ وَبِالْكِتَابَةِ كَذَلِكَ إِذَا اقْتَرَنَتْ بِهِ شَوَاهِدُ
_________
(١) حاشيتا قليوبي وعميرة على شرح المنهاج ٣ / ١١٠، والأشباه لابن نجيم ص١٢٥، وابن عابدين ٣ / ٣٨٦.
الْحَال. كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى صِحَّةِ التَّوْلِيَةِ بِصِيغَةٍ مُنَجَّزَةٍ (١) .
١٠ - وَاخْتَلَفُوا فِي تَعَلُّقِ التَّوْلِيَةِ عَلَى شَرْطٍ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَوْل الْمُقَابِل لِلأَْصَحِّ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ تَعْلِيقُ التَّقْرِيرِ فِي الْوَظَائِفِ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَمَرَ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، وَقَال ﷺ: إِنْ قُتِل زَيْدٌ فَجَعْفَرٌ، فَإِنْ قُتِل جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ (٢) .
وَهُوَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. فَقَدْ جَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِنْ أَوْصَى إِلَى رَجُلٍ فَقَال: فُلاَنٌ وَصِيٌّ حَتَّى يَقَدُمَ فُلاَنٌ، فَإِذَا قَدِمَ فُلاَنٌ فَفُلاَنٌ الْقَادِمُ وَصِيٌّ، أَيَجُوزُ هَذَا؟ قَال: نَعَمْ، هَذَا جَائِزٌ.
وَوَرَدَ فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ لِشَمْسِ الدِّينِ ابْنِ قُدَامَةَ: إِذَا قَال: أَوْصَيْتُ إِلَى زَيْدٍ فَإِنْ مَاتَ فَقَدْ أَوْصَيْتُ إِلَى عَمْرٍو، صَحَّ ذَلِكَ رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَيَكُونُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَصِيًّا. . . لأَِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَال فِي جَيْشِ مُؤْتَةَ: أَمِيرُكُمْ زَيْدٌ فَإِنْ قُتِلَ، فَأَمِيرُكُمْ جَعْفَرٌ، فَإِنْ قُتِل فَأَمِيرُكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
_________
(١) حاشية ابن عابدين ٣ / ٤١٨، والمدونة ١٥ / ١٨ (طبعة السعادة)، وحاشية القليوبي وعميرة ٢ / ٣٤٠، والشرح الكبير للمقدسي ٦ / ٥٨٢، والفروع ٤ / ٧١١ - ٧١٢.
(٢) حديث: إن قتل زيد فجعفر. . . أخرجه البخاري (الفتح ٧ / ٥١٠) من حديث ابن عمر.
رَوَاحَةَ وَالْوَصِيَّةُ فِي مَعْنَى التَّأْمِيرِ (١) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ: لاَ يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْوِلاَيَاتِ - وَمِنْهَا التَّقْرِيرُ عَلَى الْوَظَائِفِ - بِشَرْطٍ إِلاَّ فِي مَحَل الضَّرُورَةِ، كَالإِْيصَاءِ وَالإِْمَارَاتِ، وَعَلَيْهِ قَالُوا بِبُطْلاَنِ الشَّرْطِ فِي حَقِّ الأَْوْلاَدِ فِيمَنْ شَرَطَ لِنَفْسِهِ النَّظَرَ فِي الْوَقْفِ، ثُمَّ لأَِوْلاَدِهِ بَعْدَهُ.
وَقَالُوا فِي وَاقِعَةِ غَزْوَةِ تَبُوكَ: إِنَّهُ يُحْتَمَل أَنَّ الإِْمَارَةَ كَانَتْ مُنَجَّزَةً، وَإِنَّمَا عُلِّقَ التَّصَرُّفُ عَلَى الْمَوْتِ (٢) .
الاِعْتِيَاضُ عَنِ الْوَظَائِفِ بِمَالٍ:
١١ - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ الاِعْتِيَاضِ عَنِ الْوَظَائِفِ بِمَالٍ:
فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - وَهُوَ رَأْيٌ عِنْدَ كُلٍّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ - إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الاِعْتِيَاضُ عَنِ الْوَظَائِفِ بِمَالٍ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَالْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَهُمْ، وَالْمَالِكِيَّةُ فِي رَأْيٍ قَال عَنْهُ الْحَطَّابُ: ضَعِيفٌ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ - مِنْهُمُ السُّبْكِيُّ - أَنَّهُ يَجُوزُ الاِعْتِيَاضُ عَنِ الْوَظَائِفِ بِمَالٍ (٣) .
_________
(١) حاشية ابن عابدين ٣ / ٤١٨، والمدونة ١٥ / ١٨، وحاشية القليوبي وعميرة ٢ / ٣٤٠، والشرح الكبير للمقدسي ٦ / ٥٨٢، والفروع ٤ / ٧١١ - ٧١٢.
(٢) حاشيتا القليوبي وعميرة على شرح المنهاج ٢ / ٣٤٠.
(٣) حاشية ابن عابدين ٣ / ١٨٣، ٤ / ١٤، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص٣٩١، ومواهب الجليل ٤ / ١٢ - ١٣، وأسنى المطالب ٣ / ٢٣٦، مع حاشية الرملي، وحاشية القليوبي ٣ / ٣٢٣، وحاشية عميرة على شرح المحلي ٣ / ٩٢، ومطالب أولي النهى ٤ / ١٩١ - ١٩٢، وتحفة الحبيب على شرح الخطيب ٣ / ٤٠١.
وَانْظُرِ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (خلو ف١٦)
الْغَيْبَةُ الَّتِي يَسْتَحِقُّ بِهَا الْمُوَظَّفُ الْعَزْل مِنَ الْوَظِيفَةِ:
١٢ - لِلْحَنَفِيَّةِ تَفْصِيلٌ فِي الْغَيْبَةِ لِعَزْل الْمُوَظَّفِ عَنْ وَظِيفَتِهِ وَسُقُوطِ مَعْلُومِهِ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِذَا غَابَ عَنِ الْمَدْرَسَةِ فَإِمَّا أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْمِصْرِ أَوْ لاَ، فَإِنْ خَرَجَ مَسِيرَةَ سَفَرٍ ثُمَّ رَجَعَ، لَيْسَ لَهُ طَلَبُ مَا مَضَى مِنْ مَعْلُومِهِ بَل يَسْقُطُ، وَكَذَا لَوْ سَافَرَ لَحَجٍّ وَنَحْوِهِ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ لِسَفَرٍ بِأَنْ خَرَجَ إِلَى الرُّسْتَاقِ (١) فَإِنْ أَقَامَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَأَكْثَرَ، فَإِنْ كَانَ بِلاَ عُذْرٍ كَالْخُرُوجِ لِلتَّنَزُّهِ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ كَطَلَبِ الْمَعَاشِ فَهُوَ عَفْوٌ إِلاَّ أَنْ تَزِيدَ غَيْبَتُهُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ، فَلِغَيْرِهِ أَخْذُ حُجْرَتِهِ وَوَظِيفَتِهِ؛ أَيْ مَعْلُومِهِ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنَ الْمِصْرِ: فَإِنِ اشْتَغَل بِكِتَابَةِ عِلْمٍ شَرْعِيٍّ فَهُوَ عَفْوٌ وَإِلاَّ جَازَ عَزْلُهُ أَيْضًا.
وَاخْتُلِفَ فِيمَا إِذَا خَرَجَ لِلرُّسْتَاقِ وَأَقَامَ دُونَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَقِيل: يَسْقُطُ، وَقِيل: لاَ، هَذَا حَاصِل مَا ذَكَرَهُ ابْنُ الشِّحْنَةِ فِي شَرْحِهِ،
_________
(١) الرستاق معرب ويستعمل في الناحية التي هي طرف الإقليم (المصباح المنير) .
وَمُلَخَّصُهُ: أَنَّهُ لاَ يَسْقُطُ مَعْلُومُهُ الْمَاضِي وَلاَ يُعْزَل فِي الآْتِي إِذَا كَانَ فِي الْمِصْرِ مُشْتَغِلًا بِعِلْمٍ شَرْعِيٍّ أَوْ خَرَجَ لِغَيْرِ سَفَرٍ وَأَقَامَ دُونَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا بِلاَ عُذْرٍ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، أَوْ خَمْسَةَ عَشَرَ فَأَكْثَرَ لَكِنْ لِعُذْرٍ شَرْعِيٍّ كَطَلَبِ الْمَعَاشِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ، وَأَنَّهُ يَسْقُطُ الْمَاضِي وَلاَ يُعْزَل، وَلَوْ خَرَجَ مُدَّةَ سَفَرٍ وَرَجَعَ، أَوْ سَافَرَ لِحَجٍّ وَنَحْوِهِ، أَوْ خَرَجَ لِلرُّسْتَاقِ لِغَيْرِ عُذْرٍ مَا لَمْ يَزِدْ عَلَى ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ، وَأَنَّهُ يَسْقُطُ الْمَاضِي وَيُعْزَل لَوْ كَانَ فِي الْمِصْرِ غَيْرَ مُشْتَغِلٍ بِعِلْمٍ شَرْعِيٍّ أَوْ خَرَجَ مِنْهُ وَأَقَامَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ وَلَوْ لِعُذْرٍ، قَال الْخَيْرُ الرَّمْلِيُّ: وَكُل هَذَا إِذَا لَمْ يُنَصِّبْ نَائِبًا عَنْهُ وَإِلاَّ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَخْذُ وَظِيفَتِهِ، وَفِي الْقِنْيَةِ مِنْ بَابِ الإِْمَامَةِ: إِمَامٌ يَتْرُكُ الإِْمَامَةَ لِزِيَارَةِ أَقْرِبَائِهِ فِي الرَّسَاتِيقِ أُسْبُوعًا أَوْ نَحْوَهُ أَوْ لِمُصِيبَةٍ أَوْ لاِسْتِرَاحَةٍ، لاَ بَأْسَ بِهِ، وَمِثْلُهُ عَفْوٌ فِي الْعَادَةِ وَالشَّرْعِ.
وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْل بِأَنَّ خُرُوجَهُ أَقَل مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا بِلاَ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ لاَ يُسْقِطُ مَعْلُومَهُ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي الأَْشْبَاهِ فِي قَاعِدَةِ: (الْعَادَةُ مُحَكَّمَةٌ) عِبَارَةَ الْقِنْيَةِ هَذِهِ، وَحَمَلَهَا عَلَى أَنَّهُ يُسَامَحُ أُسْبُوعًا فِي كُل شَهْرٍ، وَاعْتَرَضَهُ بَعْضُ مُحَشِّيهِ بِأَنَّ قَوْلَهُ: فِي كُل شَهْرٍ، لَيْسَ فِي عِبَارَةِ الْقِنْيَةِ مَا يَدُل عَلَيْهِ، قُلْتُ: وَالأَْظْهَرُ مَا فِي آخِرِ شَرْحِ مُنْيَةِ الْمُصَلِّي لِلْحَلَبِيِّ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ فِي كُل سَنَةٍ.
وَذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّهُ لَوْ أَصَابَ الْقَيِّمَ خَرَسٌ أَوْ عَمًى أَوْ جُنُونٌ أَوْ فَالِجٌ أَوْ نَحْوُهُ مِنَ الآْفَاتِ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ الْكَلاَمُ وَالأَْمْرُ وَالنَّهْيُ وَالأَْخْذُ وَالإِْعْطَاءُ فَلَهُ أَخْذُ الأَْجْرِ وَإِلاَّ فَلاَ.
قَال الطَّرَطُوسِيُّ: وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ الْمُدَرِّسَ وَنَحْوَهُ إِذَا أَصَابَهُ عُذْرٌ مِنْ مَرَضٍ أَوْ حَجٍّ بِحَيْثُ لاَ يُمْكِنُهُ الْمُبَاشَرَةُ، لاَ يَسْتَحِقُّ الْمَعْلُومَ؛ لأَِنَّهُ أَدَارَ الْحُكْمَ فِي الْمَعْلُومِ عَلَى نَفْسِ الْمُبَاشَرَةِ، فَإِنْ وُجِدَتِ اسْتَحَقَّ الْمَعْلُومَ وَإِلاَّ فَلاَ (١) .
النُّزُول عَنِ الْوَظَائِفِ:
١٣ - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُتَوَلِّيَ لَوْ عَزَل نَفْسَهُ لاَ يَنْعَزِل حَتَّى يُبْلِغَ الْقَاضِيَ فَيُنَصِّبَ غَيْرَهُ.
وَإِنْ عَزَل نَفْسَهُ لِفَرَاغٍ لِغَيْرِهِ عَنْ وَظِيفَةِ النَّظَرِ أَوْ غَيْرِهَا، فَإِنْ كَانَ الْمَنْزُول لَهُ غَيْرَ أَهْلٍ لاَ يُقَرِّرُهُ الْقَاضِي، وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ تَقْرِيرُهُ وَلَوْ كَانَ أَهْلًا.
وَأَفْتَى الْعَلاَّمَةُ قَاسِمٌ بِأَنَّ مَنْ فَرَغَ لإِنْسَانٍ عَنْ وَظِيفَتِهِ سَقَطَ حَقُّهُ وَإِنْ لَمْ يُقَرِّرِ النَّاظِرُ الْمَنْزُول لَهُ (٢) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ نَزَل الإِْنْسَانُ عَنْ وَظِيفَةٍ مِنْ إِمَامَةٍ أَوْ خَطَابَةٍ أَوْ تَدْرِيسٍ وَنَحْوِهِ لِمَنْ فِيهِ أَهْلِيَّةٌ لِلْقِيَامِ بِهَا فَلاَ يُقَرَّرُ غَيْرَ مَنْزُولٍ لَهُ؛ لِتُعَلِّقِ حَقِّهِ بِهَا،
_________
(١) حاشية ابن عابدين ٣ / ٤٠٧ - ٤٠٨
(٢) حاشية ابن عابدين ٣ / ٣٨٦.
فَإِنْ قَرَّرَهُ مَنْ لَهُ الْوِلاَيَةُ كَالنَّاظِرِ فَقَدْ تَمَّ الأَْمْرُ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يُقَرِّرْهُ مَنْ لَهُ وِلاَيَةُ التَّقْرِيرِ، فَالْوَظِيفَةُ لِلنَّازِل؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَحْصُل مِنْهُ رَغْبَةٌ مُطْلَقَةٌ عَنْ وَظِيفَتِهِ، بَل مُقَيَّدَةٌ بِحُصُولِهِ لِلْمَنْزُول لَهُ وَلَمْ يَصِحَّ، وَلَيْسَ لِلنَّاظِرِ التَّقْرِيرُ فِي مِثْل هَذَا، إِنَّمَا يُقَرِّرُ فِيمَا هُوَ خَالٍ عَنْ يَدِ مُسْتَحِقٍّ أَوْ فِي يَدِ مَنْ يَمْلِكُ انْتِزَاعَهُ مِنْهُ لِمُقْتَضًى شَرْعِيٍّ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ تَقْرِيرُهُ سَائِغًا.
وَقَال الرُّحَيْبَانِيُّ: وَمَا قَالَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ مِنْ أَنَّهُ لاَ يَتَعَيَّنُ مَنْزُولٌ لَهُ، وَيُوَلِّي مَنْ لَهُ الْوِلاَيَةُ مَنْ يَسْتَحِقُّهَا شَرْعًا، فَمَحْمُولٌ عَلَى عَدَمِ تَمَامِ النُّزُول، إِمَّا لِكَوْنِهِ قَبْل الْقَبُول مِنَ الْمَنْزُول لَهُ أَوْ قَبْل الإِْمْضَاءِ إِذَا كَانَ النُّزُول مُعَلَّقًا بِشَرْطِ الإِْمْضَاءِ مِمَّنْ لَهُ وِلاَيَةُ ذَلِكَ، أَوْ عَلَى مَنْ رَغِبَ عَنْهُ رَغْبَةً مُطْلَقَةً، وَلَمْ يَكُنِ الْمَنْزُول لَهُ أَهْلًا، فَفِي هَذَا يَتَّجِهُ الْقَوْل بِهِ، وَإِمَّا إِذَا لَمْ يَكُنِ النُّزُول مَشْرُوطًا بِالإِْمْضَاءِ، وَتَمَّ النُّزُول بِالْقَبُول مِنَ الْمَنْزُول لَهُ وَالإِْمْضَاءِ مِمَّنْ لَهُ وِلاَيَةُ ذَلِكَ، وَكَانَ الْمَنْزُول لَهُ أَهْلًا، فَلاَ رَيْبَ أَنَّهُ يَنْتَقِل إِلَيْهِ عَاجِلًا بِقَبُولِهِ وَلَيْسَ لأَِحَدٍ التَّقَرُّرُ عَنِ الْمَنْزُول لَهُ، وَلاَ يَتَوَقَّفُ عَلَى تَقْرِيرِ نَاظِرٍ وَلاَ مُرَاجَعَتِهِ لَهُ، إِذْ هُوَ حَقٌّ لَهُ نَقَلَهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ فِي حُقُوقِهِ لَيْسَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا، أَشْبَهَ سَائِرِ حُقُوقِهِ، إِذْ لاَ فَرْقَ، وَلَهُ شَوَاهِدُ مِنْ كَلاَمِهِمْ، مِنْهَا مَا ذَكَرُوا فِي الْمُتَحَجِّرِ أَنَّ مَنْ نَقَلَهُ إِلَيْهِ يَكُونُ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَكَذَا ذَكَرُوا أَنَّ مَنْ بِيَدِهِ أَرْضٌ خَرَاجِيَّةٌ لَيْسَ
لِلإِْمَامِ انْتِزَاعُهَا مِنْهُ وَدَفْعُهَا إِلَى غَيْرِهِ، وَإِنْ آثَرَ بِهَا غَيْرَهُ صَارَ الثَّانِي أَحَقَّ بِهَا، مَعَ أَنَّ لِلإِْمَامِ نَظَرًا وَلَمْ يَعْتَبِرُوهُ، وَقَال " الْمُوَضِّحُ ": مُلَخَّصُ كَلاَمِ الأَْصْحَابِ: يَسْتَحِقُّهَا مَنْزُولٌ لَهُ إِنْ كَانَ أَهْلًا، وَإِلاَّ فَلِلنَّاظِرِ تَوْلِيَةُ مُسْتَحِقِّهَا شَرْعًا (١) .
تَقْرِيرُ أَوْلاَدِ الْمُوَظَّفِينَ فِي وَظِيفَةِ آبَائِهِمْ بَعْدَ وَفَاتِهِمْ:
١٤ - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا مَاتَ مَنْ لَهُ وَظِيفَةٌ فِي بَيْتِ الْمَال لِحَقِّ الشَّرْعِ وَإِعْزَازِ الإِْسْلاَمِ كَأُجْرَةِ الإِْمَامِ وَالتَّأْذِينِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ مَصْلَحَةُ الإِْسْلاَمِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَلِلْمَيِّتِ أَبْنَاءٌ يُرَاعُونَ وَيُقِيمُونَ حَقَّ الشَّرْعِ وَإِعْزَازِ الإِْسْلاَمِ كَمَا كَانَ يُرَاعِي الأَْبُ وَيُقِيمُهُ - فَلِلإِْمَامِ أَنْ يُعْطِيَ وَظِيفَةَ الأَْبِ لأَِبْنَاءِ الْمَيِّتِ لاَ لِغَيْرِهِمْ لِحُصُولٍ مَقْصُودِ الشَّرْعِ وَانْجِبَارِ كَسْرِ قُلُوبِهِمْ (٢) .
قَال الْبِيرِيُّ: هَذَا مُؤَيِّدٌ لِمَا هُوَ عُرْفُ الْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ، وَمِصْرَ، وَالرُّومِ، مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فِي إِبْقَاءِ أَبْنَاءِ الْعُلَمَاءِ بَعْدَ وَفَاتِهِمْ عَلَى وَظَائِفِ آبَائِهِمْ مُطْلَقًا مِنْ إِمَامَةٍ وَخَطَابَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ عُرْفًا مَرْضِيًّا؛ لأَِنَّ فِيهِ إِحْيَاءَ خَلَفِ الْعُلَمَاءِ وَمُسَاعَدَتَهُمْ عَلَى تَحْصِيل الْعِلْمِ، هَذَا إِذَا كَانُوا أَهْلًا، أَمَّا إِذَا كَانُوا
_________
(١) مطالب أولي النهى ٤ / ١٩٢ - ١٩٣.
(٢) حاشية ابن عابدين ٣ / ٢٨١.