الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٤٤
وَوَطْئِهِ إِلاَّ لِلضَّرُورَةِ. قَالُوا: وَيُزَارُ مِنْ بَعِيدٍ، وَمَا يَصْنَعُهُ مَنْ دُفِنَ حَوْل أَقَارِبِهِ خَلْقٌ مِنْ وَطْءِ تِلْكَ الْقُبُورِ إِلَى أَنْ يَصِل إِلَى قَبْرِ قَرِيبِهِ فَمَكْرُوهٌ.
وَقَال بَعْضُهُمْ: لاَ بَأْسَ بِأَنْ يَطَأَ الْقُبُورَ، وَهُوَ يَقْرَأُ أَوْ يُسَبِّحُ أَوْ يَدْعُو لَهُمْ (١) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى كَرَاهَةِ وَطْءِ الْقَبْرِ بِثَلاَثَةِ قُيُودٍ: أَنْ يَكُونَ مُسَنَّمًا، وَالطَّرِيقُ دُونَهُ، وَظَنُّ دَوَامِ شَيْءٍ مِنْ عِظَامِهِ فِيهِ، وَإِلاَّ جَازَ، بِأَنْ كَانَ مُسَطَّحًا، أَوْ كَانَ مُسَنَّمًا وَكَانَ فِي الطَّرِيقِ، أَوْ ظُنَّ فِنَاؤُهُ وَعَدَمُ بَقَاءِ شَيْءٍ مِنْهُ فِي الْقَبْرِ، حَتَّى وَلَوْ كَانَ الْوَطْءُ بِالنِّعَال النَّجِسَةِ (٢) .
ج - وَطْءُ الدَّابَّةِ بِرِجْلِهَا:
٧٤ - اتَّفَقَتْ كَلِمَةُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى أَنَّ مَا وَطِئَتِ الْبَهِيمَةُ أَثْنَاءَ سَيْرِهَا بِيَدِهَا أَوْ رَأْسِهَا أَوْ وَطِئَتْهُ بِرِجْلِهَا فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى مَنْ مَعَهَا مِنْ رَاكِبٍ أَوْ قَائِدٍ أَوْ سَائِقٍ، مَتَى أَمْكَنَ نِسْبَةُ ذَلِكَ إِلَيْهِ بِتَعَدٍّ أَوْ تَقْصِيرٍ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ بِأَنْ لَمْ يَقَعْ مِنْهُ تَعَدٍّ وَلَمْ يَحْصُل مِنْهُ تَفْرِيطٌ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، إِذْ مَا لاَ يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ فَلاَ ضَمَانَ فِيهِ (٣)، وَلِمَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁ أَنَّ رَسُول اللَّهِ
_________
(١) رد المحتار ١ / ٦٠٦، والفتاوى الهندية ١ / ١٦٦.
(٢) ردحاشية الدسوقي ١ / ٤٢٨، وعقد الجواهر الثمينة ١ / ٢٧٢، والخرشي وحاشية الْعَدَوِيّ عليه ٢ / ١٤٤.
(٣) تبيين الحقائق ٦ / ١٤٩، المبسوط ٢٦ / ١٨٨، روضة الطالبين ١٠ / ١٩٧، مغني المحتاج ٤ / ٢٠٤، حاشية الدسوقي ٤ / ٢٥٨، المدونة ٦ / ٦٤٥، تبصرة الحكام ٢ / ٣٥١، التمهيد لابن عبد البر ٧ / ٢٢، المنتقى للباجي ٧ / ١٠٩، كشاف القناع ٤ / ١٣٩، شرح منتهى الإرادات ٢ / ٤٢٩.
ﷺ قَال: الْعَجْمَاءُ جُرْحُهَا جُبَارٌ (١) . وَالْجُبَارُ: هُوَ الْهَدَرُ الَّذِي لاَ يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ (٢) . قَال النَّوَوِيُّ: وَالْمُرَادُ بِجُرْحِ الْعَجْمَاءِ: إِتْلاَفُهَا، سَوَاءٌ كَانَ بِجُرْحٍ أَوْ غَيْرِهِ (٣) .
وَقَال الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالْجُرْحِ لأَِنَّهُ الأَْغْلَبُ، أَوْ هُوَ مِثَالٌ نَبَّهَ بِهِ عَلَى مَا عَدَاهُ (٤) .
جَاءَ فِي تَبْصِرَةِ الْحُكَّامِ: قَال ابْنُ أَبِي زَيْدٍ: وَالسَّائِقُ وَالْقَائِدُ وَالرَّاكِبُ ضَامِنُونَ لِمَا أَوْطَأَتِ الدَّابَّةُ، وَمَا كَانَ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِمْ أَوْ هِيَ وَاقِفَةٌ لِغَيْرِ شَيْءٍ فَهَدَرٌ. فَقَوْلُهُ: " ضَامِنُونَ " أَيْ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ ضَامِنٌ فِيمَا تَعَدَّى. . .
قَال الْجَزُولِيُّ: قَال عَبْدُ الْحَقِّ: قَوْلُهُ فِي الرِّسَالَةِ: " وَمَا كَانَ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِمْ " يَعْنِي وَمَا كَانَ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ مِنْهُمْ أَوْ عَنْ غَلَبَةٍ فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِمْ فِيهِ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ قَبِيل تَفْرِيطٍ وَلاَ إِهْمَالٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَتِهَا " (٥) .
_________
(١) حديث: " العجماء جرحها جبار. . . " أخرجه البخاري (الفتح ١٢ / ٢٥٤) ومسلم (٣ / ١٣٣٤) .
(٢) انظر الموطأ ٢ / ٨٦٩، والتمهيد لابن عبد البر ٧ / ١٩ - ٢٢.
(٣) شرح النووي على مسلم ١١ / ٢٢٥.
(٤) الزرقاني على الموطأ ٤ / ٢٦.
(٥) تبصرة الحكام لابن فرحون ٢ / ٣٥١، ٣٥٢.
وَقَال الشَّافِعِيُّ فِي الأُْمِّ: يَضْمَنُ قَائِدُ الدَّابَّةِ وَسَائِقُهَا وَرَاكِبُهَا مَا أَصَابَتْ بِيَدٍ أَوْ فَمٍ أَوْ رِجْلٍ أَوْ ذَنَبٍ، وَلاَ يَجُوزُ إِلاَّ هَذَا، وَلاَ يَضْمَنُ شَيْئًا إِلاَّ أَنْ يَحْمِلَهَا عَلَى أَنْ تَطَأَ شَيْئًا فَيَضْمَنَ؛ لأَِنَّ وَطْأَهَا مِنْ فِعْلِهِ، فَتَكُونَ حِينَئِذٍ كَأَدَاةٍ مِنْ أَدَوَاتِهِ جَنَى بِهَا (١) .
وَقَال النَّوَوِيُّ: قَال الإِْمَامُ: وَالدَّابَّةُ النَّزِقَةُ الَّتِي لاَ تَنْضَبِطُ بِالْكَبْحِ وَالتَّرْدِيدِ فِي مَعَاطِفِ اللِّجَامِ لاَ تُرْكَبُ فِي الأَْسْوَاقِ، وَمَنْ رَكِبَهَا فَهُوَ مُقَصِّرٌ ضَامِنٌ لِمَا تُتْلِفُهُ (٢) .
انْظُرْ (ضَمَان ف١٠٢ - ١٠٨، وَحَيَوَان ف٩) .
_________
(١) الأم ٧ / ١٣٨.
(٢) روضة الطالبين ١٠ / ١٩٨.
وَطَن
التَّعْرِيفُ:
١ - الْوَطَنُ - بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالطَّاءِ - فِي اللُّغَةِ: مَنْزِل الإِْقَامَةِ، أَوْ مَكَانُ الإِْنْسَانِ وَمَقَرُّهُ، وَيُقَال لِمَرْبِضِ الْغَنَمِ وَالْبَقَرِ وَالإِْبِل: وَطَنٌ، وَهُوَ مُفْرَدٌ، جَمْعُهُ أَوْطَانٌ، وَمِثْل الْوَطَنِ الْمَوْطِنُ، وَجَمْعُهُ مَوَاطِنُ، وَأَوْطَنَ: أَقَامَ، وَأَوْطَنَهُ وَوَطَّنَهُ وَاسْتَوْطَنَهُ: اتَّخَذَهُ وَطَنًا، وَمَوَاطِنُ مَكَّةَ: مَوَاقِفُهَا (١) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ الْوَطَنُ: هُوَ مَنْزِل إِقَامَةِ الإِْنْسَانِ وَمَقَرُّهُ، وُلِدَ بِهِ أَوْ لَمْ يُولَدْ (٢) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْمَحَلَّةُ:
٢ - الْمَحَلَّةُ فِي اللُّغَةِ: مَنْزِل الْقَوْمِ، وَالْجَمْعُ مَحَال (٣) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هِيَ مَنْزِل قَوْمِ إِنْسَانٍ وَلَوْ
_________
(١) القاموس المحيط، والمصباح المنير، ولسان العرب.
(٢) قواعد الفقه للبركتي، والتعريفات للجرجاني.
(٣) المصباح المنير، والقاموس المحيط، والمعجم الوسيط.
تَفَرَّقَتْ بُيُوتُهُمْ حَيْثُ جَمَعَهُمُ اسْمُ الْحَيِّ وَالدَّارِ (١) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمَحَلَّةِ وَالْوَطَنِ أَنَّ الْوَطَنَ أَعَمُّ مِنَ الْمَحَلَّةِ.
أَنْوَاعُ الْوَطَنِ:
يُقَسِّمُ الْفُقَهَاءُ الْوَطَنَ مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقُ الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِهِ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ: وَطَنٌ أَصْلِيٌّ، وَوَطَنُ إِقَامَةٍ، وَوَطَنُ سُكْنَى، كَمَا يَلِي:
أ - الْوَطَنُ الأَْصْلِيُّ:
٣ - قَال الْحَنَفِيَّةُ هُوَ: مَوْطِنُ وِلاَدَةِ الإِْنْسَانِ أَوْ تَأَهُّلِهِ أَوْ تَوَطُّنِهِ، وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: الْوَطَنُ الأَْصْلِيُّ، وَيُسَمَّى بِالأَْهْلِيِّ، وَوَطَنُ الْفِطْرَةِ، وَالْقَرَارِ، وَمَعْنَى تَأَهُّلِهِ أَيْ تَزَوُّجِهِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ أَهْلٌ بِبَلْدَتَيْنِ فَأَيُّهُمَا دَخَلَهَا صَارَ مُقِيمًا، فَإِنْ مَاتَتْ زَوْجَتُهُ فِي إِحْدَاهُمَا وَبَقِيَ لَهُ فِيهَا دُورٌ وَعَقَارٌ، قِيل: لاَ يَبْقَى وَطَنًا، إِذِ الْمُعْتَبَرُ الأَْهْل دُونَ الدَّارِ، وَقِيل: تَبْقَى، وَمَعْنَى تَوَطُّنِهِ أَيْ عَزْمِهِ عَلَى الْقَرَارِ فِيهِ وَعَدَمِ الاِرْتِحَال عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَتَأَهَّل فِيهِ (٢) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: الْوَطَنُ هُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يُقِيمُ فِيهِ الشَّخْصُ لاَ يَرْحَل عَنْهُ صَيْفًا وَلاَ
_________
(١) شرح الزرقاني ٢ / ٣٩.
(٢) حاشية ابن عابدين ١ / ٥٣٢، والمبسوط ١ / ٢٥٢.
شِتَاءً إِلاَّ لِحَاجَةٍ كَتِجَارَةٍ وَزِيَارَةٍ (١) .
وَيَلْحَقُ بِهِ الْقَرْيَةُ الْخَرِبَةُ الَّتِي انْهَدَمَتْ دُورُهَا وَعَزَمَ أَهْلُهَا عَلَى إِصْلاَحِهَا وَالإِْقَامَةِ بِهَا صَيْفًا وَشِتَاءً (٢) .
كَمَا يَلْحَقُ بِهِ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ الْبَلَدُ الَّذِي فِيهِ امْرَأَةٌ لَهُ أَوْ تَزَوَّجَ فِيهِ، لِحَدِيثِ عُثْمَانَ ﵁ قَال: " سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ ﷺ يَقُول: مَنْ تَأَهَّل فِي بَلَدٍ فَلْيُصَل صَلاَةَ الْمُقِيمِ (٣) .
قَال الرُّحَيْبَانِيُّ: وَظَاهِرُهُ: وَلَوْ بَعْدَ فِرَاقِ الزَّوْجَةِ (٤) .
وَيُؤْخَذُ مِمَّا رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يَلْحَقُ بِالْوَطَنِ الْبَلَدُ الَّذِي لِلشَّخْصِ فِيهِ أَهْلٌ أَوْ مَاشِيَةٌ، وَقِيل: أَوْ مَالٌ (٥) .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ: الْوَطَنُ هُوَ مَحَل سُكْنَى الشَّخْصِ بِنِيَّةِ التَّأْبِيدِ، وَمَوْضِعُ الزَّوْجَةِ الْمَدْخُول بِهَا وَإِنْ لَمْ يَكْثُرْ سُكْنَاهُ عِنْدَهَا،
_________
(١) المغني ٢ / ٣٢٧، ٣٢٩، ومطالب أولي النهى ١ / ٧٦٤، ومغني المحتاج ٢ / ٢٩٤، وتحفة المحتاج ٢ / ٤٣٤.
(٢) مغني المحتاج ٢ / ٢٨٠، ومطالب أولي النهى ١ / ٧٥٧.
(٣) حديث: " من تأهل في بلد فليصل صلاة المقيم ". أخرجه أحمد (١ / ٦٢)، وذكر الهيثمي في مجمع الزوائد (٢ / ١٥٦) أن في إسناده راويا ضعيفا.
(٤) مطالب أولي النهى ١ / ٧٢٢ - ٧٢٣، وانظر الإنصاف ٢ / ٣٣١.
(٥) الإنصاف ٢ / ٣٣١.
فَمَنْ كَانَ لَهُ بِقَرْيَةٍ وَلَدٌ فَقَطْ أَوْ مَالٌ فَإِنَّهَا لاَ تَكُونُ وَطَنًا أَصْلِيًّا لَهُ (١) .
ب - وَطَنُ الإِْقَامَةِ:
٤ - قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَطَنُ الإِْقَامَةِ هُوَ مَا خَرَجَ إِلَيْهِ الإِْنْسَانُ بِنِيَّةِ إِقَامَةِ مُدَّةٍ قَاطِعَةٍ لِحُكْمِ السَّفَرِ، وَيُسَمَّى بِالْوَطَنِ الْمُسْتَعَارِ أَوْ بِالْوَطَنِ الْحَادِثِ (٢) .
وَبَقِيَّةُ الْفُقَهَاءِ يَتَّفِقُونَ مَعَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مَعَ اخْتِلاَفِهِمْ فِي الْمُدَّةِ الْقَاطِعَةِ لِحُكْمِ السَّفَرِ (٣) .
ج - وَطَنُ السُّكْنَى:
٥ - قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَطَنُ السُّكْنَى هُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يَقْصِدُ الإِْنْسَانُ الْمُقَامَ بِهِ أَقَل مِنَ الْمُدَّةِ الْقَاطِعَةِ لِلسَّفَرِ (٤) .
(ر: صَلاَةِ الْمُسَافِرِ ف٣ - ٨)
شُرُوطُ الْوَطَنِ:
٦ - لاَ يُسَمَّى الْمَكَانُ الَّذِي يُقِيمُ فِيهِ الإِْنْسَانُ
_________
(١) حاشية الدسوقي ١ / ٣٦٢، ومواهب الجليل ٢ / ١٤٨ - ١٤٩.
(٢) حاشية ابن عابدين ١ / ٥٣٢، والمبسوط ١ / ٢٥٢.
(٣) مغني المحتاج ١ / ٢٦٤ - ٢٦٥، والإنصاف ٢ / ٣٢٩، وكشاف القناع ١ / ٥١٢ - ٥١٣، ومواهب الجليل ٢ / ١٤٨، والزرقاني ٢ / ٤٢.
(٤) حاشية ابن عابدين ١ / ٥٣٣، والمبسوط ١ / ٢٥.
وَطَنًا لَهُ تُنَاطُ بِهِ أَحْكَامُ الْوَطَنِ إِلاَّ إِذَا تَوَفَّرَتْ فِيهِ شُرُوطٌ.
وَهَذِهِ الشُّرُوطُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ كَوْنِهِ وَطَنًا أَصْلِيًّا، أَوْ وَطَنَ إِقَامَةٍ، أَوْ وَطَنَ سُكْنَى.
ثُمَّ إِنَّ بَعْضَ هَذِهِ الشُّرُوطِ مِمَّا اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ وَبَعْضَهَا مِمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
شُرُوطُ الْوَطَنِ الأَْصْلِيِّ:
٧ - أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا بِنَاءً مُسْتَقِرًّا بِمَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِالْبِنَاءِ بِهِ، وَهَذَا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ حَيْثُ عَرَّفُوا الْوَطَنَ فِي مَعْرِضِ الْكَلاَمِ عَنْ شُرُوطِ إِقَامَةِ صَلاَةِ الْجُمْعَةِ بِأَنَّهَا الْقَرْيَةُ الْمَبْنِيَّةُ بِمَا جَرَتِ الْعَادَةُ بِبِنَائِهَا بِهِ مِنْ حَجَرٍ أَوْ طِينٍ أَوْ لَبِنٍ أَوْ قَصَبٍ أَوْ شَجَرٍ وَنَحْوِهِ، وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ: يُشْتَرَطُ فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ أَنْ تَكُونَ مُجْتَمِعَةَ الْبِنَاءِ بِمَا جَرَتِ الْعَادَةُ فِي الْقَرْيَةِ الْوَاحِدَةِ (١) .
وَالْحَنَفِيَّةُ كَمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ يَعْتَبِرُونَ الْمَكَانَ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ الشَّخْصُ أَوْ تَأَهَّل فِيهِ أَوْ تَوَطَّنَ فِيهِ وَطَنًا أَصْلِيًّا لَهُ (٢) .
_________
(١) المغني ٢ / ٣٢٧، ٣٢٩، ومغني المحتاج ١ / ٢٨٠، ٢٨٢، وتحفة المحتاج ٢ / ٤٣٤، وحاشية الدسوقي ١ / ٣٧٢، والمدونة ١ / ١٥٢، والزرقاني ٢ / ٤٢.
(٢) حاشية ابن عابدين ١ / ٥٣٢.
شُرُوطُ وَطَنِ الإِْقَامَةِ:
٨ - تُشْتَرَطُ لاِتِّخَاذِ مَكَانٍ وَطَنًا لِلإِْقَامَةِ شُرُوطٌ، مِنْهَا: نِيَّةُ الإِْقَامَةِ، وَمُدَّةُ الإِْقَامَةِ الْمُعْتَبَرَةِ، وَاتِّخَاذُ مَكَانِ الإِْقَامَةِ، وَصَلاَحِيَّةُ الْمَكَانِ لِلإِْقَامَةِ، وَأَلاَّ يَكُونَ الْمَكَانُ وَطَنًا أَصْلِيًّا لِلْمُقِيمِ.
وَلِلتَّفْصِيل فِي هَذِهِ الشُّرُوطِ وَمَعْرِفَةِ آرَاءِ الْفُقَهَاءِ فِيهَا (ر: صَلاَة الْمُسَافِرِ ف٢٦ - ٢٩)
شُرُوطُ وَطَنِ السُّكْنَى:
٩ - لَيْسَ لِوَطَنِ السُّكْنَى إِلاَّ شَرْطَانِ، وَهُمَا: عَدَمُ نِيَّةِ الإِْقَامَةِ فِيهِ، وَعَدَمُ الإِْقَامَةِ فِيهِ فِعْلًا الْمُدَّةَ الْقَاطِعَةَ لِلسَّفَرِ - بِحَسَبِ اخْتِلاَفِ الْفُقَهَاءِ - وَأَنْ لاَ يَكُونَ وَطَنًا أَصْلِيًّا لِلْمُقِيمِ فِيهِ.
(ر: صَلاَة الْمُسَافِرِ ف٨)
مَا يَنْتَقِضُ بِهِ الْوَطَنُ:
١٠ - قَال الْحَنَفِيَّةُ: الْوَطَنُ الأَْصْلِيُّ لاَ يَنْتَقِضُ إِلاَّ بِالاِنْتِقَال مِنْهُ إِلَى مِثْلِهِ، بِشَرْطِ نَقْل الأَْهْل مِنْهُ، وَتَرْكِ السُّكْنَى فِيهِ، فَإِذَا هَجَرَ الإِْنْسَانُ وَطَنَهُ الأَْصْلِيَّ، وَانْتَقَل عَنْهُ بِأَهْلِهِ إِلَى وَطَنٍ أَصْلِيٍّ آخَرَ، بِشُرُوطِهِ لَمْ يَبْقَ الْمَكَانُ الأَْوَّل وَطَنًا أَصْلِيًّا لَهُ، فَإِذَا دَخَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مُسَافِرًا، بَقِيَ مُسَافِرًا عَلَى حَالِهِ، مَا لَمْ يَنْوِ فِيهِ الإِْقَامَةَ، أَوْ مَا لَمْ يُقِمْ فِيهِ فِعْلًا الْمُدَّةَ الْقَاطِعَةَ لِلسَّفَرِ، فَإِذَا فَعَل ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ
مُقِيمًا، وَيَكُونُ الْمَكَانُ لَهُ وَطَنَ إِقَامَةٍ بِحَسَبِ مَا تَقَدَّمَ (١) .
وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْوَطَنَ الأَْصْلِيَّ لاَ يَنْتَقِضُ بِاتِّخَاذِ وَطَنٍ أَصْلِيٍّ آخَرَ. قَال الرُّحَيْبَانِيُّ: لاَ يَقْصُرُ مَنْ مَرَّ بِوَطَنِهِ سَوَاءٌ كَانَ وَطَنَهُ فِي الْحَال أَوْ فِي الْمَاضِي، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بِهِ حَاجَةٌ غَيْرَ أَنَّهُ طَرِيقُهُ إِلَى بَلَدٍ يَطْلُبُهُ (٢) .
وَمَنِ اسْتَوْطَنَ وَطَنًا آخَرَ، وَلَمْ يَنْتَقِل عَنْ وَطَنِهِ الأَْوَّلِ، كَأَنْ كَانَ لَهُ زَوْجَتَانِ مَثَلًا: الأُْولَى فِي وَطَنِهِ الأَْوَّلِ، وَالثَّانِيَةُ فِي وَطَنٍ آخَرَ جَدِيدٍ، كَانَ الْمَكَانُ الآْخَرُ وَطَنًا لَهُ بِشُرُوطِهِ، وَلَمْ يَنْتَقِضِ الْوَطَنُ الأَْوَّل بِذَلِكَ، لِعَدَمِ التَّحَوُّل عَنْهُ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَوْ كَانَ لِلإِْنْسَانِ زَوْجَتَانِ فِي بَلَدَيْنِ، فَإِنَّهُمَا يُعَدَّانِ وَطَنَيْنِ أَصْلِيَّيْنِ لَهُ، فَأَيُّهُمَا دَخَلَهَا عُدَّ مُقِيمًا فِيهَا مُنْذُ دُخُولِهِ مُطْلَقًا، وَبِهَذَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (٣) .
وَلاَ يَنْتَقِضُ الْوَطَنُ الأَْصْلِيُّ بِوَطَنِ الإِْقَامَةِ، وَلاَ بِوَطَنِ السُّكْنَى؛ لأَِنَّهُ أَعْلَى مِنْهُمَا، فَلاَ يَنْتَقِضُ
_________
(١) حاشية ابن عابدين ١ / ٥٣٢ - ٥٣٣، وتبيين الحقائق ١ / ٢١٤ - ٢١٥.
(٢) مطالب أولي النهى ١ / ٧٢٢، ونيل المآرب ١ / ١٨٧، وحاشية الروض المربع ٢ / ٢٩٢، وكشاف القناع ١ / ٥٠٩.
(٣) حاشية ابن عابدين ١ / ٥٣٢ - ٥٣٣، وتبيين الحقائق ١ / ٢١٤ - ٢١٥، ومطالب أولي النهى ١ / ٧٢٢ - ٧٢٣، والإنصاف ٢ / ٣٣١، وحاشية الدسوقي ١ / ٣٦٣.