الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٤٣
إِبْرَاءٌ عَمَّا لَمْ يَجِبْ، وَهَذَا فِي صَحِيحِ الْوَدِيعَةِ وَفَاسِدِهَا. (١)
ب - قَبُول قَوْل الْوَدِيعِ فِي هَلاَكِ الْوَدِيعَةِ:
٢٠ - فَرَّعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى كَوْنِ الْوَدِيعَةِ أَمَانَةً فِي يَدِ الْوَدِيعِ قَبُول قَوْلِهِ فِي بَرَاءَةِ نَفْسِهِ عِنْدَ ادِّعَاءِ هَلاَكِهَا أَوْ ضَيَاعِهَا بِغَيْرِ تَعَدِّيهِ أَوْ تَفْرِيطِهِ إِذَا كَذَّبَهُ الْمَالِكُ، سَوَاءٌ قَبَضَهَا بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِغَيْرٍ بَيِّنَةٍ، وَعَلَى ذَلِكَ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ. (٢)
وَعَلَّل الْكَاسَانِيُّ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الْمَالِكَ يَدَّعِي عَلَى الأَْمِينِ أَمْرًا عَارِضًا، وَهُوَ التَّعَدِّي، وَالْوَدِيعُ مُسْتَصْحِبٌ لِحَال الأَْمَانَةِ، فَكَانَ مُتَمَسِّكًا بِالأَْصْل، فَكَانَ الْقَوْل قَوْلَهُ لَكِنْ مَعَ الْيَمِينِ؛ لأَِنَّ التُّهْمَةَ قَائِمَةٌ فَيُسْتَحْلَفُ دَفْعًا لِلتُّهْمَةِ (٣) .
وَفَصَّل الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَسْأَلَةِ فَقَالُوا: إِذَا ادَّعَى تَلَفَ الْوَدِيعَةِ بِسَبٍّ ظَاهِرٍ ـ
_________
(١) رَوْضَةُ الْقُضَاةِ ٢ / ٦١٧، وَحَاشِيَةُ الرَّمْلِيِّ عَلَى أَسْنَى الْمَطَالِبِ ٣ / ٧٦.
(٢) رَوْضَةُ الْقُضَاةِ ٢ / ٦٢٤، وَالْبَدَائِعُ ٦ / ٢١١ وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةُ ٤ / ٣٥٧، وَالْقَوَانِينُ الْفِقْهِيَّةُ ص ٣٧٩، وَالْمُقَدِّمَاتُ الْمُمَهِّدَاتُ ٢ / ٤٥٩، وَبِدَايَةُ الْمُجْتَهِدِ ٢ / ٣١٠، وَكِفَايَةُ الطَّالِبِ الرَّبَّانِيِّ ٢ / ٢٥٤، التَّفْرِيعُ لاِبْنِ الْجَلاَّبِ ٢ / ٢٧٠، وَالْكَافِي لاِبْنِ عَبْدِ الْبَرِّ ص ٤٠٢، وَالتَّاجُ وَالإِْكْلِيل ٥ / ٢٦٤، وَمَيَّارَة عَلَى تُحْفَةِ ابْنِ عَاصِمٍ ٢ / ١٩٠، الزُّرْقَانِيِّ عَلَى خَلِيلٍ ٦ / ١٢٣.
(٣) بَدَائِعُ الصَّنَائِعِ ٦ / ٢١١.
كَحَرِيقٍ وَغَرَقٍ وَغَارَةٍ - لَمْ يُقْبَل قَوْلُهُ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى وُجُودِ ذَلِكَ السَّبَبِ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ، (١) فَإِنْ لَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً بِهِ ضَمِنَ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَتَعَذَّرُ إِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ، وَالأَْصْل عَدَمُهُ.
أَمَّا إِذَا ادَّعَى الْهَلاَكَ بِسَبَبٍ خَفِيٍّ - كَسَرِقَةٍ وَضَيَاعٍ - أَوْ لَمْ يُبَيِّنِ السَّبَبَ، فَالْقَوْل قَوْلُهُ فِي هَلاَكِهَا، لِتَعَذُّرِ إِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ، فَلَوْ لَمْ يُقْبَل قَوْلُهُ، لاَمْتَنَعَ النَّاسُ عَنْ قَبُول الْوَدَائِعِ مَعَ مَسِيسِ الْحَاجَّةِ إِلَيْهَا (٢) .
وَحَيْثُ كَانَ الْقَوْل لِلْوَدِيعِ فِي دَعْوَى التَّلَفِ، فَهَل يُكْتَفَى بِقَوْلِهِ دُونَ يَمِينِهِ، أَمْ لاَ بُدَّ مِنْ يَمِينِهِ مَعَهُ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ:
الأَْوَّل: لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ فِي غَيْرِ الْمَشْهُورِ وَالْحَنَابِلَةِ وَهُوَ أَنَّ الْقَوْل قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ. (٣) قَال الْكَاسَانِيُّ:
_________
(١) تُحْفَةُ الْمُحْتَاجِ ٧ / ١٢٦، وَأَسْنَى الْمَطَالِبِ ٣ / ٨٥، وَكَشَّافُ الْقِنَاعِ ٤ / ١٩٩.
(٢) رَوْضَةُ الطَّالِبِينَ ٦ / ٣٤٦، وَأَسْنَى الْمُطَالِبِ ٣ / ٨٥، وَالْمُهَذَّبُ ١ / ٣٦٩، تُحْفَةُ الْمُحْتَاجِ ٧ / ١٢٦، شَرْحُ مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ ٢ / ٤٥٦، وَكَشَّافُ الْقِنَاعِ ٤ / ١٩٩.
(٣) التَّفْرِيعُ لاِبْنِ الْجَلاَّبِ ٢ / ٢٧٠، وَالإِْشْرَافُ لاِبْنِ الْمُنْذِرِ ١ / ٢٥٤، وَالْقَوَانِينُ الْفِقْهِيَّةُ ص ٣٧٩، وَرَوْضَةُ الْقُضَاةِ ٢ / ٦٢٤، وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةُ ٤ / ٣٥٧، وَالْبَدَائِعُ ٦ / ٢١١، وَالْعُقُودُ الدُّرِّيَّةُ لاِبْنِ عَابِدِينَ ٢ / ٧٣، وَالْمُبْدِعُ ٥ / ٢٤٢، شَرْحُ مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ ٢ / ٤٥٥، وَالْمُغْنِي ٩ / ٢٧٣، وَكَشَّافُ الْقِنَاعِ ٤ / ١٩٩، وَأَسْنَى الْمَطَالِبِ ٣ / ٨٥، وَتُحْفَةُ الْمُحْتَاجِ ٧ / ١٢٦، وَرَوْضَةُ الطَّالِبِينَ ٦ / ٣٤٦، وَالْمُهَذَّبُ ١ / ٣٦٩.
لأَِنَّ التُّهْمَةَ قَائِمَةٌ، فَيُسْتَحْلَفُ دَفْعًا لِلتُّهْمَةِ. (١)
الثَّانِي: لأَِحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: وَهُوَ أَنَّهُ يَصْدُقُ فِي ادِّعَاءِ تَلَفِهَا بِغَيْرِ يَمِينٍ. (٢)
وَالثَّالِثُ: لِلْمَالِكِيَّةِ فِي الْمَشْهُورِ: وَهُوَ أَنَّهُ يُحَلَّفُ الْمُتَّهَمُ دُونَ غَيْرِهِ. (٣)
قَال الْعَدَوِيُّ: وَعَلَى الْمَشْهُورِ مَحَل كَوْنِهِ لاَ يُحَلَّفُ إِلاَّ الْمُتَّهَمُ إِذَا لَمْ تَكُنِ الدَّعْوَى دَعْوَى تَحْقِيقٍ، وَأَمَّا دَعْوَى التَّحْقِيقِ، فَلاَ فَرْقَ بَيْنَ مُتَّهَمٍ وَغَيْرِهِ. وَغُرِّمَ بِمُجَرَّدِ النُّكُول فِي دَعْوَى الاِتِّهَامِ الْقَاصِرَةِ عَلَى الْمُتَّهَمِ، وَبَعْدَ حَلْفِ الْمُودِعِ فِي دَعْوَى التَّحْقِيقِ الَّتِي لَيْسَتْ قَاصِرَةً عَلَى الْمُتَّهَمِ. (٤)
_________
(١) بَدَائِعُ الصَّنَائِعِ ٦ / ٢١١.
(٢) الْمُبْدِعُ ٥ / ٢٤٢.
(٣) كِفَايَةُ الطَّالِبِ الرَّبَّانِيِّ ٢ / ٢٥٤، وَالتَّاجُ وَالإِْكْلِيل وَمَوَاهِبُ الْجَلِيل ٥ / ٢٦٤، وَالزُّرْقَانِيَّ عَلَى خَلِيلٍ ٦ / ١٢٣.
(٤) حَاشِيَةُ الْعَدَوِيِّ عَلَى كِفَايَةِ الطَّالِبِ الرَّبَّانِيِّ ٢ / ٢٥٤، وَانْظُرْ مَوَاهِبَ الْجَلِيل ٥ / ٢٦٤، وَالزُّرْقَانِيَّ عَلَى خَلِيلٍ وَحَاشِيَةَ الْبُنَانِيِّ عَلَيْهِ ٦ / ١٢٣. وَدَعْوَى التَّحْقِيقِ هِيَ الدَّعْوَى الَّتِي يَدَّعِي فِيهَا الْمُدَّعِي عِلْمًا بِصِفَةِ الشَّيْءِ الْمُدَّعَى بِهِ وَقَدْرِهِ، كَأَنْ يَقُول: أَتَحَقَّقُ أَنَّ لِي عِنْدَكَ دِينَارًا أَوْ ثَوْبًا صِفَتُهُ كَذَا. (حَاشِيَةُ الْعَدَوِيِّ مَعَ كِفَ
ج ـ قَبُول قَوْل الْوَدِيعِ فِي رَدِّ الْوَدِيعَةِ:
٢١ - إِذَا ادَّعَى الْوَدِيعُ رَدَّ الْوَدِيعَةِ إِلَى رَبِّهَا - وَعَبَّرَ الشَّافِعِيَّةُ بِقَوْلِهِمْ: رَدَّهَا إِلَى مَنِ ائْتَمَنَهُ - فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ فِي رِوَايَةِ أَصْبَغَ عَنْهُ وَغَيْرُهُمْ إِلَى أَنَّ الْقَوْل قَوْل الْوَدِيعِ بِيَمِينِهِ. (١)
وَقَال الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: وَلأَِنَّهُ يُصَدَّقُ فِي التَّلَفِ قَطْعًا، فَكَذَا فِي الرَّدِّ (٢) . وَقَال صَاحِبُ الْمُهَذَّبِ: لأَِنَّهُ أَخَذَ الْعَيْنَ لِمَنْفَعَةِ الْمَالِكِ، فَكَانَ الْقَوْل فِي الرَّدِّ قَوْلَهُ (٣) .
_________
(١) بَدَائِعُ الصَّنَائِعِ ٦ / ٢١١، وَالْعُقُودُ الدُّرِّيَّةُ لاِبْنِ عَابِدِينَ ٢ / ٧٩، الْمَبْسُوطُ لِلسَّرْخَسِيِّ ١١ / ١١٣، وَالأَْشْبَاهُ وَالنَّظَائِرُ لاِبْنِ نُجَيْمٍ ص ٣٢٨، وَالْمُهَذَّبُ ١ / ٣٦٩، وَكِفَايَةُ الأَْخْيَارِ ٢ / ١٠، تُحْفَةُ الْمُحْتَاجِ ٧ / ١٢٦، وَأَسْنَى الْمَطَالِبِ ٣ / ٨٥، وَرَوْضَةُ الطَّالِبِينَ ٦ / ٣٤٦، وَكَشَّافُ الْقِنَاعِ ٤ / ١٩٨، وَشَرْحُ مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ ٢ / ٤٥٥، وَالْمُغْنِي ٩ / ٢٧٣، وَالْمُبْدِعُ ٥ / ٢٤٢، وَالإِْشْرَافُ لاِبْنِ الْمُنْذِرِ ١ / ٢٥٤، وَالْقَوَانِينُ الْفِقْهِيَّةُ ص ٣٧٩، وَالْمُقَدِّمَاتُ الْمُمَهِّدَاتُ ٢ / ٤٥٩، وَبِدَايَةُ الْمُجْتَهِدِ ٢ / ٣١٠.
(٢) كِفَايَةُ الأَْخْيَارِ ٢ / ١٠.
(٣) الْمُهَذَّبُ لِلشِّيرَازِيِّ ١ / ٣٦٩.
وَوَافَقَهُمْ فِي ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ فِيمَا إِذَا كَانَ الْوَدِيعُ قَبَضَهَا بِدُونِ بَيِّنَةٍ. أَمَّا إِذَا قَبَضَهَا بِبَيِّنَةٍ قَصَدَ بِهَا التَّوْثِيقَ، فَقَالُوا: لاَ يُقْبَل قَوْلُهُ فِي رَدِّهَا عَلَى مَالِكِهَا إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ. (١) وَقَدْ عَلَّل ذَلِكَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ الْبَغْدَادِيُّ بِقَوْلِهِ: لأَِنَّهُ لَمَّا أَشْهَدَ عَلَيْهِ وَتَوَثَّقَ مِنْهُ، جَعَلَهُ أَمِينًا فِي الْحِفْظِ دُونَ الرَّدِّ، فَإِذَا ادَّعَى رَدَّهَا، فَقَدِ ادَّعَى بَرَاءَتَهُ مِمَّا لَيْسَ بِمُؤْتَمَنٍ فِيهِ، فَلَمْ يُقْبَل مِنْهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ، وَلأَِنَّ هَذَا فَائِدَةُ الإِْشْهَادِ عَلَيْهِ، فَإِذَا أَزَلْنَاهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ فَائِدَةٌ. (٢)
وَقَدْ وَافَقَ الْمَالِكِيَّةَ فِي هَذَا التَّقْسِيمِ وَالتَّفْصِيل أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يُقَيِّدِ الْبَيِّنَةَ - فِيمَا إِذَا قَبَضَ الْوَدِيعُ الْوَدِيعَةَ بِبَيِّنَةٍ - بِأَنْ يَكُونَ التَّوَثُّقُ مَقْصُودًا بِهَا. (٣) قَال ابْنُ رَجَبٍ: وَخَرَّجَهَا ابْنُ عَقِيلٍ عَلَى أَنَّ الإِْشْهَادَ عَلَى دَفْعِ الْحُقُوقِ الثَّابِتَةِ بِالْبَيِّنَةِ وَاجِبٌ، فَيَكُونُ تَرْكُهُ تَفْرِيطًا، فَيَجِبُ فِيهِ الضَّمَانُ (٤) .
_________
(١) مَوَاهِبُ الْجَلِيل ٥ / ٢٦٤، وَالزُّرْقَانِيُّ عَلَى خَلِيلٍ ٦ / ١٢٣، وَمَيَّارَةٍ عَلَى التُّحْفَةِ ٢ / ١٩٠، وَالتَّفْرِيعُ لاِبْنِ الْجَلاَّبِ ٢ / ٢٧٠، وَالْقَوَانِينُ الْفِقْهِيَّةُ ص ٣٧٩، وَكِفَايَةُ الطَّالِبِ الرَّبَّانِيِّ ٢ / ٢٥٣، وَبِدَايَةُ الْمُجْتَهِدِ ٢ / ٣١٠، وَالتَّاجُ وَالإِْكْلِيل ٥ / ٢٦٤.
(٢) الإِْشْرَافُ عَلَى مَسَائِل الْخِلاَفِ ٢ / ٤١.
(٣) الْمُبْدِعُ ٥ / ٢٤٢، وَإِعْلاَمُ الْمُوَقِّعِينَ ٤ / ٨، الْقَوَاعِدُ لاِبْنِ رَجَبٍ ص٦٢.
(٤) الْقَوَاعِدُ لاِبْنِ رَجَبٍ ص ٦٢.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا ادَّعَى الْوَدِيعُ الرَّدَّ عَلَى غَيْرِ مَنِ ائْتَمَنَهُ كَوَارِثِهِ، أَوِ ادَّعَى وَارِثُ الْوَدِيعِ الرَّدَّ مِنْهُ عَلَى الْمَالِكِ لِلْوَدِيعَةِ، أَوْ أَوْدَعَ الْوَدِيعُ عِنْدَ سَفَرِهِ أَمِينًا لَمْ يُعَيِّنْهُ الْمَالِكُ، فَادَّعَى الأَْمِينُ الرَّدَّ عَلَى الْمَالِكِ - طُولِبَ كُلٌّ مِمَّنْ ذُكِرَ بِبَيِّنَةٍ؛ لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ الرَّدِّ وَلَمْ يَأْتَمِنْهُ.
أَمَّا لَوِ ادَّعَى وَارِثُ الْوَدِيعِ أَنَّ مُوَرِّثَهُ رَدَّهَا عَلَى الْمُودِعِ أَوْ أَنَّهَا تَلِفَتْ فِي يَدِ مُوَرِّثِهِ أَوْ فِي يَدِهِ قَبْل التَّمَكُّنِ مِنَ الرَّدِّ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ فَيُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ حُصُولِهَا فِي يَدِ الْوَارِثِ وَعَدَمُ تَعَدِّيهِمَا (١) .
د ـ كَوْنُ زَوَائِدِ الْوَدِيعَةِ لِصَاحِبِهَا
٢٢ - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْمَنَافِعَ الْمُتَوَلِّدَةَ مِنَ الْوَدِيعَةِ - مُتَّصِلَةً أَوْ مُنْفَصِلَةً - تَكُونُ لِصَاحِبِهَا، لأَِنَّهَا نَمَاءُ مِلْكِهِ، وَأَنَّهَا أَمَانَةٌ بِيَدِ الْوَدِيعِ (٢) .
قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنِ اجْتَمَعَ عِنْدَهُ مِقْدَارٌ مِنْهَا، وَخَافَ فَسَادَهُ بِيَدِهِ، وَالْمُوَدِعُ غَائِبٌ، كَمَا إِذَا
_________
(١) تُحْفَةُ الْمُحْتَاجِ ٧ / ١٢٦.
(٢) دُرَرُ الْحُكَّامِ ٢ / ٢٧٩، وَشَرْحُ الْمَجَلَّةِ لِلأَْتَاسِيِّ ٣ / ٢٨٧، وَانْظُرِ الْمَادَّةَ (٧٩٨) مِنَ الْمَجَلَّةِ الْعَدْلِيَّةِ، وَالْمَنْثُورَ فِي الْقَوَاعِدِ ٣ / ٣٥٢ - ٣٥٣، وَالْقَوَاعِدَ لاِبْنِ رَجَبٍ ص ١٦القاعدةَ (٨٢) وَالْمُنْتَقَى شَرْحُ الْمُوَطَّأِ ٥ / ٢٨١.
تَجَمَّعَ لَدَيْهِ كَمِّيَّةٌ مِنْ لَبَنِ الْحَيَوَانِ الْمُودَعِ أَوْ مِنْ ثِمَارِ الْكَرْمِ أَوِ الْبُسْتَانِ الْمُودَعِ، وَخِيفَ فَسَادُهَا، يَبِيعُ الْوَدِيعُ هَذِهِ الزَّوَائِدَ لِحِسَابِ صَاحِبِهَا بِإِذْنِ الْحَاكِمِ. (١)
فَإِنْ بَاعَهَا الْوَدِيعُ بِدُونِ أَمْرِ الْحَاكِمِ، فَإِنْ كَانَ فِي بَلْدَةٍ أَوْ مَوْضِعٍ يُمْكِنُهُ مُرَاجَعَةُ الْحَاكِمِ، يَضْمَنُ، وَأَمَّا إِذَا بَاعَهَا لِعَدَمِ إِمْكَانِهِ مُرَاجَعَةَ الْحَاكِمِ، كَأَنْ كَانَ فِي الْمَفَازَةِ مَثَلًا، فَيَصِحُّ بَيْعُهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الضَّرُورَاتِ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ. (٢)
هـ - كَوْنُ نَفَقَةِ الْوَدِيعَةِ عَلَى صَاحِبِهَا
٢٣ - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْوَدِيعَةَ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى نَفَقَةٍ وَمُؤْنَةٍ، تَكُونُ نَفَقَتُهَا وَمَصَارِيفُهَا عَلَى صَاحِبِهَا لاَ عَلَى الْوَدِيعِ. (٣) فَإِنْ أَذِنَ مَالِكُهَا لِلْوَدِيعِ بِالإِْنْفَاقِ عَلَيْهَا، كَانَ وَكِيلًا عَنْهُ فِي ذَلِكَ، وَيَعُودُ عَلَيْهِ بِمَا أَنْفَقَ. فَإِنْ لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا، وَلاَ أَذِنَ لَهُ بِالإِْنْفَاقِ، فَلِلْوَدِيعِ
_________
(١) دُرَرُ الْحُكَّامِ ٢ / ٢٧٩، وَالْمَبْسُوطُ لِلسَّرَخْسِيِّ ١١ / ١٢٦.
(٢) رَدُّ الْمُحْتَارِ ٤ / ٥٠١، وَدُرَرُ الْحُكَّامِ ٢ / ٢٧٩، وَالْمَبْسُوطُ ١١ / ١٢٦.
(٣) رَدُّ الْمُحْتَارِ ٤ / ٥٠١، بِدَايَةُ الْمُجْتَهِدِ ٢ / ٣١٢، وَانْظُرِ الْمَادَّةَ (٨٢٩) مِنْ مُرْشِدِ الْحَيْرَانِ، وَالْمَادَّةَ (١٣٣١) مِنْ مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْمَادَّةِ (٧٨٦) مِنَ الْمَجَلَّةِ الْعَدْلِيَّةِ: " الْوَدِيعَةُ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى النَّفَقَةِ كَالْخَيْل وَالْبَقَرِ نَفَقَتُهَا عَلَى صَاحِبِهَا ".
مُطَالَبَتُهُ بِالإِْنْفَاقِ عَلَيْهَا أَوْ رَدِّهَا أَوِ الإِْذْنِ لَهُ بِالإِْنْفَاقِ عَلَيْهَا، لِيَرْجِعَ عَلَيْهِ بِهِ. (١) وَهَذَا إِذَا كَانَ حَاضِرًا.
فَإِنْ كَانَ غَائِبًا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الإِْجْرَاءِ الَّذِي يَنْبَغِي لِلْوَدِيعِ أَنْ يَتْبَعَهُ مِنْ أَجْل الإِْنْفَاقِ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمُسْتَوْدَعَ يَرْفَعُ الأَْمْرَ إِلَى الْحَاكِمِ، وَالْحَاكِمُ حِينَئِذٍ يَأْمُرُ بِإِجْرَاءِ الأَْنْفَعِ وَالأَْصْلَحِ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْوَدِيعَةِ؛ لأَِنَّ تَصَرُّفَهُ عَلَى الرَّعِيَّةِ مَنُوطٌ بِالْمَصْلَحَةِ، فَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ إِكْرَاءُ الْوَدِيعَةِ، فَيُؤَجِّرُهَا الْوَدِيعُ بِرَأْيِ الْحَاكِمِ، وَيُنْفِقُ مِنْ أُجْرَتِهَا. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ صَالِحَةً لِلْكِرَاءِ، فَيَأْمُرُهُ بِبَيْعِهَا فَوْرًا بِثَمَنِ الْمِثْل، إِنْ كَانَ الأَْصْلَحُ لِصَاحِبِهَا ذَلِكَ. وَإِنْ كَانَ الأَْصْلَحُ أَنْ تَبْقَى لَهُ، فَيَأْمُرُهُ بِأَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا مِنْ مَالِهِ إِلَى ثَلاَثَةِ أَيَّامِ رَجَاءَ أَنْ يَحْضُرَ الْمَالِكُ، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ خِلاَلَهَا أَمَرَهُ بِبَيْعِهَا.
وَقَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ الإِْنْفَاقَ عَلَى الْوَدِيعَةِ إِذَا كَانَتْ حَيَوَانًا بِأَلاَّ يَتَجَاوَزَ هَذَا الإِْنْفَاقُ قِيمَةَ الْحَيَوَانِ، فَإِنْ تَجَاوَزَهَا فَلِلْمُسْتَوْدَعِ أَنْ يَرْجِعَ بِقَدْرِ قِيمَةِ الْحَيَوَانِ لاَ بِزِيَادَةٍ عَلَى ذَلِكَ. (٢)
_________
(١) كَشَّافُ الْقِنَاعِ ٤ / ١٨٩، وَالْمُغْنِي ٩ / ٢٧٤.
(٢) رَدُّ الْمُحْتَارِ ٤ / ٥٠١، النُّتَفُ فِي الْفَتَاوَى لِلسُّغْدِيِّ ٢ / ٥٨١، دُرَر الْحُكَّام ٢ / ٢٥١، ٢٥٢، وَشَرْح الْمَجَلَّةِ لِلأَْتَاسِيِّ ٣ / ٢٥٧، م (٨٢٩) مِنْ مُرْشِدِ الْحَيْرَانِ وَم (٧٨٦) مِنَ الْمَجَلَّةِ الْعَدْلِيَّة، وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ ٤ / ٣٦٠.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِنْ فُقِدَ الْمَالِكُ أَوْ وَكِيلُهُ فَيُرَاجِعُ الْوَدِيعُ الْحَاكِمَ لِيَقْتَرِضَ الْوَدِيعُ عَلَى الْمَالِكِ أَوْ يُؤَجِّرَهَا وَيَصْرِفَ الأُْجْرَةَ فِي مُؤْنَتِهَا أَوْ يَبِيعَ جُزْءًا مِنْهَا أَوْ جَمِيعَهَا إِنْ رَآهُ.
فَإِنْ فَقَدَ الْحَاكِمُ تَصَرُّفَ الْوَدِيعِ وَفْقَ مَا ذَكَرَ بِنَفْسِهِ وَأَشْهَدَ لِيَرْجِعَ، فَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ لَمْ يَرْجِعْ فِي أَحَدِ وَجْهَيْنِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ.
وَقَال إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَالْقَدْرُ الَّذِي يَعْلِفُهَا عَلَى الْمَالِكِ هُوَ الَّذِي يَصُونُهَا عَنِ التَّلَفِ وَالتَّعْيِيبِ لاَ مَا يَحْصُل بِهِ السِّمَنُ. (١)
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَرْفَعُ الْوَدِيعُ الأَْمْرَ إِلَى الْحَاكِمِ، لِيَأْمُرَ بِالإِْنْفَاقِ عَلَيْهَا مِنْ مَال صَاحِبِهَا إِذَا كَانَ لَهُ مَالٌ؛ لأَِنَّ لِلْحَاكِمِ وِلاَيَةً عَلَى مَال الْغَائِبِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ، فَعَل مَا يَرَى فِيهِ الْحَظَّ لِلْغَائِبِ مِنْ بَيْعِهَا وَحِفْظِ ثَمَنِهَا لِرَبِّهَا، أَوْ بِيعِ بَعْضِهَا لِنَفَقَةِ الْبَاقِي، أَوْ إِجَارَتِهَا لِيُنْفِقَ مِنْ أُجْرَتِهَا عَلَيْهَا، أَوِ الاِسْتِدَانَةِ عَلَى صَاحِبِهَا، أَوِ الإِْذْنِ لِلْوَدِيعِ بِالإِْنْفَاقِ عَلَيْهَا مِنْ مَالِهِ لِيَرْجِعَ عَلَى صَاحِبِهَا. (٢)
_________
(١) مُغْنِي الْمُحْتَاجِ ٣ / ٨٥.
(٢) كَشَّاف الْقِنَاع ٤ / ١٨٩.
٢٤ - وَلَوْ أَنْفَقَ الْوَدِيعُ عَلَى الْوَدِيعَةِ بِدُونِ إِذْنِ الْحَاكِمِ، فَهَل يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهَا بِمَا أَنْفَقَ؟ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَال:
الأَْوَّل لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ لاَ رُجُوعَ لَهُ عَلَى صَاحِبِ الْوَدِيعَةِ بِشَيْءٍ؛ لأَِنَّهُ مُتَطَوِّعٌ بِمَا أَنْفَقَ لإِنْفَاقِهِ عَلَى مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ (١) .
وَالثَّانِي لِلْمَالِكِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا أَنْفَقَ عَلَيْهَا نَفَقَةً تَلْزَمُهَا، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهَا بِمَا أَنْفَقَ عَلَيْهَا، وَلَوْ وَقَعَ ذَلِكَ بِدُونِ إِذْنِهِ أَوْ إِذْنِ الْحَاكِمِ إِذَا ثَبَتَ الإِْنْفَاقُ بِالْبَيِّنَةِ. (٢)
وَالثَّالِثُ لِلْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِئْذَانِ الْحَاكِمِ، فَأَنْفَقَ عَلَيْهَا نَاوِيًا الرُّجُوعَ عَلَى صَاحِبِهَا بِنَفَقَتِهَا، وَأَشْهَدَ عَلَى الرُّجُوعِ، رَجَعَ عَلَيْهَا بِمَا أَنْفَقَ رِوَايَةً وَاحِدَةً؛ لأَِنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ عُرْفًا، وَلاَ تَفْرِيطَ مِنْهُ إِذَا لَمْ يَجِدْ حَاكِمًا.
وَإِنْ فَعَل ذَلِكَ مَعَ إِمْكَانِ اسْتِئْذَانِ الْحَاكِمِ
_________
(١) رَدَّ الْمُحْتَارَ ٤ / ٥٠١، الأُْمّ ٤ / ٦٣، الإِْشْرَاف لاِبْن الْمُنْذِر ١ / ٢٦٢، الإِْقْنَاع ٢ / ٤٠٥، دُرَر الْحُكَّام ٢ / ٢٥٢، وَانْظُرِ الْمَادَّة (٨٣٠) مِنْ مُرْشِدِ الْحَيْرَانِ، وَالْمَبْسُوطِ لِلسَّرْخَسِيَ ١١ / ١٢٦.
(٢) الْكَافِي لاِبْن عَبْد الْبَرّ ٢ / ١٣٧، وَالْمُدَوَّنَة ١٥ / ١٥٧.