الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٤٣ الصفحة 4

الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٤٣

فَتَعَيَّنَ لِلضَّمَانِ (١) .

وَقَدْ أَكَّدَتِ الْمَجَلَّةُ الْعَدْلِيَّةُ هَذَا الْمَعْنَى، فَجَاءَ فِي الْمَادَّةِ (٧٧٣): إِذَا وَضَعَ رَجُلٌ مَالَهُ عِنْدَ جَمَاعَةٍ عَلَى سَبِيل الْوَدِيعَةِ وَانْصَرَفَ، وَهُمْ يَرَوْنَهُ، وَبَقُوا سَاكِتِينَ، صَارَ ذَلِكَ الْمَال وَدِيعَةً عِنْدَ جَمِيعِهِمْ، فَإِذَا قَامُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَانْصَرَفُوا عَنْ ذَلِكَ الْمَال، فَبِمَا أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ حِينَئِذٍ الْحِفْظُ عَلَى مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ آخِرًا، يَصِيرُ الْمَال وَدِيعَةً عِنْدَ الأَْخِيرِ فَقَطْ.

فَالْحَنَفِيَّةُ اعْتَبَرُوا الإِْيدَاعَ مُنْعَقِدًا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ بِالإِْيجَابِ وَالْقَبُول دَلاَلَةً فِعْلِيَّةً، وَبِذَلِكَ صَارَ ذَلِكَ الْمَال فِيهَا وَدِيعَةً عِنْدَهُمْ جَمِيعًا، فَإِذَا غَادَرُوا جَمِيعُهُمْ ذَلِكَ الْمَكَانَ مَعًا، ضَمِنُوا كُلُّهُمْ بِالاِشْتِرَاكِ، أَيْ إِنَّ بَدَل الضَّمَانِ يَنْقَسِمُ عَلَى عَدَدِ الَّذِينَ قَامُوا وَذَهَبُوا بِالتَّسَاوِي. أَمَّا إِذَا غَادَرَ أُولَئِكَ الأَْشْخَاصُ الْوَاحِدُ تِلْوَ الآْخَرِ ذَلِكَ الْمَحَل بَعْدَ أَنْ رَأَوُا الْمَال الْمُودَعَ وَسَكَتُوا، فَمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ فِي الآْخِرِ يَكُونُ قَدْ تَعَيَّنَ لِلْحِفْظِ، وَيَصِيرُ ذَلِكَ الْمَال وَدِيعَةً عِنْدَهُ فَقَطْ. فَإِذَا تَرَكَ ذَلِكَ الأَْخِيرُ الْمَكَانَ، وَفُقِدَ ذَلِكَ الْمَال، لَزِمَهُ وَحْدَهُ الضَّمَانُ. (٢)

_________

(١) الْبَحْرُ الرَّائِقُ ٧ / ٢٧٣.

(٢) دُرَرُ الْحُكَّامِ ٢ / ٢٢٧ وَمَا بَعْدَهَا.

ثَالِثًا: الْعَيْنُ الْمُودَعَةُ:

اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يُشْتَرَطُ فِي الْعَيْنِ الْمُودَعَةِ:

أَنْ تَكُونَ مَالًا:

١٥ - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى اشْتِرَاطِ كَوْنِ الْعَيْنِ الْمُودَعَةِ مَالًا، فَمَا لَيْسَ بِمَالٍ - كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَنَحْوِهِمَا - لاَ يَصِحُّ وُرُودُ عَقْدِ الإِْيدَاعِ عَلَيْهِ، لأَِنَّ عَدَمَ مَالِيَّتِهِ يَتَنَافَى مَعَ تَشْرِيعِ حِمَايَتِهِ لِصَاحِبِهِ بِعَقْدِ الْوَدِيعَةِ، وَاعْتِبَارِهِ أَمَانَةً شَرْعِيَّةً وَاجِبَةَ الْحِفْظِ وَالصَّوْنِ لِصَاحِبِهَا فِي يَدِ الْوَدِيعِ. (١)

ثُمَّ قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَشَرْطُ الْوَدِيعَةِ كَوْنُ الْمَال قَابِلًا لإِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهِ، حَتَّى لَوْ أَوْدَعَ الْبَعِيرَ الشَّارِدَ، وَالطَّيْرَ فِي الْهَوَاءِ، وَالْمَال السَّاقِطَ فِي الْبَحْرِ وَنَحْوَهَا، فَلاَ يَصِحُّ إِيدَاعُهُ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْمَادَّةِ (٧٧٥) مِنَ الْمَجَلَّةِ الْعَدْلِيَّةِ: يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْوَدِيعَةِ قَابِلَةً لِوَضْعِ الْيَدِ عَلَيْهَا وَصَالِحَةً لِلْقَبْضِ.

_________

(١) الْبَحْرُ الرَّائِقِ ٧ / ٢٧٣، وَفَتْحُ الْقَدِيرِ (الْمَيْمَنِيَّةُ) ٧ / ٤٥١، وَالدَّرُّ الْمُخْتَارُ ٤ / ٤٩٣، وَالزُّرْقَانِيُّ عَلَى خَلِيلٍ ٦ / ١١٤، وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةُ ٤ / ٣٣٨، وَالتَّاجُ وَالإِْكْلِيل ٥ / ٢٥٠، وَحَاشِيَةُ الْعَدَوِيّ عَلَى كِفَايَةِ الطَّالِبِ الرَّبَّانِيِّ ٢ / ٢٥٢، وَانْظُرِ الْمَادَّةَ ٧٦٣، ٧٦٤ مِنَ الْمَجَلَّةِ الْعَدْلِيَّةِ.

وَقَدْ عَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّ الإِْيدَاعَ عَقْدُ اسْتِحْفَاظٍ، وَحِفْظُ الشَّيْءِ بِدُونِ إِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهِ مُحَالٌ، فَلَمَّا تَعَذَّرَ الْتِزَامُ الْوَدِيعِ بِحِفْظِهِ، لِعَدَمِ إِمْكَانِ إِحْرَازِهِ وَحَوْزِهِ، امْتَنَعَ تَكْلِيفُهُ شَرْعًا بِهِ فِي عَقْدِ الْوَدِيعَةِ لِعُسْرِهِ أَوِ اسْتِحَالَتِهِ فِي حَقِّهِ، إِذْ لاَ تَكْلِيفَ بِمَا لاَ يُطَاقُ، وَلاَ اعْتِبَارَ لِعَقْدٍ لاَ يُتَصَوَّرُ تَنْفِيذُهُ (١) .

أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَاشْتَرَطُوا لِصِحَّةِ الْعَقْدِ أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ الْمُودَعَةُ مَالًا أَوْ مُخْتَصًّا، وَلَمْ يَقْصُرُوهَا عَلَى الْمَال وَحْدَهُ.

وَبِنَاءً عَلَى اعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ نَصُّوا عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ إِيدَاعِ الْخَمْرِ غَيْرِ الْمُحْتَرَمَةِ وَنَحْوِهَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ؛ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ.

وَبِنَاءً عَلَى اعْتِبَارِ الْمُخْتَصِّ قَالُوا: أَمَّا مَا فِيهِ اخْتِصَاصٌ كَجِلْدِ مَيْتَةٍ لَمْ يُدْبَغْ، وَزِبْلٍ، وَكَلْبِ صَيْدٍ مُحْتَرَمٍ، وَنَحْوِهَا، فَيَجُوزُ إِيدَاعُهُ كَالْمَال، لِجَوَازِ اقْتِنَائِهِ، بِخِلاَفِ النَّجِسِ الَّذِي لاَ يُقْتَنَى، وَالْكَلْبِ الَّذِي لاَ يَنْفَعُ بِحِرَاسَةٍ أَوْ صَيْدٍ، وَآلاَتِ اللَّهْوِ، فَلاَ يَصِحُّ إِيدَاعُهَا لِكَوْنِهَا غَيْرَ مُحْتَرَمَةٍ، وَلاَ يَجُوزُ تَمَوُّلُهَا وَلاَ اقْتِنَاؤُهَا. (٢)

_________

(١) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةُ ٤ / ٣٣٨، وَالدَّرُّ الْمُنْتَقَى ٢ / ٣٣٦، وَالْعِنَايَةُ وَالْكِفَايَةُ عَلَى الْهِدَايَةِ ٧ / ٤٥٢، وَالْبَحْرُ الرَّائِقُ ٧ / ٢٧٣، وَرَدُّ الْمُحْتَارِ ٤ / ٤٩٤.

(٢) كَشَّافُ الْقِنَاعِ ٤ / ١٨٥، وَأَسْنَى الْمَطَالِبِ ٣ / ٧٤، ٧٥، وَتُحْفَةُ الْمُحْتَاجِ ٧ / ٩٩، وَرَوْضَةُ الطَّالِبِينَ ٦ / ٣٢٤.

وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَابْنُ عَرَفَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى صِحَّةِ إِيدَاعِ الصُّكُوكِ وَالْوَثَائِقِ بِذِكْرِ الْحُقُوقِ. (١)

أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ الْمُودَعَةُ مَنْقُولًا:

١٦ - ذَهَبَ ابْنُ عَرَفَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْعَيْنِ الْمُودَعَةِ أَنْ تَكُونَ مِمَّا يُمْكِنُ نَقْلُهُ فَيَخْرُجُ الْعَقَارُ.

وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ) إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ، فَتَصِحُّ أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ الْمُودَعَةُ عَقَارًا أَوْ مَنْقُولًا. (٢)

آثَارُ عَقْدِ الْوَدِيعَةِ:

١٧ - إِذَا انْعَقَدَ الإِْيدَاعُ صَحِيحًا، تَرَتَّبَ عَلَيْهِ ثَلاَثَةُ آثَارٍ: كَوْنُ الْوَدِيعَةِ أَمَانَةً عِنْدَ الْوَدِيعِ

_________

(١) التَّاجُ وَالإِْكْلِيل وَمَوَاهِبُ الْجَلِيل ٥ / ٢٥٠، وَالزُّرْقَانِيَّ عَلَى خَلِيلٍ ٦ / ١١٣، وَمَيَّارَةٍ عَلَى التُّحْفَةِ ٢ / ١٨٨، وَحَاشِيَةُ الْبُنَانِيِّ عَلَى شَرْحِ الزُّرْقَانِيِّ لِمُخْتَصَرِ خَلِيلٍ ٦ / ١١٤، وَالشَّرْحُ الْكَبِيرُ، وَحَاشِيَةُ الدُّسُوقِيِّ ٣ / ٤١٩، وَانْظُرِ الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةَ ٤ / ٣٥٣، وَأَسْنَى الْمَطَالِبِ ٣ / ٨٧، وَالْقَلْيُوبِيَّ ٣ / ١٨٧، وَحَاشِيَةُ الشَّرْوَانِيِّ عَلَى تُحْفَةِ الْمُحْتَاجِ ٧ / ١٢٨.

(٢) مَوَاهِبُ الْجَلِيل ٥ / ٢٥١، وَانْظُرِ الْمُدَوَّنَةَ ١٥ / ١٢٦، ١٢٨، وَحَاشِيَةَ الْبُنَانِيِّ عَلَى شَرْحِ الزُّرْقَانِيِّ ٦ / ١١٣، وَالدَّرَّ الْمُخْتَارَ مَعَ رَدِّ الْمُحْتَارِ ٤ / ٤٩٩، وَرَوْضَةَ الطَّالِبِينَ ٦ / ٣٢٤، وَحَاشِيَةَ الشِّرْوَانِيِّ عَلَى تُحْفَةِ الْمُحْتَاجِ ٧ / ١٠١.

وَوُجُوبُ الْحِفْظِ عَلَيْهِ، وَلُزُومُ الرَّدِّ عِنْدَ الطَّلَبِ.

وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أَوَّلًا: كَوْنُ الْوَدِيعَةِ أَمَانَةً:

١٨ - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَالثَّوْرِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَرَبِيعَةُ وَالْقَاضِي شُرَيْحٌ وَغَيْرُهُمْ إِلَى أَنَّ الْوَدِيعَةَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْوَدِيعِ، فَإِنْ تَلِفَتَ مِنْ غَيْرِ تَعَدِّيهِ أَوْ تَفْرِيطِهِ فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، حَتَّى وَلَوْ كَانَتْ بَيْنَ مَالِهِ وَلَمْ يَذْهَبْ مَعَهَا شَيْءٌ مِنْهُ. (١)

قَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَكْثَرُ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُودِعَ إِذَا أَحْرَزَ الْوَدِيعَةَ، ثُمَّ تَلِفَتْ مِنْ غَيْرِ جِنَايَتِهِ أَنْ لاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ (٢) .

_________

(١) الْبَحْرُ الرَّائِقِ ٧ / ٢٧٣، وَرَوْضَةُ الْقُضَاةِ ٢ / ٦٠٨، وَرَدُّ الْمُحْتَارِ ٤ / ٤٩٤، وَالتَّفْرِيعُ لاِبْنِ الْجَلاَّبِ ٢ / ٢٦٩، وَالْكَافِي لاِبْنِ عَبْدِ الْبَرِّ ص ٤٠٣، وَبِدَايَةُ الْمُجْتَهِدِ ٢ / ٣١٠، وَالتَّاجُ وَالإِْكْلِيل ٥ / ٢٥٠، وَشَرْحُ الزُّرْقَانِيِّ ٦ / ١١٤، وَالأُْمُّ ٤ / ٦٢، وَالإِْشْرَافُ لاِبْنِ الْمُنْذِرِ ١ / ٢٥١، وَأَسْنَى الْمَطَالِبِ ٣ / ٧٦، وَتُحْفَةُ الْمُحْتَاجِ ٧ / ١٠٥، وَشَرْحُ مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ ٢ / ٤٥٠، الْمُبْدِعُ ٥ / ٢٣٣، وَكَشَّافُ الْقِنَاعِ ٤ / ١٨٦، وَالْمُغْنِي ٩ / ٢٥٧.

(٢) الإِْشْرَافُ عَلَى مَذَاهِبِ أَهْل الْعِلْمِ لاِبْنِ الْمُنْذِرِ ١ / ٢٥١.

أَمَّا إِذَا تَعَدَّى الْوَدِيعُ عَلَيْهَا أَوْ فَرَّطَ فِي حِفْظِهَا، فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: بِغَيْرِ خِلاَفٍ نَعْلَمُهُ، لأَِنَّهُ مُتْلِفٌ لِمَال غَيْرِهِ، فَضَمِنَهُ كَمَا لَوْ أَتْلَفَهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِيدَاعٍ (١) .

وَاسْتَدَل الْفُقَهَاءُ عَلَى كَوْنِهَا أَمَانَةً بِالسُّنَّةِ وَقَوْل الصَّحَابَةِ وَالإِْجْمَاعِ وَالْمَعْقُول:

فَأَمَّا السُّنَّةُ: فَبِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ﵁ أَنَّ رَسُول اللَّهِ ﷺ قَال: مَنْ أَوْدَعَ وَدِيعَةً فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ " (٢) .

وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَال: لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ الْمُغِل ضَمَانٌ، وَلاَ عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ غَيْرِ الْمُغِل ضَمَانٌ " (٣) . وَالْمُغِل هُوَ الْخَائِنُ.

وَأَمَّا قَوْل الصَّحَابَةِ: فَبِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرٍ ﵃ أَنَّ

_________

(١) الْمُغْنِي ٩ / ٢٥٨.

(٢) حَدِيثُ: " مَنْ أَوْدَعَ وَدِيعَةً فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ ". أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ (٢ / ٨٠٢ - ط الْحَلَبِيِّ)، وَضَعَّفَ إِسْنَادَهُ الْبُوصِيرِيُّ فِي مِصْبَاحِ الزُّجَاجَةِ (٢ / ٤٢ - ط دَارِ الْجِنَانِ) لِضَعْفِ رَاوِيَيْنِ فِي إِسْنَادِهِ.

(٣) حَدِيثُ: " لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ الْمُغِل ضَمَانٌ. . . " أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ (٣ / ٤٠١ - ط دَارِ الْمَحَاسِنِ)، وَذَكَرَ أَنَّ فِي إِسْنَادِهِ رَاوِيَيْنِ ضَعِيفَيْنِ.

الْوَدِيعَةَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْوَدِيعِ. (١)

وَأَمَّا الإِْجْمَاعُ: فَقَدَ أَجْمَعَ فُقَهَاءُ الأَْمْصَارِ عَلَى كَوْنِهَا أَمَانَةً فِي يَدِ الْوَدِيعِ.

وَأَمَّا الْمَعْقُول: فَلأَِنَّ الْوَدِيعَ إِنَّمَا يَحْفَظُهَا لِمَالِكِهَا، فَتَكُونُ يَدُهُ كَيْدِهِ (٢) .

وَلأَِنَّهُ قَبَضَ الْعَيْنَ بِإِذْنِ مَالِكِهَا، لاَ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ وَلاَ الْوَثِيقَةِ، فَلاَ يَضْمَنُهَا، إِذْ لاَ مُوجِبَ لِلضَّمَانِ (٣) .

وَلأَِنَّ الأَْصْل فِي حِفْظِ الْوَدِيعَةِ أَنَّهُ مَعْرُوفٌ وَإِحْسَانٌ مِنَ الْوَدِيعِ، فَلَوْ ضَمِنَ مِنْ غَيْرِ عُدْوَانٍ أَوْ تَقْصِيرٍ لَزَهِدَ النَّاسُ فِي قَبُولِهَا، وَرَغِبُوا عَنْهُ، وَفِي ذَلِكَ تَعْطِيلٌ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا. (٤)

وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّ الْوَدِيعَ ضَامِنٌ إِذَا تَلِفَتِ الْوَدِيعَةُ مِنْ بَيْنِ مَالِهِ، (٥) لِمَا رُوِيَ " عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ﵁ أَنَّهُ ضَمَّنَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَدِيعَةً ذَهَبَتْ مِنْ بَيْنِ مَالِهِ " (٦) .

_________

(١) التَّلْخِيصُ الْحَبِيرُ ٣ / ٩٨.

(٢) أَسْنَى الْمُطَالِبِ ٣ / ٧٦، وَالْمُهَذَّبُ ١ / ٣٦٦.

(٣) رَوْضَةُ الْقُضَاةِ ٢ / ٦١٢.

(٤) الْمُغْنِي ٩ / ٢٥٧، وَالْمُهَذَّبُ ١ / ٣٦٦.

(٥) الْمُغْنِي ٩ / ٢٥٧، وَكَشَّافُ الْقِنَاعِ ٤ / ١٨٦، وَالْمُبْدِعُ ٥ / ٢٣٤.

(٦) أَثَرُ عُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الْكُبْرَى (٦ / ٢٨٩) .

وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِنَّهُ لاَ فَرْقَ فِي كَوْنِ الْوَدِيعَةِ أَمَانَةً فِي يَدِ الْوَدِيعِ، لاَ تُضَمَنُ بِغَيْرِ تَعَدِّيهِ أَوْ تَفْرِيطِهِ، سَوَاءٌ كَانَتْ بِأَجْرٍ أَوْ بِدُونِهِ، حَيْثُ إِنَّ أَخْذَ الأُْجْرَةِ فِي الْوَدِيعَةِ لاَ يُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ الأَْمَانَةِ أَوِ الضَّمَانِ فِيهَا. (١)

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ، فَقَدْ فَرَّقُوا فِي مُوجِبَاتِ الضَّمَانِ فِيهَا بَيْنَ مَا إِذَا كَانَتْ بِأَجْرٍ أَوْ بِدُونِ أَجْرٍ، مَعَ اعْتِبَارِهَا فِي الْحَالَيْنِ أَمَانَةً فِي يَدِ الْوَدِيعِ، فَقَالُوا: إِذَا تَلِفَتِ الْوَدِيعَةُ بِمَا لاَ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ مِنَ الأَْسْبَابِ - كَحَرِيقٍ غَالِبٍ وَغَرَقٍ غَالِبٍ وَلُصُوصٍ مُكَابِرِينَ - فَلاَ ضَمَانَ عَلَى الْوَدِيعِ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ بِأَجْرٍ أَمْ مَجَّانًا.

أَمَّا إِذَا هَلَكَتْ بِمَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ، فَيَنْظُرُ: إِنْ كَانَتْ بِغَيْرِ أَجْرٍ، فَلاَ يَجِبُ عَلَى الْوَدِيعِ الضَّمَانُ. أَمَّا إِذَا كَانَتْ بِأَجْرٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ ضَامِنًا. (٢)

جَاءَ فِي الْمَادَّةِ (٧٧٧) مِنَ الْمَجَلَّةِ الْعَدْلِيَّةِ:

_________

(١) مَيَّارَة عَلَى التُّحْفَةِ ٢ / ١٩٥، وَحَاشِيَةُ الرَّمْلِيِّ عَلَى أَسْنَى الْمَطَالِبِ ٣ / ٧٦، وَتُحْفَةُ الْمُحْتَاجِ لِلْهَيْتَمِيِّ ٧ / ١٠٥.

(٢) الدُّرُّ الْمُنْتَقَى ٢ / ٣٣٨، وَالدَّرُّ الْمُخْتَارُ مَعَ رَدِّ الْمُحْتَارِ ٤ / ٤٩٤، وَشَرْحُ الْمَجَلَّةِ لِلأَْتَاسِيِّ ٣ / ٢٤٣، وَدُرَرُ الْحُكَّامِ ٢ / ٢٣١ وَمَا بَعْدَهَا، وَانْظُرِ الأَْشْبَاهَ وَالنَّظَائِرَ لاِبْنِ نُجَيْمٍ ص ٣٣٠، وَالْبَحْرُ الرَّائِقِ ٧ / ٢٧٣.

الْوَدِيعَةُ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْوَدِيعِ. وَبِنَاءً عَلَيْهِ: إِذَا هَلَكَتْ بِلاَ صُنْعِ الْوَدِيعِ أَوْ تَعَدِّيهِ أَوْ تَقْصِيرِهِ فِي الْحِفْظِ، فَلاَ يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الإِْيدَاعُ بِأُجْرَةٍ عَلَى حِفْظِ الْوَدِيعَةِ، فَهَلَكَتْ أَوْ ضَاعَتْ بِسَبَبٍ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، لَزِمَ الْوَدِيعَ ضَمَانُهَا.

فَوَجْهُ تَضْمِينِ الْوَدِيعِ بِأَجْرٍ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ عِنْدَهُمْ: أَنَّ الْحِفْظَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ فِيهَا؛ لأَِنَّهُ مُسْتَأْجِرٌ عَلَى الْحِفْظِ قَصْدًا، إِذِ الْعَقْدُ عِقْدُ الْحِفْظِ، وَالأَْجْرُ فِي مُقَابِل الْحِفْظِ، وَالْمَتَاعِ فِي يَدِ الأَْجِيرِ. (١) وَيَتَفَرَّعُ عَنِ الْقَوْل بِكَوْنِ الْوَدِيعَةِ أَمَانَةً مَا يَلِي:

أ - اشْتِرَاطُ الضَّمَانِ فِي الْوَدِيعَةِ أَوْ عَدَمِهِ:

١٩ - إِذَا اشْتَرَطَ رَبُّ الِوَدِيعَةِ عَلَى الْوَدِيعِ ضَمَانَهَا، فَقَبِل، أَوْ قَال لِلْمُودِعِ: أَنَا ضَامِنٌ لَهَا، فَتَلِفَتْ أَوْ سُرِقَتْ مِنْ غَيْرِ تَعَدِّيهِ أَوْ تَفْرِيطِهِ فِي الْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، فَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لأَِنَّ اشْتِرَاطَ الضَّمَانِ عَلَى الأَْمِينِ بَاطِلٌ، وَجَعْل مَا أَصْلُهُ أَمَانَةٌ مَضْمُونًا بِالشَّرْطِ لاَ يَصِحُّ، كَمَال الْمُضَارَبَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْوَكَالَةِ. وَبِذَلِكَ قَال جُمْهُورُ أَهْل الْعِلْمِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ

_________

(١) شَرْحُ الْمَجَلَّةِ لِلأَْتَاسِيِّ ٣ / ٢٤٣، وَرَدُّ الْمُحْتَارِ ٤ / ٤٩٤.

وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالثَّوْرِيِّ وَإِسْحَاقَ وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَغَيْرِهِمْ. (١)

وَقَدْ عَلَّل الْفُقَهَاءُ ذَلِكَ بِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ مُنَافٍ لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ وَمُفَوِّتٌ لِمُوجِبِهِ، فَلاَ يُعْتَبَرُ.

قَال الزُّرْقَانِيُّ: شَرْطُ ضَمَانِهَا يُخْرِجُهَا عَنْ حَقِيقَتِهَا، وَيُخَالِفُ مَا يُوجِبُهُ الْحُكْمُ، (٢) وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَلأَِنَّ شَرْطَ ضَمَانِ مَا لَمْ يُوجَدْ سَبَبُ ضَمَانِهِ، فَلَمْ يَلْزَمْهُ، كَمَا لَوْ شَرَطَ ضَمَانَ مَا يَتْلَفُ فِي يَدٍ مَالِكِهِ (٣) .

وَحُكِيَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَنْبَرِيِّ أَنَّهُ خَالَفَ فِي ذَلِكَ وَقَال بِضَمَانِهِ بِالشَّرْطِ. (٤)

وَلَوْ أَوْدَعَهَا بِشَرْطِ عَدَمِ ضَمَانِ الْوَدِيعِ إِذَا تَعَدَّى عَلَيْهَا أَوْ فَرَّطَ فِي حِفْظِهَا، فَقَدْ قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ لاَ يَصِحُّ هَذَا الشَّرْطُ، لأَِنَّهُ

_________

(١) الْبَحْرُ الرَّائِقُ ٧ / ٢٧٤، وَمَجْمَعُ الأَْنْهُرِ ٢ / ٣٣٨، وَالدُّرُّ الْمُخْتَارُ ٤ / ٤٩٤، وَرَوْضَةُ الْقُضَاةِ ٢ / ٦١٧، وَالْمُهَذَّبُ ١ / ٣٦٦، وَالإِْشْرَافُ عَلَى مَسَائِل الْخِلاَفِ لِلْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ ٢ / ٤٢، وَالزُّرْقَانِيَّ عَلَى خَلِيلٍ ٦ / ١١٧، وَبِدَايَةُ الْمُجْتَهِدِ ٢ / ٣١١، وَالإِْشْرَافُ لاِبْنِ الْمُنْذِرِ ١ / ٢٦٦، وَحَاشِيَةُ الرَّمْلِيِّ عَلَى أَسْنَى الْمَطَالِبِ ٣ / ٧٦، وَالْمُغْنِي ٩ / ٢٥٨، وَكَشَّافُ الْقِنَاعِ ٤ / ١٨٧.

(٢) الزُّرْقَانِيُّ عَلَى خَلِيلٍ ٦ / ١١٧.

(٣) الْمُغْنِي ٩ / ٢٥٨.

(٤) الإِْشْرَافُ لِلْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ ٢ / ٤٢، وَالإِْشْرَافُ لاِبْنِ الْمُنْذِرِ ١ / ٢٦٦.