الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٤٢
مَا يُشْتَرَطُ فِيهِ تَعْيِينُ الْمَنَوِيِّ:
١٩ - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى اشْتِرَاطِ تَعْيِينِ النِّيَّةِ فِي عِبَادَةٍ لاَ تَلْتَبِسُ بِغَيْرِهَا مِنْ جِنْسِهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ، وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، وَلَهُمْ وَرَاءَ الإِْجْمَال تَفْصِيلٌ:
قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: الأَْصْل عِنْدَنَا أَنَّ الْمَنْوِيَّ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنَ الْعِبَادَاتِ أَوْ لاَ. فَإِنْ كَانَ عِبَادَةً:
فَإِنْ كَانَ وَقْتُهَا ظَرْفًا لِلْمُؤَدَّى، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَسَعُهُ وَغَيْرَهُ، فَلاَ بُدَّ مِنَ التَّعْيِينِ، كَالصَّلاَةِ، كَأَنْ يَنْوِيَ الظُّهْرَ، فَإِنْ قَرَنَهُ بِالْيَوْمِ كَظُهْرِ الْيَوْمِ صَحَّ وَإِنْ خَرَجَ الْوَقْتُ، أَوْ قَرَنَهُ بِالْوَقْتِ وَلَمْ يَكُنْ خَرَجَ الْوَقْتُ صَحَّ أَيْضًا، فَإِنْ خَرَجَ وَنَسِيَهُ لاَ يُجْزِئُهُ فِي الصَّحِيحِ. . . وَعَلاَمَةُ التَّعْيِينِ لِلصَّلاَةِ بِحَيْثُ يَكُونُ لَوْ سُئِل: أَيُّ صَلاَةٍ يُصَلِّي؟ يُمْكِنُهُ أَنْ يُجِيبَ بِلاَ تَأَمُّلٍ.
وَإِنْ كَانَ وَقْتُهَا مِعْيَارًا لَهَا، بِمَعْنَى أَنَّهُ لاَ يَسَعُ غَيْرَهَا كَالصَّوْمِ فِي يَوْمِ رَمَضَانَ، فَإِنَّ التَّعْيِينَ لَيْسَ بِشَرْطٍ إِنْ كَانَ الصَّائِمُ صَحِيحًا مُقِيمًا، فَيَصِحُّ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ وَبِنِيَّةِ النَّفْل وَوَاجِبٍ آخَرَ؛ لأَِنَّ التَّعْيِينَ فِي الْمُتَعَيِّنِ لَغْوٌ، وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، وَالصَّحِيحُ وُقُوعُهُ عَنْ رَمَضَانَ سَوَاءٌ نَوَى وَاجِبًا آخَرَ أَوْ نَفْلًا، وَأَمَّا الْمُسَافِرُ فَإِنْ نَوَى عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ وَقَعَ عَمَّا نَوَاهُ لاَ عَنْ
رَمَضَانَ، وَفِي النَّفْل رِوَايَتَانِ.
وَإِنْ كَانَ وَقْتُهَا مُشْكِلًا كَوَقْتِ الْحَجِّ - يُشْبِهُ الْمِعْيَارَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ فِي السَّنَةِ إِلاَّ حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَيُشْبِهُ الظَّرْفَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ أَفْعَالَهُ لاَ تَسْتَغْرِقُ وَقْتَهُ - فَيُصَابُ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ نَظَرًا إِلَى الْمِعْيَارِيَّةِ، وَإِنْ نَوَى نَفْلًا وَقَعَ عَمَّا نَوَى نَظَرًا إِلَى الظَّرْفِيَّةِ.
وَلاَ يَسْقُطُ التَّعْيِينُ فِي الصَّلاَةِ بِضِيقِ الْوَقْتِ لأَِنَّ السَّعَةَ بَاقِيَةٌ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَوْ شَرَعَ مُتَنَفِّلًا صَحَّ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا.
وَلاَ يَتَعَيَّنُ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ بِتَعْيِينِ الْعَبْدِ قَوْلًا، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ بِفِعْلِهِ.
وَأَمَّا فِي الْقَضَاءِ فَلاَ بُدَّ مِنَ التَّعْيِينِ صَلاَةً أَوْ صَوْمًا أَوْ حَجًّا.
وَأَمَّا إِذَا كَثُرَتِ الْفَوَائِتُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ التَّعْيِينِ لِتَمْيِيزِ الْفُرُوضِ الْمُتَّحِدَةِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَالأَْصَحُّ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ مِنْ رَمَضَانَ وَاحِدٍ فَصَامَ يَوْمًا نَاوِيًا عَنْهُ، وَلَكِنْ لَمْ يُعَيِّنْ أَنَّهُ صَائِمٌ عَنْ يَوْمِ كَذَا، فَإِنَّهُ يَجُوزُ، وَلاَ يَجُوزُ مِنْ رَمَضَانَيْنِ مَا لَمْ يُعَيِّنْ أَنَّهُ صَائِمٌ عَنْ رَمَضَانَ سَنَةَ كَذَا.
وَقَالُوا فِي الْمُتَيَمِّمِ: لاَ يَجِبُ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ، حَتَّى لَوْ تَيَمَّمَ الْجُنُبُ يُرِيدُ بِهِ
الْوُضُوءَ، جَازَ، خِلاَفًا لِلْخَصَّافِ (١) .
وَقَال ابْنُ نُجَيْمٍ: التَّعْيِينُ لِتَمْيِيزِ الأَْجْنَاسِ، فَنِيَّةُ التَّعْيِينِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ لَغْوٌ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ، وَيُعْرَفُ اخْتِلاَفُ الْجِنْسِ بِاخْتِلاَفِ السَّبَبِ، وَالصَّلاَةُ كُلُّهَا مِنْ قَبِيل الْمُخْتَلِفِ، حَتَّى الظُّهْرَيْنِ مِنْ يَوْمَيْنِ أَوِ الْعَصْرَيْنِ مِنْ يَوْمَيْنِ، بِخِلاَفِ أَيَّامِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ يَجْمَعُهَا شُهُودُ الشَّهْرِ.
وَعَلَى هَذَا أَدَاءُ الْكَفَّارَاتِ لاَ يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى التَّعْيِينِ فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ، وَلَوْ عَيَّنَ لَغَا، وَفِي الأَْجْنَاسِ لاَ بُدَّ مِنْهُ.
هَذَا فِي الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ. . . وَأَمَّا النَّوَافِل فَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّهَا تَصِحُّ بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ، وَأَمَّا السُّنَنُ الرَّوَاتِبُ فَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ تَعْيِينِهَا، وَالصَّحِيحُ الْمُعْتَمَدُ عَدَمُ الاِشْتِرَاطِ وَأَنَّهَا تَصِحُّ بِنِيَّةِ النَّفْل وَبِمُطْلَقِ النِّيَّةِ (٢) .
وَأَضَافَ ابْنُ نُجَيْمٍ: الْخَطَأُ فِيمَا لاَ يُشْتَرَطُ التَّعْيِينُ لَهُ لاَ يَضُرُّ، كَتَعْيِينِ مَكَانِ الصَّلاَةِ وَزَمَانِهَا وَعَدَدِ الرَّكَعَاتِ، فَلَوْ عَيَّنَ عَدَدَ رَكَعَاتِ الظُّهْرِ ثَلاَثًا أَوْ خَمْسًا صَحَّ لأَِنَّ التَّعْيِينَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَالْخَطَأُ فِيهِ لاَ يَضُرُّ. . . وَأَمَّا فِيمَا
_________
(١) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص ٣٠.
(٢) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص ٣١ - ٣٢.
يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعْيِينُ، كَالْخَطَأِ مِنَ الصَّوْمِ إِلَى الصَّلاَةِ وَعَكْسِهِ وَمِنْ صَلاَةِ الظُّهْرِ إِلَى الْعَصْرِ. . . فَإِنَّهُ يَضُرُّ.
وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَنْوِيُّ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْمَقْصُودَةِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الْوَسَائِل كَالْوُضُوءِ وَالْغُسْل وَالتَّيَمُّمِ، فَقَالُوا فِي الْوُضُوءِ: لاَ يَنْوِيهِ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ، وَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُ يَنْوِي مَا لاَ يَصِحُّ إِلاَّ بِالطَّهَارَةِ مِنَ الْعِبَادَةِ أَوْ رَفْعِ الْحَدَثِ، وَعِنْدَ الْبَعْضِ: تَكْفِي نِيَّةُ الطَّهَارَةِ. وَأَمَّا فِي التَّيَمُّمِ فَقَالُوا: إِنَّهُ يَنْوِي عِبَادَةً مَقْصُودَةً لاَ تَصِحُّ إِلاَّ بِالطَّهَارَةِ، مِثْل سَجْدَةِ التِّلاَوَةِ وَصَلاَةِ الظُّهْرِ. . . وَفِي التَّيَمُّمِ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ رِوَايَتَانِ (١) .
٢٠ - وَقَال الْقَرَافِيُّ: الْمَقَاصِدُ مِنَ الأَْعْيَانِ فِي الْعُقُودِ إِنْ كَانَتْ مُتَعَيَّنَةً اسْتَغْنَتْ عَمَّا يُعَيِّنُهَا، كَمَنِ اسْتَأْجَرَ بِسَاطًا أَوْ عِمَامَةً أَوْ ثَوْبًا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى تَعْيِينِ الْمَنْفَعَةِ فِي الْعَقْدِ لاِنْصِرَافِ هَذِهِ الأَْشْيَاءِ بِصُوَرِهَا إِلَى مَقَاصِدِهَا عَادَةً، وَإِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ مُتَرَدِّدَةً، كَالدَّابَّةِ لِلْحَمْل وَالرُّكُوبِ وَالأَْرْضِ لِلزَّرْعِ وَالْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ، افْتَقَرَتْ إِلَى التَّعْيِينِ.
وَقَال: النُّقُودُ إِذَا كَانَ بَعْضُهَا غَالِبًا لَمْ يَحْتَجْ
_________
(١) الأشباه لابن نجيم ص ٣٤، ٣٥.
إِلَى تَعْيِينٍ فِي الْعَقْدِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنِ احْتَاجَ إِلَى التَّعْيِينِ.
وَقَال كَذَلِكَ: الْحُقُوقُ إِذَا تَعَيَّنَتْ لِمُسْتَحِقِّيهَا كَالدَّيْنِ الْمَنْقُول فَإِنَّهُ مُعَيَّنٌ لِرَبِّهِ، فَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى نِيَّةٍ، مِثْل حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى إِذَا تَعَيَّنَتْ لَهُ كَالإِْيمَانِ، وَإِنْ تَرَدَّدَ الْحَقُّ بَيْنَ دَيْنَيْنِ أَحَدُهُمَا بِرَهْنٍ وَالآْخَرُ بِغَيْرِ رَهْنٍ، فَإِنَّ الدَّفْعَ يَفْتَقِرُ فِي تَعْيِينِ الْمَدْفُوعِ لأَِحَدِهِمَا إِلَى النِّيَّةِ.
وَأَضَافَ الْقَرَافِيُّ: التَّصَرُّفَاتُ إِذَا كَانَتْ دَائِرَةً بَيْنَ جِهَاتٍ شَتَّى لاَ تَنْصَرِفُ لِجِهَةٍ إِلاَّ بِنْيَةٍ، كَمَنْ أَوْصَى لأَِيْتَامٍ فَاشْتَرَى سِلْعَةً لاَ تَتَعَيَّنُ لأَِحَدِهِمْ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، وَمَتَى كَانَ التَّصَرُّفُ مُتَّحِدًا انْصَرَفَ إِلَى جِهَتِهِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ، فَإِنَّ مُبَاشَرَةَ الْعَقْدِ كَافِيَةٌ فِي حُصُول مِلْكِهِ لِلسِّلْعَةِ. . . وَالنِّيَّةُ فِي هَذِهِ الأُْمُورِ مَقْصُودُهَا التَّمْيِيزُ، وَمَقْصُودُهَا فِي الْعِبَادَاتِ التَّمْيِيزُ وَالتَّقَرُّبُ مَعًا (١) .
وَقَال الْحَطَّابُ: مِنْ فَرَائِضِ الصَّلاَةِ نِيَّةُ الصَّلاَةِ الْمُعَيَّنَةِ. قَال صَاحِبُ الْمُقَدِّمَاتِ: النِّيَّةُ الْكَامِلَةُ هِيَ الْمُتَعَلِّقَةُ بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: تَعْيِينُ الصَّلاَةِ، وَالتَّقَرُّبُ بِهَا، وَوُجُوبُهَا، وَآدَابُهَا. وَاسْتِشْعَارُ الإِْيمَانِ يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، فَهَذِهِ هِيَ النِّيَّةُ الْكَامِلَةُ، فَإِنْ سَهَا عَنِ الإِْيمَانِ أَوْ وُجُوبِ الصَّلاَةِ أَوْ كَوْنِهَا أَدَاءً أَوِ التَّقَرُّبِ بِهَا، لَمْ
_________
(١) الذخيرة ص ٢٣٧ - ٢٣٩.
تَفْسُدْ إِذَا عَيَّنَهَا لاِشْتِمَال التَّعْيِينِ عَلَى ذَلِكَ. قَال صَاحِبُ الطِّرَازِ: وَالْمُعِيدُ لِلصَّلاَةِ فِي جَمَاعَةٍ وَالصَّبِيُّ لاَ يَتَعَرَّضَانِ لِفَرْضٍ وَلاَ لِنَفْلٍ.
وَمِنَ الذَّخِيرَةِ قَال صَاحِبُ الطِّرَازِ: النَّوَافِل عَلَى قِسْمَيْنِ: مُقَيَّدَةٌ وَمُطْلَقَةٌ. فَالْمُقَيَّدَةُ السُّنَنُ الْخَمْسُ وَهِيَ: الْعِيدَانِ وَالْكُسُوفُ وَالاِسْتِسْقَاءُ وَالْوَتْرُ وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ، فَهَذِهِ مُقَيَّدَةٌ إِمَّا بِأَسْبَابِهَا أَوْ بِأَزْمَانِهَا، فَلاَ بُدَّ فِيهَا مِنْ نِيَّةِ التَّعْيِينِ، فَمَنِ افْتَتَحَ الصَّلاَةَ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ ثُمَّ أَرَادَ رَدَّهَا إِلَى هَذِهِ لَمْ يَجُزْ. وَالْمُطْلَقَةُ مَا عَدَا هَذِهِ فَتَكْفِي فِيهَا نِيَّةُ الصَّلاَةِ، فَإِنْ كَانَ فِي لَيْلٍ فَهُوَ قِيَامُ اللَّيْل، أَوْ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ، أَوْ كَانَ مِنْهُ أَوَّل النَّهَارِ فَهُوَ الضُّحَى، أَوْ عِنْدَ دُخُول مَسْجِدٍ فَهُوَ تَحِيَّةٌ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْعِبَادَاتِ مِنْ حَجٍّ أَوْ صَوْمٍ أَوْ عُمْرَةٍ لاَ يَفْتَقِرُ إِلَى التَّعْيِينِ فِي مُطْلَقِهِ، بَل يَكْفِي فِيهِ أَصْل الْعِبَادَةِ (١) .
٢١ - قَال الشَّافِعِيَّةُ: يُشْتَرَطُ التَّعْيِينُ فِيمَا يَلْتَبِسُ دُونَ غَيْرِهِ، لِقَوْل النَّبِيِّ ﷺ: وَإِنَّمَا لِكُل امْرِئٍ مَا نَوَى. . . فَهَذَا ظَاهِرٌ فِي اشْتِرَاطِ التَّعْيِينِ؛ لأَِنَّ أَصْل النِّيَّةِ فُهِمَ مِنْ أَوَّل الْحَدِيثِ: إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ (٢) .
_________
(١) الحطاب ١ / ٥١٥.
(٢) حديث: " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى. . . ". تقدم تخريجه ف ٨.
فَمِنَ الأَْوَّل - أَيْ مِمَّا يَلْتَبِسُ بِغَيْرِهِ - الصَّلاَةُ: فَيُشْتَرَطُ التَّعْيِينُ فِي الْفَرَائِضِ لِتَسَاوِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِعْلًا وَصُورَةً، فَلاَ يُمَيِّزُ بَيْنَهُمَا إِلاَّ التَّعْيِينُ، وَفِي النَّوَافِل غَيْرِ الْمُطْلَقَةِ كَالرَّوَاتِبِ فَيُعَيِّنُهَا بِإِضَافَتِهَا إِلَى الظُّهْرِ مَثَلًا، وَكَوْنِهَا الَّتِي قَبْلَهَا أَوِ الَّتِي بَعْدَهَا.
وَمِنْ ذَلِكَ الصَّوْمُ: وَالْمَذْهَبُ الْمَنْصُوصُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الأَْصْحَابُ اشْتِرَاطُ التَّعْيِينِ فِيهِ لِتَمْيِيزِ رَمَضَانَ مِنَ الْقَضَاءِ وَالنَّذْرِ وَالْكَفَّارَةِ وَالْفِدْيَةِ. وَمِثْل الرَّوَاتِبِ فِي ذَلِكَ الصَّوْمُ ذُو السَّبَبِ.
وَمِنَ الثَّانِي - أَيْ مَا لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعْيِينُ لِعَدَمِ الْتِبَاسِهِ بِغَيْرِهِ - الطَّهَارَاتُ وَالْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ؛ لأَِنَّهُ لَوْ عَيَّنَ غَيْرَهَا انْصَرَفَ إِلَيْهَا، وَكَذَا الزَّكَاةُ وَالْكَفَّارَاتُ.
وَنَقَل السُّيُوطِيُّ ضَابِطًا هُوَ أَنَّ كُل مَوْضِعٍ افْتَقَرَ إِلَى نِيَّةِ الْفَرِيضَةِ افْتَقَرَ إِلَى تَعْيِينِهَا إِلاَّ التَّيَمُّمَ لِلْفَرْضِ فِي الأَْصَحِّ.
وَقَال: الْقَاعِدَةُ أَنَّ مَا لاَ يُشْتَرَطُ التَّعَرُّضُ لَهُ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا إِذَا عَيَّنَهُ وَأَخْطَأَ لَمْ يَضُرَّ، كَتَعْيِينِ مَكَانِ الصَّلاَةِ وَزَمَانِهَا، وَمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعْيِينُ فَالْخَطَأُ فِيهِ مُبْطِلٌ، كَالْخَطَأِ مِنَ الصَّوْمِ إِلَى الصَّلاَةِ وَعَكْسِهِ، وَمَا يَجِبُ التَّعَرُّضُ لَهُ
جُمْلَةً وَلاَ يُشْتَرَطُ تَعْيِينُهُ تَفْصِيلًا إِذَا عَيَّنَهُ وَأَخْطَأَ ضَرَّ (١) .
٢٢ - وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَجِبُ أَنْ يَنْوِيَ الصَّلاَةَ بِعَيْنِهَا إِنْ كَانَتْ مُعَيَّنَةً مِنْ فَرْضٍ، وَكَذَا مَنْذُورَةٌ، وَنَفْلٌ مُؤَقَّتٌ كَوِتْرٍ وَتَرَاوِيحَ وَرَاتِبَةٍ، لِتَتَمَيَّزَ تِلْكَ الصَّلَوَاتُ عَنْ غَيْرِهَا، وَلأَِنَّهُ لَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ صَلَوَاتٌ فَصَلَّى أَرْبَعًا يَنْوِي بِهَا مِمَّا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لاَ يُجْزِئُهُ إِجْمَاعًا، فَلَوْلاَ اشْتِرَاطُ التَّعْيِينِ لأَجْزَأَهُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنِ الصَّلاَةُ مُعَيَّنَةً كَالنَّفْل الْمُطْلَقِ أَجْزَأَتْهُ نِيَّةُ الصَّلاَةِ لِعَدَمِ مَا يَقْتَضِي التَّعْيِينَ فِيهَا (٢) .
صِفَةُ الْمَنْوِيِّ مِنَ الْفَرِيضَةِ وَالنَّافِلَةِ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اشْتِرَاطِ نِيَّةِ فَرْضِيَّةِ الْعِبَادَةِ عِنْدَ الْقِيَامِ بِهَا، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ - الْوُضُوءُ:
٢٣ - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ التَّعَرُّضُ لِنِيَّةِ الْفَرْضِيَّةِ فِي الْوُضُوءِ.
وَكَيْفِيَّةُ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ أَنْ يَنْوِيَ رَفْعَ الْحَدَثِ، أَوْ يَنْوِيَ اسْتِبَاحَةَ مَا مَنَعَهُ الْحَدَثُ، أَوْ نِيَّةَ فَرْضِ الْوُضُوءِ، أَوْ نِيَّةَ الْوُضُوءِ فَقَطْ، فَأَيُّ
_________
(١) الأشباه والنظائر للسيوطي ص ١٤ - ١٦.
(٢) كشاف القناع ١ / ٨٩ - ٩٠، ٣١٤.
كَيْفِيَّةٍ مِنْ هَذِهِ الْكَيْفِيَّاتِ نَوَى أَجْزَأَهُ، لِتَعَرُّضِهِ لِلْمَقْصُودِ؛ لأَِنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ التَّعَرُّضُ لِنِيَّةِ الْفَرْضِيَّةِ، وَلَكِنَّ الأَْوْلَى عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْكَيْفِيَّاتِ، وَيَضُرُّ نِيَّةُ بَعْضِهَا وَإِخْرَاجُ الْبَعْضِ؛ لأَِنَّهُ تَنَاقُضٌ فِي ذَاتِ النِّيَّةِ.
وَقَال السُّيُوطِيُّ: لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ التَّعَرُّضَ لِنِيَّةِ الْفَرْضِيَّةِ أَكْمَل إِذَا لَمْ نُوجِبْهُ.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: النِّيَّةُ سُنَّةٌ فِي الْوُضُوءِ وَلَيْسَتْ فَرْضًا، لِعَدَمِ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِيهِ، كَمَا يَقُول ابْنُ نُجَيْمٍ (١) .
ب - الْغُسْل:
٢٤ - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تُشْتَرَطُ نِيَّةُ الْفَرْضِيَّةِ فِي الْغُسْل، بَل يَكْفِي نِيَّةُ رَفْعِ جَنَابَةٍ إِنْ كَانَ جُنُبًا، وَرَفْعِ حَدَثِ الْحَيْضِ إِنْ كَانَتْ حَائِضًا، أَوْ نِيَّةُ اسْتِبَاحَةِ مُفْتَقِرٍ إِلَيْهِ كَالصَّلاَةِ، أَوْ يَنْوِي أَدَاءَ فَرْضِ الْغُسْل أَوِ الْغُسْل الْمَفْرُوضِ، أَوْ أَدَاءَ الْغُسْل، وَكَذَا الطَّهَارَةُ لِلصَّلاَةِ (٢) .
_________
(١) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي ١ / ٩٣، والحطاب ١ / ٢٣٤، والأشباه للسيوطي ص ١٨، ومغني المحتاج ١ / ٤٨، ١٤٩، وكشاف القناع ١ / ٨٨، وشرح منتهى الإرادات ١ / ٤٨، والأشباه لابن نجيم ص ٣٧.
(٢) مغني المحتاج ١ / ٧٢، وأسنى المطالب ١ / ٦٨، وكشاف القناع ١ / ١٥٢، والشرح الكبير، وحاشية الدسوقي ١ / ١٣٣.
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ نِيَّةُ الْغُسْل سُنَّةٌ وَلَيْسَتْ فَرْضًا، لِعَدَمِ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِيهِ كَمَا يَقُول ابْنُ نُجَيْمٍ (١) .
ج - التَّيَمُّمُ:
٢٥ - صِفَةُ النِّيَّةِ فِي التَّيَمُّمِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ) أَنْ يَنْوِيَ اسْتِبَاحَةَ الصَّلاَةِ، أَوِ اسْتِبَاحَةَ مَا لاَ يُبَاحُ إِلاَّ بِالطَّهَارَةِ (٢) .
فَإِنْ نَوَى فَرْضَ التَّيَمُّمِ أَوْ فَرْضَ الطَّهَارَةِ أَوِ التَّيَمُّمَ الْمَفْرُوضَ فَقَطْ، لَمْ يَكْفِ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّ التَّيَمُّمَ لَيْسَ مَقْصُودًا فِي نَفْسِهِ، وَإِنَّمَا يُؤْتَى بِهِ عَنْ ضَرُورَةٍ، فَلاَ يُجْعَل مَقْصُودًا بِخِلاَفِ الْوُضُوءِ.
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ مُقَابِل الأَْصَحِّ عَنِ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يَكْفِي أَنْ يَنْوِيَ فَرْضَ التَّيَمُّمِ، أَوْ فَرْضَ الطَّهَارَةِ فَقَطْ (٣) .
_________
(١) الأشباه لابن نجيم ص ٣٧.
(٢) الإنصاف ١ / ٢٩٠، ٢٩١، والفروع ١ / ٢٢٥، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي ١ / ١٥٤، والفواكه الدواني ١ / ١٨٤، ومغني المحتاج ١ / ٩٧، ٩٨، وأشباه السيوطي ص ٢١.
(٣) مغني المحتاج ١ / ٩٧، ٩٨، وأشباه السيوطي ص ٢١، والمجموع ٢ / ٢٢٥، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي ١ / ١٥٤، وجواهر الإكليل ١ / ٢٧.