الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٤٢
لأَِنَّ النِّيَّةَ الْمُتَقَدِّمَةَ يُبْقِيهَا إِلَى وَقْتِ الشُّرُوعِ حُكْمًا - كَمَا فِي الصَّوْمِ - إِذَا لَمْ يُبَدِّلْهَا بِغَيْرِهَا.
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ عِنْدَ الشُّرُوعِ بِحَيْثُ إِنَّهُ لَوْ سُئِل: أَيَّةُ صَلاَةٍ يُصَلِّي؟ يُجِيبُ عَلَى الْبَدِيهَةِ مِنْ غَيْرِ تَفْكِيرٍ. . فَهُوَ نِيَّةٌ تَامَّةٌ، وَلَوِ احْتَاجَ إِلَى التَّأَمُّل لاَ تَجُوزُ.
وَفِي فَتْحِ الْقَدِيرِ: فَقَدْ شَرَطُوا عَدَمَ مَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الصَّلاَةِ لِصِحَّةِ تِلْكَ النِّيَّةِ مَعَ تَصْرِيحِهِمْ بِأَنَّهَا صَحِيحَةٌ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ يَتَخَلَّل بَيْنَهَا وَبَيْنَ الشُّرُوعِ الْمَشْيُ إِلَى مَقَامِ الصَّلاَةِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِهَا، فَلاَ بُدَّ مِنْ كَوْنِ الْمُرَادِ بِمَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهَا مَا يَدُل عَلَى الإِْعْرَاضِ، بِخِلاَفِ مَا لَوِ اشْتَغَل بِكَلاَمٍ أَوْ أَكْلٍ، أَوْ نَقُول: عَدُّ الْمَشْيِ إِلَيْهَا مِنْ أَفْعَالِهَا غَيْرُ قَاطِعٍ لِلنِّيَّةِ.
وَفِي الْخُلاَصَةِ: أَجْمَعَ أَصْحَابُنَا أَنَّ الأَْفْضَل أَنْ تَكُونَ مُقَارِنَةً لِلشُّرُوعِ، وَلاَ يَكُونَ شَارِعًا بِمُتَأَخِّرَةٍ؛ لأَِنَّ مَا مَضَى لَمْ يَقَعْ عِبَادَةً لِعَدَمِ النِّيَّةِ، فَكَذَا الْبَاقِي لِعَدَمٍ التَّجَزِّي. . . وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنَ الْقِرَانِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا.
وَأَمَّا النِّيَّةُ فِي الْوُضُوءِ: فَمَحَلُّهَا عِنْدَ غَسْل الْوَجْهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ فِي أَوَّل السُّنَنِ عِنْدَ غَسْل الْيَدَيْنِ إِلَى الرُّسْغَيْنِ لِيَنَال ثَوَابَ السُّنَنِ
الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى غَسْل الْوَجْهِ.
وَقَالُوا: الْغُسْل كَالْوُضُوءِ فِي السُّنَنِ.
وَفِي التَّيَمُّمِ: يَنْوِي عِنْدَ الْوَضْعِ عَلَى الصَّعِيدِ.
وَأَمَّا وَقْتُ النِّيَّةِ فِي الزَّكَاةِ، فَقَال فِي الْهِدَايَةِ: وَلاَ يَجُوزُ أَدَاءُ الزَّكَاةِ إِلاَّ بِنِيَّةٍ مُقَارِنَةٍ لِلأَْدَاءِ، أَوْ مُقَارِنَةٍ لِعَزْل مِقْدَارِ مَا وَجَبَ؛ لأَِنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ فَكَانَ مِنْ شَرْطِهَا النِّيَّةُ، وَالأَْصْل فِيهَا الاِقْتِرَانُ إِلاَّ أَنَّ الدَّفْعَ يَتَفَرَّقُ، فَاكْتُفِيَ بِوُجُودِهَا حَال الْعَزْل تَيْسِيرًا، كَتَقْدِيمِ النِّيَّةِ فِي الصَّوْمِ.
وَهَل تَجُوزُ بِنِيَّةٍ مُتَأَخِّرَةٍ عَنِ الأَْدَاءِ؟ قَال فِي شَرْحِ الْمَجْمَعِ: لَوْ دَفَعَهَا بِلاَ نِيَّةٍ ثُمَّ نَوَى بَعْدَهُ: فَإِنْ كَانَ الْمَال قَائِمًا فِي يَدِ الْفَقِيرِ جَازَ، وَإِلاَّ فَلاَ.
وَأَمَّا الصَّوْمُ: فَإِنْ كَانَ فَرْضًا - هُوَ أَدَاءُ رَمَضَانَ - جَازَ بِنِيَّةٍ مُتَقَدِّمَةٍ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَبِمُقَارِنَةٍ وَهُوَ الأَْصْل، وَبِمُتَأَخِّرَةٍ عَنِ الشُّرُوعِ إِلَى مَا قَبْل نِصْفِ النَّهَارِ الشَّرْعِيِّ؛ تَيْسِيرًا عَلَى الصَّائِمِينَ. وَإِنْ كَانَ فَرْضًا غَيْرَ أَدَاءِ رَمَضَانَ - مِنْ قَضَاءٍ أَوْ نَذْرٍ أَوْ كَفَّارَةٍ - فَيَجُوزُ بِنِيَّةٍ مُتَقَدِّمَةٍ مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَيَجُوزُ بِنِيَّةٍ مُقَارِنَةٍ لِطُلُوعِ الْفَجْرِ لأَِنَّ الأَْصْل الْقِرَانُ. وَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ نَفْلًا فَكَرَمَضَانَ أَدَاءً.
وَأَمَّا الْحَجُّ: فَالنِّيَّةُ فِيهِ سَابِقَةٌ عَنِ الأَْدَاءِ عِنْدَ الإِْحْرَامِ، وَهُوَ النِّيَّةُ مَعَ التَّلْبِيَةِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا مِنْ سَوْقِ الْهَدْيِ، وَلاَ يُمْكِنُ فِيهِ الْقِرَانُ أَوِ التَّأَخُّرُ؛ لأَِنَّهُ لاَ تَصِحُّ أَفْعَالُهُ إِلاَّ إِذَا تَقَدَّمَ الإِْحْرَامُ، وَهُوَ رُكْنٌ فِيهِ أَوْ شَرْطٌ. . . عَلَى قَوْلَيْنِ:
وَعِنْدَ اشْتِرَاطِ بَقَاءِ النِّيَّةِ فِي كُل رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْعِبَادَةِ، أَوْ عَدَمِ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ، قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: قَالُوا فِي الصَّلاَةِ: لاَ تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ فِي الْبَقَاءِ لِلْحَرَجِ، فَكَذَا بَقِيَّةُ الْعِبَادَاتِ.
وَفِي الْقُنْيَةِ: لاَ تَلْزَمُ نِيَّةُ الْعِبَادَةِ فِي كُل جُزْءٍ، إِنَّمَا تَلْزَمُ فِي جُمْلَةِ مَا يَفْعَلُهُ فِي كُل حَالٍ، وَإِنْ تَعَمَّدَ أَنْ لاَ يَنْوِيَ الْعِبَادَةَ بِبَعْضِ مَا يَفْعَلُهُ مِنَ الصَّلاَةِ، لاَ يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ، ثُمَّ إِنْ كَانَ ذَلِكَ فِعْلًا لاَ تَتِمُّ الْعِبَادَةُ بِدُونِهِ فَسَدَتْ، وَإِلاَّ فَلاَ وَقَدْ أَسَاءَ.
وَقَال ابْنُ نُجَيْمٍ: الْمَذْهَبُ الْمُعْتَمَدُ أَنَّ الْعِبَادَةَ ذَاتَ الأَْفْعَال يُكْتَفَى بِالنِّيَّةِ فِي أَوَّلِهَا، وَلاَ يُحْتَاجُ إِلَيْهَا فِي كُل فِعْلٍ، اكْتِفَاءً بِانْسِحَابِهَا عَلَيْهَا، إِلاَّ إِذَا نَوَى بِبَعْضِ الأَْفْعَال غَيْرَ مَا وُضِعَ لَهُ، قَالُوا: لَوْ طَافَ طَالِبًا الْغَرِيمَ لاَ يُجْزِئُهُ، وَلَوْ وَقَفَ كَذَلِكَ بِعَرَفَاتٍ أَجْزَأَهُ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الطَّوَافَ قُرْبَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ بِخِلاَفِ الْوُقُوفِ، وَفَرَّقَ الزَّيْلَعِيُّ بَيْنَهُمَا بِفَرْقٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ النِّيَّةَ عِنْدَ
الإِْحْرَامِ تَضَمَّنَتْ جَمِيعَ مَا يُفْعَل فِي الإِْحْرَامِ، فَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى تَجْدِيدِ النِّيَّةِ، وَالطَّوَافُ يَقَعُ بَعْدَ التَّحَلُّل وَفِي الإِْحْرَامِ مِنْ وَجْهٍ، فَاشْتُرِطَ فِيهِ أَصْل النِّيَّةِ لاَ تَعْيِينُ الْجِهَةِ (١) .
١٥ - وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَقْتَ النِّيَّةِ ضِمْنَ شُرُوطِهَا، فَقَالُوا: أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِلْمَنْوِيِّ؛ لأَِنَّ أَوَّل الْعِبَادَةِ لَوْ عَرَا مِنَ النِّيَّةِ لَكَانَ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الْقُرْبَةِ وَغَيْرِهَا، وَآخِرُ الصَّلاَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَوَّلِهَا وَتَبَعٌ لَهُ، بِدَلِيل أَنَّ أَوَّلَهَا إِنْ نَوَى نَفْلًا أَوْ وَاجِبًا أَوْ قَضَاءً أَوْ أَدَاءً كَانَ آخِرُهَا كَذَلِكَ، فَلاَ يَصِحُّ.
وَاسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الصَّوْمَ لِلْمَشَقَّةِ، فَجَوَّزُوا عَدَمَ مُقَارَنَةِ النِّيَّةِ لأَِوَّل الْمَنْوِيِّ لإِتْيَانِ أَوَّل الصَّوْمِ حَالَةَ النَّوْمِ غَالِبًا، وَالزَّكَاةَ فِي الْوَكَالَةِ عَلَى إِخْرَاجِهَا؛ عَوْنًا عَلَى الإِْخْلاَصِ وَدَفْعًا لِحَاجَةِ الْفَقِيرِ مِنْ بَاذِلِهَا، فَتُقَدَّمُ النِّيَّةُ عِنْدَ الْوَكَالَةِ وَلاَ تَتَأَخَّرُ لإِخْرَاجِ الْمَنْوِيِّ.
وَجَوَّزَ ابْنُ الْقَاسِمِ - كَمَا نَقَل الْقَرَافِيُّ عَنْ صَاحِبِ الطِّرَازِ - تُقَدَّمُ النِّيَّةُ عِنْدَمَا يَأْخُذُ فِي أَسْبَابِ الطَّهَارَةِ بِذَهَابِهِ إِلَى الْحَمَّامِ أَوِ النَّهْرِ، بِخِلاَفِ الصَّلاَةِ، وَخَالَفَهُ سَحْنُونٌ فِي الْحَمَّامِ وَوَافَقَهُ فِي النَّهْرِ، وَفَرَّقَ بِأَنَّ النَّهْرَ لاَ يُؤْتَى غَالِبًا
_________
(١) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص ٤٢ - ٤٥.
إِلاَّ لِذَلِكَ، فَتَمَيَّزَتِ الْعِبَادَةُ فِيهِ، بِخِلاَفِ الْحَمَّامِ فَإِنَّهُ يُؤْتَى لِذَلِكَ وَلإِزَالَةِ الدَّرَنِ، وَالرَّفَاهِيَةُ غَالِبَةٌ فِيهِ، فَلَمْ تَتَمَيَّزِ الْعِبَادَةُ وَافْتَقَرَتْ إِلَى النِّيَّةِ.
وَقِيل: لاَ تُجْزِئُ النِّيَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ حَتَّى تَتَّصِل بِفِعْل الْوَاجِبِ.
وَقِيل: إِذَا نَوَى عِنْدَ أَوَّل الْوُضُوءِ وَهُوَ أَوَّل السُّنَنِ أَجْزَأَهُ؛ لأَِنَّ الثَّوَابَ عَلَى السُّنَنِ، وَالتَّقَرُّبَ بِهَا إِنَّمَا يَحْصُل عِنْدَ النِّيَّةِ.
وَقِيل: إِنْ عَزَبَتْ نِيَّتُهُ قَبْل الْمَضْمَضَةِ وَالاِسْتِنْشَاقِ وَبَعْدَ الْيَدَيْنِ لاَ يُجْزِئُهُ، وَإِنِ اتَّصَلَتْ بِهِمَا وَعَزَبَتْ قَبْل الْوَجْهِ أَجْزَأَهُ؛ لأَِنَّ الْمَضْمَضَةَ مِنَ الْوَجْهِ وَبِهَا غَسْل ظَاهِرِ الْفَمِ وَهِيَ الشَّفَةُ مِنَ الْوَجْهِ (١) .
١٦ - وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: الْغَرَضُ مِنَ النِّيَّاتِ تَمْيِيزُ الْعِبَادَاتِ عَنِ الْعَادَاتِ أَوْ تَمْيِيزُ رُتَبِ الْعِبَادَاتِ، وَلِذَا وَجَبَ أَنْ تَقْتَرِنَ النِّيَّةُ بِأَوَّل الْعِبَادَةِ لِيَقَعَ أَوَّلُهَا مُمَيَّزًا ثُمَّ يَبْتَنِي عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ، إِلاَّ أَنْ يَشُقَّ مُقَارَنَتُهَا إِيَّاهَا كَمَا فِي نِيَّةِ الصَّوْمِ.
فَإِنْ تَأَخَّرَتِ النِّيَّةُ عَنْ أَوَّل الْعِبَادَةِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ إِلاَّ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ؛ لأَِنَّ مَا مَضَى يَقَعُ مُرَدَّدًا بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالْعَادَةِ، أَوْ بَيْنَ رُتَبِ الْعِبَادَةِ.
_________
(١) الذخيرة ص ٢٤٣.
وَإِنْ تَقَدَّمَتِ النِّيَّةُ، فَإِنِ اسْتَمَرَّتْ إِلَى أَنْ شَرَعَ فِي الْعِبَادَةِ أَجْزَأَهُ مَا اقْتَرَنَ مِنْهَا.
وَإِنِ انْقَطَعَتِ النِّيَّةُ قَبْل الشُّرُوعِ فِي الْعِبَادَةِ لَمْ تَصِحَّ الْعِبَادَةُ لِتَرَدُّدِهَا، فَإِنْ قَرُبَ انْقِطَاعُهَا أَجْزَأَتْ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، وَفِيهِ بُعْدٌ؛ لأَِنَّهَا إِذَا انْقَطَعَتْ وَقَعَ ابْتِدَاءُ الْعِبَادَةِ مُرَدَّدًا، فَإِنِ اكْتَفَى بِالنِّيَّةِ السَّابِقَةِ فَلاَ فَرْقَ بَيْنَ بَعِيدِهَا وَقَرِيبِهَا.
وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَصْحِبَ ذِكْرَ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ إِلَى آخِرِهِ لأَِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى مَقْصُودِ النِّيَّاتِ، وَلاَ يَفْعَل ذَلِكَ فِي الصَّلاَةِ لأَِنَّ قَلْبَهُ مَشْغُولٌ عَنْ ذِكْرِ النِّيَّةِ بِمُلاَحَظَةِ مَعْنَى الأَْذْكَارِ وَالْقِرَاءَةِ وَالدُّعَاءِ، فَكَانَ الاِشْتِغَال بِالأَْهَمِّ فِي الصَّلاَةِ أَوْلَى مِنْ مُلاَحَظَةِ النِّيَّةِ وَذِكْرِهَا.
وَيَكْفِي فِي الْعِبَادَةِ نِيَّةٌ فَرْدَةٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ (١)، وَقَدْ قَال الشَّافِعِيُّ فِي الصَّلاَةِ: يَنْوِي مَعَ التَّكْبِيرِ لاَ قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ.
وَقَال الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي ذَلِكَ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَال: لاَ بُدَّ مِنَ اسْتِمْرَارِ النِّيَّةِ مِنْ أَوَّل التَّكْبِيرِ إِلَى آخِرِهِ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِلنِّيَّةِ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْعُسْرِ
_________
(١) حديث: " إنما الأعمال بالنيات. . . ". تقدم تخريجه ف ٨.
الْمُوجِبِ لِلْوَسْوَاسِ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ تُجْزِئُ نِيَّةٌ فَرْدَةٌ مَقْرُونَةٌ بِالتَّكْبِيرِ، كَمَا تُجْزِئُ فِي الصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالاِعْتِكَافِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ نِيَّةٌ فَرْدَةٌ.
وَقَال: وَتَصِحُّ الْعِبَادَةُ بِنِيَّةٍ تَقَعُ فِي أَثْنَائِهَا، وَلَهُ صُوَرٌ:
إِحْدَاهَا: أَنْ يَنْوِيَ الْمُتَنَفِّل رَكْعَةً وَاحِدَةً، ثُمَّ يَنْوِيَ أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهَا رَكْعَةً أَوْ أَكْثَرَ، فَتَصِحُّ الرَّكْعَةُ الأُْولَى بِالنِّيَّةِ الأُْولَى وَيَصِحُّ مَا زَادَ عَلَيْهَا بِالنِّيَّةِ الثَّانِيَةِ، وَلَيْسَ هَذَا كَتَفْرِيقِ النِّيَّةِ عَلَى الصَّلاَةِ؛ لأَِنَّ الْمُفَرِّقَ يَنْوِي مَا لاَ يَكُونُ صَلاَةً مُفْرَدَةً، وَهَاهُنَا قَدْ نَوَى بِالنِّيَّةِ الأُْولَى الرَّكْعَةَ الأُْولَى وَهِيَ صَلاَةٌ عَلَى حِيَالِهَا، وَنَوَى الزِّيَادَةَ بِنِيَّةٍ ثَانِيَةٍ وَهِيَ صَلاَةٌ أَيْضًا عَلَى حِيَالِهَا، وَلَيْسَ كَمَنْ نَوَى تَكْبِيرَةً أَوْ قَوْمَةً، أَوْ نَوَى مِنَ الظُّهْرِ رَكْعَةً عَلَى انْفِرَادِهَا، فَإِنَّ الرَّكْعَةَ الْمُنْفَرِدَةَ لاَ تَكُونُ ظُهْرًا.
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: إِذَا نَوَى الاِقْتِصَارَ فِي الصَّلاَةِ عَلَى الأَْرْكَانِ وَالشَّرَائِطِ ثُمَّ نَوَى التَّطْوِيل الْمَشْرُوعَ أَوِ السُّنَنَ الْمَشْرُوعَةَ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُهُ لاِشْتِمَال النِّيَّةِ الأُْولَى عَلَى الأَْرْكَانِ وَالشَّرَائِطِ، وَالثَّانِيَةِ عَلَى السُّنَنِ التَّابِعَةِ، فَإِنَّهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ صَلاَةً مُسْتَقِلَّةً فَقَدْ ثَبَتَ لِلتَّابِعِ مَا لاَ يَثْبُتُ لِلْمَتْبُوعِ.
الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: إِذَا نَوَى الْمُسَافِرُ الْقَصْرَ ثُمَّ نَوَى الإِْتْمَامَ، فَإِنَّ الرَّكْعَتَيْنِ الأُْولَيَيْنِ تُجْزِئَانِهِ بِالنِّيَّةِ الأُْولَى، وَتُجْزِئُهُ الرَّكْعَتَانِ الأُْخْرَيَانِ بِالنِّيَّةِ الثَّانِيَةِ؛ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ بِالنِّيَّتَيْنِ تَمْيِيزُ رُتْبَةِ الصَّلاَةِ - الظُّهْرِ - عَنْ غَيْرِهَا، وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ بِالنِّيَّتَيْنِ.
الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ: إِذَا اقْتَرَنَ بِصَلاَةِ الْقَاصِرِ مَا يُوجِبُ الإِْتْمَامَ أَوْ طَرَأَ عَلَيْهَا مَا يُوجِبُ إِتْمَامَهَا - وَهُوَ لاَ يَشْعُرُ بِهِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ - فَإِنَّهُ يُتِمُّ الصَّلاَةَ بِالنِّيَّةِ الثَّانِيَةِ، وَقَدْ قَال بَعْضُ أَصْحَابِنَا: تُجْزِئُهُ بِالنِّيَّةِ الأُْولَى.
الصُّورَةُ الْخَامِسَةُ: إِذَا مَاتَ الأَْجِيرُ فِي الْحَجِّ قَبْل إِتْمَامِهِ الْحَجَّ، وَجَوَّزْنَا الْبِنَاءَ عَلَيْهِ فَاسْتَأْجَرْنَا مَنْ يَبْنِي عَلَيْهِ، وَقَدْ وَقَعَ مَا تَقَدَّمَ بِنِيَّةِ الأَْجِيرِ الأَْوَّل وَمَا تَأَخَّرَ بِنِيَّةِ الأَْجِيرِ الثَّانِي، فَيُؤَدَّى الْحَجُّ بِنِيَّتَيْنِ مِنْ شَخْصَيْنِ: إِحْدَاهُمَا فِي ابْتِدَائِهِ، وَالثَّانِيَةُ فِي انْتِهَائِهِ (١) .
١٧ - وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَجِبُ الإِْتْيَانُ بِالنِّيَّةِ عِنْدَ أَوَّل وَاجِبٍ فِي الْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْل أَوِ التَّيَمُّمِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَادَاتِ؛ لأَِنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ لِصِحَّةِ وَاجِبَاتِهَا، فَيُعْتَبَرُ كَوْنُهَا كُلُّهَا بَعْدَ
_________
(١) قواعد الأحكام ١ / ١٧٦، ١٨١ - ١٨٥، ومغني المحتاج ١ / ٤٧ - ٥٠، والأشباه للسيوطي ٢٤ - ٣٠.
النِّيَّةِ، فَلَوْ فَعَل شَيْئًا مِنَ الْوَاجِبَاتِ قَبْل النِّيَّةِ لَمْ يَعْتَدَّ بِهِ.
وَيُسْتَحَبُّ الإِْتْيَانُ بِالنِّيَّةِ عِنْدَ مَسْنُونَاتِ الطَّهَارَةِ إِنْ وُجِدَ ذَلِكَ الْمَسْنُونُ قَبْل وَاجِبٍ. كَغَسْل الْيَدَيْنِ لِغَيْرِ الْقَائِمِ مِنْ نَوْمِ اللَّيْل إِنْ وُجِدَ قَبْل التَّسْمِيَةِ فِي الْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْل، لِتَشْمَل النِّيَّةُ مَفْرُوضَ الطَّهَارَةِ وَمَسْنُونَهَا، فَيُثَابُ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا. فَإِنْ غَسَل الْيَدَيْنِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ فَكَمَنْ لَمْ يَغْسِلْهُمَا؛ لِحَدِيثِ: إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ (١)، فَتُسْتَحَبُّ إِعَادَةُ غَسْلِهِمَا بَعْدَ النِّيَّةِ، وَيَجُوزُ تَقْدِيمُ النِّيَّةِ عَلَى الطَّهَارَةِ بِزَمَنٍ يَسِيرٍ كَصَلاَةٍ وَزَكَاةٍ، وَلاَ يُبْطِل النِّيَّةَ عَمَلٌ يَسِيرٌ قَبْل الشُّرُوعِ فِي الطَّهَارَةِ وَنَحْوِهَا. فَإِنْ كَثُرَ بَطَلَتْ وَاحْتَاجَ إِلَى اسْتِئْنَافِهَا، وَيُسْتَحَبُّ اسْتِصْحَابُ ذِكْرِهَا بِقَلْبِهِ بِأَنْ يَكُونَ مُسْتَحْضِرًا لَهَا فِي جَمِيعِ الطَّهَارَةِ لِتَكُونَ أَفْعَالُهُ كُلُّهَا مُقْتَرِنَةً بِالنِّيَّةِ. وَلاَ بُدَّ مِنَ اسْتِصْحَابِ حُكْمِهَا بِأَنْ لاَ يَنْوِيَ قَطْعَهَا، فَإِنْ عَزَبَتْ عَنْ خَاطِرِهِ لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي الطَّهَارَةِ كَمَا لاَ يُؤَثِّرُ فِي الصَّلاَةِ. وَمَحَلُّهُ إِنْ لَمْ يَنْوِ بِالْغَسْل نَحْوَ تَنْظِيفٍ أَوْ تَبَرُّدٍ، كَمَا ذَكَرَهُ الْمَجْدُ (٢) .
_________
(١) حديث: " إنما الأعمال بالنيات. . . ". تقدم تخريجه ف ٨.
(٢) كشاف القناع ١ / ٩٠.
حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ النِّيَّةِ:
١٨ - بَيَّنَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ النِّيَّةَ شُرِعَتْ لِتَمْيِيزِ الْعِبَادَاتِ عَنِ الْعَادَاتِ حَتَّى يَتَمَيَّزَ مَا هُوَ لِلَّهِ تَعَالَى عَمَّا لَيْسَ لَهُ، وَتَتَمَيَّزُ مَرَاتِبُ الْعِبَادَاتِ فِي أَنْفُسِهَا حَتَّى تَتَمَيَّزَ مُكَافَأَةُ الْعَبْدِ عَلَى فِعْلِهِ وَيَظْهَرَ قَدْرُ تَعْظِيمِهِ لِرَبِّهِ (١) .
فَمِثَال الأَْوَّل: الْغُسْل يَكُونُ عِبَادَةً وَتَبَرُّدَا، وَحُضُورُ الْمَسَاجِدِ يَكُونُ لِلصَّلاَةِ وَفُرْجَةً وَاسْتِرَاحَةً، وَالسُّجُودُ لِلَّهِ أَوْ لِلصَّنَمِ.
وَمِثَال الثَّانِي: الصَّلاَةُ، لاِنْقِسَامِهَا إِلَى فَرْضٍ وَنَفْلٍ، وَالْفَرْضُ إِلَى فَرْضٍ عَلَى الأَْعْيَانِ وَفَرْضٍ عَلَى الْكِفَايَةِ وَفَرْضٍ مَنْذُورٍ وَفَرْضٍ غَيْرِ مَنْذُورٍ. وَمِنْ هُنَا تَظْهَرُ كَيْفِيَّةُ تَعَلُّقِ النِّيَّةِ بِالْفِعْل؛ فَإِنَّهَا لِلتَّمْيِيزِ.
وَتَمْيِيزُ الشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ بِإِضَافَتِهِ إِلَى سَبَبِهِ كَصَلاَةِ الْكُسُوفِ وَالاِسْتِسْقَاءِ وَالْعِيدَيْنِ، وَقَدْ يَكُونُ بِوَقْتِهِ كَصَلاَةِ الظُّهْرِ، أَوْ بِحُكْمِهِ الْخَاصِّ كَالْفَرِيضَةِ، أَوْ بِوُجُودِ سَبَبِهِ كَرَفْعِ الْحَدَثِ، فَإِنَّ الْوُضُوءَ سَبَبٌ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ، فَإِذَا نَوَى رَفْعَ الْحَدَثِ ارْتَفَعَ وَصَحَّ الْوُضُوءُ (٢) .
_________
(١) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص ٢٩، والأشباه والنظائر للسيوطي ص ١٢، ومواهب الجليل ١ / ٢٣٢.
(٢) مواهب الجليل ١ / ٢٣٢.