الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٤٢ الصفحة 13

الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٤٢

ثَوَابُ النِّيَّةِ وَحْدَهَا، وَمَعَ الْعَمَل:

٩ - نَاوِي الْقُرْبَةِ يُثَابُ عَلَى مُجَرَّدِ نِيَّتِهِ مِنْ غَيْرِ الْعَمَل، وَلاَ يُثَابُ عَلَى أَكْثَرِ الأَْعْمَال إِلاَّ إِذَا نَوَى؛ لأَِنَّ النِّيَّةَ مُنْصَرِفَةٌ بِنَفْسِهَا وَصُورَتِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ يُثَابُ عَلَيْهَا وَحْدَهَا، وَأَمَّا الْفِعْل الْمُجَرَّدُ عَنِ النِّيَّةِ فَإِنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ مَا هُوَ لِلَّهِ تَعَالَى وَمَا هُوَ لِغَيْرِهِ، أَيْ بَيْنَ الْعَادَةِ وَالْعِبَادَةِ، فَهُوَ غَيْرُ مُنْصَرِفٍ بِنَفْسِهِ وَصُورَتِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ لاَ يُثَابُ عَلَيْهِ (١) .

وَقَال الْفُقَهَاءُ: يُسَنُّ نِيَّةُ قِيَامِ اللَّيْل عِنْدَ النَّوْمِ لِيَفُوزَ بِقَوْلِهِ ﷺ: مَنْ أَتَى فِرَاشَهُ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يَقُومَ مِنَ اللَّيْل فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ حَتَّى أَصْبَحَ كُتِبَ لَهُ مَا نَوَى، وَكَانَ نَوْمُهُ عَلَيْهِ صَدَقَةً مِنْ رَبِّهِ ﷿ (٢) .

وَقَالُوا: إِنَّ الْمَرْءَ يُثَابُ عَلَى نِيَّتِهِ وَحْدَهَا حَسَنَةً وَاحِدَةً، فَإِنِ اتَّصَل بِهَا الْفِعْل أُثِيبَ بِعَشْرِ

_________

(١) مواهب الجليل لشرح مختصر الخليل ١ / ٢٣٢ الطبعة الثانية - دار الفكر - بيروت، وقواعد الأحكام في مصالح الأنام ١ / ١٧٩ دار الكتب العلمية - بيروت.

(٢) حديث: " من أتى فراشه وهو ينوي أن يقوم. . . ". أخرجه النسائي (٣ / ٢٥٨ - ط المكتبة التجارية) من حديث أبي هريرة، وجود إسناده المنذري في الترغيب والترهيب (١ / ٧٠ ط دار ابن كثير) .

حَسَنَاتٍ؛ لأَِنَّ الْفِعْل الْمَنْوِيَّ تَتَحَقَّقُ بِهِ الْمَصَالِحُ الْمَطْلُوبَةُ مِنَ الْعِبَادَاتِ، فَلِذَلِكَ كَانَ أَجْرُهُ - أَيْ مَعَ النِّيَّةِ - أَعْظَمَ وَثَوَابُهُ أَوْفَرَ، وَلأَِنَّ الأَْفْعَال هِيَ الْمَقَاصِدُ وَالنِّيَّاتِ وَسَائِل (١) .

مَحَل النِّيَّةِ:

١٠ - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ قَوْل مَالِكٍ وَأَكْثَرِ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ مَحَل النِّيَّةِ مِنَ الْمُكَلَّفِ الْقَلْبُ فِي كُل مَوْضِعٍ؛ لأَِنَّهُ مَحَل الْعَقْل وَالْعِلْمِ وَالْمَيْل وَالنُّفْرَةِ وَالاِعْتِقَادِ، وَلأَِنَّ حَقِيقَتَهَا الْقَصْدُ، وَمَحَل الْقَصْدِ الْقَلْبُ، وَلأَِنَّهَا مِنْ عَمَل الْقَلْبِ.

وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْل اللَّهِ ﷿: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ (٢)﴾ وَالإِْخْلاَصُ عَمَل الْقَلْبِ، وَهُوَ مَحْضُ النِّيَّةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَقْصِدَ بِعَمَلِهِ أَنَّهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ (٣)، وَقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَْرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ﴾

_________

(١) نيل المآرب ١ / ١٦٣، ومواهب الجليل ١ / ٢٣٢، وقواعد الأحكام ١ / ١٧٩.

(٢) سورة البينة / ٥.

(٣) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص ٤٠، والمغني لابن قدامة ١ / ١١١ ط - المنار، وكشاف القناع عن متن الإقناع ١ / ٨٦ مكتبة النصر الحديثة، الرياض، والمجموع ١ / ٣١٦، والجمل على شرح المنهج ١ / ١٠٣، ومواهب الجليل ١ / ٢٣١، والذخيرة ص ٢٣٥، والأشباه والنظائر للسيوطي ص ٣٠، ونيل المآرب ١ / ١٣٠.

﴿يَعْقِلُونَ بِهَا (١)﴾، وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (٢)﴾، وَقَوْلِهِ ﷿: ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِْيمَانَ (٣)﴾، وَقَوْلِهِ جَل جَلاَلُهُ: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ (٤)﴾ وَلَمْ يُضِفِ اللَّهُ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الأُْمُورِ إِلَى الدِّمَاغِ.

وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ خِلاَفٌ فَصَّلَهُ الْحَطَّابُ فَقَال: قَال الْمَازِرِيُّ: أَقَل الْمُتَشَرِّعِينَ وَأَكْثَرُ الْفَلاَسِفَةِ عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ فِي الدِّمَاغِ، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ أَنَّ الْعَقْل فِي الدِّمَاغِ فَيَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنَّ النِّيَّةَ فِي الدِّمَاغِ لاَ فِي الْقَلْبِ؛ لأَِنَّ الْعِلْمَ وَالإِْرَادَةَ وَالْمَيْل وَالنُّفْرَةَ وَالاِعْتِقَادَ كُلَّهَا أَعْرَاضُ النَّفْسِ وَالْعَقْل، فَحَيْثُ وُجِدَتِ النَّفْسُ وُجِدَ الْجَمِيعُ قَائِمًا بِهَا، فَالْعَقْل سَجِيَّتُهَا، وَالْعُلُومُ وَالإِْرَادَاتُ صِفَاتُهَا، وَلأَِنَّهُ إِذَا أُصِيبَ الدِّمَاغُ فَسَدَ الْعَقْل وَبَطَلَتِ الْعُلُومُ وَالْفِكْرُ وَأَحْوَال النَّفْسِ (٥) .

ثُمَّ قَال الْحَطَّابُ: قَال الْقَرَافِيُّ: وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْعَقْل فِي الْقَلْبِ لَزِمَ أَنَّ النَّفْسَ فِي الْقَلْبِ، عَمَلًا بِظَاهِرِ النُّصُوصِ، وَإِذَا كَانَتِ النَّفْسُ فِي الْقَلْبِ كَانَتِ النِّيَّةُ وَأَنْوَاعُ الْعُلُومِ وَجَمِيعُ أَحْوَال النَّفْسِ فِي الْقَلْبِ.

_________

(١) سورة الحج / ٤٦.

(٢) سورة النجم / ١١.

(٣) سورة المجادلة / ٢٢.

(٤) سورة البقرة / ٧.

(٥) مواهب الجليل ١ / ٢٣١.

وَأَضَافَ الْمَازِرِيُّ قَوْلَهُ: وَهَذَا أَمْرٌ لاَ مَدْخَل لِلْعَقْل فِيهِ وَإِنَّمَا طَرِيقُهُ السَّمْعُ، وَظَوَاهِرُ السَّمْعِ تَدُل عَلَى صِحَّةِ الْقَوْل الأَْوَّل. . أَيْ عَلَى أَنَّ النِّيَّةَ مَحَلُّهَا الْقَلْبُ.

وَقَال الْحَطَّابُ: يَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْخِلاَفِ مَسْأَلَةٌ مِنَ الْجِرَاحِ، وَهِيَ: مَنْ شُجَّ فِي رَأْسِهِ مَأْمُومَةً أَوْ مُوضِحَةً خَطَأً فَذَهَبَ عَقْلُهُ. قَال فِي الْمُقَدِّمَاتِ: فَلَهُ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ دِيَةُ الْعَقْل وَدِيَةُ الْمَأْمُومَةِ أَوِ الْمُوضِحَةِ، لاَ يَدْخُل بَعْضُ ذَلِكَ فِي بَعْضٍ، إِذْ لَيْسَ الرَّأْسُ عِنْدَهُ مَحَل الْعَقْل وَإِنَّمَا مَحَلُّهُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ الْقَلْبُ، وَهُوَ قَوْل أَكْثَرِ أَهْل الشَّرْعِ، فَهُوَ كَمَنْ فَقَأَ عَيْنَ رَجُلٍ وَأَذْهَبَ سَمْعَهُ فِي ضَرْبَةٍ. وَعَلَى مَذْهَبِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ: إِنَّمَا لَهُ دِيَةُ الْعَقْل؛ لأَِنَّ مَحَلَّهُ عِنْدَهُ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الرَّأْسُ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْفَلاَسِفَةِ، وَهُوَ كَمَنْ أَذْهَبَ بَصَرَ رَجُلٍ وَفَقَأَ عَيْنَهُ فِي ضَرْبَةٍ، وَهَذَا فِي الْخَطَأِ، وَأَمَّا فِي الْعَمْدِ فَيَقْتَصُّ مِنْهُ مِنَ الْمُوضِحَةِ، فَإِنْ ذَهَبَ عَقْل الْمُقْتَصِّ مِنْهُ فَوَاضِحٌ، وَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ فَدِيَةُ ذَلِكَ فِي مَال الْجَانِي، وَفِي الْمَأْمُومَةِ لَهُ دِيَتُهَا وَدِيَةُ الْعَقْل (١) .

_________

(١) مواهب الجليل ١ / ٢٣١ - ٢٣٢، والذخيرة ص ٢٣٥.

التَّلَفُّظُ بِالنِّيَّةِ:

١١ - يَتَرَتَّبُ عَلَى رَأْيِ الْجُمْهُورِ بِأَنَّ مَحَل النِّيَّةِ الْقَلْبُ، أَمْرَانِ:

الأَْوَّل: لاَ يَكْفِي اللَّفْظُ بِاللِّسَانِ دُونَ الْقَلْبِ، فَلَوِ اخْتَلَفَ اللِّسَانُ وَالْقَلْبُ فَالْعِبْرَةُ بِمَا فِي الْقَلْبِ، فَلَوْ نَوَى بِقَلْبِهِ الظُّهْرَ وَبِلِسَانِهِ الْعَصْرَ، أَوْ بِقَلْبِهِ الْحَجَّ وَبِلِسَانِهِ الْعُمْرَةَ أَوْ عَكْسَهُ، صَحَّ لَهُ مَا فِي الْقَلْبِ.

قَال الدَّرْدِيرُ: إِنْ خَالَفَ لَفْظُهُ نِيَّتَهُ فَالْعِبْرَةُ النِّيَّةُ بِالْقَلْبِ لاَ اللَّفْظُ، إِنْ وَقَعَ سَهَوَا، وَأَمَّا عَمْدًا فَمُتَلاَعِبٌ تَبْطُل صَلاَتُهُ (١) .

الثَّانِي: أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ مَعَ نِيَّةِ الْقَلْبِ التَّلَفُّظُ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ (٢) .

ثُمَّ إِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْحُكْمِ التَّكْلِيفِيِّ لِلتَّلَفُّظِ بِالنِّيَّةِ:

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمُخْتَارِ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّ التَّلَفُّظَ بِالنِّيَّةِ فِي

_________

(١) الشرح الكبير مع ٣٠٤ - ١ / ٢٣٤، والصاوي على الشرح الصغير ١ / ٣٠٤.

(٢) الأشباه لابن نجيم ص ٤٥ - ٤٨، والذخيرة ١ / ٢٤٠ ط دار الغرب، والأشباه للسيوطي ص ٣٠، والمغني لابن قدامة ١ / ٤٦٥، ٢ / ٦٣٨ ط الرياض، والمجموع للنووي ٢ / ٣١٦ - ٣١٧.

الْعِبَادَاتِ سُنَّةٌ لِيُوَافِقَ اللِّسَانُ الْقَلْبَ (١) .

وَذَهَبَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ التَّلَفُّظَ بِالنِّيَّةِ مَكْرُوهٌ (٢) .

وَقَال الْمَالِكِيَّةُ بِجَوَازِ التَّلَفُّظِ بِالنِّيَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ، وَالأَْوْلَى تَرْكُهُ، إِلاَّ الْمُوَسْوَسَ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ التَّلَفُّظُ لِيَذْهَبَ عَنْهُ اللَّبْسُ (٣) .

شُرُوطُ النِّيَّةِ:

١٢ - اشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - لِلنِّيَّةِ مَا يَلِي:

أ - الإِْسْلاَمُ، فَلاَ تَصِحُّ الْعِبَادَاتُ مِنَ الْكَافِرِ.

ب - التَّمْيِيزُ، فَلاَ تَصِحُّ عِبَادَةُ صَبِيٍّ غَيْرِ مُمَيِّزٍ وَلاَ مَجْنُونٍ.

ج - - الْعِلْمُ بِالْمَنْوِيِّ، فَمَنْ جَهِل فَرِيضَةَ الصَّلاَةِ لَمْ تَصِحَّ مِنْهُ، وَاسْتَثْنَى الْعُلَمَاءُ مِنْ ذَلِكَ الْحَجَّ فَإِنَّهُمْ صَحَّحُوا الإِْحْرَامَ الْمُبْهَمَ؛ لأَِنَّ عَلِيًّا أَحْرَمَ بِمَا أَحْرَمَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ (٤) .

_________

(١) الأشباه لابن نجيم ص ٤٨، ومغني المحتاج ١ / ٥٧، وكشاف القناع ١ / ٨٧.

(٢) الأشباه لابن نجيم ص ٤٨، وكشاف القناع ١ / ٨٧.

(٣) الشرح الكبير مع الدسوقي ١ / ٢٣٣ - ٢٣٤، والشرح الصغير مع الصاوي ١ / ٣٠٤.

(٤) حديث: " أهل بما أهل به النبي ﷺ. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري ٨ / ١٠٥ ط السلفية) .

د - أَنْ لاَ يَأْتِيَ بِمُنَافٍ بَيْنَ النِّيَّةِ وَالْمَنْوِيِّ، فَلَوِ ارْتَدَّ النَّاوِي فِي أَثْنَاءِ الصَّلاَةِ أَوِ الصَّوْمِ أَوْ الْحَجِّ بَطُل.

وَمِنَ الْمُنَافِي نِيَّةُ الْقَطْعِ، فَلَوْ نَوَى قَطْعَ الإِْيمَانِ صَارَ مُرْتَدًّا فِي الْحَال.

وَاخْتَلَفُوا فِي أَثَرِ نِيَّةِ الْقَطْعِ عَلَى الْعِبَادَاتِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ نِيَّةَ الْقَطْعِ لاَ تُبْطِل الْعِبَادَاتِ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ قَطْعَ النِّيَّةِ فِي أَثْنَاءِ الْعِبَادَةِ يُبْطِل الصَّلاَةَ وَالصَّوْمَ، وَكَذَا يُبْطِل الْوُضُوءَ وَالتَّيَمُّمَ وَالاِعْتِكَافَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ، وَلاَ يُبْطِل قَطْعُ النِّيَّةِ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ نِيَّةَ الْقَطْعِ تُبْطِل الصَّلاَةَ دُونَ الصَّوْمِ وَالاِعْتِكَافِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ قَطْعَ النِّيَّةِ أَثْنَاءَ الصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ وَالْوُضُوءِ وَنَحْوِهَا يُبْطِلُهَا؛ لأَِنَّ اسْتِصْحَابَ حُكْمِ النِّيَّةِ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهَا.

وَمِنَ الْمُنَافِي التَّرَدُّدُ وَعَدَمُ الْجَزْمِ فِي أَصْل النِّيَّةِ، فَلَوْ نَوَى يَوْمَ الشَّكِّ إِنْ كَانَ مِنْ شَعْبَانَ لَيْسَ بِصَائِمٍ، وَإِنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ كَانَ صَائِمًا لَمْ تَصِحَّ نِيَّتُهُ.

قَال السُّيُوطِيُّ: وَمِنَ الْمُنَافِي: عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَنْوِيِّ إِمَّا عَقْلًا وَإِمَّا شَرْعًا وَإِمَّا عَادَةً.

فَمِنَ الأَْوَّل: نَوَى بِوُضُوئِهِ أَنْ يُصَلِّيَ صَلاَةً وَأَنْ لاَ يُصَلِّيَهَا، لَمْ تَصِحَّ لِتَنَاقُضِهَا.

وَمِنَ الثَّانِي: نَوَى بِهِ الصَّلاَةَ فِي مَكَانٍ نَجِسٍ، قَال فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ عَنِ الْبَحْرِ: يَنْبَغِي أَنْ لاَ يَصِحَّ.

وَمِنَ الثَّالِثِ: نَوَى بِهِ صَلاَةَ الْعِيدِ وَهُوَ فِي أَوَّل السَّنَةِ، أَوِ الطَّوَافَ وَهُوَ بِالشَّامِ، فَفِي صِحَّتِهِ خِلاَفٌ.

هـ - أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مُنَجَّزَةً، فَلاَ تَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مُعَلَّقَةً، فَلَوْ قَال: إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنْ قَصَدَ التَّعْلِيقَ أَوْ أَطْلَقَ، قَال الشَّافِعِيَّةُ: لَمْ تَصِحَّ.

وَإِنْ قَصَدَ التَّبَرُّكَ صَحَّتْ.

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ عَقَّبَ النِّيَّةَ بِالْمَشِيئَةِ فَيُنْظَرُ: إِنْ كَانَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالنِّيَّاتِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ لَمْ تَبْطُل. وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالأَْقْوَال كَالطَّلاَقِ وَالْعَتَاقِ بَطُل (١) .

_________

(١) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص ٤٩ - ٥٢، والأشباه والنظائر للسيوطي ٣٥ - ٤١، ومغني المحتاج ١ / ٤٧، والفروق للقرافي وتهذيبه ١ / ٢٠٢ - ٢٠٣، والدسوقي ١ / ٢٣٤، ونيل المآرب ص ١٣٠، والإنصاف، ١٩، ٢٤، ٢٦، والمغني ١ / ٤٦٦ - ٤٦٨، وكشاف القناع ٢ / ٣١٧.

وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ لِلنِّيَّةِ ثَلاَثَةَ شُرُوطٍ، هِيَ:

أ - أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمُكْتَسَبِ النَّاوِي، فَإِنَّهَا مُخَصِّصَةٌ، وَتَخْصِيصُ غَيْرِ الْمَعْقُول لِلْمُخَصِّصِ مُحَالٌ.

ب - أَنْ يَكُونَ الْمَنَوِيُّ مَعْلُومَ الْوُجُوبِ أَوْ مَظْنُونَهُ، فَإِنَّ الْمَشْكُوكَ تَكُونُ فِيهِ النِّيَّةُ مُتَرَدِّدَةً فَلاَ تَنْعَقِدُ، وَلِذَلِكَ لاَ يَصِحُّ وُضُوءُ الْكَافِرِ وَلاَ غُسْلُهُ قَبْل انْعِقَادِ الإِْسْلاَمِ؛ لأَِنَّهُمَا غَيْرُ مَعْلُومَيْنِ وَلاَ مَظْنُونَيْنِ.

ج - أَنْ تَكُونَ النِّيَّةُ مُقَارِنَةً لِلْمَنْوِيِّ؛ لأَِنَّ أَوَّل الْعِبَادَةِ لَوْ عَرَا عَنِ النِّيَّةِ لَكَانَ أَوَّلُهَا مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الْقُرْبَةِ وَغَيْرِهَا، وَآخِرُ الصَّلاَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَوَّلِهَا وَتَبَعٌ لَهُ، بِدَلِيل أَنَّ أَوَّلَهَا إِنْ نَوَى نَفْلًا أَوْ وَاجِبًا أَوْ قَضَاءً أَوْ أَدَاءً كَانَ آخِرُهَا كَذَلِكَ، فَلاَ تَصِحُّ (١) .

وَقْتُ النِّيَّةِ:

١٣ - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ وَقْتَ النِّيَّةِ هُوَ

_________

(١) الذخيرة للقرافي ١ / ٢٤٦ - ٢٤٨، ومواهب الجليل ١ / ٢٣٣، والفروق للقرافي وتهذيبه ١ / ٢٠٢ - ٢٠٣.

أَوَّل الْعِبَادَاتِ، أَوْ أَنَّ الأَْصْل أَنَّ أَوَّل وَقْتِهَا أَوَّل الْعِبَادَاتِ، فَيَجِبُ - كَمَا عَبَّرَ بَعْضُهُمْ - أَنْ تَقْتَرِنَ النِّيَّةُ بِأَوَّل كُل عِبَادَةٍ إِلاَّ أَنْ يَشُقَّ مُقَارَنَتُهَا إِيَّاهَا.

وَاسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ صُوَرًا مِنَ الْعِبَادَاتِ خَرَجَتْ عَنْ هَذَا الأَْصْل، وَأَضَافُوا أَحْكَامًا تَتَعَلَّقُ بِالأَْوَّل الْحَقِيقِيِّ وَالنِّسْبِيِّ أَوِ الْحُكْمِيِّ لِلْعِبَادَاتِ، وَبِاشْتِرَاطِ بَقَاءِ النِّيَّةِ أَثْنَاءَ الْعِبَادَاتِ أَوْ عَدَمِ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ اكْتِفَاءً بِاسْتِصْحَابِهَا مِنْ أَوَّل الْعِبَادَاتِ، وَهَذَا وَغَيْرُهُ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَهُمْ - بَعْدَ ذَلِكَ - تَفْصِيلٌ:

١٤ - أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَقَدْ قَالُوا: الأَْصْل أَنَّ وَقْتَ النِّيَّةِ أَوَّل الْعِبَادَاتِ، وَلَكِنَّ الأَْوَّل حَقِيقِيٌّ وَحُكْمِيٌّ، فَقَالُوا فِي الصَّلاَةِ: لَوْ نَوَى قَبْل الشُّرُوعِ. . فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: لَوْ نَوَى عِنْدَ الْوُضُوءِ أَنَّهُ يُصَلِّي الظُّهْرَ أَوِ الْعَصْرَ مَعَ الإِْمَامِ وَلَمْ يَشْتَغِل بَعْدَ النِّيَّةِ بِمَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الصَّلاَةِ، إِلاَّ أَنَّهُ لَمَّا انْتَهَى إِلَى مَكَانِ الصَّلاَةِ لَمْ تَحْضُرْهُ النِّيَّةُ. . . جَازَتْ صَلاَتُهُ بِتِلْكَ النِّيَّةِ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. . . كَذَا فِي الْخُلاَصَةِ، وَفِي التَّجْنِيسِ: إِذَا تَوَضَّأَ فِي مَنْزِلِهِ لِيُصَلِّيَ الظُّهْرَ ثُمَّ حَضَرَ الْمَسْجِدَ فَافْتَتَحَ بِتِلْكَ النِّيَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَشْتَغِل بِعَمَلٍ آخَرَ يَكْفِيهِ ذَلِكَ - هَكَذَا قَال مُحَمَّدٌ فِي الرُّقَيَّاتِ -