الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٤٢ الصفحة 10

الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٤٢

فَيُقَال: بَكَى بُكَاءً وَبُكًى، وَهُوَ: خُرُوجُ الدَّمْعِ مِنَ الْعَيْنِ، سَوَاءٌ كَانَ مَعَ الصَّوْتِ أَوْ بِدُونِهِ. وَقِيل: هُوَ بِالْمَدِّ إِذَا كَانَ الصَّوْتُ أَغْلَبَ، وَيُقْصَرُ إِذَا كَانَ الْحُزْنُ أَغْلَبَ. وَقِيل: هُوَ بِالْقَصْرِ خُرُوجُ الدَّمْعِ فَقَطْ، وَبِالْمَدِّ خُرُوجُ الدَّمْعِ مَعَ الصَّوْتِ، وَيُقَال لِخُرُوجِ الدَّمْعِ مَعَ الصَّوْتِ: نَحِيبٌ، وَمَعَ الصِّيَاحِ: عَوِيلٌ (١) .

وَاسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ لِلْبُكَاءِ لاَ يَخْرُجُ فِي مَعْنَاهُ عَمَّا ذُكِرَ (٢) .

وَالصِّلَةُ بَيْنَ النِّيَاحَةِ وَالْبُكَاءِ هِيَ أَنَّ الْبُكَاءَ أَعَمُّ مِنَ النِّيَاحَةِ عِنْدَ مَنْ قَصَرَ مَعْنَاهَا عَلَى الْبُكَاءِ مَعَ رَفْعِ الصَّوْتِ، أَوْ عَلَى الْبُكَاءِ مَعَ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالنَّدْبِ، حَيْثُ تَكُونُ النِّيَاحَةُ إِحْدَى صُوَرِ الْبُكَاءِ. وَأَمَّا مَنْ جَعَل النِّيَاحَةَ شَامِلَةً لِرَفْعِ الصَّوْتِ بِالنَّدْبِ: سَوَاءٌ أَكَانَ مَعَهَا بُكَاءٌ أَمْ لاَ، فَإِنَّهَا تَكُونُ أَخَصَّ مِنَ الْبُكَاءِ مِنْ جِهَةٍ وَأَعَمَّ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى.

_________

(١) لسان العرب والمصباح والقاموس المحيط، والكليات ١ / ٤٢٩.

(٢) حاشية قليوبي وعميرة على شرح المحلى شرح المنهاج ١ / ٣٤٣، وكشاف القناع ٢ / ١٦٢، وحاشية الباجوري ١ / ٢٥٩، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير ١ / ٤٢١، وشرح الخرشي ١ / ١٣٣، ومغني المحتاج ٢ / ٤٣.

ب - الرِّثَاءُ:

٣ - الرِّثَاءُ: هُوَ الثَّنَاءُ عَلَى الْمَيِّتِ بِذِكْرِ صِفَاتِهِ الْحَمِيدَةِ، نَثْرًا كَانَ أَوْ شِعْرًا (١)، (ر: رِثَاء ف ١) .

وَالصِّلَةُ بَيْنَ الرِّثَاءِ وَالنِّيَاحَةِ أَنَّ الرِّثَاءَ يَقَعُ عَلَى سَبِيل الْمَدْحِ وَلاَ يَكُونُ بِلَفْظِ النِّدَاءِ (٢) .

وَأَمَّا النِّيَاحَةُ فَتَكُونُ بِتَعْدِيدِ مَحَاسِنِ الْمَيِّتِ مَعَ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالْبُكَاءِ أَوْ بِغَيْرِ بُكَاءٍ.

ج - التَّعْزِيَةُ:

٤ - أَصْل الْعَزَاءِ هُوَ الصَّبْرُ، وَتَعْزِيَةُ أَهْل الْبَيْتِ: تَسْلِيَتُهُمْ وَتَأْسِيَتُهُمْ وَنَدْبُهُمْ إِلَى الصَّبْرِ، وَوَعْظُهُمْ بِمَا يُزِيل عَنْهُمُ الْحُزْنَ، فَكُل مَا يَجْلِبُ لِلْمُصَابِ صَبْرًا يُقَال لَهُ: تَعْزِيَةٌ (٣) . (ر: تَعْزِيَة ف ١) .

وَالصِّلَةُ بَيْنَ التَّعْزِيَةِ وَالنِّيَاحَةِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا كَلاَمٌ يُقَال بِمُنَاسَبَةِ الْمَوْتِ، وَلَكِنْ مَضْمُونُ كُلٍّ مِنْهُمَا مُخْتَلِفٌ، وَكَذَلِكَ مَقْصُودُهُمَا، فَبَيْنَمَا

_________

(١) الكليات للكفوي ٥ / ٧٩، وإرشاد الساري ٢ / ٤٠٦.

(٢) الفروق ٢ / ١٧٤، ١٧٥، ومغني المحتاج ٢ / ٤٤، ونهاية المحتاج ٣ / ١٧.

(٣) المصباح، والنظم المستعذب ١ / ١٣٨، ١٣٩، والزاهر ص ١٣٦، ونيل الأوطار ٤ / ١٤٧.

تَتَضَمَّنُ التَّعْزِيَةُ كَلاَمًا يُوَجَّهُ إِلَى أَهْل الْمَيِّتِ مُبَاشَرَةً وَيُقْصَدُ بِهِ تَصْبِيرُهُمْ عَلَى الْمُصِيبَةِ، وَالدُّعَاءُ لَهُمْ، تَتَضَمَّنُ النِّيَاحَةُ كَلاَمًا يُجَدِّدُ الأَْحْزَانَ وَيُوحِي بِالتَّبَرُّمِ مِنَ الأَْقْدَارِ، لِذَلِكَ اخْتَلَفَا فِي الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، حَتَّى كَانَ حُكْمُ التَّعْزِيَةِ أَنَّهَا مَنْدُوبَةٌ، وَحُكْمُ النِّيَاحَةِ التَّحْرِيمُ (١) .

د - النَّعْيُ:

٥ - النَّعْيُ لُغَةً وَاصْطِلاَحًا: هُوَ الإِْخْبَارُ بِالْمَوْتِ (٢) . وَالصِّلَةُ بَيْنَ النَّعْيِ وَالنِّيَاحَةِ أَنَّ النَّعْيَ مُخْتَلِفٌ عَنِ النِّيَاحَةِ لأَِنَّهُ جَائِزٌ إِذَا لَمْ يَتَضَمَّنْ نِيَاحَةً، وَلَكِنْ قَدْ يَقَعُ النَّعْيُ بِكَلاَمٍ فِيهِ نِيَاحَةٌ أَوْ بِأُسْلُوبِهَا، فَيَكُونُ نَعْيًا وَنِيَاحَةً فِي آنٍ وَاحِدٍ، وَيَكُونُ حُكْمُهُمَا الشَّرْعِيُّ وَاحِدًا، وَهُوَ التَّحْرِيمُ.

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

٦ - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ النِّيَاحَةَ مُحَرَّمَةٌ. وَقَال الْحَنَفِيَّةُ بِالْكَرَاهَةِ، وَيَقْصِدُونَ بِهَا الْكَرَاهَةَ التَّحْرِيمِيَّةَ لأَِنَّهُمْ عَدُّوهَا مِنَ الْمَعَاصِي

_________

(١) المهذب ١ / ١٣٨، ١٣٩، والقوانين الفقهية ص ٩٥.

(٢) المصباح، والنظم المستعذب ١ / ١٣٢، وقواعد الفقه للبركتي.

الَّتِي لاَ تَصِحُّ الإِْجَارَةُ عَلَيْهَا (١) .

وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لاَ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢)﴾، وَذَلِكَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ﴾ هُوَ النَّوْحُ (٣) . فَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ ﵂ قَالَتْ: أَخَذَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ ﷺ عِنْدَ الْبَيْعَةِ أَنْ لاَ نَنُوحَ (٤) .

وَاسْتَدَلُّوا كَذَلِكَ بِأَحَادِيثَ، مِنْهَا مَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قَال: قَال رَسُول اللَّهِ ﷺ: اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي

_________

(١) حاشية ابن عابدين ٥ / ٣٤، وبدائع الصنائع ١ / ٣١٠، و٤ / ١٨٩، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير، وتقريرات الشيخ عليش ١ / ٤٢١، وشرح الخرشي ١ / ١٣٣، والمنهاج ومغني المحتاج ٢ / ٤٣، والمجموع ٥ / ٢٨١، والإنصاف ٣ / ٥٦٨، ومطالب أولي النهى ١ / ٩٢٥.

(٢) سورة الممتحنة / ١٢.

(٣) أحكام القرآن للجصاص ٣ / ٥٨٩، وتفسير القرطبي ١٢ / ٧٢، وتفسير الماوردي ٤ / ٢٢٩.

(٤) حديث أم عطية: " أخذ علينا النبي ﷺ عند البيعة أن لا ننوح. . . . " أخرجه البخاري (فتح الباري ٣ / ١٧٦ ط السلفية) ومسلم (٢ / ٦٤٥ ط الحلبي) .

النَّسَبِ وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ (١)، وَالْمَقْصُودُ كُفْرُ النِّعْمَةِ إِنْ لَمْ يَقَعْ مَعَ الاِسْتِحْلاَل، وَإِلاَّ فَهُوَ رِدَّةٌ، وَكِلاَهُمَا حَرَامٌ بِلاَ شَكٍّ.

وَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ ﵁ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَال: نُهِيتُ عَنْ صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فَاجِرَيْنِ: صَوْتٌ عِنْدَ نِعْمَةٍ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَمَزَامِيرُ شَيْطَانٍ، وَصَوْتٌ عِنْدَ مُصِيبَةٍ خَمْشُ وُجُوهٍ وَشَقُّ جُيُوبٍ وَرَنَّةُ شَيْطَانٍ (٢) .

وَمِنْهَا مَا رُوِيَ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ ﵁ قَال: أُغْمِيَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ ﵁ فَجَعَلَتْ أُخْتُهُ تَبْكِي وَتَقُول: وَاجَبَلاَهُ، وَاكَذَا وَاكَذَا، تُعَدِّدُ عَلَيْهِ، فَقَال ابْنُ رَوَاحَةَ حِينَ أَفَاقَ: مَا قُلْتِ شَيْئًا إِلاَّ وَقَدْ قِيل لِي: أَنْتَ كَذَلِكَ؟ (٣) .

وَمِنْهَا مَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ أَنَّهُ قَال: النَّائِحَةُ إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْل مَوْتِهَا تُقَامُ

_________

(١) حديث: " اثنتان في الناس هما بهم كفر. . . " أخرجه مسلم (١ / ٨٢ ط الحلبي) .

(٢) حديث: " نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين. . . " أخرجه ابن سعد في الطبقات (١ / ١٣٨ ط دار صادر) والترمذي (٣ / ٣٢٨ ط الحلبي) واللفظ لابن سعد وقال الترمذي: حسن.

(٣) حديث النعمان بن بشير: " أغمي على عبد الله بن رواحة ﵁ فجعلت أخته تبكي: واجبلاه. . . " أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (٣ / ٥٢٩ ط بيروت) .

يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ (١) .

وَمِنْهَا مَا رَوَتْهُ عَائِشَةُ ﵂ قَالَتْ: لَمَّا جَاءَ قَتْل ابْنِ حَارِثَةَ وَجَعْفَرٍ وَابْنِ رَوَاحَةَ جَلَسَ النَّبِيُّ ﷺ يُعْرَفُ فِيهِ الْحُزْنُ، وَأَنَا أَطَّلِعُ مِنْ شِقِّ الْبَابِ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ، إِنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ. . . . وَذَكَرَ بُكَاءَهُنَّ، فَأَمَرَهُ بِأَنْ يَنْهَاهُنَّ. فَذَهَبَ الرَّجُل، ثُمَّ أَتَى، فَقَال: قَدْ نَهَيْتُهُنَّ، وَذَكَرَ أَنَّهُنَّ لَمْ يُطِعْنَهُ، فَأَمَرَهُ الثَّانِيَةَ أَنْ يَنْهَاهُنَّ، فَذَهَبَ ثُمَّ أَتَى فَقَال: وَاللَّهِ لَقَدْ غَلَبْنَنِي (أَوْ: غَلَبْنَنَا) الشَّكُّ مِنْ أَحَدِ رُوَاةِ الْحَدِيثِ - فَزَعَمْتُ (٢) أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَال: " فَاحْثُ فِي أَفْوَاهِهِنَّ التُّرَابَ "، فَقُلْتُ (٣): أَرْغَمَ اللَّهُ أَنْفَكَ، فَوَاللَّهِ مَا أَنْتَ بِفَاعِلٍ، مَا تَرَكْتَ رَسُول اللَّهِ ﷺ مِنَ الْعَنَاءِ (٤) . قَال الْقُرْطُبِيُّ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ حَجَرٍ: هَذَا يَدُل عَلَى أَنَّهُنَّ رَفَعْنَ أَصْوَاتَهُنَّ بِالْبُكَاءِ، فَلَمَّا لَمْ يَنْتَهِينَ أَمَرَهُ أَنْ يَسُدَّ أَفْوَاهَهُنَّ

_________

(١) حديث: " النائحة إذا لم تتب قبل موتها. . . " أخرجه مسلم (٢ / ٦٤٤ ط عيسى الحلبي) في حديث أبي مالك الأشعري.

(٢) الزعم قد يطلق على القول المحقق وهو المراد هنا (فتح الباري ٣ / ١٣٠) .

(٣) القائل هو عائشة ﵂

(٤) حديث: " فاحث في أفواههن التراب. . . " أخرجه البخاري (فتح الباري ٣ / ١٧٦ ط السلفية) ومسلم (٢ / ٦٤٤ - ٦٤٥ ط عيسى الحلبي) .

بِذَلِكَ، وَخَصَّ الأَْفْوَاهَ بِذَلِكَ لأَِنَّهَا مَحَل النَّوْحِ. . . ثُمَّ قَال ابْنُ حَجَرٍ: ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ فِي بُكَائِهِنَّ زِيَادَةٌ عَلَى الْقَدْرِ الْمُبَاحِ، فَيَكُونُ النَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ بِدَلِيل أَنَّهُ كَرَّرَهُ وَبَالَغَ فِيهِ وَأَمَرَ بِعُقُوبَتِهِنَّ إِنْ لَمْ يَسْكُتْنَ (١) .

قَال جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ: هَذِهِ الأَْحَادِيثُ جَاءَتْ فِي تَحْرِيمِ النِّيَاحَةِ مُطْلَقًا، وَبَيَانِ عَظِيمِ قُبْحِهَا، وَالاِهْتِمَامِ بِإِنْكَارِهَا؛ لأَِنَّهَا مُهَيِّجَةٌ لِلْحُزْنِ وَرَافِعَةٌ لِلصَّبْرِ، وَفِيهَا مُخَالَفَةٌ لِلتَّسْلِيمِ لِلْقَضَاءِ وَالإِْذْعَانِ لأَِمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالصَّبْرِ، فَقَال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢)﴾ . وَهَذَا يَتَنَاوَل كُل مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ النِّيَاحَةِ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالْبُكَاءِ أَوْ بِتَعْدِيدِ مَحَاسِنِ الْمَيِّتِ (٣) . وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ كَانُوا يُنْكِرُونَ عَلَى النَّائِحَةِ أَشَدَّ الإِْنْكَارِ، فَقَدْ رُوِيَ " أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ﵁ سَمِعَ نُوَاحَةً بِالْمَدِينَةِ لَيْلًا،

_________

(١) فتح الباري ٣ / ١٣٠، ١٣١.

(٢) سورة البقرة / ١٥٣.

(٣) شرح النووي على مسلم ٦ / ٢٣٨، ودليل الفالحين ٨ / ١٤٧، ١٤٩، والكبائر للذهبي ص ١٨٤، ١٨٥، ونيل الأوطار ٤ / ١٦٠، ١٦١، وكشاف القناع ٢ / ١٦٣، ومعالم القربة في أحكام الحسبة ص ١٠٦، ١٠٧، ومطالب أولي النهى ١ / ٩٢٥.

فَأَتَى عَلَيْهَا فَدَخَل فَفَرَّقَ النِّسَاءَ، فَأَدْرَكَ النَّائِحَةَ، فَجَعَل يَضْرِبُهَا بِالدِّرَّةِ فَوَقَعَ خِمَارُهَا، فَقَالُوا: شَعْرُهَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَال: أَجَل فَلاَ حُرْمَةَ لَهَا (١) ".

٧ - ذَلِكَ هُوَ حُكْمُ النِّيَاحَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ التَّحْرِيمُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ، وَلَكِنْ وَرَدَتْ فِي بَعْضِ الْمَذَاهِبِ تَفْصِيلاَتٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذَا الْحُكْمِ يَحْسُنُ ذِكْرُهَا:

فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ النِّيَاحَةُ الْمُحَرَّمَةُ هِيَ الْبُكَاءُ، بِمَعْنَى إِرْسَال الدُّمُوعِ إِذَا صَاحَبَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ أَوِ الْقَوْل الْقَبِيحُ، كَقَوْل النَّائِحَةِ: يَا قَتَّال الأَْعْدَاءِ، وَيَا نَهَّابَ الأَْمْوَال، وَمَا يَقُولُهُ النِّسَاءُ مِنَ التَّعْدِيدِ، فَإِذَا تَجَرَّدَ الْبُكَاءُ عَلَى الْمَيِّتِ مِنَ الأَْمْرَيْنِ كِلَيْهِمَا لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا، بَل جَائِزًا، إِلاَّ إِذَا اجْتَمَعَتِ النِّسَاءُ لِغَرَضِ الْبُكَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مَكْرُوهًا وَإِنْ لَمْ يَقْتَرِنْ بِرَفْعِ صَوْتٍ وَلاَ قَوْلٍ قَبِيحٍ (٢) .

ثُمَّ إِنَّ طَائِفَةً مِنْهُمْ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ الْمُحَرَّمَ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ مَا كَانَ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَمَّا الْبُكَاءُ

_________

(١) أثر عمر: " سمع نواحة في المدينة. . . . " أخرجه عبد الرزاق في المصنف (٣ / ٥٥٧ - ٥٥٨ ط المجلس الأعلى) .

(٢) حاشية الدسوقي ١ / ٤٢١، ٤٢٢، وشرح الخرشي ٢ / ١٣٣.

عَلَى الْمَرِيضِ قَبْل مَوْتِهِ بِالصِّيَاحِ وَغَيْرِ الصِّيَاحِ، فَهُوَ مُبَاحٌ إِذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِقَوْلٍ قَبِيحٍ (١) . وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ جَابِرُ بْنُ عَتِيكٍ ﵁ أَنَّ رَسُول اللَّهِ ﷺ جَاءَ يَعُودُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ ثَابِتٍ، فَوَجَدَهُ قَدْ غُلِبَ عَلَيْهِ، فَصَاحَ بِهِ فَلَمْ يُجِبْهُ، فَاسْتَرْجَعَ رَسُول اللَّهِ ﷺ وَقَال: غُلِبْنَا عَلَيْكَ يَا أَبَا الرَّبِيعِ، فَصَاحَ النِّسْوَةُ وَبَكَيْنَ، فَجَعَل جَابِرٌ يُسْكِتُهُنَّ، فَقَال رَسُول اللَّهِ ﷺ: دَعْهُنَّ، فَإِذَا وَجَبَ فَلاَ تَبْكِيَنَّ بَاكِيَةٌ، قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ، وَمَا الْوُجُوبُ؟ قَال: إِذَا مَاتَ (٢)، قَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: فِيهِ إِبَاحَةُ الْبُكَاءِ عَلَى الْمَرِيضِ بِالصِّيَاحِ وَغَيْرِ الصِّيَاحِ عِنْدَ حُضُورِ وَفَاتِهِ، أَلاَ تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: فَصَاحَ النِّسْوَةُ وَبَكَيْنَ، فَجَعَل جَابِرٌ يُسْكِتُهُنَّ، وَتَسْكِيتُ جَابِرٍ لَهُنَّ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - لأَِنَّهُ كَانَ قَدْ سَمِعَ النَّهْيَ عَنِ الْبُكَاءِ عَلَى الْمَوْتَى، فَاسْتَعْمَل ذَلِكَ عَلَى عُمُومِهِ، حَتَّى قَال لَهُ رَسُول اللَّهِ ﷺ: دَعْهُنَّ يَبْكِينَ حَتَّى يَمُوتَ، فَإِذَا مَاتَ فَلاَ تَبْكِيَنَّ بَاكِيَةٌ،

_________

(١) الاستذكار ٨ / ٣١٢، والخرشي وحاشية العدوي ١ / ١٣٣، وحاشية العدوي على كفاية الطالب ١ / ٣٤٧.

(٢) حديث: " جاء يعود عبد الله بن ثابت فوجده قد غلب عليه فصاح به فلم يجبه. . . " أخرجه مالك في الموطأ (٢ / ٢٣٣ ط عيسى الحلبي) والحاكم (١ / ٣٥٢ ط دائرة المعارف العثمانية) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

يُرِيدُ: لاَ تَرْفَعْ صَوْتَهَا بِالْبُكَاءِ بَاكِيَةٌ، وَذَلِكَ مُفَسَّرٌ فِي الْحَدِيثِ (١) .

وَلَمْ تُفَصِّل طَائِفَةٌ أُخْرَى مِنْ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ هَذَا التَّفْصِيل، وَإِنَّمَا عَمَّمُوا حُكْمَ التَّحْرِيمِ عَلَى كُل بُكَاءٍ اقْتَرَنَ بِرَفْعِ الصَّوْتِ أَوْ بِقَوْلٍ قَبِيحٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ أَمْ بَعْدَهُ، وَأَوَّلُوا الْحَدِيثَ السَّابِقَ بِأَنَّ صِيَاحَ النِّسَاءِ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَابِتٍ لَمْ يَكُنْ مُقْتَرِنًا بِأَيٍّ مِنَ الأَْمْرَيْنِ، وَإِنَّمَا كَانَ اسْتِرْجَاعًا مِنْ غَيْرِ كَلاَمٍ قَبِيحٍ وَلاَ نِيَاحَةٍ (٢) .

وَذَهَبَ سَنَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ النِّيَاحَةَ إِنْ لَمْ تَقْتَرِنْ بِمُحَرَّمٍ تَكُونُ مَكْرُوهَةً إِلاَّ إِذَا اتُّخِذَتْ صَنْعَةً فَتَكُونُ حَرَامًا.

وَذَهَبَ الْقَرَافِيُّ إِلَى أَنَّ النُّوَاحَ يَكُونُ حَرَامًا وَمِنَ الْكَبَائِرِ فِي حَالَتَيْنِ:

الأُْولَى: إِذَا تَضَمَّنَ اعْتِرَاضًا عَلَى الْقَدَرِ.

وَالثَّانِيَةُ: إِذَا كَانَ مِمَّا يُبْعِدُ السَّلْوَةَ عَنْ أَهْل الْمَيِّتِ.

وَلَيْسَ مِنْ قَبِيحِ النِّيَاحَةِ ذِكْرُ دِينِ الْمَيِّتِ وَأَمْرُ أَهْلِهِ بِالصَّبْرِ وَالاِحْتِسَابِ، وَالْحَثُّ عَلَى

_________

(١) الاستذكار ٨ / ٣١٢.

(٢) المنتقى ٢ / ٢٥، وحاشية الدسوقي ١ / ٤٢٢، ومواهب الجليل ٣ / ٥٦، ٥٧.