الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٣٨
قَال الشِّيرَازِيُّ: هَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، قَال: وَقَدْ نَقَل ابْنُ جَرِيرٍ إِجْمَاعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى هَذَا، وَدَلاَئِلُهُ فِي الأَْحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ ظَاهِرَةٌ مَشْهُورَةٌ، مِنْهَا قَوْلُهُ ﷺ: اصْنَعُوا كُل شَيْءٍ إِلاَّ النِّكَاحَ (١)، وَقَدْ تَظَاهَرَتِ الأَْحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِمَعْنَاهُ، مَعَ الإِِْجْمَاعِ (٢) .
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (حَيْضٌ ف ٤٢) .
_________
(١) حديث: " اصنعوا كل شيء إلا النكاح ". أخرجه مسلم (١ / ٢٤٦) .
(٢) المجموع ٢ / ٥٤٣.
مُضَارَبَةٌ
التَّعْرِيفُ:
١ - الْمُضَارَبَةُ فِي اللُّغَةِ مُفَاعَلَةٌ مِنْ ضَرَبَ فِي الأَْرْضِ: إِذَا سَارَ فِيهَا، وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَْرْضِ﴾ (١) وَهِيَ: أَنْ تُعْطِيَ إِنْسَانًا مِنْ مَالِكَ مَا يَتَّجِرُ فِيهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَكُمَا، أَوْ يَكُونَ لَهُ سَهْمٌ مَعْلُومٌ مِنَ الرِّبْحِ (٢) .
وَتَسْمِيَةُ الْمُضَارَبَةِ بِهَذَا الاِسْمِ فِي لُغَةِ أَهْل الْعِرَاقِ، أَمَّا أَهْل الْحِجَازِ فَيُسْمَوُنَّ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ قِرَاضًا أَوْ مُقَارَضَةً، قَال الزَّمَخْشَرِيُّ: أَصْلُهَا مِنَ الْقَرْضِ فِي الأَْرْضِ وَهُوَ قُطْعُهَا بِالسَّيْرِ فِيهَا (٣) .
وَاخْتَارَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ التَّسْمِيَةَ بِالْمُضَارَبَةِ، وَاخْتَارَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ التَّسْمِيَةَ بِالْقِرَاضِ (٤) .
_________
(١) سورة المزمل / ٢٠.
(٢) لسان العرب.
(٣) لسان العرب، والقاموس المحيط.
(٤) بدائع الصنائع ٦ / ٧٩، والاختيار ٢ / ١٩، والشرح الصغير ٣ / ٦٨١، وروضة الطالبين ٥ / ١١٧، وكشاف القناع ٣ / ٥٠٨.
وَهِيَ فِي اصْطِلاَحِ الْحَنَفِيَّةِ: عَقْدُ شَرِكَةٍ فِي الرِّبْحِ بِمَالٍ مِنْ جَانِبٍ، وَعَمَلٍ مِنْ جَانِبٍ (١)،.
وَلاَ تَخْرَجُ تَعْرِيفَاتُ الْمَذَاهِبِ الأُْخْرَى عَنْ هَذَا الْمَعْنَى (٢) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الإِِْبْضَاعُ
٢ - الإِِْبْضَاعُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ أَبْضَعَ، يُقَال أَبْضَعَ الشَّيْءَ أَيْ جَعَلَهُ بِضَاعَةً، وَهِيَ مَا يُتَّجَرُ فِيهِ، وَيُقَال: أَبْضَعْتَهُ غَيْرِي: جَعَلْتُهُ لَهُ بِضَاعَةً وَاسْتَبْضَعْتُهُ: جَعَلْتُهُ بِضَاعَةً لِنَفْسِي (٣) .
وَالإِِْبْضَاعُ فِي الاِصْطِلاَحِ: بَعْثُ الْمَال مَعَ مَنْ يَتَّجِرُ فِيهِ مُتَبَرِّعًا (٤) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلًّا مِنَ الْمُضَارَبَةِ وَالإِِْبْضَاعِ أَخْذُ مَالٍ مِنْ مَالِكِهِ لِيَتَّجِرَ فِيهِ آخِذُهُ، لَكِنَّ آخِذَ الْمَال فِي الْمُضَارَبَةِ لَهُ جُزْءٌ مِنَ الرِّبْحِ بِحَسَبِ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ، فَهُوَ شَرِيكٌ فِيمَا يَكُونُ مِنْ رِبْحِ التِّجَارَةِ، أَمَّا فِي الإِِْبْضَاعِ فَلاَ شَيْءَ لَهُ
_________
(١) رد المحتار ٤ / ٤٨٣.
(٢) كشاف القناع ٣ / ٥٠٨، وحاشية الدسوقي ٣ / ٥١٧، ومغني المحتاج ٢ / ٣٠٩ - ٣١٠.
(٣) المصباح المنير، والمعجم الوسيط.
(٤) مغني المحتاج ٢ / ٣١٢.
مِنَ الرِّبْحِ، وَهُوَ مُتَبَرِّعٌ بِعَمَلِهِ، وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْمَال.
ب - الْقَرْضُ
٣ - الْقَرْضُ فِي اللُّغَةِ: مَا تُعْطِيهِ غَيْرَكَ مِنَ الْمَال لِتَتَقَاضَاهُ، وَهُوَ اسْمٌ مِنَ الإِِْقْرَاضِ، يُقَال: أَقْرَضْتُهُ الْمَال إِقْرَاضًا، وَاسْتَقْرَضَ: طَلَبَ الْقَرْضَ، وَاقْتَرَضَ: أَخَذَ الْقَرْضَ (١) .
وَالْقَرْضُ فِي الاِصْطِلاَحِ: دَفْعُ مَالٍ إِرْفَاقًا لِمَنْ يَنْتَفِعُ بِهِ وَيَرُدُّ بَدَلَهُ (٢) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْمُضَارَبَةِ وَالْقَرْضِ: أَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا دَفْعَ الْمَال إِلَى الْغَيْرِ، إِلاَّ أَنَّهُ فِي الْقَرْضِ عَلَى وَجْهِ الضَّمَانِ، وَفِي الْمُضَارَبَةِ عَلَى وَجْهِ الأَْمَانَةِ.
ج - الشَّرِكَةُ
٤ - الشَّرِكَةُ فِي اللُّغَةِ: عَقْدٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ لِلْقِيَامِ بِعَمَلٍ مُشْتَرَكٍ، وَهِيَ فِي الأَْصْل مَصْدَرُ الْفِعْل شَرِكَ، يُقَال: شَرِكْتُهُ فِي الأَْمْرِ أَشْرَكُهُ شِرْكًا وَشَرِكَةً: إِذَا صِرْتَ لَهُ شَرِيكًا، وَالاِسْمُ الشِّرْكُ (٣) .
_________
(١) المصباح المنير وقواعد الفقه للبركتي.
(٢) كشاف القناع ٣ / ٣١٢.
(٣) لسان العرب، والمصباح المنير، والمعجم الوسيط.
وَالشَّرِكَةُ فِي الاِصْطِلاَحِ: الْخِلْطَةُ وَثُبُوتُ الْحِصَّةِ (١)، أَوْ: ثُبُوتُ الْحَقِّ فِي شَيْءٍ لاِثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ عَلَى جِهَةِ الشُّيُوعِ (٢) .
وَالصِّلَةُ أَنَّ الشَّرِكَةَ أَعَمُّ مِنَ الْمُضَارَبَةِ.
مَشْرُوعِيَّةُ الْمُضَارَبَةِ
٥ - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْمُضَارَبَةِ وَجِوَازِهَا، وَذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الرُّخْصَةِ أَوِ الاِسْتِحْسَانِ (٣)، فَالْقِيَاسُ أَنَّهَا لاَ تَجُوزُ، لأَِنَّهَا اسْتِئْجَارٌ بِأَجْرٍ مَجْهُولٍ، بَل بِأَجْرٍ مَعْدُومٍ وَلِعَمَلٍ مَجْهُولٍ، وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ تَرَكُوا الْقِيَاسَ وَأَجَازُوا الْمُضَارَبَةَ تَرَخُّصًا أَوِ اسْتِحْسَانًا لأَِدِلَّةٍ قَامَتْ عِنْدَهُمْ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْمُضَارَبَةِ، مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الْكَاسَانِيُّ حَيْثُ قَال: تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ وَالإِِْجْمَاعِ.
أَمَّا الْكِتَابُ الْكَرِيمُ فَقَوْلُهُ عَزَّ شَأْنُهُ: ﴿وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَْرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْل اللَّهِ﴾ (٤) . وَالْمُضَارِبُ يَضْرِبُ فِي الأَْرْضِ يَبْتَغِي مِنْ فَضْل اللَّهِ ﷿.
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵄
_________
(١) الاختيار ٣ / ١١.
(٢) مغني المحتاج ٢ / ٢١١.
(٣) بدائع الصنائع ٦ / ٧٩، ومواهب الجليل ٥ / ٣٥٦، ونهاية المحتاج ٥ / ٢١٨، وكشاف القناع ٣ / ٥٠٧.
(٤) سورة المزمل / ٢٠.
أَنَّهُ قَال: كَانَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ﵁ إِذَا دَفَعَ مَالًا مُضَارَبَةً اشْتَرَطَ عَلَى صَاحِبِهِ أَنْ لاَ يَسْلُكَ بِهِ بَحْرًا، وَلاَ يَنْزِل بِهِ وَادِيًا، وَلاَ يَشْتَرِيَ بِهِ ذَاتَ كَبِدٍ رَطْبَةٍ، فَإِِنْ فَعَل فَهُوَ ضَامِنٌ، فَرُفِعَ شَرْطُهُ إِلَى رَسُول اللَّهِ ﷺ فَأَجَازَهُ (١) وَكَذَا بُعِثَ رَسُول اللَّهِ ﷺ وَالنَّاسُ يَتَعَاقَدُونَ الْمُضَارَبَةَ، فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ تَقْرِيرٌ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَالتَّقْرِيرُ أَحَدُ وُجُوهِ السُّنَّةِ.
وَأَمَّا الإِِْجْمَاعُ: فَإِِنَّهُ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ ﵃ أَنَّهُمْ دَفَعُوا مَال الْيَتِيمِ مُضَارَبَةً، مِنْهُمْ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ ﵃، وَلَمْ يُنْقَل أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْرَانِهِمْ أَحَدٌ، وَمِثْلُهُ يَكُونُ إِجْمَاعًا، وَعَلَى هَذَا تَعَامَل النَّاسُ مِنْ لَدُنْ رَسُول اللَّهِ ﷺ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ مِنْ أَحَدٍ، وَإِِجْمَاعُ أَهْل كُل عَصْرٍ حُجَّةٌ، فَتُرِكَ بِهِ الْقِيَاسُ (٢) .
وَقَالُوا فِي حِكْمَتِهَا: شُرِعَتْ لأَِنَّ الضَّرُورَةَ دَعَتْ إِلَيْهَا، لِحَاجَةِ النَّاسِ إِلَى التَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِهِمْ وَتَنْمِيَتِهَا بِالتِّجَارَةِ فِيهَا، وَلَيْسَ كُل أَحَدٍ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، فَاضْطُرَّ فِيهَا إِلَى
_________
(١) حديث ابن عباس: " أن العباس بن عبد المطلب إذا دفع مالًا مضاربة اشترط على صاحبه. . . ". أخرجه البيهقي (٦ / ١١١) وضعف إسناده.
(٢) بدائع الصنائع ٦ / ٧٩.
اسْتِنَابَةِ غَيْرِهِ، وَلَعَلَّهُ لاَ يَجِدُ مَنْ يَعْمَل لَهُ فِيهَا بِإِِجَارَةٍ، لِمَا جَرَتْ عَادَةُ النَّاسِ فِيهِ فِي ذَلِكَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ، فَرُخِّصَ فِيهَا لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ، وَاسْتُخْرِجَتْ بِسَبَبِ هَذِهِ الْعِلَّةِ مِنَ الإِِْجَارَةِ الْمَجْهُولَةِ عَلَى نَحْوِ مَا رُخِّصَ فِيهِ فِي الْمُسَاقَاةِ (١) .
وَقَال الْكَاسَانِيُّ: إِنَّ الإِِْنْسَانَ قَدْ يَكُونُ لَهُ مَالٌ لَكِنَّهُ لاَ يَهْتَدِي إِلَى التِّجَارَةِ، وَقَدْ يَهْتَدِي إِلَى التِّجَارَةِ لَكِنَّهُ لاَ مَال لَهُ، فَكَانَ فِي شَرْعِ هَذَا الْعَقْدِ دَفْعُ الْحَاجَتَيْنِ، وَاللَّهُ تَعَالَى مَا شَرَعَ الْعُقُودَ إِلاَّ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ وَدَفْعِ حَوَائِجِهِمْ (٢) .
صِفَّةُ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ
٦ - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُضَارَبَةَ مِنَ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ تَنْفَسِخُ بِفَسْخِ أَحَدِهِمَا أَيَّهِمَا كَانَ، لأَِنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِي مَال غَيْرِهِ بِإِِذْنٍ فَهُوَ كَالْوَكِيل، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ مَا قَبْل التَّصَرُّفِ وَبَعْدَهُ (٣) .
وَيَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ لِجَوَازِ الْفَسْخِ عِلْمَ الطَّرَفِ الآْخَرِ بِالْفَسْخِ، وَأَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَال عَيْنًا وَقْتَ الْفَسْخِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ (٤) .
_________
(١) مواهب الجليل ٥ / ٣٥٦، وكشاف القناع ٣ / ٥٠٧.
(٢) بدائع الصنائع ٦ / ٧٩.
(٣) بدائع الصنائع ٦ / ١٠٩، ومغني المحتاج ٢ / ٣١٩، والمغني ٥ / ٦٤.
(٤) بدائع الصنائع ٦ / ١٠٩.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَتَوَقَّفُ فَسْخُ أَحَدِ طَرَفَيِ الْمُضَارَبَةِ عَلَى حُضُورِ صَاحِبِهِ أَوْ رِضَاهُ، بَل يَجُوزُ وَلَوْ فِي غَيْبَةِ الآْخَرِ (١) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لِكُلٍّ مِنْ رَبِّ الْمَال وَالْعَامِل فَسْخُ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ قَبْل الشُّرُوعِ فِي شِرَاءِ السِّلَعِ بِالْمَال، وَلِرَبِّ الْمَال فَقَطْ فَسْخُ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ إِنْ تَزَوَّدَ الْعَامِل مِنْ مَال الْقِرَاضِ وَلَمْ يَشْرَعْ فِي السَّفَرِ، فَإِِنْ عَمِل الْمُضَارِبُ بِالْمَال فِي الْحَضَرِ أَوْ شَرَعَ فِي السَّفَرِ فَيَبْقَى الْمَال تَحْتَ يَدِ الْعَامِل إِلَى نَضُوضِ الْمَال بِبَيْعِ السِّلَعِ، وَلاَ كَلاَمَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي فَسْخِ الْمُضَارَبَةِ (٢) .
الْمُضَارَبَةُ الْمُطْلَقَةُ وَالْمُقَيَّدَةُ:
٧ - قَسَّمَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ الْمُضَارَبَةَ قِسْمَيْنِ:
أ - الْمُضَارَبَةُ الْمُطْلَقَةُ وَهِيَ أَنْ يَدْفَعَ رَبُّ الْمَال لِلْعَامِل فِي الْمُضَارَبَةِ رَأْسَ الْمَال مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ الْعَمَل أَوِ الْمَكَانِ أَوِ الزَّمَانِ أَوْ صِفَةِ الْعَمَل أَوْ مَنْ يُعَامِلُهُ.
ب - الْمُضَارَبَةُ الْمُقَيَّدَةُ وَهِيَ الَّتِي يُعَيِّنُ فِيهَا رَبُّ الْمَال لِلْعَامِل شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ.
وَقَالُوا: إِنَّ تَصْرِفَ الْمُضَارِبِ فِي كُلٍّ مِنَ
_________
(١) مغني المحتاج ٢ / ٣١٩، وروضة الطالبين ٥ / ١٤١.
(٢) الشرح الصغير ٣ / ٧٠٥ - ٧٠٦.
النَّوْعَيْنِ يَنْقَسِمُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أ - قِسْمٌ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَعْمَلَهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى التَّنْصِيصِ عَلَيْهِ وَلاَ إِلَى قَوْل: اعْمَل بِرَأْيِكَ.
ب - قِسْمٌ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمَل وَلَوْ قِيل لَهُ: اعْمَل بِرَأْيِكَ، إِلاَّ بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ.
ج - قِسْمٌ لَهُ أَنْ يَعْمَلَهُ إِذَا قِيل لَهُ: اعْمَل بِرَأْيِكَ، وَإِِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ.
د - قِسْمٌ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَهُ رَأْسًا وَإِِنْ نَصَّ عَلَيْهِ (١) .
وَقَال الْمُوصِلِيُّ: الْمُضَارَبَةُ نَوْعَانِ، عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ. وَالْعَامَّةُ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَدْفَعَ الْمَال إِلَى الْعَامِل مُضَارَبَةً، وَلاَ يَقُول لَهُ: اعْمَل بِرَأْيِكَ، فَيَمْلِكَ جَمِيعَ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي يَحْتَاجُ إِلَيْهَا فِي التِّجَارَةِ، وَيَدْخُل فِيهِ الرَّهْنُ وَالاِرْتِهَانُ وَالاِسْتِئْجَارُ وَالْحَطُّ بِالْعَيْبِ وَالاِحْتِيَال بِمَال الْمُضَارَبَةِ وَكُل مَا يَعْمَلُهُ التُّجَّارُ - غَيْرَ التَّبَرُّعَاتِ - وَالْمُضَارَبَةُ وَالشَّرِكَةُ وَالْخَلْطُ وَالاِسْتِدَانَةُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَقُول لَهُ: اعْمَل بِرَأْيِكَ، فَيَجُوزُ لَهُ مَا ذَكَرَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْخَلْطِ لأَِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُهُ التُّجَّارُ، وَلَيْسَ لَهُ
_________
(١) بدائع الصنائع ٦ / ٨٧.
الإِِْقْرَاضُ وَالتَّبَرُّعَاتُ، لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنَ التِّجَارَةِ فَلاَ يَتَنَاوَلُهُ الأَْمْرُ.
أَمَّا الْمُضَارَبَةُ الْخَاصَّةُ فَهِيَ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَخُصَّهُ بِبَلَدٍ، فَيَقُول: عَلَى أَنْ تَعْمَل بِالْكُوفَةِ أَوِ الْبَصْرَةِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَخُصَّهُ بِشَخْصٍ بِعَيْنِهِ، بِأَنْ يَقُول: عَلَى أَنْ تَبِيعَ مِنْ فُلاَنٍ وَتَشْتَرِيَ مِنْهُ، فَلاَ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ مَعَ غَيْرِهِ لأَِنَّهُ قَيْدٌ مَفِيدٌ، لِجَوَازِ وُثُوقِهِ بِهِ فِي الْمُعَامَلاَتِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَخُصَّهُ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ التِّجَارَاتِ بِأَنْ يَقُول لَهُ: عَلَى أَنْ تَعْمَل بِهِ مُضَارَبَةً فِي الْبَزِّ أَوْ فِي الطَّعَامِ أَوِ الصَّرْفِ وَنَحْوِهِ.
وَفِي كُل ذَلِكَ يَتَقَيَّدُ بِأَمْرِهِ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ مُخَالَفَتُهُ لأَِنَّهُ مُقَيَّدٌ (١) .
وَلَمْ يُقَسِّمْ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْمُضَارَبَةَ إِلَى مُطْلَقَةٍ وَمُقَيَّدَةٍ أَوْ عَامَّةٍ وَخَاصَّةٍ - كَمَا فَعَل الْحَنَفِيَّةُ - وَلَكِنَّهُمْ أَوْرَدُوا مَا شَمِلَهُ تَقْسِيمُ الْحَنَفِيَّةِ فِي أَرْكَانِ الْمُضَارَبَةِ وَشُرُوطِهَا أَوْ فِي مَسَائِل أُخْرَى، وَخَالَفُوا الْحَنَفِيَّةَ أَوْ وَافَقُوهُمْ.
أَرْكَانُ الْمُضَارَبَةِ
٨ - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ أَرْكَانَ
_________
(١) الاختيار لتعليل المختار ٣ / ٢١.