الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٢٨
الْجَوْفِ مَا يَلِي: -
أ - أَنْ يَكُونَ الدَّاخِل إِلَى الْجَوْفِ، مِنَ الْمَنَافِذِ الْوَاسِعَةِ - كَمَا قَيَّدَهُ بِذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ (١) - وَالْمَفْتُوحَةِ - كَمَا قَال الشَّافِعِيَّةُ (٢) - أَيِ: الْمَخَارِقِ الطَّبِيعِيَّةِ الأَْصْلِيَّةِ فِي الْجِسْمِ، وَالَّتِي تُعْتَبَرُ مُوَصِّلَةً لِلْمَادَّةِ مِنَ الْخَارِجِ إِلَى الدَّاخِل، كَالْفَمِ وَالأَْنْفِ وَالأُْذُنِ.
وَقَدِ اسْتُدِل لِذَلِكَ، بِالاِتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ مَنِ اغْتَسَل فِي مَاءٍ، فَوَجَدَ بَرْدَهُ فِي بَاطِنِهِ لاَ يُفْطِرُ، وَمَنْ طَلَى بَطْنَهُ بِدُهْنٍ لاَ يَضُرُّ، لأَِنَّ وُصُولَهُ إِلَى الْجَوْفِ بِتَشَرُّبٍ (٣) .
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْحَنَابِلَةُ ذَلِكَ، بَل اكْتَفَوْا بِتَحَقُّقِ وُصُولِهِ إِلَى الْحَلْقِ وَالْجَوْفِ، وَالدِّمَاغُ جَوْفٌ (٤) .
ب - أَنْ يَكُونَ الدَّاخِل إِلَى الْجَوْفِ مِمَّا يُمْكِنُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ، كَدُخُول الْمَطَرِ وَالثَّلْجِ بِنَفْسِهِ حَلْقَ الصَّائِمِ إِذَا لَمْ يَبْتَلِعْهُ بِصُنْعِهِ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ - كَالذُّبَابِ يَطِيرُ إِلَى الْحَلْقِ، وَغُبَارِ الطَّرِيقِ - لَمْ يُفْطِرْ إِجْمَاعًا (٥) .
وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ الْفَسَادُ،
_________
(١) القوانين الفقهية ص ٨٠.
(٢) شرح المحلي على المنهاج ٢ / ٥٦، والإقناع ٢ / ٣٢٨.
(٣) رد المحتار على الدر المختار ٢ / ٩٨، وشرح المحلي على المنهاج ٢ / ٥٩، والإقناع ٢ / ٣٢٩.
(٤) كشاف القناع ٢ / ٣١٨.
(٥) القوانين الفقهية ص ٨٠.
لِوُصُول الْمُفْطِرِ إِلَى جَوْفِهِ.
وَجْهُ الاِسْتِحْسَانِ، أَنَّهُ لاَ يُسْتَطَاعُ الاِحْتِرَازُ عَنْهُ، فَأَشْبَهَ الدُّخَانَ (١) .
وَالْجَوْفُ: هُوَ الْبَاطِنُ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِمَّا يُحِيل الْغِذَاءَ وَالدَّوَاءَ، أَيْ يُغَيِّرُهُمَا كَالْبَطْنِ وَالأَْمْعَاءِ، أَمْ كَانَ مِمَّا يُحِيل الدَّوَاءَ فَقَطْ كَبَاطِنِ الرَّأْسِ أَوِ الأُْذُنِ، أَمْ كَانَ مِمَّا لاَ يُحِيل شَيْئًا كَبَاطِنِ الْحَلْقِ (٢) .
قَال النَّوَوِيُّ: جَعَلُوا الْحَلْقَ كَالْجَوْفِ، فِي بُطْلاَنِ الصَّوْمِ بِوُصُول الْوَاصِل إِلَيْهِ، وَقَال الإِْمَامُ: إِذَا جَاوَزَ الشَّيْءُ الْحُلْقُومَ أَفْطَرَ.
قَال: وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا - بَاطِنُ الدِّمَاغِ وَالأَْمْعَاءُ وَالْمَثَانَةُ مِمَّا يُفْطِرُ الْوُصُول إِلَيْهِ (٣) .
ج - وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الدَّاخِل إِلَى الْجَوْفِ مُغَذِّيًا، فَيَفْسُدُ الصَّوْمُ بِالدَّاخِل إِلَى الْجَوْفِ، مِمَّا يُغَذِّي أَوْ لاَ يُغَذِّي، كَابْتِلاَعِ التُّرَابِ وَنَحْوِهِ، وَإِنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ، قَال ابْنُ رُشْدٍ: وَتَحْصِيل مَذْهَبِ مَالِكٍ، أَنَّهُ يَجِبُ الإِْمْسَاكُ عَمَّا يَصِل إِلَى الْحَلْقِ، مِنْ أَيِّ الْمَنَافِذِ وَصَل،
_________
(١) الهداية بشروحها ٢ / ٢٥٨، والدر المختار ٢ / ٩٧، والمغني ٣ / ٥٠.
(٢) الإقناع وحاشية البجيرمي عليه ٢ / ٣٢٨.
(٣) روضة الطالبين ٢ / ٣٥٦.
مُغَذِّيًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُغَذٍّ (١) .
د - وَشُرِطَ كَوْنُ الصَّائِمِ قَاصِدًا ذَاكِرًا لِصَوْمِهِ، أَمَّا لَوْ كَانَ نَاسِيًا أَنَّهُ صَائِمٌ، فَلاَ يَفْسُدُ صَوْمُهُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَال: مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ، فَأَكَل أَوْ شَرِبَ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ (٢) .
وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْفَرْضُ وَالنَّفَل لِعُمُومِ الأَْدِلَّةِ (٣) .
وَخَالَفَ مَالِكٌ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ فَذَهَبَ إِلَى أَنَّ مَنْ نَسِيَ فِي رَمَضَانَ، فَأَكَل أَوْ شَرِبَ، عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، أَمَّا لَوْ نَسِيَ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ، فَأَكَل أَوْ شَرِبَ، فَإِنَّهُ يُتِمُّ صَوْمَهُ، وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ (٤) .
هـ - وَشَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ اسْتِقْرَارَ الْمَادَّةِ فِي الْجَوْفِ، وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّ الْحَصَاةَ - مَثَلًا - تَشْغَل الْمَعِدَةَ شُغْلًا مَا وَتُنْقِصُ الْجُوعَ (٥) .
_________
(١) الاختيار ١ / ١٣٢، والإقناع بحاشية البجيرمي ٢ / ٣٢٨، وكشاف القناع ٢ / ٣١٧، وبداية المجتهد ١ / ٣٣٩، وانظر القوانين الفقهية ص ٨٠، وجواهر الإكليل ١ / ١٤٩.
(٢) حديث أبي هريرة: " من نسي وهو صائم فأكل وشرب فليتم صومه. . . ". أخرجه البخاري (الفتح ٤ / ١٥٥ ط. السلفية) ومسلم (٢ / ٨٠٩ ط. الحلبي) واللفظ لمسلم
(٣) الهداية وشروحها ٢ / ٢٥٤، والوجيز ١ / ١٠٢، وروضة الطالبين ٢ / ٣٥٦، والمغني ٣ / ٥٠ و٥١، وكشاف القناع ٢ / ٣٢٠.
(٤) القوانين الفقهية ص ٨٣.
(٥) جواهر الإكليل ١ / ١٤٩، ابن عابدين ٢ / ٩٨ - ٩٩.
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ اسْتِقْرَارَ الْمَادَّةِ فِي الْجَوْفِ إِذَا كَانَ بِاخْتِيَارِهِ.
وَعَلَى قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: لَوْ لَمْ تَسْتَقِرَّ الْمَادَّةُ، بِأَنْ خَرَجَتْ مِنَ الْجَوْفِ لِسَاعَتِهَا لاَ يَفْسُدُ الصَّوْمُ، كَمَا لَوْ أَصَابَتْهُ سِهَامٌ فَاخْتَرَقَتْ بَطْنَهُ وَنَفَذَتْ مِنْ ظَهْرِهِ، وَلَوْ بَقِيَ النَّصْل فِي جَوْفِهِ فَسَدَ صَوْمُهُ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ بِفِعْلِهِ يَفْسُدُ صَوْمُهُ، قَال الْغَزَالِيُّ: وَلَوْ كَانَ بَعْضُ السِّكِّينِ خَارِجًا (١) .
ووَشَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَزُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ أَنْ يَكُونَ الصَّائِمُ مُخْتَارًا فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ، مِنْ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ أَوْ دَوَاءٍ، فَلَوْ أُوجِرَ الْمَاءُ، أَوْ صُبَّ الدَّوَاءُ فِي حَلْقِهِ مُكْرَهًا، لَمْ يَفْسُدْ صَوْمُهُ عِنْدَهُمْ، لأَِنَّهُ لَمْ يَفْعَل وَلَمْ يَقْصِدْ.
وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الإِْفْطَارِ، فَأَكَل أَوْ شَرِبَ، فَلِلشَّافِعِيَّةِ قَوْلاَنِ مَشْهُورَانِ فِي الْفِطْرِ وَعَدَمِهِ.
أَصَحُّهُمَا: عَدَمُ الْفِطْرِ، وَعَلَّلُوا عَدَمَ الإِْفْطَارِ بِأَنَّ الْحُكْمَ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَى اخْتِيَارِهِ سَاقِطٌ، لِعَدَمِ وُجُودِ الاِخْتِيَارِ (٢) .
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لاَ يَفْسُدُ صَوْمُهُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَهُوَ كَالإِْيجَارِ (٣)، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ إِنَّ
_________
(١) تبيين الحقائق ١ / ٣٢٥ و٣٢٦، والبدائع ٢ / ٩٩ بتصرف، والدر المختار ورد المحتار ٢ / ٩٨ و٩٩، والوجيز ١ / ١٠١.
(٢) شرح المحلي على المنهاج وحاشية القليوبي عليه ٢ / ٥٧ و٥٨، والإقناع ١ / ٣٢٩.
(٣) الإيجار هو: صب الماء في حلق المريض.
اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (١) . فَإِنَّهُ عَامٌّ (٢) .
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الإِْكْرَاهَ عَلَى الإِْفْطَارِ يُفْسِدُ الصَّوْمَ، وَيَسْتَوْجِبُ الْقَضَاءَ، وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمُرَادَ مِنْ حَدِيثِ إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ رَفْعُ الْحُكْمِ، لِتَصْحِيحِ الْكَلاَمِ اقْتِضَاءً، وَالْمُقْتَضِي لاَ عُمُومَ لَهُ، وَالإِْثْمُ مُرَادٌ إِجْمَاعًا، فَلاَ تَصِحُّ إِرَادَةُ الْحُكْمِ الآْخَرِ - وَهُوَ الدُّنْيَوِيُّ - بِالْفَسَادِ (٣) .
مَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ، وَيُوجِبُ الْقَضَاءَ:
٣٩ - وَذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى الإِْخْلاَل بِأَرْكَانِهِ وَشُرُوطِهِ، وَيُمْكِنُ حَصْرُهُ فِيمَا يَلِي: -
١ - تَنَاوُل مَا لاَ يُؤْكَل فِي الْعَادَةِ.
٢ - قَضَاءُ الْوَطَرِ قَاصِرًا.
٣ - شُئُونُ الْمُعَالَجَةِ وَالْمُدَاوَاةِ.
٤ - التَّقْصِيرُ فِي حِفْظِ الصَّوْمِ وَالْجَهْل بِأَحْكَامِهِ.
٥ - الإِْفْطَارُ بِسَبَبِ الْعَوَارِضِ. أَوَّلًا: تَنَاوُل مَا لاَ يُؤْكَل عَادَةً:
_________
(١) حديث: " إن الله وضع عن أمتي الخطأ ". أخرجه ابن ماجه (١ / ٦٥٩) والحاكم (٢ / ١٩٨) من حديث ابن عباس، واللفظ لابن ماجه وصحح الحاكم إسناده ووافقه الذهبي.
(٢) كشاف القناع ٢ / ٣٢٠، والروض المربع ١ / ١٤١.
(٣) رد المحتار ٢ / ١٠٢، وانظر البدائع ٢ / ٩٦.
٤٠ - تَنَاوُل مَا لاَ يُؤْكَل عَادَةً كَالتُّرَابِ وَالْحَصَى، وَالدَّقِيقِ غَيْرِ الْمَخْلُوطِ - عَلَى الصَّحِيحِ - وَالْحُبُوبِ النِّيئَةِ، كَالْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ وَالْحِمَّصِ وَالْعَدَسِ، وَالثِّمَارِ الْفِجَّةِ الَّتِي لاَ تُؤْكَل قَبْل النُّضْجِ، كَالسَّفَرْجَل وَالْجَوْزِ، وَكَذَا تَنَاوُل مِلْحٍ كَثِيرٍ دَفْعَةً وَاحِدَةً يُوجِبُ الْقَضَاءَ دُونَ الْكَفَّارَةِ، أَمَّا إِذَا أَكَلَهُ عَلَى دَفَعَاتٍ، بِتَنَاوُل دَفْعَةٍ قَلِيلَةٍ، فِي كُل مَرَّةٍ، فَيَجِبُ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
أَمَّا فِي أَكْل نَوَاةٍ أَوْ قُطْنٍ أَوْ وَرَقٍ، أَوِ ابْتِلاَعِ حَصَاةٍ، أَوْ حَدِيدٍ أَوْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، وَكَذَا شُرْبُ مَا لاَ يُشْرَبُ مِنَ السَّوَائِل كَالْبِتْرُول فَالْقَضَاءُ دُونَ كَفَّارَةٍ لِقُصُورِ الْجِنَايَةِ بِسَبَبِ الاِسْتِقْذَارِ وَالْعِيَافَةِ وَمُنَافَاةِ الطَّبْعِ، فَانْعَدَمَ مَعْنَى الْفِطْرِ، وَهُوَ بِإِيصَال مَا فِيهِ نَفْعُ الْبَدَنِ إِلَى الْجَوْفِ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِمَّا يُتَغَذَّى بِهِ أَمْ يُتَدَاوَى بِهِ. وَلأَِنَّ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ لَيْسَتْ غِذَائِيَّةً، وَلاَ فِي مَعْنَى الْغِذَاءِ - كَمَا يَقُول الطَّحَاوِيُّ - وَلِتَحَقُّقِ الإِْفْطَارِ فِي الصُّورَةِ، وَهُوَ الاِبْتِلاَعُ (١) .
قَال ابْنُ عَبَّاسٍ ﵄ الْفِطْرُ مِمَّا دَخَل.
_________
(١) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص ٣٦٧، وانظر تبيين الطحطاوي على مراقي الفلاح ص ٣٦٧، وانظر تبيين الحقائق ١ / ٣٢٦، وانظر مراقي الفلاح ٣٦٧، والشرح الكبير للدردير ١ / ٥٢٣، وكشاف القناع ٢ / ٣١٧ وما بعدها، والإقناع وحاشية البجيرمي ٢ / ٣٢٨.
وَقَال الزَّيْلَعِيُّ: كُل مَا لاَ يُتَغَذَّى بِهِ، وَلاَ يُتَدَاوَى بِهِ عَادَةً، لاَ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ (١) .
ثَانِيًا: قَضَاءُ الْوَطَرِ أَوِ الشَّهْوَةِ عَلَى وَجْهِ الْقُصُورِ: وَذَلِكَ فِي الصُّوَرِ الآْتِيَةِ:
٤١ - أ - تَعَمُّدُ إِنْزَال الْمَنِيِّ بِلاَ جِمَاعٍ، وَذَلِكَ كَالاِسْتِمْنَاءِ بِالْكَفِّ أَوْ بِالتَّبْطِينِ وَالتَّفْخِيذِ، أَوْ بِاللَّمْسِ وَالتَّقْبِيل وَنَحْوِهِمَا فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْقَضَاءَ دُونَ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ يُوجِبُ الْقَضَاءَ وَالْكَفَّارَةَ مَعًا (٢) .
ب - الإِْنْزَال بِوَطْءِ مَيِّتَةٍ أَوْ بَهِيمَةٍ، أَوْ صَغِيرَةٍ لاَ تُشْتَهَى:
٤٢ - وَهُوَ يُفْسِدُ الصَّوْمَ، لأَِنَّ فِيهِ قَضَاءَ إِحْدَى الشَّهْوَتَيْنِ، وَأَنَّهُ يُنَافِي الصَّوْمَ، وَلاَ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، لِتَمَكُّنِ النُّقْصَانِ فِي قَضَاءِ الشَّهْوَةِ، فَلَيْسَ بِجِمَاعٍ (٣) خِلاَفًا لِلْحَنَابِلَةِ، فَإِنَّهُ لاَ فَرْقَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ كَوْنِ الْمَوْطُوءَةِ كَبِيرَةً أَوْ صَغِيرَةً، وَلاَ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالسَّهْوِ، وَلاَ بَيْنَ
_________
(١) تبيين الحقائق ١ / ٣٢٦.
(٢) شرح ابن القاسم على متن الغزي، مع حاشية البيجوري عليه ١ / ٣٠٣، والمغني بالشرح الكبير ٣ / ٤٨، والدر المختار ٢ / ١٠٤، وروضة الطالبين ٢ / ٣٦١، وكشاف القناع ٢ / ٣٢٥، ٣٢٦، والقوانين الفقهية (٨١)، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي عليه ١ / ٥٢٩، ومراقي الفلاح ٣٦٩ و٣٧٠، وشرح المحلي على المنهاج ٢ / ٥٨.
(٣) الاختيار ١ / ١٣١ و١٣٢، وحاشية القليوبي ٢ / ٥٨.
الْجَهْل وَالْخَطَأِ، وَفِي كُل ذَلِكَ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، لإِطْلاَقِ حَدِيثِ الأَْعْرَابِيِّ (١)، وَالْمَالِكِيَّةُ يُوجِبُونَ فِي ذَلِكَ الْكَفَّارَةَ، لِتَعَمُّدِ إِخْرَاجِ الْمَنِيِّ (٢) .
ج - الْمُسَاحَقَةُ بَيْنَ الْمَرْأَتَيْنِ إِذَا أَنْزَلَتْ:
٤٣ - عَمَل الْمَرْأَتَيْنِ، كَعَمَل الرِّجَال، جِمَاعٌ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ، وَلاَ قَضَاءَ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، إِلاَّ إِذَا أَنْزَلَتْ، وَلاَ كَفَّارَةَ مَعَ الإِْنْزَال، وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَعَلَّلَهُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لاَ نَصَّ فِي الْكَفَّارَةِ، وَلاَ يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى الْجِمَاعِ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَأَصَحُّ الْوَجْهَيْنِ أَنَّهُمَا لاَ كَفَّارَةَ عَلَيْهِمَا، لأَِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَيْهِ، وَلاَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، فَيَبْقَى عَلَى الأَْصْل (٣) .
د - الإِْنْزَال بِالْفِكْرِ وَالنَّظَرِ:
٤٤ - إِنْزَال الْمَنِيِّ بِالنَّظَرِ أَوِ الْفِكْرِ، فِيهِ التَّفْصِيل الآْتِي: - مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ إِلاَّ قَلِيلًا مِنْهُمْ أَنَّ الإِْنْزَال بِالْفِكْرِ - وَإِنْ طَال - وَبِالنَّظَرِ بِشَهْوَةٍ، وَلَوْ إِلَى فَرْجِ الْمَرْأَةِ مِرَارًا،
_________
(١) المغني ٣ / ٥٧، وكشاف القناع ٢ / ٣٢٤.
(٢) جواهر الإكليل ١ / ١٥٠.
(٣) مراقي الفلاح ص ٣٦٤، ورد المحتار ٢ / ١٠٠، وكشاف القناع ٢ / ٣٢٦، والمغني ٣ / ٥٩.
لاَ يُفْسِدُ الصَّوْمَ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ يُنْزِل بِهِ، لأَِنَّهُ إِنْزَالٌ مِنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةٍ، فَأَشْبَهَ الاِحْتِلاَمَ. قَال الْقَلْيُوبِيُّ: النَّظَرُ وَالْفِكْرُ الْمُحَرِّكُ لِلشَّهْوَةِ، كَالْقُبْلَةِ، فَيَحْرُمُ وَإِنْ لَمْ يُفْطِرْ بِهِ (١) .
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُ إِنْ أَمْنَى بِمُجَرَّدِ الْفِكْرِ أَوِ النَّظَرِ، مِنْ غَيْرِ اسْتِدَامَةٍ لَهُمَا، يَفْسُدُ صَوْمُهُ وَيَجِبُ الْقَضَاءُ دُونَ الْكَفَّارَةِ.
وَإِنِ اسْتَدَامَهُمَا حَتَّى أَنْزَل فَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهُ الإِْنْزَال بِهِمَا عِنْدَ الاِسْتِدَامَةِ، فَالْكَفَّارَةُ قَطْعًا، وَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهُ عَدَمَ الإِْنْزَال بِهِمَا عِنْدَ الاِسْتِدَامَةِ، فَخَالَفَ عَادَتَهُ وَأَمْنَى، فَقَوْلاَنِ فِي لُزُومِ الْكَفَّارَةِ، وَاخْتَارَ اللَّخْمِيُّ عَدَمَ اللُّزُومِ.
وَلَوْ أَمْنَى فِي أَدَاءِ رَمَضَانَ بِتَعَمُّدِ نَظْرَةٍ وَاحِدَةٍ يَفْسُدُ صَوْمُهُ وَيَجِبُ الْقَضَاءُ، وَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ وَعَدَمِهِ تَأْوِيلاَنِ، مَحَلُّهُمَا إِذَا كَانَتْ عَادَتُهُ الإِْنْزَال بِمُجَرَّدِ النَّظَرِ، وَإِلاَّ فَلاَ كَفَّارَةَ اتِّفَاقًا (٢) .
وَقَال الأَْذْرَعِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَتَبِعَهُ شَيْخُ الْقَلْيُوبِيِّ، وَالرَّمْلِيُّ: يُفْطِرُ إِذَا عَلِمَ الإِْنْزَال
_________
(١) حاشية القليوبي ٢ / ٥٩، وانظر الدر المختار ٢ / ٩٨، والإقناع للشربيني الخطيب ٢ / ٣٣١.
(٢) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه ١ / ٥٢٩، وجواهر الإكليل ١ / ١٥٠، والقوانين الفقهية ص ٨١، وانظر منح الجليل ١ / ٤٠٢، ٤٠٣.
بِالْفِكْرِ وَالنَّظَرِ، وَإِنْ لَمْ يُكَرِّرْهُ (١) .
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ النَّظَرِ وَبَيْنَ الْفِكْرِ، فَفِي النَّظَرِ إِذَا أَمْنَى يَفْسُدُ الصَّوْمُ، لأَِنَّهُ أَنْزَل بِفِعْلٍ يَتَلَذَّذُ بِهِ، وَيُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، فَأَفْسَدَ الصَّوْمَ، كَالإِْنْزَال بِاللَّمْسِ، وَالْفِكْرُ لاَ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، بِخِلاَفِ النَّظَرِ.
وَلَوْ أَمْذَى بِتَكْرَارِ النَّظَرِ، فَظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ لاَ يُفْطِرُ بِهِ، لأَِنَّهُ لاَ نَصَّ فِي الْفِطْرِ بِهِ، وَلاَ يُمْكِنُ قِيَاسُهُ عَلَى إِنْزَال الْمَنِيِّ، لِمُخَالَفَتِهِ إِيَّاهُ فِي الأَْحْكَامِ، فَيَبْقَى عَلَى الأَْصْل (٢) .
وَإِذَا لَمْ يُكَرِّرِ النَّظَرَ لاَ يُفْطِرُ، سَوَاءٌ أَمْنَى أَوْ أَمْذَى، وَهُوَ الْمَذْهَبُ، لِعَدَمِ إِمْكَانِ التَّحَرُّزِ، وَنَصَّ أَحْمَدُ: يُفْطِرُ بِالْمَنِيِّ لاَ بِالْمَذْيِ (٣) .
أَمَّا الْفِكْرُ، فَإِنَّ الإِْنْزَال بِهِ لاَ يُفْسِدُ الصَّوْمَ. وَاخْتَارَ ابْنُ عَقِيلٍ: الإِْفْسَادَ بِهِ، لأَِنَّ الْفِكْرَ يَدْخُل تَحْتَ الاِخْتِيَارِ، لَكِنَّ جُمْهُورَهُمُ اسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁: إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لأُِمَّتِي عَمَّا وَسْوَسَتْ أَوْ حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَل بِهِ أَوْ تَكَلَّمْ (٤) وَلأَِنَّهُ لاَ نَصَّ فِي الْفِطْرِ بِهِ وَلاَ
_________
(١) حاشية القليوبي على شرح المحلي على المنهاج ٢ / ٥٩.
(٢) المغني ٣ / ٤٩، وانظر أيضا: الروض المربع ١ / ١٤٠.
(٣) الإنصاف ٣ / ٣٠٢.
(٤) حديث أبي هريرة " إن الله تجاوز لأمتي. . . ". أخرجه البخاري (الفتح ١١ / ٥٤٩) ومسلم (١ / ١١٧) واللفظ للبخاري.