الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٢٨ الصفحة 41

الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٢٨

الاِضْطِرَارُ إِلَى الْكَذِبِ:

يَحِل الْكَذِبُ فِي أُمُورٍ ثَبَتَتْ بِالسُّنَّةِ، فَفِي حَدِيثِ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُول اللَّهِ ﷺ وَهُوَ يَقُول: لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَيَقُول خَيْرًا وَيُنْمِي خَيْرًا. (١)

قَال ابْنُ شِهَابٍ - أَحَدُ رُوَاةِ هَذَا الْحَدِيثِ -: وَلَمْ أَسْمَعْ يُرَخَّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُول النَّاسُ كَذِبٌ إِلاَّ فِي ثَلاَثٍ: الْحَرْبُ وَالإِْصْلاَحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَحَدِيثُ الرَّجُل امْرَأَتَهُ وَحَدِيثُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا.

قَال الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْكَذِبَ يَصِيرُ مَأْذُونًا فِيهِ وَيُثَابُ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا عَلَى قَدْرِ رُتْبَةِ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ مِنَ الْوُجُوبِ فِي حِفْظِ الأَْمْوَال وَالأَْبْضَاعِ وَالأَْرْوَاحِ (٢) .

الاِضْطِرَارُ إِلَى التَّقِيَّةِ:

تَجُوزُ التَّقِيَّةُ عِنْدَ الاِضْطِرَارِ إِلَيْهَا دَفْعًا لِتَلَفِ النَّفْسِ بِغَيْرِ وَجْهِ حَقٍّ.

قَال السَّرَخْسِيُّ: لاَ بَأْسَ بِاسْتِعْمَال التَّقِيَّةِ

_________

(١) حديث أم كلثوم: " ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس. ". أخرجه مسلم (٤ / ٢٠١١) .

(٢) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام (١ / ٩٦ - ٩٧ ط. دار الكتب العلمية) .

وَإِنَّهُ يُرَخَّصُ لَهُ فِي تَرْكِ مَا هُوَ فَرْضٌ عِنْدَ خَوْفِ التَّلَفِ عَلَى نَفْسِهِ (١) .

وَلِلتَّفْصِيل فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْعَمَل بِالتَّقِيَّةِ: (ر: تَقِيَّةٌ فِقْرَةُ ٥) .

١٩ - الْقَوَاعِدُ الْفِقْهِيَّةُ النَّاظِمَةُ لأَِحْكَامِ الضَّرُورَةِ:

وَضَعَ الْفُقَهَاءُ مَجْمُوعَةً مِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ لِضَبْطِ أَحْكَامِ الضَّرُورَةِ، وَتَوْضِيحِ مَعَالِمِهَا الْعَامَّةِ وَتَنْظِيمِ آثَارِهَا، وَأَهَمُّ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ هِيَ:

الْمَشَقَّةُ تَجْلُبُ التَّيْسِيرَ (٢) .

الأَْصْل فِي هَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَوْله تَعَالَى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ (٣) وقَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا جَعَل عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ (٤) وَيَتَخَرَّجُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ جَمِيعُ رُخَصِ الشَّرْعِ وَتَخْفِيفَاتِهِ.

هَذَا وَقَدْ خَرَجَ عَنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَا نُصَّ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَشَقَّةٌ وَعَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى (٥) . قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: الْمَشَقَّةُ وَالْحَرَجُ إِنَّمَا يُعْتَبَرَانِ فِي مَوْضِعٍ لاَ نَصَّ فِيهِ، وَأَمَّا مَعَ

_________

(١) المبسوط ٢٤ / ٤٧، وتفسير القرطبي ٤ / ٥٧.

(٢) غمز عيون البصائر ١ / ٢٤٥ وما بعدها والأشباه للسيوطي ص ٧٦ - ٨٠.

(٣) سورة البقرة / ١٨٥.

(٤) سورة الحج / ٧٨.

(٥) شرح المجلة للآتاسي ١ / ٥٠.

النَّصِّ بِخِلاَفِهِ فَلاَ (١) .

وَلِلتَّفْصِيل فِي أَحْكَامِ هَذِهِ الأَْسْبَابِ وَضَوَابِطِ الْمَشَقَّةِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي التَّخْفِيفِ: (ر: تَيْسِيرٌ. فِقْرَةُ ٣٢ - ٤١) .

إِذَا ضَاقَ الأَْمْرُ اتَّسَعَ:

هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مُسْتَخْرَجَةٌ مِنَ الْقَاعِدَةِ الَّتِي قَبْلَهَا وَبَيْنَهُمَا تَقَارُبٌ فِي الْمَآل، وَمَعْنَاهَا أَنَّهُ إِذَا ظَهَرَتْ مَشَقَّةٌ فِي أَمْرٍ يُرَخَّصُ فِيهِ وَيُوَسَّعُ.

وَمِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ:

أ - شَهَادَةُ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فِي الْحَمَّامَاتِ وَالْمَوَاضِعِ الَّتِي لاَ يَحْضُرُهَا الرِّجَال دَفْعًا لِحَرَجِ ضَيَاعِ الْحُقُوقِ.

ب - قَبُول شَهَادَةِ الْقَابِلَةِ عَلَى الْوِلاَدَةِ ضَرُورَةَ حِفْظِ الْوَلَدِ وَنَسَبِهِ.

ح - إِبَاحَةُ خُرُوجِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا مِنْ بَيْتِهَا أَيَّامَ عِدَّتِهَا إِذَا اضْطُرَّتْ لِلاِكْتِسَابِ (٢) .

الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ:

قَاعِدَةٌ أُصُولِيَّةٌ مَأْخُوذَةٌ مِنَ النَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: ﴿إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ﴾ (٣) وَالاِضْطِرَارُ: الْحَاجَةُ الشَّدِيدَةُ، وَالْمَحْظُورُ

_________

(١) غمز عيون البصائر ١ / ٢٧١.

(٢) شرح المجلة للآتاسي ١ / ٥١، وغمز عيون البصائر ١ / ٢٧٣.

(٣) سورة الأنعام / ١١٩.

الْمَنْهِيُّ عَنْ فِعْلِهِ، يَعْنِي أَنَّ الْمَمْنُوعَ شَرْعًا يُبَاحُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ (١) .

وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ تَتَعَلَّقُ أَصْلًا بِقَاعِدَةِ (الضَّرَرُ يُزَال) وَمِنْ فُرُوعِهَا: جَوَازُ أَكْل الْمَيْتَةِ عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

الضَّرُورَاتُ تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا:

مَعْنَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ: أَنَّ كُل فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ جُوِّزَ لِلضَّرُورَةِ فَالتَّجْوِيزُ عَلَى قَدْرِهَا وَلاَ يَتَجَاوَزُ عَنْهَا (٢) .

وَمِنْ فُرُوعِهَا: أَنَّ الْكُفَّارَ حَال الْحَرْبِ إِذَا تَتَرَّسُوا بِأَطْفَال الْمُسْلِمِينَ فَلاَ بَأْسَ بِالرَّمْيِ عَلَيْهِمْ لِضَرُورَةِ إِقَامَةِ فَرْضِ الْجِهَادِ، لَكِنَّهُمْ يَقْصِدُونَ الْكُفَّارَ دُونَ الأَْطْفَال، وَلِلْفُقَهَاءِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ: (ر: دِيَاتٌ وَكَفَّارَاتٌ) .

مَا جَازَ لِعُذْرٍ بَطَل بِزَوَالِهِ:

هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مُكَمِّلَةٌ لِلْقَاعِدَةِ السَّابِقَةِ، فَالْقَاعِدَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ يُعْمَل بِهَا أَثْنَاءَ قِيَامِ الضَّرُورَةِ، وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ تُبَيِّنُ مَا يَجِبُ فِعْلُهُ بَعْدَ زَوَال حَال الضَّرُورَةِ، وَمَعْنَاهَا أَنَّ مَا جَازَ فِعْلُهُ بِسَبَبِ عُذْرٍ مِنَ الأَْعْذَارِ، أَوْ عَارِضٍ طَارِئٍ مِنَ الْعَوَارِضِ فَإِنَّهُ تَزُول مَشْرُوعِيَّتُهُ

_________

(١) غمز عيون البصائر ١ / ٢٧٥ - ٢٧٦، والأشباه للسيوطي.

(٢) شرح المجلة للآتاسي ١ / ٥٦، والأشباه للسيوطي ص ٨٤.

بِزَوَال حَال الْعُذْرِ، لأَِنَّ جَوَازَهُ لَمَّا كَانَ بِسَبَبِ الْعُذْرِ فَهُوَ خَلَفٌ عَنْ الأَْصْل الْمُتَعَذِّرِ، فَإِذَا زَال الْعُذْرُ أَمْكَنَ الْعَمَل بِالأَْصْل، فَلَوْ جَازَ الْعَمَل بِالْخَلَفِ - أَيْضًا - لَلَزِمَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْخَلَفِ وَالأَْصْل فَلاَ يَجُوزُ كَمَا لاَ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ (١) .

الاِضْطِرَارُ لاَ يُبْطِل حَقَّ الْغَيْرِ:

الاِضْطِرَارُ وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ يَقْتَضِي تَغْيِيرَ الْحُكْمِ مِنَ الْحُرْمَةِ إِلَى الإِْبَاحَةِ كَأَكْل الْمَيْتَةِ، وَفِي بَعْضِهَا التَّرْخِيصُ فِي فِعْلِهِ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى الْحُرْمَةِ - كَكَلِمَةِ الْكُفْرِ - إِلاَّ أَنَّهُ عَلَى كُل حَالٍ لاَ يُبْطِل حَقَّ الْغَيْرِ، وَإِلاَّ لَكَانَ مِنْ قَبِيل إِزَالَةِ الضَّرَرِ بِالضَّرَرِ وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ.

وَيَتَفَرَّعُ عَنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنَّهُ لَوْ اضْطُرَّ إِنْسَانٌ بِسَبَبِ الْجُوعِ فَأَكَل طَعَامَ آخَرَ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ فِي الْقِيمِيَّاتِ وَمِثْلَهُ فِي الْمِثْلِيَّاتِ (٢) .

وَلِلتَّفْصِيل: (ر: إِتْلاَفٌ وَضَمَانٌ) .

_________

(١) شرح المجلة للآتاسي ١ / ٥٩ - ٦٠.

(٢) شرح المجلة للآتاسي ١ / ٧٦ - ٧٧، والفروق للقرافي ١ / ١٩٦، والقواعد لابن رجب الحنبلي ص ٢٨٦.

ضَرُورِيَّاتٌ

التَّعْرِيفُ:

١ - الضَّرُورِيَّاتُ: جَمْعُ ضَرُورِيٍّ وَالضَّرُورِيَّاتُ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ هِيَ: الأُْمُورُ الَّتِي لاَ بُدَّ مِنْهَا فِي قِيَامِ مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، بِحَيْثُ إِذَا فُقِدَتْ لَمْ تَجْرِ مَصَالِحُ الدُّنْيَا عَلَى اسْتِقَامَةٍ، بَل عَلَى فَسَادٍ وَتَهَارُجٍ، وَفَوْتِ حَيَاةٍ، وَفِي الأُْخْرَى فَوْتُ النَّجَاةِ وَالنَّعِيمِ، وَالرُّجُوعُ بِالْخُسْرَانِ الْمُبِينِ (١) وَهِيَ: حِفْظُ الدِّينِ، وَالنَّفْسِ، وَالْعَقْل، وَالنَّسَبِ، وَالْمَال، وَهَذَا التَّرْتِيبُ بَيْنَ الضَّرُورِيَّاتِ مِنَ الْعَالِي إِلَى النَّازِل هُوَ مَا جَرَى عَلَيْهِ فِي مُسَلَّمِ الثُّبُوتِ وَشَرْحِهِ (٢) . وَهُوَ - أَيْضًا - مَا جَرَى عَلَيْهِ الْغَزَالِيُّ فِي الْمُسْتَصْفَى مَعَ اسْتِبْدَال لَفْظِ النَّسْل بِلَفْظِ النَّسَبِ (٣) .

وَرَتَّبَهَا الشَّاطِبِيُّ تَرْتِيبًا آخَرَ فَقَال: مَجْمُوعُ الضَّرُورِيَّاتِ خَمْسَةٌ وَهِيَ: حِفْظُ الدِّينِ، وَالنَّفْسِ، وَالنَّسْل، وَالْمَال، وَالْعَقْل، فَأَخَّرَ الْعَقْل عَنِ النَّسْل وَالْمَال (٤) .

_________

(١) الموافقات ٢ / ٨.

(٢) فواتح الرحموت ٢ / ٢٦٢.

(٣) المستصفى ١ / ٢٨٦.

(٤) الموافقات ٢ / ١٠.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ - الْحَاجِيَّاتُ:

٢ - الْحَاجِيُّ لُغَةً: مَأْخُوذٌ مِنْ مَعْنَى الْحَاجَةِ وَهِيَ: الاِحْتِيَاجُ، وَتُطْلَقُ عَلَى مَا يُفْتَقَرُ إِلَيْهِ (١) .

وَهِيَ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ: مَا يُفْتَقَرُ إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ التَّوْسِعَةُ، وَرَفْعُ الضِّيقِ الْمُؤَدِّي فِي الْغَالِبِ إِلَى الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ اللاَّحِقَةِ بِفَوْتِ الْمَطْلُوبِ، فَإِذَا لَمْ تُرَاعَ دَخَل عَلَى الْمُكَلَّفِينَ - عَلَى الْجُمْلَةِ - الْحَرَجُ وَالْمَشَقَّةُ وَلَكِنَّهُ لاَ يَبْلُغُ مَبْلَغَ الْفَسَادِ الْعَادِيِّ الْمُتَوَقَّعِ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ (٢) .

وَالْفَرْقُ بَيْنَ الضَّرُورِيَّاتِ وَالْحَاجِيَّاتِ أَنَّ الْحَاجِيَّاتِ تَأْتِي فِي الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ الضَّرُورِيَّاتِ، فَهِيَ لاَ تَصِل إِلَى حَدِّ الضَّرُورَةِ.

ب - التَّحْسِينِيَّاتُ:

٣ - التَّحْسِينِيَّاتُ لُغَةً: مَأْخُوذَةٌ مِنْ مَادَّةِ الْحُسْنِ، وَالْحُسْنُ لُغَةً: الْجَمَال، أَوْ هُوَ ضِدُّ الْقُبْحِ، وَالتَّحْسِينُ: التَّزْيِينُ (٣) .

وَفِي اصْطِلاَحِ الأُْصُولِيِّينَ: هِيَ الأَْخْذُ بِمَا يَلِيقُ مِنْ مَحَاسِنِ الْعَادَاتِ، وَتَجَنُّبُ الأَْحْوَال الْمُدَنَّسَاتِ الَّتِي تَأْنَفُهَا الْعُقُول الرَّاجِحَاتُ،

_________

(١) لسان العرب وتاج العروس والكليات للكفوي مادة (حوج) .

(٢) الموافقات ٢ / ١٠.

(٣) لسان العرب والمصباح المنير.

وَيَجْمَعُ ذَلِكَ قِسْمُ مَكَارِمِ الأَْخْلاَقِ (١) .

أَوْ هِيَ: مَا لاَ تَدْعُو إِلَيْهَا ضَرُورَةٌ وَلاَ حَاجَةٌ، وَلَكِنْ تَقَعُ مَوْقِعَ التَّحْسِينِ وَالتَّيْسِيرِ، وَرِعَايَةُ أَحْسَنِ الْمَنَاهِجِ فِي الْعَادَاتِ وَالْمُعَامَلاَتِ (٢) .

وَعَلَى ذَلِكَ تَكُونُ التَّحْسِينِيَّاتُ أَدْنَى رُتْبَةً مِنَ الْحَاجِيَّاتِ، فَهِيَ الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ بَعْدَ الضَّرُورِيَّاتِ وَالْحَاجِيَّاتِ.

ج - الْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ:

٤ - فِي اللُّغَةِ: صَلَحَ الشَّيْءُ صُلُوحًا وَصَلاَحًا، خِلاَفُ فَسَدَ، وَفِي الأَْمْرِ مَصْلَحَةٌ، أَيْ: خَيْرٌ، وَالْجَمْعُ: الْمَصَالِحُ (٣) .

وَالْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ عِنْدَ الأُْصُولِيِّينَ: مَا لاَ يَشْهَدُ لَهَا أَصْلٌ مِنَ الشَّارِعِ لاَ بِالاِعْتِبَارِ وَلاَ بِالإِْلْغَاءِ (٤) .

وَهِيَ أَعَمُّ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ، لأَِنَّهَا تَشْمَل الضَّرُورِيَّاتِ وَالْحَاجِيَّاتِ والتَّحْسِينِيَّاتِ.

الأَْحْكَامُ الإِْجْمَالِيَّةُ:

أ - الْمُحَافَظَةُ عَلَى الضَّرُورِيَّاتِ:

٥ - الضَّرُورِيَّاتُ مِنَ الأُْمُورِ الَّتِي قَصَدَ الشَّارِعُ الْمُحَافَظَةَ عَلَيْهَا؛ لأَِنَّهَا لاَ بُدَّ مِنْهَا فِي

_________

(١) الموافقات ٢ / ١١.

(٢) المستصفى ١ / ٢٨٦ - ٢٩٠، والإحكام للآمدي (٣ / ٤٩ ط. صبيح) .

(٣) المصباح المنير.

(٤) جمع الجوامع ٢ / ٢٨٤ وإرشاد الفحول / ٢١٨.

قِيَامِ مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا.

قَال الشَّاطِبِيُّ: وَالْحِفَاظُ عَلَيْهَا يَكُونُ بِأَمْرَيْنِ.

أَحَدُهُمَا: مَا يُقِيمُ أَرْكَانَهَا وَيُثَبِّتُ قَوَاعِدَهَا، وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ مُرَاعَاتِهَا مِنْ جَانِبِ الْوُجُودِ.

وَالثَّانِي: مَا يَدْرَأُ عَنْهَا الاِخْتِلاَل الْوَاقِعَ أَوِ الْمُتَوَقَّعَ فِيهَا، وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ مُرَاعَاتِهَا مِنْ جَانِبِ الْعَدَمِ.

فَأُصُول الْعِبَادَاتِ رَاجِعَةٌ إِلَى حِفْظِ الدِّينِ مِنْ جَانِبِ الْوُجُودِ، كَالإِْيمَانِ وَالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَالصَّلاَةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْحَجِّ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

وَالْعَادَاتُ رَاجِعَةٌ إِلَى حِفْظِ النَّفْسِ وَالْعَقْل مِنْ جَانِبِ الْوُجُودِ - أَيْضًا - كَتَنَاوُل الْمَأْكُولاَتِ، وَالْمَشْرُوبَاتِ، وَالْمَلْبُوسَاتِ، وَالْمَسْكُونَاتِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

وَالْمُعَامَلاَتُ رَاجِعَةٌ إِلَى حِفْظِ النَّسْل وَالْمَال مِنْ جَانِبِ الْوُجُودِ، وَإِلَى حِفْظِ النَّفْسِ وَالْعَقْل - أَيْضًا - لَكِنْ بِوَاسِطَةِ الْعَادَاتِ.

وَالْجِنَايَاتُ تَرْجِعُ إِلَى حِفْظِ الْجَمِيعِ مِنْ جَانِبِ الْعَدَمِ.

وَقَدْ سَبَقَتِ الأَْمْثِلَةُ لِلْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ.

وَأَمَّا الْمُعَامَلاَتُ: فَمَا كَانَ رَاجِعًا إِلَى مَصْلَحَةِ الإِْنْسَانِ مَعَ غَيْرِهِ كَانْتِقَال الأَْمْلاَكِ بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ، بِالْعَقْدِ عَلَى الرِّقَابِ أَوِ الْمَنَافِعِ أَوِ الأَْبْضَاعِ.

وَالْجِنَايَاتُ مَا كَانَ عَائِدًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ بِالإِْبْطَال، فَشُرِعَ فِيهَا مَا يَدْرَأُ ذَلِكَ الإِْبْطَال وَيَتَلاَفَى تِلْكَ الْمَصَالِحَ كَالْقِصَاصِ وَالدِّيَاتِ لِلنَّفْسِ، وَالْحَدِّ لِلْعَقْل وَالنَّسْل، وَالْقَطْعِ وَالتَّضْمِينِ لِلْمَال (١) .

ب - رُتْبَةُ الضَّرُورِيَّاتِ:

٦ - الضَّرُورِيَّاتُ أَقْوَى مَرَاتِبِ الْمَصْلَحَةِ فَقَدْ قَسَّمَ الْغَزَالِيُّ الْمَصْلَحَةَ بِاعْتِبَارِ قُوَّتِهَا فِي ذَاتِهَا إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:

أ - رُتْبَةِ الضَّرُورِيَّاتِ.

ب - رُتْبَةِ الْحَاجِيَّاتِ.

ج - رُتْبَةِ التَّحْسِينِيَّاتِ.

ثُمَّ قَال: وَالْمَقْصُودُ بِالْمَصْلَحَةِ: الْمُحَافَظَةُ عَلَى مَقْصُودِ الشَّرْعِ، وَمَقْصُودُ الشَّرْعِ مِنَ الْخَلْقِ خَمْسَةٌ - وَهُوَ أَنْ يَحْفَظَ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ، وَنَفْسَهُمْ، وَعَقْلَهُمْ، وَنَسْلَهُمْ، وَمَالَهُمْ.

هَذِهِ الأُْصُول الْخَمْسَةُ حِفْظُهَا وَاقِعٌ فِي رُتْبَةِ الضَّرُورِيَّاتِ فَهِيَ أَقْوَى الْمَرَاتِبِ فِي الْمَصَالِحِ.

وَيَلِي الضَّرُورِيَّاتِ فِي الرُّتْبَةِ الْحَاجِيَّاتُ ثُمَّ التَّحْسِينِيَّاتُ (٢) .

_________

(١) الموافقات ٢ / ٨ - ١٠، والمستصفى ١ / ٢٨٦ - ٢٨٧، وفواتح الرحموت ٢ / ٢٦٢.

(٢) المستصفى ١ / ٢٨٦، وفواتح الرحموت ٢ / ٢٦٢.