الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٢٨
ذَهَبَ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُضْطَرِّ تَنَاوُل طَعَامِ الْغَيْرِ، وَإِنَّمَا لَهُ أَكْل الْمَيْتَةِ، لأَِنَّ إِبَاحَةَ الْمَيْتَةِ بِالنَّصِّ، وَإِبَاحَةَ مَال الْغَيْرِ بِالاِجْتِهَادِ، وَالنَّصُّ أَقْوَى، وَلأَِنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُسَامَحَةِ وَحُقُوقَ الآْدَمِيِّ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الشُّحِّ وَالتَّضْيِيقِ، وَلأَِنَّ حَقَّ الآْدَمِيِّ تَلْزَمُهُ غَرَامَتُهُ وَحَقَّ اللَّهِ لاَ عِوَضَ لَهُ (١) .
وَقَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ فِي قَوْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ: إِنَّ مَنْ وَجَدَ طَعَامَ الْغَيْرِ لاَ تُبَاحُ لَهُ الْمَيْتَةُ، لأَِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الطَّعَامِ الْحَلاَل، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ أَكْل الْمَيْتَةِ، كَمَا لَوْ بَذَلَهُ لَهُ صَاحِبُهُ (٢) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَيَرَوْنَ تَقْدِيمَ طَعَامِ الْغَيْرِ عَلَى الْمَيْتَةِ نَدْبًا إِنْ لَمْ يَخَفِ الْقَطْعَ أَوِ الضَّرْبَ أَوِ الأَْذَى وَإِلاَّ قَدَّمَ الْمَيْتَةَ (٣) .
وَرَوَى أَصْبَغُ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ قَال: يَشْرَبُ الْمُضْطَرُّ الدَّمَ وَلاَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَيَأْكُل الْمَيْتَةَ وَلاَ يَقْرَبُ ضَوَال الإِْبِل - وَقَالَهُ ابْنُ وَهْبٍ - وَيَشْرَبُ الْبَوْل وَلاَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ، لأَِنَّ
_________
(١) غمز عيون البصائر ١ / ٢٨٨، ومغني المحتاج ٤ / ٣٠٩، والمجموع ٩ / ٥٣، والمغني ٨ / ٦٠٠.
(٢) غمز عيون البصائر ١ / ٢٨٨ - ٢٨٩، والمغني ٨ / ٦٠٠، والمجموع ٩ / ٥٣.
(٣) الدسوقي ٢ / ١١٦، والقرطبي ٢ / ٢٢٩.
الْخَمْرَ يَلْزَمُ فِيهَا الْحَدُّ فَهِيَ أَغْلَظُ (١) .
وَالْمُضْطَرُّ إِذَا كَانَ مُحْرِمًا وَوَجَدَ مَيْتَةً وَصَيْدًا حَيًّا صَادَهُ مُحْرِمٌ أَوْ أَعَانَ عَلَى صَيْدِهِ، فَإِنَّهُ يُقَدِّمُ الْمَيْتَةَ عَلَى الصَّيْدِ الْحَيِّ الَّذِي صَادَهُ الْمُحْرِمُ أَوْ أَعَانَ عَلَيْهِ، بِهَذَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ، وَالْحَنَابِلَةُ (٢) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّعْبِيُّ: إِنَّهُ يَأْكُل الصَّيْدَ وَيَفْدِيهِ، لأَِنَّ الضَّرُورَةَ تُبِيحُهُ، وَمَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ لاَ تَحِل الْمَيْتَةُ لِغِنَاهُ عَنْهَا (٣) .
١٢ - أَثَرُ الضَّرُورَةِ فِي رَفْعِ حُرْمَةِ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا:
قَال شَارِحُ أُصُول الْبَزْدَوِيِّ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ أَكْل الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا فِي حَال الضَّرُورَةِ، فَهَل تَصِيرُ مُبَاحَةً، أَوْ تَبْقَى عَلَى الْحُرْمَةِ وَيَرْتَفِعُ الإِْثْمُ؟
فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ: إِلَى أَنَّهَا لاَ تَحِل لَكِنْ يُرَخَّصُ فِي الْفِعْل إِبْقَاءً لِلْمُهْجَةِ كَمَا فِي الإِْكْرَاهِ عَلَى الْكُفْرِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَأَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ.
_________
(١) القرطبي ٢ / ٢٨٨.
(٢) غمز عيون البصائر ١ / ٢٨٩، والدسوقي ٢ / ١١٦، ومغني المحتاج ٤ / ٣٠٩، والمغني ٨ / ٦٠١.
(٣) مغني المحتاج ٤ / ٣٠٩، والمغني ٨ / ٦٠١، وغمز عيون البصائر ١ / ٢٨٩.
وَذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا (الْحَنَفِيَّةُ) إِلَى أَنَّ الْحُرْمَةَ تَرْتَفِعُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ (١) .
ثُمَّ ذَكَرَ لِلْخِلاَفِ فَائِدَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: إِذَا صَبَرَ حَتَّى مَاتَ لاَ يَكُونُ آثِمًا عَلَى الأَْوَّل بِخِلاَفِهِ عَلَى الآْخَرِ.
الثَّانِيَةُ: إِذَا حَلَفَ لاَ يَأْكُل حَرَامًا فَتَنَاوَلَهَا فِي حَال الضَّرُورَةِ يَحْنَثُ عَلَى الأَْوَّل وَلاَ يَحْنَثُ عَلَى الثَّانِي (٢) .
وَلِلتَّفْصِيل: (ر: رُخْصَةٌ، وَالْمُلْحَقُ الأُْصُولِيُّ) .
١٣ - تَنَاوُل الْمُضْطَرِّ الْمَيْتَةَ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ:
ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ وَالْحَنَابِلَةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُضْطَرِّ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ الأَْكْل مِنَ الْمَيْتَةِ كَقَاطِعِ الطَّرِيقِ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ قَال مُجَاهِدٌ: غَيْرَ بَاغٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَلاَ عَادٍ عَلَيْهِمْ، وَقَال سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِذَا خَرَجَ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ فَلاَ رُخْصَةَ لَهُ، فَإِنْ تَابَ وَأَقْلَعَ عَنْ مَعْصِيَتِهِ حَل لَهُ الأَْكْل (٣) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ - فِي الْمَشْهُورِ -
_________
(١) كشف الأسرار ١ / ٦٤٢ ط الصنايع ١٣٠٧ هـ.
(٢) كشف الأسرار ١ / ٦٦٢، وسلم الأصول لشرح نهاية السول ١ / ١٢١ - ١٢٢ ط. عالم الكتب.
(٣) المغني ٨ / ٥٩٧، وأحكام القرآن لابن العربي ١ / ٥٨، والقوانين الفقهية ص ١٧٨ نشر الدار العربية للكتاب.
وَالشَّافِعِيَّةُ - فِي قَوْلٍ - أَنَّهُ يَتَرَخَّصُ بِأَكْل الْمَيْتَةِ لِلْعَاصِي بِسَفَرِهِ.
وَلِلْعُلَمَاءِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ حَوْل اسْتِبَاحَةِ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ (١) .
رُخَصُ السَّفَرِ يُنْظَرُ فِي: (سَفَرٌ) .
١٤ - الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: الاِضْطِرَارُ إِلَى النَّظَرِ وَاللَّمْسِ لِلتَّدَاوِي:
يَجُوزُ كَشْفُ الْعَوْرَةِ وَالنَّظَرُ إِلَيْهَا لِضَرُورَةِ التَّدَاوِي (٢) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: يُبَاحُ لِلطَّبِيبِ النَّظَرُ إِلَى مَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَةُ مِنْ بَدَنِ الْمَرْأَةِ الأَْجْنَبِيَّةِ مِنَ الْعَوْرَةِ وَغَيْرِهَا فَإِنَّهُ مَوْضِعُ حَاجَةٍ (٣) .
قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: وَأَمَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ فَالنَّظَرُ وَاللَّمْسُ مُبَاحَانِ لِفَصْدٍ وَحِجَامَةٍ وَعِلاَجٍ وَلَوْ فِي فَرْجٍ لِلْحَاجَةِ الْمُلْجِئَةِ إِلَى ذَلِكَ وَلأَِنَّ فِي التَّحْرِيمِ حِينَئِذٍ حَرَجًا، فَلِلرَّجُل مُدَاوَاةُ الْمَرْأَةِ وَعَكْسُهُ وَلْيَكُنْ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ أَوِ امْرَأَةٍ (٤) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي شُرُوطِ جَوَازِ مُعَالَجَةِ الطَّبِيبِ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً يُنْظَرُ: (عَوْرَةٌ) .
_________
(١) تفسير الجصاص ١ / ١٤٧، والقوانين الفقهية ص ١٧٨، وتفسير القرطبي ٢ / ٢٣٢، ومغني المحتاج ١ / ٢٦٨.
(٢) المبسوط للسرخسي ١٠ / ١٥٦ وبدائع الصنائع ٥ / ١٢٤، ومغني المحتاج ٣ / ١٣٣، والمغني ٦ / ٥٥٨، وكشاف القناع ١ / ٢٦٥.
(٣) المغني ٦ / ٥٥٨.
(٤) مغني المحتاج ٣ / ١٣٣.
١٥ - الاِضْطِرَارُ إِلَى الْعِلاَجِ بِالنَّجِسِ وَالْمُحَرَّمِ:
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - فِي وَجْهٍ - إِلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمِ وَالنَّجِسِ (١) لِقَوْل النَّبِيِّ ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَل شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ» (٢) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ جَوَازَ الاِسْتِشْفَاءِ بِالْحَرَامِ عِنْدَ تَيَقُّنِ حُصُول الشِّفَاءِ فِيهِ، كَتَنَاوُل الْمَيْتَةِ عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ، وَالْخَمْرِ عِنْدَ الْعَطَشِ وَإِسَاغَةِ اللُّقْمَةِ، وَلاَ يُجِيزُونَ الاِسْتِشْفَاءَ بِالْحَرَامِ الَّذِي لاَ يُتَيَقَّنُ حُصُول الشِّفَاءِ بِهِ (٣) .
وَيَشْتَرِطُ الْحَنَفِيَّةُ لِجَوَازِ التَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمِ تَيَقُّنَ حُصُول الشِّفَاءِ فِيهِ وَعَدَمَ وُجُودِ دَوَاءٍ غَيْرِهِ (٤) .
وَأَجَازَ الشَّافِعِيَّةُ - عَلَى الْمَذْهَبِ - التَّدَاوِي بِالنَّجَاسَاتِ غَيْرِ الْخَمْرِ، سَوَاءٌ فِيهِ جَمِيعُ النَّجَاسَاتِ غَيْرِ الْمُسْكِرِ (٥) .
وَلِلتَّفْصِيل فِي شُرُوطِ التَّدَاوِي بِالْمُحَرَّمِ
_________
(١) الفواكه الدواني ٢ / ٤٤١، والفروع ٢ / ١٦٥، وكشاف القناع ٦ / ١١٦، والمجموع ٩ / ٥٠.
(٢) حديث: " إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم ". أخرجه البخاري (١٠ / ٧٨) معلقا، ووصله الإمام أحمد من قول ابن مسعود موقوفا عليه في كتاب الأشربة (ص ٦٣) وصححه ابن حجر في الفتح (١٠ / ٧٩) .
(٣) بدائع الصنائع ١ / ٦١.
(٤) ابن عابدين ٤ / ١١٣، ٢١٥.
(٥) المجموع ٩ / ٥٠.
وَالنَّجِسِ وَحُكْمِ التَّدَاوِي بِهِ لِتَعْجِيل الشِّفَاءِ: (ر: تَدَاوِي) .
١٦ - الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: الاِضْطِرَارُ إِلَى إِتْلاَفِ النَّفْسِ أَوِ ارْتِكَابِ الْفَاحِشَةِ:
الْقَتْل تَحْتَ تَأْثِيرِ الإِْكْرَاهِ:
وَتَحْتَهُ صُورَتَانِ:
الأُْولَى: الاِضْطِرَارُ إِلَى قَتْل نَفْسِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَيَأْتِي فِي الدِّفَاعِ عَنِ النَّفْسِ،
وَالأُْخْرَى: الاِضْطِرَارُ إِلَى قَتْل غَيْرِهِ وَبَيَانُهُ فِيمَا يَلِي:
أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى قَتْل غَيْرِهِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ الإِْقْدَامُ عَلَى قَتْلِهِ، وَلاَ انْتِهَاكُ حُرْمَتِهِ بِجَلْدٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَيَصْبِرُ عَلَى الْبَلاَءِ الَّذِي نَزَل بِهِ، وَلاَ يَحِل لَهُ أَنْ يَفْدِيَ نَفْسَهُ بِغَيْرِهِ، وَيَسْأَل اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآْخِرَةِ (١) .
قَال الصَّاوِيُّ الْمَالِكِيُّ: لَوْ قَال لَكَ ظَالِمٌ: إِنْ لَمْ تَقْتُل فُلاَنًا أَوْ تَقْطَعْهُ قَتَلْتُكَ، فَلاَ يَجُوزُ ذَلِكَ وَيَجِبُ عَلَى مَنْ قِيل لَهُ ذَلِكَ أَنْ يَرْضَى بِقَتْل نَفْسِهِ وَيَصْبِرَ (٢) .
وَلِلْفُقَهَاءِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ فِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ عِنْدَ وُقُوعِ الْقَتْل، أَوْ قَطْعِ الْعُضْوِ
_________
(١) تفسير القرطبي ١٠ / ١٨٣، وانظر تبيين الحقائق ٥ / ١٨٦، ومجمع الأنهر ٢ / ٤١٧، والشرح الصغير ٢ / ٥٤٩، وشرح الزرقاني ٤ / ٨٨، والمغني ٧ / ٦٤٥، ونهاية المحتاج ٧ / ٢٤٥، و٢٤٨.
(٢) الشرح الصغير مع حاشية الصاوي ٢ / ٥٤٩.
تَحْتَ تَأْثِيرِ الإِْكْرَاهِ يُنْظَرُ فِي: (إِكْرَاهٌ، وَقِصَاصٌ) .
الْقَتْل لِضَرُورَةِ الدِّفَاعِ:
إِذَا صَال صَائِلٌ عَلَى إِنْسَانٍ جَازَ لَهُ الدَّفْعُ، وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ (١) وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الدَّفْعِ عَنِ النَّفْسِ عَلَى الْمَصُول عَلَيْهِ.
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ - فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ - وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ - إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَصُول عَلَيْهِ أَنْ يُدَافِعَ عَنْ نَفْسِهِ، إِلاَّ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ قَيَّدُوا وُجُوبَ دَفْعِ الصَّائِل بِمَا إِذَا كَانَ الصَّائِل كَافِرًا أَوْ بَهِيمَةً (٢) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ - فِي قَوْلٍ - وَالْحَنَابِلَةُ - فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ - أَنَّ الْمَصُول عَلَيْهِ لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ دَفْعُ الصَّائِل (٣) .
وَلِلتَّفْصِيل: (ر: صِيَالٌ) .
الزِّنَى تَحْتَ تَأْثِيرِ الإِْكْرَاهِ:
يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: أَنَّ الزِّنَى لاَ يُبَاحُ
_________
(١) بدائع الصنائع ٧ / ٩٢ - ٩٣، ومغني المحتاج ٤ / ١٩٤، ومواهب الجليل ٦ / ٣٢٣، والمغني ٨ / ٣٢٩ - ٣٣٠، والإنصاف ١٠ / ٣٠٣ مطبعة السنة المحمدية وكشاف القناع ٦ / ١٥٤ نشر عالم الكتب.
(٢) مغني المحتاج ٤ / ١٩٥، ومجموعة فتاوى ابن تيمية ٣٤ / ٢٤٢، وأحكام القرآن للجصاص ٢ / ٤٨٧ - ٤٨٨ ومواهب الجليل ٦ / ٣٢٣، والإنصاف ١٠ / ٣٠٤.
(٣) مواهب الجليل ٦ / ٣٢٣، والإنصاف ١٠ / ٣٠٤.
وَلاَ يُرَخَّصُ لِلرَّجُل بِالإِْكْرَاهِ وَإِنْ كَانَ تَامًّا، وَلَوْ فَعَل يَأْثَمُ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ: (إِكْرَاه وَزِنًى) .
١٧ - الْحَالَةُ الرَّابِعَةُ: الاِضْطِرَارُ إِلَى أَخْذِ مَال الْغَيْرِ وَإِتْلاَفِهِ:
إِذَا اضْطُرَّ إِنْسَانٌ وَلَمْ يَجِدْ إِلاَّ طَعَامًا لِغَيْرِهِ نَظَرَ: فَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ مُضْطَرًّا إِلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَلَمْ يَجُزْ لأَِحَدٍ أَخْذُهُ مِنْهُ، لأَِنَّهُ سَاوَاهُ فِي الضَّرُورَةِ وَانْفَرَدَ بِالْمِلْكِ، فَأَشْبَهَ غَيْرَ حَال الضَّرُورَةِ، وَإِنْ أَخَذَهُ مِنْهُ فَمَاتَ لَزِمَهُ ضَمَانُهُ، لأَِنَّهُ قَتَلَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ مُضْطَرًّا إِلَيْهِ لَزِمَهُ بَذْلُهُ لِلْمُضْطَرِّ، لأَِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ إِحْيَاءُ نَفْسِ آدَمِيٍّ مَعْصُومٍ فَلَزِمَهُ بِذَلِكَ، كَمَا يَلْزَمُهُ بَذْل مَنَافِعِهِ وَإِنْجَاؤُهُ مِنَ الْغَرَقِ وَالْحَرِيقِ، لأَِنَّ الاِمْتِنَاعَ عَنْ بَذْلِهِ إِعَانَةٌ عَلَى قَتْل الْمُضْطَرِّ (١)، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ ﷺ: مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْل مُؤْمِنٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ لَقِيَ اللَّهَ ﷿ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ (٢) .
_________
(١) المهذب ١ / ٢٥٠، ومغني المحتاج ٤ / ٣٠٨، وتفسير الجصاص ١ / ١٥٣، والقواعد لابن رجب ص ٢٢٨، والدسوقي ٤ / ٢٤٢، والمغني ٦ / ٦٠٢.
(٢) حديث: " من أعان على قتل مؤمن. . . . ". أخرجه ابن ماجه (٢ / ٨٧٤) من حديث أبي هريرة، وضعف إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (٢ / ٨٣) .
فَإِنْ لَمْ يَبْذُل فَلِلْمُضْطَرِّ أَخْذُهُ مِنْهُ، لأَِنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لَهُ دُونَ مَالِكِهِ، فَجَازَ لَهُ أَخْذُهُ كَغَيْرِ مَالِهِ، فَإِنِ احْتِيجَ فِي ذَلِكَ إِلَى قِتَالٍ فَلَهُ الْمُقَاتَلَةُ عَلَيْهِ، فَإِنْ قُتِل الْمُضْطَرُّ فَهُوَ شَهِيدٌ وَعَلَى قَاتِلِهِ ضَمَانُهُ، وَإِنْ آل أَخْذُهُ إِلَى قَتْل صَاحِبِهِ فَهُوَ هَدْرٌ، لأَِنَّهُ ظَالِمٌ بِقِتَالِهِ فَأَشْبَهَ الصَّائِل، إِلاَّ أَنْ يُمْكِنَ أَخْذُهُ بِشِرَاءٍ أَوِ اسْتِرْضَاءٍ فَلَيْسَ لَهُ الْمُقَاتَلَةُ عَلَيْهِ، لإِمْكَانِ الْوُصُول إِلَيْهِ دُونَهَا (١) .
وَلِلْفُقَهَاءِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ فِي أَثَرِ الاِضْطِرَارِ فِي إِبْطَال حَقِّ الْغَيْرِ يُنْظَرُ فِي: (إِتْلاَفٌ، وَضَمَانٌ) .
إِتْلاَفُ مَال الْغَيْرِ لِضَرُورَةِ إِنْقَاذِ السَّفِينَةِ:
إِذَا أَشْرَفَتِ السَّفِينَةُ عَلَى الْغَرَقِ جَازَ إِلْقَاءُ بَعْضِ أَمْتِعَتِهَا فِي الْبَحْرِ، وَيَجِبُ الإِْلْقَاءُ رَجَاءَ نَجَاةِ الرَّاكِبِينَ إِذَا خِيفَ الْهَلاَكُ، وَيَجِبُ إِلْقَاءُ مَا لاَ رُوحَ فِيهِ، لِتَخْلِيصِ ذِي الرُّوحِ، وَلاَ يَجُوزُ إِلْقَاءُ الدَّوَابِّ إِذَا أَمْكَنَ دَفْعُ الْغَرَقِ بِغَيْرِ الْحَيَوَانِ، وَإِذَا مَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى إِلْقَاءِ الدَّوَابِّ أُلْقِيَتْ لإِنْقَاذِ الآْدَمِيِّينَ، وَالْعَبِيدُ فِي ذَلِكَ كَالأَْحْرَارِ، وَلاَ سَبِيل لِطَرْحِ الآْدَمِيِّ بِحَالٍ
_________
(١) المغني ٨ / ٦٠٢، والمبسوط ٢٤ / ٧٣، والفروق للقرافي ١ / ١٩٦، ومغني المحتاج ٤ / ٣٠٨.
ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، حُرًّا أَوْ عَبْدًا، مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا (١) .
إِتْلاَفُ مَال الْغَيْرِ تَحْتَ تَأْثِيرِ الإِْكْرَاهِ:
مَنْ أُكْرِهَ عَلَى إِتْلاَفِ مَال مُسْلِمٍ بِأَمْرٍ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ وَسِعَهُ أَنْ يَفْعَل ذَلِكَ (٢) .
وَلِلْفُقَهَاءِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ فِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُنْظَرُ فِي: (إِكْرَاهٌ، وَضَمَانٌ) .
١٨ - الْحَالَةُ الْخَامِسَةُ: الاِضْطِرَارُ إِلَى قَوْل الْبَاطِل:
النُّطْقُ بِالْكُفْرِ تَحْتَ تَأْثِيرِ الإِْكْرَاهِ:
مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ حَتَّى خَشَى عَلَى نَفْسِهِ الْقَتْل لاَ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنْ كَفَرَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ، وَلاَ تَبِينُ مِنْهُ زَوْجَتُهُ، وَلاَ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْكُفْرِ، وَإِنْ صَبَرَ حَتَّى قُتِل كَانَ شَهِيدًا (٣) .
وَلِلتَّفْصِيل: (ر: رُخْصَةٌ ف ١٣، وَإِكْرَاهٌ ف ٢٤)
_________
(١) روضة الطالبين ٩ / ٣٣٨، ومطالب أولي النهى ٤ / ٩٥، وحاشية الدسوقي ٤ / ٢٧، وابن عابدين ٥ / ١٧٢.
(٢) مجمع الضمانات ص ٢٠٥، والقواعد لابن رجب ص ٢٨٦.
(٣) حاشية ابن عابدين ٢ / ١١٥، وروضة الطالبين ١٠ / ٧٢، وكشاف القناع ٦ / ١٨٥، والإقناع ٤ / ٣٠٦، وجواهر الإكليل ١ / ٣٤٠ - ٣٤١.