الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٢٨
الذِّمَّةِ بِالْوَاجِبِ - كَمَا يَقُول الْكَاسَانِيُّ - هِيَ شُرُوطُ افْتِرَاضِهِ وَالْخِطَابِ بِهِ (١) . وَهِيَ:
أ - الإِْسْلاَمُ، وَهُوَ شَرْطٌ عَامٌّ لِلْخِطَابِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ.
ب - الْعَقْل، إِذْ لاَ فَائِدَةَ مِنْ تَوَجُّهِ الْخِطَابِ بِدُونِهِ، فَلاَ يَجِبُ الصَّوْمُ عَلَى مَجْنُونٍ إِلاَّ إِذَا أَثِمَ بِزَوَال عَقْلِهِ، فِي شَرَابٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَيَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ بَعْدَ الإِْفَاقَةِ (٢) .
وَعَبَّرَ الْحَنَفِيَّةُ بِالإِْفَاقَةِ بَدَلًا مِنَ الْعَقْل، أَيِ الإِْفَاقَةِ مِنَ الْجُنُونِ وَالإِْغْمَاءِ أَوِ النَّوْمِ، وَهِيَ الْيَقَظَةُ (٣) .
ج - الْبُلُوغُ، وَلاَ تَكْلِيفَ إِلاَّ بِهِ، لأَِنَّ الْغَرَضَ مِنَ التَّكْلِيفِ هُوَ الاِمْتِثَال، وَذَلِكَ بِالإِْدْرَاكِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْفِعْل - كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي الأُْصُول - وَالصِّبَا وَالطُّفُولَةُ عَجْزٌ.
وَنَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِهِ الصَّبِيُّ لِسَبْعٍ - كَالصَّلاَةِ - إِنْ أَطَاقَهُ، وَيُضْرَبُ عَلَى تَرْكِهِ لِعَشْرٍ (٤) .
وَالْحَنَابِلَةُ قَالُوا: يَجِبُ عَلَى وَلِيِّهِ أَمْرُهُ بِالصَّوْمِ إِذَا أَطَاقَهُ، وَضَرْبُهُ حِينَئِذٍ إِذَا تَرَكَهُ لِيَعْتَادَهُ، كَالصَّلاَةِ، إِلاَّ أَنَّ الصَّوْمَ أَشَقُّ، فَاعْتُبِرَتْ لَهُ
_________
(١) مراقي الفلاح ص ٣٤٨.
(٢) الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع للشربيني ٢ / ٣٢٥.
(٣) رد المحتار ٢ / ٨١، والبدائع ٢ / ٨٨.
(٤) انظر الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع ٢ / ٣٢٥.
الطَّاقَةُ، لأَِنَّهُ قَدْ يُطِيقُ الصَّلاَةَ مَنْ لاَ يُطِيقُ الصَّوْمَ (١) .
د - الْعِلْمُ بِالْوُجُوبِ، فَمَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ، يَحْصُل لَهُ الْعِلْمُ الْمُوجِبُ، بِإِخْبَارِ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ، أَوْ رَجُلٍ مَسْتُورٍ وَامْرَأَتَيْنِ مَسْتُورَتَيْنِ، أَوْ وَاحِدٍ عَدْلٍ، وَمَنْ كَانَ مُقِيمًا فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، يَحْصُل لَهُ الْعِلْمُ بِنَشْأَتِهِ فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ، وَلاَ عُذْرَ لَهُ بِالْجَهْل (٢) .
شُرُوطُ وُجُوبِ أَدَائِهِ:
٢٦ - شُرُوطُ وُجُوبِ الأَْدَاءِ الَّذِي هُوَ تَفْرِيغُ ذِمَّةِ الْمُكَلَّفِ عَنِ الْوَاجِبِ فِي وَقْتِهِ الْمُعَيَّنِ لَهُ (٣) هِيَ:
أ - الصِّحَّةُ وَالسَّلاَمَةُ مِنَ الْمَرَضِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ (٤) .
ب - الإِْقَامَةُ، لِلآْيَةِ نَفْسِهَا. قَال ابْنُ جُزَيٍّ: وَأَمَّا الصِّحَّةُ وَالإِْقَامَةُ، فَشَرْطَانِ فِي وُجُوبِ الصِّيَامِ، لاَ فِي صِحَّتِهِ، وَلاَ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ، فَإِنَّ وُجُوبَ الصَّوْمِ يَسْقُطُ
_________
(١) كشاف القناع ٢ / ٣٠٨، وانظر المغني ٣ / ١٤.
(٢) مراقي الفلاح ص ٣٤٨، والدر المختار ورد المحتار ٢ / ٨٠ و٨١، وفتح القدير ٢ / ٢٣٤، وانظر القوانين الفقهية ص ٧٧، والإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع ٢ / ٣٢٥، وكشاف القناع ٢ / ٣٠٨.
(٣) مراقي الفلاح وحاشية الطحطاوي عليه ٣٤٨، وانظر البدائع ٢ / ٨٨.
(٤) سورة البقرة ١٨٥.
عَنِ الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، وَيَجِب عَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ، إِنْ أَفْطَرَا إِجْمَاعًا، وَيَصِحُّ صَوْمُهُمَا إِنْ صَامَا (١) .
ج - خُلُوُّ الْمَرْأَةِ مِنَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، لأَِنَّ الْحَائِضَ وَالنُّفَسَاءَ لَيْسَتَا أَهْلًا لِلصَّوْمِ، وَلِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا لَمَّا سَأَلَتْهَا مُعَاذَةُ: مَا بَال الْحَائِضِ، تَقْضِي الصَّوْمَ وَلاَ تَقْضِي الصَّلاَةَ؟ فَقَالَتْ: أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟ قُلْتُ: لَسْتُ بِحَرُورِيَّةٍ، وَلَكِنِّي أَسْأَل، قَالَتْ: كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ، فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ، وَلاَ نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلاَةِ (٢) .
فَالأَْمْرُ بِالْقَضَاءِ فَرْعُ وُجُوبِ الأَْدَاءِ.
وَالإِْجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى مَنْعِهِمَا مِنَ الصَّوْمِ، وَعَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِمَا (٣) .
شُرُوطُ صِحَّةِ الصَّوْمِ:
٢٧ - شَرْطُ صِحَّةِ الصَّوْمِ هِيَ:
أ - الطَّهَارَةُ مِنَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، وَقَدْ عَدَّهَا بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ شُرُوطِ الصِّحَّةِ، كَالْكَمَال مِنَ الْحَنَفِيَّةِ، وَابْنِ جُزَيٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ (٤) . وَعَدَّهَا بَعْضُهُمْ مِنْ شُرُوطِ
_________
(١) القوانين الفقهية ص ٧٨.
(٢) حديث عائشة لما سألتها معاذة. أخرجه البخاري (الفتح ١ / ٤٢١ ط. السلفية) ومسلم (١ / ٢٦٥ ط. الحلبي) واللفظ لمسلم.
(٣) القوانين الفقهية ص ٧٧، ومغني المحتاج ١ / ٤٣٢.
(٤) فتح القدير ٢ / ٢٣٤، والقوانين الفقهية ص ٧٧.
وُجُوبِ الأَْدَاءِ، وَشُرُوطِ الصِّحَّةِ مَعًا (١) .
ب - خُلُوُّهُ عَمَّا يُفْسِدُ الصَّوْمَ بِطُرُوِّهِ عَلَيْهِ كَالْجِمَاعِ (٢) .
ج - النِّيَّةُ. وَذَلِكَ لأَِنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ عِبَادَةٌ، فَلاَ يَجُوزُ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ (٣) . وَلِحَدِيثِ: إِنَّمَا الأَْعْمَال بِالنِّيَّاتِ (٤) .
وَالإِْمْسَاكُ قَدْ يَكُونُ لِلْعَادَةِ، أَوْ لِعَدَمِ الاِشْتِهَاءِ، أَوْ لِلْمَرَضِ، أَوْ لِلرِّيَاضَةِ، فَلاَ يَتَعَيَّنُ إِلاَّ بِالنِّيَّةِ، كَالْقِيَامِ إِلَى الصَّلاَةِ وَالْحَجِّ.
قَال النَّوَوِيُّ: لاَ يَصِحُّ الصَّوْمُ إِلاَّ بِنِيَّةٍ، وَمَحَلُّهَا الْقَلْبُ، وَلاَ يُشْتَرَطُ النُّطْقُ بِهَا، بِلاَ خِلاَفٍ (٥) .
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: التَّلَفُّظُ بِهَا سُنَّةٌ (٦) .
صِفَةُ النِّيَّةِ:
صِفَةُ النِّيَّةِ أَنْ تَكُونَ جَازِمَةً، مُعَيَّنَةً، مُبَيَّتَةً، مُجَدَّدَةً، عَلَى مَا يَلِي:
٢٨ - أَوَّلًا: الْجَزْمُ، فَقَدِ اشْتُرِطَ فِي نِيَّةِ
_________
(١) حاشية الدسوقي ١ / ٥٠٩.
(٢) مراقي الفلاح وحاشية الطحطاوي ٣٤٨ و٣٤٩.
(٣) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ١ / ٥٢٠.
(٤) حديث: " إنما الأعمال بالنيات. . . ". أخرجه البخاري (الفتح ١ / ٩ ط. السلفية) ومسلم (٣ / ١٥١٥ - ١٥١٦ ط. الحلبي) من حديث عمر بن الخطاب. وانظر الاختيار (١ / ١٢٦ ط: دار المعرفة، بيروت)، وكشاف القناع ٢ / ٣١٤.
(٥) روضة الطالبين ٢ / ٣٥٠.
(٦) حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص ٣٥٢.
الصَّوْمِ؛ قَطْعًا لِلتَّرَدُّدِ، حَتَّى لَوْ نَوَى لَيْلَةَ الشَّكِّ صِيَامَ غَدٍ إِنْ كَانَ مِنْ رَمَضَانَ - لَمْ يُجْزِهِ، وَلاَ يَصِيرُ صَائِمًا لِعَدَمِ الْجَزْمِ، فَصَارَ كَمَا إِذَا نَوَى أَنَّهُ إِنْ وَجَدَ غَدَاءً غَدًا يُفْطِرُ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ يَصُومُ (١) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ قَال: إِنْ كَانَ غَدًا مِنْ رَمَضَانَ فَهُوَ فَرْضِي، وَإِلاَّ فَهُوَ نَفْلٌ، أَوْ فَأَنَا مُفْطِرٌ، لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ، إِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ، لِعَدَمِ جَزْمِهِ بِالنِّيَّةِ.
وَإِنْ قَال ذَلِكَ لَيْلَةَ الثَّلاَثِينَ مِنْ رَمَضَانَ، صَحَّ صَوْمُهُ إِنْ بَانَ مِنْهُ، لأَِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَصْلٍ لَمْ يَثْبُتْ زَوَالُهُ، وَلاَ يَقْدَحُ تَرَدُّدُهُ، لأَِنَّهُ حُكْمُ صَوْمِهِ مَعَ الْجَزْمِ. بِخِلاَفِ مَا إِذَا قَالَهُ لَيْلَةَ الثَّلاَثِينَ مِنْ شَعْبَانَ، لأَِنَّهُ لاَ أَصْل مَعَهُ يَبْنِي عَلَيْهِ، بَل الأَْصْل بَقَاءُ شَعْبَانَ (٢) .
٢٩ - ثَانِيًا: التَّعْيِينُ، وَالْجُمْهُورُ مِنَ الْفُقَهَاءِ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ النِّيَّةِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ، وَصَوْمِ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبِ، وَلاَ يَكْفِي تَعْيِينُ مُطْلَقِ الصَّوْمِ، وَلاَ تَعْيِينُ صَوْمٍ مُعَيَّنٍ غَيْرِ رَمَضَانَ.
وَكَمَال النِّيَّةِ - كَمَا قَال النَّوَوِيُّ -: أَنْ يَنْوِيَ
_________
(١) الهداية وشروحها ٢ / ٢٤٨، والقوانين الفقهية ص ٨٠ روضة الطالبين ٢ / ٣٥٣، وكشاف القناع ٢ / ٣١٥.
(٢) انظر شرح المحلي على المنهاج ٢ / ٥٣ و٥٤، وكشاف القناع ٢ / ٣١٥ و٣١٦.
صَوْمَ غَدٍ، عَنْ أَدَاءِ فَرْضِ رَمَضَانَ هَذِهِ السَّنَةَ لِلَّهِ تَعَالَى (١) .
وَإِنَّمَا اشْتُرِطَ التَّعْيِينُ فِي ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ مُضَافَةٌ إِلَى وَقْتٍ، فَيَجِبُ التَّعْيِينُ فِي نِيَّتِهَا، كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَلأَِنَّ التَّعْيِينَ مَقْصُودٌ فِي نَفْسِهِ، فَيُجْزِئُ التَّعْيِينُ عَنْ نِيَّةِ الْفَرِيضَةِ فِي الْفَرْضِ، وَالْوُجُوبِ فِي الْوَاجِبِ (٢) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ فِي التَّعْيِينِ إِلَى تَقْسِيمِ الصِّيَامِ إِلَى قِسْمَيْنِ: الْقِسْمُ الأَْوَّل: لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعْيِينُ، وَهُوَ: أَدَاءُ رَمَضَانَ، وَالنَّذْرُ الْمُعَيَّنُ زَمَانُهُ، وَكَذَا النَّفَل، فَإِنَّهُ يَصِحُّ بِمُطْلَقِ نِيَّةِ الصَّوْمِ، مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ.
وَذَلِكَ لأَِنَّ رَمَضَانَ مِعْيَارٌ - كَمَا يَقُول الأُْصُولِيُّونَ - وَهُوَ مُضَيَّقٌ، لاَ يَسَعُ غَيْرَهُ مِنْ جِنْسِهِ وَهُوَ الصَّوْمُ، فَلَمْ يُشْرَعْ فِيهِ صَوْمٌ آخَرُ، فَكَانَ مُتَعَيِّنًا لِلْفَرْضِ، وَالْمُتَعَيِّنُ لاَ يَحْتَاجُ إِلَى تَعْيِينٍ، وَالنَّذْرُ الْمُعَيَّنُ مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَيُصَابُ كُلٌّ مِنْهُمَا بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ، وَبِأَصْلِهَا، وَبِنِيَّةِ نَفْلٍ، لِعَدَمِ الْمُزَاحِمِ كَمَا يَقُول الْحَصْكَفِيُّ (٣) .
_________
(١) روضة الطالبين ٢ / ٣٥٠.
(٢) الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع ٢ / ٣٢٧، وانظر بداية المجتهد ١ / ٣٤٢، والقوانين الفقهية ص ٧٩ و٨٠، وروضة الطالبين ٢ / ٣٥٠، والمغني ٣ / ٢٢ وما بعدها.
(٣) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين ٢ / ٨٥.
وَكُل يَوْمٍ مُعَيَّنٍ لِلنَّفْل - كَمَا سَيَأْتِي - مَا عَدَا رَمَضَانَ، وَالأَْيَّامَ الْمُحَرَّمَ صَوْمُهَا، وَمَا يُعَيِّنُهُ الْمُكَلَّفُ بِنَفْسِهِ، فَكُل ذَلِكَ مُتَعَيِّنٌ، وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى التَّعْيِينِ (١) .
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّعْيِينُ، وَهُوَ: قَضَاءُ رَمَضَانَ، وَقَضَاءُ مَا أَفْسَدَهُ مِنَ النَّفْل، وَصَوْمُ الْكَفَّارَاتِ بِأَنْوَاعِهَا، وَالنَّذْرُ الْمُطْلَقُ عَنِ التَّقْيِيدِ بِزَمَانٍ، سَوَاءٌ أَكَانَ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ، أَمْ كَانَ مُطْلَقًا، لأَِنَّهُ لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ، فَلَمْ يَتَأَدَّ إِلاَّ بِنِيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ، قَطْعًا لِلْمُزَاحَمَةِ (٢) .
٣٠ - ثَالِثًا - التَّبْيِيتُ: وَهُوَ شَرْطٌ فِي صَوْمِ الْفَرْضِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَالتَّبْيِيتُ: إِيقَاعُ النِّيَّةِ فِي اللَّيْل، مَا بَيْنَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، فَلَوْ قَارَنَ الْغُرُوبَ أَوِ الْفَجْرَ أَوْ شَكَّ، لَمْ يَصِحَّ، كَمَا هُوَ قَضِيَّةُ التَّبْيِيتِ (٣) .
وَفِي قَوْلٍ لِلْمَالِكِيَّةِ، يَصِحُّ لَوْ قَارَنَتِ الْفَجْرَ، كَمَا فِي تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ، لأَِنَّ الأَْصْل فِي النِّيَّةِ الْمُقَارَنَةُ لِلْمَنْوِيِّ (٤) .
وَيَجُوزُ أَنْ تُقَدَّمَ مِنْ أَوَّل اللَّيْل، وَلاَ تَجُوزُ
_________
(١) مراقي الفلاح ص ٣٥٢، والهداية بشروحها ٢ / ٢٣٩، والفتاوى الهندية ١ / ١٩٥، والدر المختار ورد المحتار ٢ / ٨٥.
(٢) مراقي الفلاح ص ٣٥٣، و٣٥٤، والاختيار ١ / ١٢٧، وتحفة الفقهاء ١ / ٥٣٤، والفتاوى الهندية ١ / ١٩٦.
(٣) شرح المحلي على المنهاج وحاشية القليوبي ٢ / ٥٢، وحاشية البجيرمي على شرح الإقناع ٢ / ٣٢٦.
(٤) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه ١ / ٥٢٠ و٥٢١، والقوانين الفقهية ص ٨٠.
قَبْل اللَّيْل (١) .
وَذَلِكَ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَال: مَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيَامَ قَبْل الْفَجْرِ، فَلاَ صِيَامَ لَهُ (٢) .
وَلأَِنَّ صَوْمَ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَاتِ، لاَ بُدَّ لَهَا مِنْ تَبْيِيتِ النِّيَّةِ، فَكَذَا كُل صَوْمِ فَرْضٍ مُعَيَّنٍ.
وَلاَ تُجْزِئُ بَعْدَ الْفَجْرِ وَيُجْزِئُ مَعَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِنِ اتَّفَقَ ذَلِكَ، وَإِنْ رَوَى ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ أَنَّهَا لاَ تُجْزِئُ مَعَ الْفَجْرِ، وَكَلاَمُ الْقَرَافِيِّ وَآخَرِينَ يُفِيدُ أَنَّ الأَْصْل كَوْنُهَا مُقَارِنَةً لِلْفَجْرِ، وَرُخِّصَ تَقَدُّمُهَا عَلَيْهِ لِلْمَشَقَّةِ فِي مُقَارَنَتِهَا لَهُ (٣) .
وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي التَّبْيِيتِ النِّصْفُ الآْخَرُ مِنَ اللَّيْل، لإِطْلاَقِهِ فِي الْحَدِيثِ، وَلأَِنَّ تَخْصِيصَ النِّيَّةِ بِالنِّصْفِ الأَْخِيرِ يُفْضِي إِلَى تَفْوِيتِ الصَّوْمِ، لأَِنَّهُ وَقْتُ النَّوْمِ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لاَ يَنْتَبِهُ فِيهِ، وَلاَ يَذْكُرُ الصَّوْمَ، وَالشَّارِعُ إِنَّمَا رَخَّصَ فِي تَقْدِيمِ النِّيَّةِ عَلَى ابْتِدَائِهِ، لِحَرَجِ
_________
(١) القوانين الفقهية ص ٨٠، وانظر شرح الخرشي ٢ / ٢٤٦.
(٢) حديث: " من لم يجمع الصيام قبل الفجر، فلا صيام له ". أخرجه أبو داود (٢ / ٨٢٣ - ٨٢٤)، وأورده ابن حجر في التلخيص (٢ / ١٨٨) ونقل عن غير واحد من العلماء أنهم أعلوه بالوقف.
(٣) جواهر الإكليل ١ / ١٤٨، وانظر المغني ٣ / ٢٢، ٢٣.
اعْتِبَارِهَا عِنْدَهُ، فَلاَ يَخُصُّهَا بِمَحَلٍّ لاَ تَنْدَفِعُ الْمَشَقَّةُ بِتَخْصِيصِهَا بِهِ، وَلأَِنَّ تَخْصِيصَهَا بِالنِّصْفِ الأَْخِيرِ تَحَكُّمٌ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ، بَل تُقَرَّبُ النِّيَّةُ مِنَ الْعِبَادَةِ، لَمَّا تَعَذَّرَ اقْتِرَانُهَا بِهَا.
وَالصَّحِيحُ أَيْضًا: أَنَّهُ لاَ يَضُرُّ الأَْكْل وَالْجِمَاعُ بَعْدَ النِّيَّةِ مَا دَامَ فِي اللَّيْل، لأَِنَّهُ لَمْ يَلْتَبِسْ بِالْعِبَادَةِ، وَقِيل: يَضُرُّ فَتَحْتَاجُ إِلَى تَجْدِيدِهَا، تَحَرُّزًا عَنْ تَخَلُّل الْمُنَاقِضِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِبَادَةِ، لَمَّا تَعَذَّرَ اقْتِرَانُهَا بِهَا.
وَالصَّحِيحُ أَيْضًا: أَنَّهُ لاَ يَجِبُ التَّجْدِيدُ لَهَا إِذَا نَامَ بَعْدَهَا، ثُمَّ تَنَبَّهَ قَبْل الْفَجْرِ، وَقِيل: يَجِبُ، تَقْرِيبًا لِلنِّيَّةِ مِنَ الْعِبَادَةِ بِقَدْرِ الْوُسْعِ (١) .
وَالْحَنَفِيَّةُ لَمْ يَشْتَرِطُوا التَّبْيِيتَ فِي رَمَضَانَ (٢) . وَلَمَّا لَمْ يَشْتَرِطُوا تَبْيِيتَ النِّيَّةِ فِي لَيْل رَمَضَانَ، أَجَازُوا النِّيَّةَ بَعْدَ الْفَجْرِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ أَيْضًا، حَتَّى الضَّحْوَةِ الْكُبْرَى، فَيَنْوِي قَبْلَهَا لِيَكُونَ الأَْكْثَرُ مَنْوِيًّا، فَيَكُونَ لَهُ حُكْمُ الْكُل، حَتَّى لَوْ نَوَى بَعْدَ ذَلِكَ لاَ يَجُوزُ، لِخُلُوِّ الأَْكْثَرِ عَنِ النِّيَّةِ، تَغْلِيبًا لِلأَْكْثَرِ.
وَالضَّحْوَةُ الْكُبْرَى: نِصْفُ النَّهَارِ الشَّرْعِيِّ، وَهُوَ مِنْ وَقْتِ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى
_________
(١) انظر شرح المحلي على المنهاج مع حاشيتي القليوبي وعميرة ٢ / ٥٢، والإقناع بحاشية البجيرمي ٢ / ٣٢٦، والمغني ٣ / ٢٤، و٢٥، وكشاف القناع ٢ / ٣١٥
(٢) الاختيار شرح المختار ١ / ١٢٧، والهداية بشروحها ٢ / ٢٤٠ و٢٤١.
غُرُوبِ الشَّمْسِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ، مِنْهُمْ الْمَوْصِلِيُّ: وَالأَْفْضَل الصَّوْمُ بِنِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ مُبَيَّتَةٍ لِلْخُرُوجِ عَنِ الْخِلاَفِ (١) .
وَدَلِيل الْحَنَفِيَّةِ عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، مِنْ صِحَّةِ النِّيَّةِ حَتَّى الضَّحْوَةِ الْكُبْرَى، وَعَدَمِ شَرْطِيَّةِ التَّبْيِيتِ: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ النَّاسَ أَصْبَحُوا يَوْمَ الشَّكِّ، فَقَدِمَ أَعْرَابِيٌّ، وَشَهِدَ بِرُؤْيَةِ الْهِلاَل، فَقَال ﷺ: أَتَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُول اللَّهِ؟ فَقَال: نَعَمْ، فَقَال ﵊: اللَّهُ أَكْبَرُ، يَكْفِي الْمُسْلِمِينَ أَحَدُهُمْ، فَصَامَ وَأَمَرَ بِالصِّيَامِ، وَأَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى: أَلاَ مَنْ أَكَل فَلاَ يَأْكُل بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ لَمْ يَأْكُل فَلْيَصُمْ (٢) .
فَقَدْ أَمَرَ بِالصَّوْمِ، وَأَنَّهُ يَقْتَضِي الْقُدْرَةَ عَلَى الصَّوْمِ الشَّرْعِيِّ، وَلَوْ شُرِطَتِ النِّيَّةُ مِنَ اللَّيْل لَمَا كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ، فَدَل عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهَا (٣) .
وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا، بِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَرْسَل غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى
_________
(١) الاختيار ١ / ١٢٧، ورد المحتار ٢ / ٨٥، وقارن بالمجموع ٦ / ٣٠١.
(٢) حديث ابن عباس: " أن الناس أصبحوا يوم الشك. . . ". الحديث ذكره الموصلي من الحنفية (١ / ١٢٦ و١٢٧) ولم يعزه إلى أي مصدر حديثي، ولم نهتد كذلك إلى من أخرجه بهذا اللفظ.
(٣) الاختيار ١ / ١٢٧.