الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٢٨ الصفحة 36

الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٢٨

وَقَال رَسُول اللَّهِ ﷺ: لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ (١)، وَهَذَا الْحَدِيثُ يَشْمَل كُل أَنْوَاعِ الضَّرَرِ لأَِنَّ النَّكِرَةَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ تَعُمُّ، وَفِيهِ حَذْفٌ، أَصْلُهُ لاَ لُحُوقَ أَوْ إِلْحَاقَ، أَوْ لاَ فِعْل ضَرَرٍ أَوْ ضِرَارٍ بِأَحَدٍ فِي دِينِنَا، أَيْ: لاَ يَجُوزُ شَرْعًا إِلاَّ لِمُوجِبٍ خَاصٍّ (٢) .

أَمَّا إِدْخَال الضَّرَرِ عَلَى أَحَدٍ يَسْتَحِقُّهُ لِكَوْنِهِ تَعَدَّى حُدُودَ اللَّهِ فَيُعَاقَبُ بِقَدْرِ جَرِيمَتِهِ، أَوْ لِكَوْنِهِ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَغَيْرَهُ فَيَطْلُبُ الْمَظْلُومُ مُقَابَلَتَهُ بِالْعَدْل، فَهَذَا غَيْرُ مُرَادٍ بِالْحَدِيثِ قَطْعًا (٣) .

كَمَا أَنَّ الضَّرَرَ يُبَاحُ اسْتِثْنَاءً فِي أَحْوَالٍ أُخْرَى، ضَبَطَتْهَا بَعْضُ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ مِنْ أَمْثَال قَاعِدَةِ " الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ "، وَقَاعِدَةِ " الضَّرَرُ الأَْشَدُّ يُزَال بِالضَّرَرِ الأَْخَفِّ " وَمَا إِلَى ذَلِكَ مِنَ الْقَوَاعِدِ الَّتِي يَأْتِي ذِكْرُهَا.

الْقَوَاعِدُ الْفِقْهِيَّةُ الضَّابِطَةُ لأَِحْكَامِ الضَّرَرِ:

٥ - لَقَدْ عَنَى الْفُقَهَاءُ كَثِيرًا بِدِرَاسَةِ مَوْضُوعِ الضَّرَرِ وَمُعَالَجَةِ آثَارِهِ، وَذَلِكَ لِمَا لَهُ مِنْ أَهَمِّيَّةٍ بَالِغَةٍ فِي اسْتِقْرَارِ الْعَلاَقَاتِ بَيْنَ النَّاسِ،

_________

(١) حديث: " لا ضرر ولا ضرار ". أخرجه مالك في الموطأ (٢ / ٧٤٥) من حديث يحيى المازني مرسلا، ولكن له شواهد موصولة يتقوى بها، ذكرها ابن رجب في جامع العلوم والحكم. (ص ٢٨٦ - ٢٨٧) وحسنه النووي

(٢) فيض القدير ٦ / ٤٣١.

(٣) جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي ص ٢٨٨.

وَقَعَّدُوا لِذَلِكَ مَجْمُوعَةً مِنَ الْقَوَاعِدِ الْفِقْهِيَّةِ الْكُلِّيَّةِ تَضْبِطُهُ، وَتُوَضِّحُ مَعَالِمَهُ الْعَامَّةَ وَتُنَظِّمُ آثَارَهُ، وَأَهَمُّ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ هِيَ:

الضَّرَرُ يُزَال:

٦ - أَصْل هَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَوْل النَّبِيِّ ﷺ: لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ (١) وَيُبْتَنَى عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ كَثِيرٌ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ، فَمِنْ ذَلِكَ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ، وَجَمِيعُ أَنْوَاعِ الْخِيَارَاتِ، وَالْحَجْرُ بِسَائِرِ أَنْوَاعِهِ، وَالشُّفْعَةُ، وَمَا إِلَى ذَلِكَ (٢) .

وَيَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَوَاعِدُ:

٧ - الأُْولَى: الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ: وَمِنْ ثَمَّ جَازَ أَكْل الْمَيْتَةِ عِنْدَ الْمَخْمَصَةِ وَإِسَاغَةُ اللُّقْمَةِ بِالْخَمْرِ.

وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ " بِشَرْطِ عَدَمِ نُقْصَانِهَا عَنْهَا " (٣) .

٨ - الثَّانِيَةُ: " مَا أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ يُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا " وَمِنْ فُرُوعِهَا: الْمُضْطَرُّ لاَ يَأْكُل مِنَ الْمَيْتَةِ إِلاَّ قَدْرَ سَدِّ الرَّمَقِ، وَالطَّعَامُ فِي دَارِ الْحَرْبِ يُؤْخَذُ عَلَى سَبِيل الْحَاجَةِ؛ لأَِنَّهُ إِنَّمَا أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ، قَال فِي الْكَنْزِ: وَيَنْتَفِعُ فِيهَا بِعَلَفٍ وَطَعَامٍ وَحَطَبٍ وَسِلاَحٍ وَدُهْنٍ بِلاَ قِسْمَةٍ،

_________

(١) حديث: " لا ضرر ولا ضرار ". سبق تخريجه ف ٤

(٢) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص ٩٤ (نشر دار الفكر بدمشق) .

(٣) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص ٩٤، والأشباه للسيوطي ص ٨٤.

وَبَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْهَا لاَ يَنْتَفِعُ بِهَا، وَمَا فَضَل رُدَّ إِلَى الْغَنِيمَةِ (١) .

وَلِلتَّفْصِيل: (ر: ضَرُورَة) .

الضَّرَرُ لاَ يُزَال بِمِثْلِهِ.

٩ - هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مُقَيِّدَةٌ لِقَاعِدَةِ " الضَّرَرُ يُزَال " بِمَعْنَى أَنَّ الضَّرَرَ مَهْمَا كَانَ وَاجِبَ الإِْزَالَةِ، فَإِزَالَتُهُ إِمَّا بِلاَ ضَرَرٍ أَصْلًا أَوْ بِضَرَرٍ أَخَفَّ مِنْهُ، كَمَا هُوَ مُقْتَضَى قَاعِدَةِ " الضَّرَرُ الأَْشَدُّ يُزَال بِالأَْخَفِّ " وَأَمَّا إِزَالَةُ الضَّرَرِ بِضَرَرٍ مِثْلِهِ أَوْ أَشَدَّ فَلاَ يَجُوزُ، وَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ عَقْلًا - أَيْضًا - لأَِنَّ السَّعْيَ فِي إِزَالَتِهِ بِمِثْلِهِ عَبَثٌ.

وَمِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى قَتْل الْمُسْلِمِ بِالْقَتْل مَثَلًا لاَ يَجُوزُ؛ لأَِنَّ هَذَا إِزَالَةُ الضَّرَرِ بِضَرَرٍ مِثْلِهِ، بِخِلاَفِ أَكْل مَالِهِ فَإِنَّهُ إِزَالَةُ الضَّرَرِ بِمَا هُوَ أَخَفُّ.

وَمِنْهَا لَوِ ابْتَلَعَتْ دَجَاجَةٌ لُؤْلُؤَةً، أَوْ أَدْخَل الْبَقَرُ رَأْسَهُ فِي قِدْرٍ، أَوْ أَوْدَعَ فَصِيلًا فَكَبِرَ فِي بَيْتِ الْمُودَعِ وَلَمْ يُمْكِنْ إِخْرَاجُهُ إِلاَّ بِهَدْمِ الْجِدَارِ، أَوْ كَسْرِ الْقِدْرِ، أَوْ ذَبْحِ الدَّجَاجَةِ، يَضْمَنُ صَاحِبُ الأَْكْثَرِ قِيمَةَ الأَْقَل؛ لأَِنَّ الأَْصْل أَنَّ الضَّرَرَ الأَْشَدَّ يُزَال بِالأَْخَفِّ (٢) .

_________

(١) الأشباه لابن نجيم ص ٣٤ (ط: المطبعة الحسينية المصرية)، والأشباه للسيوطي ٨٤.

(٢) شرح المجلة للآتاسي ١ / ٦٣ - ٦٤ المادة (٢٥) و(٩٠٦) .

يُتَحَمَّل الضَّرَرُ الْخَاصُّ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْعَامِّ:

١٠ - هَذِهِ الْقَاعِدَةُ مُقَيِّدَةٌ لِقَاعِدَةِ " الضَّرَرُ لاَ يُزَال بِمِثْلِهِ " أَيْ لاَ يُزَال الضَّرَرُ بِالضَّرَرِ إِلاَّ إِذَا كَانَ أَحَدُهُمَا عَامًّا وَالآْخَرُ خَاصًّا، فَيُتَحَمَّل حِينَئِذٍ الضَّرَرُ الْخَاصُّ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْعَامِّ.

وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ مُهِمَّةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرْعِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمَقَاصِدِ الشَّرْعِيَّةِ فِي مَصَالِحِ الْعِبَادِ اسْتَخْرَجَهَا الْمُجْتَهِدُونَ مِنَ الإِْجْمَاعِ وَمَعْقُول النُّصُوصِ، قَال الأَْتَاسِيُّ نَقْلًا عَنِ الْغَزَالِيِّ: إِنَّ الشَّرْعَ إِنَّمَا جَاءَ لِيَحْفَظَ عَلَى النَّاسِ دِينَهُمْ وَأَنْفُسَهُمْ وَعُقُولَهُمْ وَأَنْسَابَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَكُل مَا يَكُونُ بِعَكْسِ هَذَا فَهُوَ مَضَرَّةٌ يَجِبُ إِزَالَتُهَا مَا أَمْكَنَ وَإِلاَّ فَتَأْيِيدًا لِمَقَاصِدِ الشَّرْعِ يُدْفَعُ فِي هَذَا السَّبِيل الضَّرَرُ الأَْعَمُّ بِالضَّرَرِ الأَْخَصِّ (١)

إِذَا تَعَارَضَ مَفْسَدَتَانِ رُوعِيَ أَعْظَمُهُمَا ضَرَرًا بِارْتِكَابِ أَخَفِّهِمَا:

١١ - هَذِهِ الْقَاعِدَةُ وَقَاعِدَةُ " الضَّرَرُ الأَْشَدُّ يُزَال بِالأَْخَفِّ " وَقَاعِدَةُ " يُخْتَارُ أَهْوَنُ الشَّرَّيْنِ " مُتَّحِدَاتٌ، وَالْمُسَمَّى وَاحِدٌ، وَإِنِ اخْتَلَفَ التَّعْبِيرُ. وَمَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهَا يَتَفَرَّعُ عَلَى أُخْتَيْهَا.

وَمِنْ فُرُوعِهَا جَوَازُ شَقِّ بَطْنِ الْمَيْتَةِ لإِخْرَاجِ الْوَلَدِ إِذَا كَانَتْ تُرْجَى حَيَاتُهُ (٢) .

_________

(١) شرح المجلة للآتاسي ١ / ٦٦ المادة (٢٦) .

(٢) الأشباه لابن نجيم ص ٣٥، (ط: المطبعة الحسينية)، وشرح المجلة للآتاسي ١ / ٦٩.

اسْتِعْمَال الْحَقِّ بِالنَّظَرِ إِلَى مَا يَئُول إِلَيْهِ مِنْ أَضْرَارٍ:

١٢ - يَقُول الشَّاطِبِيُّ: جَلْبُ الْمَصْلَحَةِ أَوْ دَفْعُ الْمَفْسَدَةِ إِذَا كَانَ مَأْذُونًا فِيهِ عَلَى ضَرْبَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ لاَ يَلْزَمَ عَنْهُ إِضْرَارُ الْغَيْرِ.

وَالثَّانِي: أَنْ يَلْزَمَ عَنْهُ ذَلِكَ، وَهَذَا ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا:

أَنْ يَقْصِدَ الْجَالِبُ أَوِ الدَّافِعُ ذَلِكَ الإِْضْرَارَ كَالْمُرَخِّصِ فِي سِلْعَتِهِ قَصْدًا لِطَلَبِ مَعَاشِهِ، وَصَحِبَهُ قَصْدَ الإِْضْرَارِ بِالْغَيْرِ.

وَالثَّانِي: أَنْ لاَ يَقْصِدَ إِضْرَارًا بِأَحَدٍ، وَهُوَ قِسْمَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الإِْضْرَارُ عَامًّا كَتَلَقِّي السِّلَعِ وَبَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي وَالاِمْتِنَاعِ عَنْ بَيْعِ دَارِهِ أَوْ فَدَّانِهِ، وَقَدِ اضْطُرَّ إِلَيْهِ النَّاسُ لِمَسْجِدٍ جَامِعٍ أَوْ غَيْرِهِ.

وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ خَاصًّا، وَهُوَ نَوْعَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَلْحَقَ الْجَالِبَ أَوِ الدَّافِعَ بِمَنْعِهِ مِنْ ذَلِكَ ضَرَرٌ، فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى فِعْلِهِ، كَالدَّافِعِ عَنْ نَفْسِهِ مَظْلِمَةً يَعْلَمُ أَنَّهَا تَقَعُ بِغَيْرِهِ، أَوْ يَسْبِقُ إِلَى شِرَاءِ طَعَامٍ، أَوْ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ، أَوْ إِلَى صَيْدٍ أَوْ حَطَبٍ أَوْ مَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ عَالِمًا أَنَّهُ إِذَا حَازَهُ تَضَرَّرَ غَيْرُهُ بِعَدَمِهِ، وَلَوْ أُخِذَ مِنْ يَدِهِ تَضَرَّرَ.

وَالثَّانِي: أَنْ لاَ يَلْحَقَهُ بِذَلِكَ ضَرَرٌ، وَهُوَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَنْوَاعٍ:

الأَْوَّل: مَا يَكُونُ أَدَاؤُهُ إِلَى الْمَفْسَدَةِ قَطْعِيًّا، أَعْنِي الْقَطْعَ الْعَادِيَ كَحَفْرِ الْبِئْرِ خَلْفَ الدَّارِ فِي الظَّلاَمِ، بِحَيْثُ يَقَعُ الدَّاخِل فِيهِ، وَشِبْهُ ذَلِكَ.

وَالثَّانِي: مَا يَكُونُ أَدَاؤُهُ إِلَى الْمَفْسَدَةِ نَادِرًا كَحَفْرِ الْبِئْرِ بِمَوْضِعٍ لاَ يُؤَدِّي غَالِبًا إِلَى وُقُوعِ أَحَدٍ فِيهِ، وَأَكْل الأَْغْذِيَةِ الَّتِي غَالِبًا لاَ تَضُرُّ أَحَدًا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

وَالثَّالِثُ: مَا يَكُونُ أَدَاؤُهُ إِلَى الْمَفْسَدَةِ كَثِيرًا لاَ نَادِرًا، وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ غَالِبًا كَبَيْعِ السِّلاَحِ مِنْ أَهْل الْحَرْبِ، وَالْعِنَبِ مِنَ الْخَمَّارِ، وَمَا يُغَشُّ بِهِ مِمَّنْ شَأْنُهُ الْغِشُّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا لاَ غَالِبًا كَمَسَائِل بُيُوعِ الآْجَال. فَهَذِهِ ثَمَانِيَةُ أَقْسَامٍ:

الْقِسْمُ الأَْوَّل: اسْتِعْمَال الْحَقِّ بِحَيْثُ لاَ يَلْزَمُ عَنْهُ مَضَرَّةٌ:

اسْتِعْمَال الْحَقِّ إِذَا لَمْ يَلْزَمْ عَنْهُ مَضَرَّةٌ بِالْغَيْرِ - حُكْمُهُ أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى أَصْلِهِ مِنَ الإِْذْنِ وَلاَ إِشْكَال فِيهِ وَلاَ حَاجَةَ إِلَى الاِسْتِدْلاَل عَلَيْهِ لِثُبُوتِ الدَّلِيل عَلَى الإِْذْنِ ابْتِدَاءً.

الْقِسْمُ الثَّانِي: اسْتِعْمَال الْحَقِّ بِقَصْدِ الإِْضْرَارِ بِالْغَيْرِ:

لاَ إِشْكَال فِي مَنْعِ الْقَصْدِ إِلَى الإِْضْرَارِ مِنْ

حَيْثُ هُوَ إِضْرَارٌ لِثُبُوتِ الدَّلِيل عَلَى أَنَّهُ لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ فِي الإِْسْلاَمِ (١) .

وَالضَّابِطُ الْكُلِّيُّ فِي اسْتِعْمَال الْحَقِّ هُوَ مَا ذَكَرَهُ الْغَزَالِيُّ حَيْثُ يَقُول: أَنْ لاَ يُحِبَّ لأَِخِيهِ إِلاَّ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، فَكُل مَا لَوْ عُومِل بِهِ شَقَّ عَلَيْهِ وَثَقُل عَلَى قَلْبِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ لاَ يُعَامِل بِهِ غَيْرَهُ (٢) .

وَجَاءَ فِي مُعِينِ الْحُكَّامِ فِي شَرْحِ حَدِيثِ لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ فَنَهَى النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يَتَعَمَّدَ أَحَدُهُمَا الإِْضْرَارَ بِصَاحِبِهِ وَعَنْ أَنْ يَقْصِدَا ذَلِكَ جَمِيعًا (٣) .

وَفِيمَا يَلِي نَذْكُرُ بَعْضَ الْفُرُوعِ الْفِقْهِيَّةِ تَطْبِيقًا لِهَذَا النَّوْعِ مِنِ اسْتِعْمَال الْحَقِّ:

الإِْضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ:

١٣ - رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵄ مَرْفُوعًا الإِْضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ مِنَ الْكَبَائِرِ (٤) وَوَرَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁ أَنَّ رَسُول اللَّهِ ﷺ قَال: إِنَّ الرَّجُل لَيَعْمَل وَالْمَرْأَةُ بِطَاعَةِ اللَّهِ سِتِّينَ سَنَةً ثُمَّ

_________

(١) الموافقات للشاطبي ٢ / ٣٤٨ وما بعدها (نشر المكتبة التجارية الكبرى) .

(٢) إحياء علوم الدين ٢ / ٧٦.

(٣) معين الحكام ص ٢٤٤ (ط. الميمنية) .

(٤) تفسير القرطبي ٢ / ٢٥٢، وحديث: " الإضرار في الوصية من الكبائر ". أخرجه الدارقطني (٤ / ١٥١) والبيهقي (٦ / ٢٧١) وصوب البيهقي وقفه على ابن عباس.

يَحْضُرُهُمَا الْمَوْتُ فَيُضَارَّانِ فِي الْوَصِيَّةِ فَتَجِبُ لَهُمَا النَّارُ (١) قَال شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ (٢) (رَاوِي الْحَدِيثِ) ثُمَّ قَرَأَ عَلَيَّ أَبُو هُرَيْرَةَ ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ﴾ إِلَى قَوْلِهِ ﴿وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (٣)

وَالإِْضْرَارُ فِي الْوَصِيَّةِ تَارَةً يَكُونُ بِأَنْ يَخُصَّ بَعْضَ الْوَرَثَةِ بِزِيَادَةٍ عَلَى فَرْضِهِ الَّذِي فَرَضَهُ اللَّهُ لَهُ فَيَتَضَرَّرَ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ بِتَخْصِيصِهِ، وَلِهَذَا قَال النَّبِيُّ ﷺ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُل ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ (٤) وَتَارَةً بِأَنْ يُوصِيَ لأَِجْنَبِيٍّ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ فَيُنْقِصَ حُقُوقَ الْوَرَثَةِ، وَلِهَذَا قَال النَّبِيُّ ﷺ الثُّلُثُ، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ (٥) وَمَتَى أَوْصَى لِوَارِثٍ أَوْ لأَِجْنَبِيٍّ بِزِيَادَةٍ عَلَى الثُّلُثِ لَمْ يَنْفُذْ مَا أَوْصَى بِهِ إِلاَّ بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ (٦) .

وَلِلْفُقَهَاءِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ فِي رَدِّ وَصِيَّةِ الْمُوصِي إِذَا قَصَدَ بِوَصِيَّتِهِ الْمُضَارَّةَ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (وَصِيَّة) .

_________

(١) حديث: " إن الرجل ليعمل والمرأة بطاعة الله ستين سنة. . ". أخرجه الترمذي (٤ / ٤٣١) وأشار المناوي إلى تضعيفه في فيض القدير (٢ / ٣٣٥) .

(٢) تفسير الجصاص ١ / ٢٠١ (المطبعة البهية المصرية) .

(٣) سورة النساء / ١٢ - ١٣.

(٤) حديث: " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه. . . ". أخرجه الترمذي (٤ / ٤٣٣) من حديث أبي أمامة، وحسنه ابن حجر في التلخيص (٣ / ٩٢) .

(٥) حديث: " الثلث والثلث كثير ". أخرجه البخاري (٧ / ٢٦٩) ومسلم (٣ / ١٢٥٠) .

(٦) جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي ص ٢٨٨.

الإِْضْرَارُ بِالرَّجْعَةِ:

١٤ - مَنْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثُمَّ رَاجَعَهَا وَكَانَ قَصْدُهُ بِالرَّجْعَةِ الْمُضَارَّةَ فَإِنَّهُ آثِمٌ بِذَلِكَ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ ﷾ عَنْ هَذَا التَّصَرُّفِ بِقَوْلِهِ: ﴿وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَل ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ (١) يَقُول الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآْيَةِ: وَلاَ تُرَاجِعُوهُنَّ إِنْ رَاجَعْتُمُوهُنَّ فِي عِدَدِهِنَّ مُضَارَّةً لَهُنَّ لِتُطَوِّلُوا عَلَيْهِنَّ مُدَّةَ انْقِضَاءِ عِدَدِهِنَّ، أَوْ لِتَأْخُذُوا مِنْهُنَّ بَعْضَ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ بِطَلَبِهِنَّ الْخُلْعَ مِنْكُمْ لِمُضَارَّتِكُمْ إِيَّاهُنَّ، بِإِمْسَاكِكُمْ إِيَّاهُنَّ وَمُرَاجَعَتِكُمُوهُنَّ ضِرَارًا وَاعْتِدَاءً (٢) .

@ @ @ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ ﷾ نَهَى الأَْزْوَاجَ أَنْ يُمْسِكُوا زَوْجَاتِهِمْ بِقَصْدِ إِضْرَارِهِنَّ بِتَطْوِيل الْعِدَّةِ، أَوْ أَخْذِ بَعْضِ مَالِهِنَّ، وَالنَّهْيُ يُفِيدُ التَّحْرِيمَ فَتَكُونُ الرَّجْعَةُ مُحَرَّمَةً فِي هَذِهِ الْحَالَةِ (٣) .

وَلِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلٌ وَخِلاَفٌ فِي حُكْمِ الرَّجْعِيَّةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ. يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (رَجْعَة ف ٤) .

١٥ - وَمِنْ صُوَرِ الإِْضْرَارِ: الإِْيلاَءُ، وَغَيْبَةُ

_________

(١) سورة البقرة / ٢٣١.

(٢) تفسير الطبري ٥ / ٧ - ٨ (نشر دار المعارف) .

(٣) جامع العلوم والحكم لابن رجب ص ٢٨٨.

الزَّوْجِ، وَالْحَبْسُ، فَيُفَرَّقُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ، بِشُرُوطِهِ عَلَى تَفْصِيلٍ وَخِلاَفٍ فِيهِ.

وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ: (إِيلاَء، وَطَلاَقٌ، وَفَسْخٌ، وَغَيْبَةٌ، وَمَفْقُودٌ) .

الإِْضْرَارُ فِي الرَّضَاعِ:

١٦ - إِنْ رَغِبَتْ الأُْمُّ فِي إِرْضَاعِ وَلَدِهَا أُجِيبَتْ وُجُوبًا سَوَاءٌ كَانَتْ مُطَلَّقَةً أَمْ فِي عِصْمَةِ الأَْبِ عَلَى قَوْل جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا﴾ (١) وَالْمَنْعُ مِنْ إِرْضَاعِ وَلَدِهَا مُضَارَّةٌ لَهَا (٢) .

وَقِيل: إِنْ كَانَتِ الأُْمُّ فِي حِبَال الزَّوْجِ فَلَهُ مَنْعُهَا مِنْ إِرْضَاعِ وَلَدِهَا إِلاَّ أَنْ لاَ يُمْكِنَ ارْتِضَاعُهُ مِنْ غَيْرِهَا، وَلَكِنْ إِنَّمَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ إِذَا كَانَ قَصْدُ الزَّوْجِ بِهِ تَوْفِيرَ الزَّوْجَةِ لِلاِسْتِمْتَاعِ، لاَ مُجَرَّدَ إِدْخَال الضَّرَرِ عَلَيْهَا (٣)، وَيَلْزَمُ الأَْبَ إِجَابَةُ طَلَبِ الْمُطَلَّقَةِ فِي إِرْضَاعِ وَلَدِهَا مَا لَمْ تَطْلُبْ زِيَادَةً عَلَى أُجْرَةِ مِثْلِهَا، أَمَّا إِنْ طَلَبَتْ زِيَادَةً عَلَى أُجْرَةِ مِثْلِهَا زِيَادَةً كَبِيرَةً، وَوَجَدَ الأَْبُ مَنْ يَرْضِعُهُ بِأُجْرَةِ الْمِثْل لَمْ يَلْزَمِ الأَْبَ إِجَابَتُهَا إِلَى مَا طَلَبَتْ، لأَِنَّهَا تَقْصِدُ الْمُضَارَّةَ (٤) .

_________

(١) سورة البقرة / ٢٣٣.

(٢) المغني ٧ / ٦٢٧، وأسنى المطالب ٣ / ٤٤٥، والدسوقي ٢ / ٥٢٦، وابن عابدين ٢ / ٦٧٥ - ٦٧٦، وجامع العلوم والحكم ص ٢٨٩.

(٣) جامع العلوم والحكم لابن رجب ص ٢٨٩.

(٤) نفس المرجع.