الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٢٨
وَلِلتَّفْصِيل: (ر: رَضَاعٌ) .
الإِْضْرَارُ فِي الْبَيْعِ:
١٧ - مِنْ أَمْثِلَةِ الضَّرَرِ فِي الْبُيُوعِ بَيْعُ الرَّجُل عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَالسَّوْمُ وَالشِّرَاءُ عَلَى شِرَاءِ أَخِيهِ، وَالنَّجْشُ وَتَلَقِّي الْجَلْبَ أَوِ الرُّكْبَانِ، وَبَيْعُ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي، وَبَيْعُ الْمُضْطَرِّ (١) وَيُنْظَرُ أَحْكَامُ هَذِهِ الْبُيُوعِ فِي (بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ: ف ١٠٠ - ١٣٢) .
١٨ - وَمِمَّا يَنْدَرِجُ فِي الْقِسْمِ الثَّانِي حَسَبَ تَقْسِيمَاتِ الشَّاطِبِيِّ: اسْتِعْمَال صَاحِبِ الْحَقِّ حَقَّهُ لِتَحْقِيقِ مَصْلَحَةٍ مَشْرُوعَةٍ لَهُ عَلَى وَجْهٍ يَتَضَرَّرُ مِنْهُ غَيْرُهُ.
يَقُول الشَّاطِبِيُّ: لَكِنْ يَبْقَى النَّظَرُ فِي الْعَمَل الَّذِي اجْتَمَعَ فِيهِ قَصْدُ نَفْعِ النَّفْسِ، وَقَصْدُ إِضْرَارِ الْغَيْرِ هَل يُمْنَعُ مِنْهُ فَيَصِيرُ غَيْرَ مَأْذُونٍ فِيهِ، أَمْ يَبْقَى عَلَى حُكْمِهِ الأَْصْلِيِّ مِنَ الإِْذْنِ وَيَكُونُ عَلَيْهِ إِثْمُ مَا قَصَدَ؟ هَذَا مِمَّا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْخِلاَفُ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَهُوَ جَارٍ فِي مَسْأَلَةِ الصَّلاَةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ مَعَ ذَلِكَ فَيُحْتَمَل الاِجْتِهَادُ فِيهِ.
وَهُوَ أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ إِذَا رَفَعَ ذَلِكَ الْعَمَل وَانْتَقَل إِلَى وَجْهٍ آخَرَ فِي اسْتِجْلاَبِ تِلْكَ
_________
(١) جامع العلوم والحكم ص ٢٨٩ - ٢٩٠.
الْمَصْلَحَةِ، أَوْ دَرْءِ تِلْكَ الْمَفْسَدَةِ جُعِل لَهُ مَا أَرَادَ أَوْ لاَ، فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَلاَ إِشْكَال فِي مَنْعِهِ مِنْهُ، لأَِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ غَيْرَ الإِْضْرَارِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحِيصٌ عَنْ تِلْكَ الْجِهَةِ الَّتِي يَسْتَضِرُّ مِنْهَا الْغَيْرُ، فَحَقُّ الْجَالِبِ أَوِ الدَّافِعِ مُقَدَّمٌ وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ قَصْدِ الإِْضْرَارِ، وَلاَ يُقَال: إِنَّ هَذَا تَكْلِيفٌ بِمَا لاَ يُطَاقُ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا كُلِّفَ بِنَفْيِ قَصْدِ الإِْضْرَارِ وَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ الْكَسْبِ لاَ بِنَفْيِ الإِْضْرَارِ بِعَيْنِهِ (١) .
١٩ - وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا النَّوْعِ مَا ذَكَرَهُ التَّسَوُّلِيُّ، فِيمَنْ أَرَادَ أَنْ يَحْفِرَ بِئْرًا فِي مِلْكِهِ وَيَضُرَّ بِجِدَارِ جَارِهِ: وَأَمَّا إِنْ وَجَدَ عَنْهُ مَنْدُوحَةً وَلَمْ يَتَضَرَّرْ بِتَرْكِ حَفْرِهِ فَلاَ يُمَكَّنُ مِنْ حَفْرِهِ لِتَمَحُّضِ إِضْرَارِهِ بِجَارِهِ حِينَئِذٍ (٢) .
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ وَمُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ قَرِيبٌ مِنْ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ فِي هَذَا الصَّدَدِ، إِذْ هُمْ يُقَيِّدُونَ حَقَّ الْمَالِكِ فِي التَّصَرُّفِ بِمِلْكِهِ بِمَا يَمْنَعُ الإِْضْرَارَ الْفَاحِشَ عَنْ جَارِهِ فَقَدْ جَاءَ فِي الْمُغْنِي: لَيْسَ لِلْجَارِ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِهِ تَصَرُّفًا يُضِرُّ بِجَارِهِ، نَحْوَ أَنْ يَبْنِيَ فِيهِ حَمَّامًا بَيْنَ الدُّورِ، أَوْ يَفْتَحَ خَبَّازًا بَيْنَ الْعَطَّارِينَ (٣) .
وَالزَّيْلَعِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ يُقَرِّرُ هَذَا الْمَعْنَى وَيَقُول: إِنَّ لِلإِْنْسَانِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ
_________
(١) الموافقات ٢ / ٣٤٩.
(٢) البهجة في شرح التحفة ٢ / ٣٣٦.
(٣) المغني لابن قدامة ٤ / ٥٧٢.
مَا شَاءَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ مَا لَمْ يُضِرَّ بِغَيْرِهِ ضَرَرًا ظَاهِرًا. . . وَلَوْ أَرَادَ بِنَاءَ تَنُّورٍ فِي دَارِهِ لِلْخَبْزِ الدَّائِمِ، كَمَا يَكُونُ فِي الدَّكَاكِينِ، أَوْ رَحًا لِلطَّحْنِ، أَوْ مِدَقَّاتٍ لِلْقَصَّارِينَ لَمْ يَجُزْ، لأَِنَّ ذَلِكَ يُضِرُّ بِالْجِيرَانِ ضَرَرًا ظَاهِرًا فَاحِشًا لاَ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهُ، وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ يَجُوزُ لأَِنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِهِ، وَتُرِكَ ذَلِكَ اسْتِحْسَانًا لأَِجْل الْمَصْلَحَةِ (١) .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: لُحُوقُ الضَّرَرِ بِجَالِبِ الْمَصْلَحَةِ أَوْ دَافِعِ الْمَفْسَدَةِ عِنْدَ مَنْعِهِ مِنَ اسْتِعْمَال حَقِّهِ:
٢٠ - هَذَا لاَ يَخْلُو أَنْ يَلْزَمَ مِنْ مَنْعِهِ الإِْضْرَارُ بِهِ بِحَيْثُ لاَ يَنْجَبِرُ أَوَّلًا، فَإِنْ لَزِمَ قُدِّمَ حَقُّهُ عَلَى الإِْطْلاَقِ (٢) .
وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا النَّوْعِ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ قُدَامَةَ مِنْ أَنَّهُ إِذَا اشْتَدَّتْ الْمَخْمَصَةُ فِي سَنَةِ الْمَجَاعَةِ وَأَصَابَتْ خَلْقًا كَثِيرًا، وَكَانَ عِنْدَ بَعْضِ النَّاسِ قَدْرُ كِفَايَتِهِ وَكِفَايَةِ عِيَالِهِ، لَمْ يَلْزَمْهُ بَذْلُهُ لِلْمُضْطَرِّينَ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَخْذُهُ مِنْهُ لأَِنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى وُقُوعِ الضَّرَرِ بِهِ وَلاَ يَدْفَعُهُ عَنْهُمْ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانُوا فِي سَفَرٍ وَمَعَهُ قَدْرُ كِفَايَتِهِ مِنْ غَيْرِ فَضْلَةٍ، لَمْ يَلْزَمْهُ بَذْل مَا مَعَهُ لِلْمُضْطَرِّينَ، لأَِنَّ الْبَذْل فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُفْضِي إِلَى هَلاَكِ
_________
(١) تبيين الحقائق للزيلعي ٤ / ١٩٦.
(٢) الموافقات ٢ / ٣٤٩.
نَفْسِهِ وَهَلاَكِ عِيَالِهِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ، كَمَا لَوْ أَمْكَنَهُ إِنْجَاءُ الْغَرِيقِ بِتَغْرِيقِ نَفْسِهِ، وَلأَِنَّ فِي بَذْلِهِ إِلْقَاءً بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ (١) .
أَمَّا إِذَا أَمْكَنَ انْجِبَارُ الإِْضْرَارِ وَرَفْعُهُ جُمْلَةً فَاعْتِبَارُ الضَّرَرِ الْعَامِّ أَوْلَى فَيُمْنَعُ الْجَالِبُ أَوِ الدَّافِعُ مِمَّا هَمَّ بِهِ، لأَِنَّ الْمَصَالِحَ الْعَامَّةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْمَصَالِحِ الْخَاصَّةِ بِدَلِيل النَّهْيِ عَنْ تَلَقِّي السِّلَعِ وَعَنْ بَيْعِ الْحَاضِرِ لِلْبَادِي، وَاتِّفَاقِ السَّلَفِ عَلَى تَضْمِينِ الصُّنَّاعِ مَعَ أَنَّ الأَْصْل فِيهِمُ الأَْمَانَةُ، وَقَدْ زَادُوا فِي مَسْجِدِ رَسُول اللَّهِ ﷺ مِنْ غَيْرِهِ مِمَّا رَضِيَ أَهْلُهُ وَمَا لاَ، وَذَلِكَ يَقْضِي بِتَقْدِيمِ مَصْلَحَةِ الْعُمُومِ عَلَى مَصْلَحَةِ الْخُصُوصِ لَكِنْ بِحَيْثُ لاَ يَلْحَقُ الْخُصُوصَ مَضَرَّةٌ (لاَ تَنْجَبِرُ) (٢) وَهُوَ مُفَادُ قَاعِدَةِ " يُتَحَمَّل الضَّرَرُ الْخَاصُّ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْعَامِّ " (٣) .
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: دَفْعُ الضَّرَرِ بِالتَّمْكِينِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ:
٢١ - فَمِنْ ذَلِكَ الرِّشْوَةُ عَلَى دَفْعِ الظُّلْمِ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى دَفْعِهِ إِلاَّ بِذَلِكَ، وَإِعْطَاءُ الْمَال لِلْمُحَارِبِينَ وَلِلْكُفَّارِ فِي فِدَاءِ الأَْسْرَى،
_________
(١) المغني ٨ / ٦٠٣.
(٢) الموافقات ٢ / ٢٥٠ والذي بين القوسين من التعليقات على الموافقات.
(٣) مجلة الأحكام العدلية المادة (٢٦)، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص ٩٦ نشر دار الفكر بدمشق.
وَلِمَانِعِي الْحَاجِّ حَتَّى يُؤَدُّوا خَرَاجًا، كُل ذَلِكَ انْتِفَاعٌ أَوْ دَفْعُ ضَرَرٍ بِتَمْكِينٍ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ طَلَبُ فَضِيلَةِ الْجِهَادِ، مَعَ أَنَّهُ تَعَرُّضٌ لِمَوْتِ الْكَافِرِ عَلَى الْكُفْرِ، أَوْ قَتْل الْكَافِرِ الْمُسْلِمَ، بَل قَال ﵊: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَل فِي سَبِيل اللَّهِ ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَل (١) وَلاَزِمُ ذَلِكَ دُخُول قَاتِلِهِ النَّارَ، وَقَوْل أَحَدِ ابْنَيْ آدَمَ ﴿إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ﴾ (٢) بَل الْعُقُوبَاتُ كُلُّهَا جَلْبُ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَرْءُ مَفْسَدَةٍ يَلْزَمُ عَنْهَا إِضْرَارُ الْغَيْرِ، إِلاَّ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ إِلْغَاءٌ لِجَانِبِ الْمَفْسَدَةِ لأَِنَّهَا غَيْرُ مَقْصُودَةٍ لِلشَّارِعِ فِي شَرْعِ هَذِهِ الأَْحْكَامِ، وَلأَِنَّ جَانِبَ الْجَالِبِ وَالدَّافِعِ أَوْلَى (٣) .
الْقِسْمُ الْخَامِسُ: التَّصَرُّفُ الْمُفْضِي إِلَى الْمَفْسَدَةِ قَطْعًا:
٢٢ - الْمَفْرُوضُ فِي هَذَا الْوَجْهِ أَنَّهُ لاَ يَلْحَقَ الْجَالِبَ لِلْمَصْلَحَةِ أَوِ الدَّافِعَ لِلْمَفْسَدَةِ ضَرَرٌ، وَلَكِنَّ أَدَاءَهُ إِلَى الْمَفْسَدَةِ قَطْعِيٌّ عَادَةً فَلَهُ نَظَرَانِ: نَظَرٌ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ قَاصِدًا لِمَا يَجُوزُ أَنْ
_________
(١) حديث: " والذي نفسي بيده لوددت. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري ٦ / ١٦ ط. السلفية) من حديث أبي هريرة.
(٢) سورة المائدة / ٢٩.
(٣) الموافقات ٢ / ٣٥٠ وما بعدها.
يُقْصَدَ شَرْعًا مِنْ غَيْرِ قَصْدِ إِضْرَارٍ بِأَحَدٍ، فَهَذَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ جَائِزٌ لاَ مَحْظُورَ فِيهِ.
وَنَظَرٌ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ عَالِمًا بِلُزُومِ مَضَرَّةِ الْغَيْرِ لِهَذَا الْعَمَل الْمَقْصُودِ مَعَ عَدَمِ اسْتِضْرَارِهِ بِتَرْكِهِ، فَإِنَّهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مَظِنَّةٌ لِقَصْدِ الإِْضْرَارِ، لأَِنَّهُ فِي فِعْلِهِ إِمَّا فَاعِلٌ لِمُبَاحٍ صِرْفٍ لاَ يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِهِ مَقْصِدٌ ضَرُورِيٌّ وَلاَ حَاجِيٌّ وَلاَ تَكْمِيلِيٌّ فَلاَ قَصْدَ لِلشَّارِعِ فِي إِيقَاعِهِ مِنْ حَيْثُ يُوقَعُ، وَإِمَّا فَاعِلٌ لِمَأْمُورٍ بِهِ عَلَى وَجْهٍ يَقَعُ فِيهِ مَضَرَّةٌ مَعَ إِمْكَانِ فِعْلِهِ عَلَى وَجْهٍ لاَ يَلْحَقُ فِيهِ مَضَرَّةٌ وَلَيْسَ لِلشَّارِعِ قَصْدٌ فِي وُقُوعِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَلْحَقَ بِهِ الضَّرَرُ دُونَ الآْخَرِ.
وَعَلَى كِلاَ التَّقْدِيرَيْنِ فَتَوَخِّيهِ لِذَلِكَ الْفِعْل عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْمَضَرَّةِ لاَ بُدَّ فِيهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا تَقْصِيرٌ فِي النَّظَرِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ، وَإِمَّا قَصْدٌ إِلَى نَفْسِ الإِْضْرَارِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ - أَيْضًا - فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا مِنْ ذَلِكَ الْفِعْل، لَكِنْ إِذَا فَعَلَهُ يُعَدُّ مُتَعَدِّيًا بِفِعْلِهِ وَيَضْمَنُ ضَمَانَ الْمُتَعَدِّي عَلَى الْجُمْلَةِ (١) .
الْقِسْمُ السَّادِسُ: التَّصَرُّفُ الْمُفْضِي إِلَى الْمَفْسَدَةِ نَادِرًا:
٢٣ - الْمَفْرُوضُ فِي هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ الْجَالِبَ أَوْ
_________
(١) الموافقات للشاطبي ٢ / ٣٥٠، ٣٥٧، ٣٥٨.
الدَّافِعَ لاَ يَقْصِدُ الإِْضْرَارَ بِأَحَدٍ إِلاَّ أَنَّهُ يَلْزَمُ عَنْ فِعْلِهِ مَضَرَّةٌ بِالْغَيْرِ نَادِرًا، هُوَ عَلَى أَصْلِهِ مِنَ الإِْذْنِ، لأَِنَّ الْمَصْلَحَةَ إِذَا كَانَتْ غَالِبَةً فَلاَ اعْتِبَارَ بِالنُّدُورِ فِي انْخِرَامِهَا، إِذْ لاَ تُوجَدُ فِي الْعَادَةِ مَصْلَحَةٌ عَرِيَّةٌ عَنِ الْمَفْسَدَةِ جُمْلَةً، إِلاَّ أَنَّ الشَّارِعَ إِنَّمَا اعْتَبَرَ فِي مَجَارِي الشَّرْعِ غَلَبَةَ الْمَصْلَحَةِ وَلَمْ يَعْتَبِرْ نُدُورَ الْمَفْسَدَةِ إِجْرَاءً لِلشَّرْعِيَّاتِ مَجْرَى الْعَادِيَّاتِ فِي الْوُجُودِ، وَلاَ يُعَدُّ - هُنَا - قَصْدُ الْقَاصِدِ إِلَى جَلْبِ الْمَصْلَحَةِ أَوْ دَفْعِ الْمَفْسَدَةِ - مَعَ مَعْرِفَتِهِ بِنُدُورِ الْمَضَرَّةِ عَنْ ذَلِكَ - تَقْصِيرًا فِي النَّظَرِ وَلاَ قَصْدًا إِلَى وُقُوعِ الضَّرَرِ، فَالْعَمَل إِذَنْ بَاقٍ عَلَى أَصْل الْمَشْرُوعِيَّةِ، وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ أَنَّ ضَوَابِطَ الْمُشَرِّعَاتِ هَكَذَا وَجَدْنَاهَا: كَالْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ فِي الدِّمَاءِ وَالأَْمْوَال وَالْفُرُوجِ مَعَ إِمْكَانِ الْكَذِبِ وَالْوَهْمِ وَالْغَلَطِ، وَكَذَلِكَ إِعْمَال الْخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالأَْقْيِسَةِ الْجُزْئِيَّةِ فِي التَّكَالِيفِ مَعَ إِمْكَانِ إِخْلاَفِهَا وَالْخَطَأِ فِيهَا مِنْ وُجُوهٍ، لَكِنَّ ذَلِكَ نَادِرٌ فَلَمْ يُعْتَبَرْ وَاعْتُبِرَتِ الْمَصْلَحَةُ الْغَالِبَةُ (١) .
الْقِسْمُ السَّابِعُ: التَّصَرُّفُ الْمُؤَدِّي إِلَى الْمَفْسَدَةِ ظَنًّا:
٢٤ - قَدْ يَكُونُ التَّصَرُّفُ وَسِيلَةً مَوْضُوعَةً لِلْمُبَاحِ إِلاَّ أَنَّهُ يُظَنُّ أَدَاؤُهُ إِلَى الْمَفْسَدَةِ فَيَحْتَمِل
_________
(١) الموافقات ٢ / ٣٥٨.
الْخِلاَفَ، أَمَّا أَنَّ الأَْصْل الإِْبَاحَةُ وَالإِْذْنُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا أَنَّ الضَّرَرَ وَالْمَفْسَدَةَ تَلْحَقُ ظَنًّا فَهَل يَجْرِي الظَّنُّ مَجْرَى الْعِلْمِ فَيَمْنَعُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ أَمْ لاَ؛ لِجَوَازِ تَخَلُّفِهِمَا وَإِنْ كَانَ التَّخَلُّفُ نَادِرًا؟ لَكِنَّ اعْتِبَارَ الظَّنِّ هُوَ الأَْرْجَحُ، وَلاَ يُلْتَفَتُ إِلَى أَصْل الإِْذْنِ وَالإِْبَاحَةِ لأُِمُورٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الظَّنَّ فِي أَبْوَابِ الْعَمَلِيَّاتِ جَارٍ مَجْرَى الْعِلْمِ فَالظَّاهِرُ جَرَيَانُهُ هُنَا (١) .
وَالثَّانِي: قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ (٢) فَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى سَبَّ آلِهَةِ الْمُشْرِكِينَ مَعَ كَوْنِ السَّبِّ غَيْظًا وَحَمِيَّةً لِلَّهِ وَإِهَانَةً لآِلِهَتِهِمْ، لِكَوْنِهِ ذَرِيعَةً إِلَى سَبِّهِمْ لِلَّهِ تَعَالَى وَكَانَتْ مَصْلَحَةُ تَرْكِ مَسَبَّتِهِ تَعَالَى أَرْجَحَ مِنْ مَصْلَحَةِ سَبِّنَا لآِلِهَتِهِمْ، وَهَذَا كَالتَّنْبِيهِ بَل كَالتَّصْرِيحِ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الْجَائِزِ لِئَلاَّ يَكُونَ سَبَبًا فِي فِعْل مَا لاَ يَجُوزُ (٣) .
الْقِسْمُ الثَّامِنُ: التَّصَرُّفُ الْمُؤَدِّي إِلَى الْمَفْسَدَةِ كَثِيرًا:
٢٥ - إِذَا كَانَ أَدَاءُ التَّصَرُّفِ إِلَى الْمَفْسَدَةِ كَثِيرًا لاَ غَالِبًا وَلاَ نَادِرًا، فَهُوَ مَوْضِعُ نَظَرٍ وَالْتِبَاسٍ
_________
(١) الموافقات ٢ / ٣٥٩، وإعلام الموقعين لابن القيم ٣ / ١٣٦.
(٢) سورة الأنعام / ١٠٨.
(٣) إعلام الموقعين لابن القيم ٣ / ١٣٧.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِهِ.
فَيَرَى فَرِيقٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الأَْصْل فِيهِ الْحَمْل عَلَى الأَْصْل مِنْ صِحَّةِ الإِْذْنِ، لأَِنَّ الْعِلْمَ وَالظَّنَّ بِوُقُوعِ الْمَفْسَدَةِ مُنْتَفِيَانِ، إِذْ لَيْسَ - هُنَا - إِلاَّ احْتِمَالٌ مُجَرَّدٌ بَيْنَ الْوُقُوعِ وَعَدَمِهِ وَلاَ قَرِينَةَ تُرَجِّحُ أَحَدَ الْجَانِبَيْنِ عَلَى الآْخَرِ، وَاحْتِمَال الْقَصْدِ لِلْمَفْسَدَةِ، وَالإِْضْرَارِ لاَ يَقُومُ مَقَامَ نَفْسِ الْقَصْدِ وَلاَ يَقْتَضِيهِ.
وَذَهَبَ الْفَرِيقُ الآْخَرُ إِلَى الْمَنْعِ مِنْ مِثْل هَذَا التَّصَرُّفِ، لأَِنَّ الْقَصْدَ لاَ يَنْضَبِطُ فِي نَفْسِهِ لأَِنَّهُ مِنَ الأُْمُورِ الْبَاطِنَةِ لَكِنْ لَهُ مَجَالٌ - هُنَا - وَهُوَ كَثْرَةُ الْوُقُوعِ فِي الْوُجُودِ أَوْ هُوَ مَظِنَّةُ ذَلِكَ، فَكَمَا اعْتُبِرَتِ الْمَظِنَّةُ وَإِنْ صَحَّ التَّخَلُّفُ، كَذَلِكَ نَعْتَبِرُ الْكَثْرَةَ لأَِنَّهَا مَجَال الْقَصْدِ (١) .
وَلِلتَّفْصِيل: (ر: سَدُّ الذَّرَائِعِ) .
دَفْعُ الضَّرَرِ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ:
٢٦ - الْمَعْهُودُ فِي الشَّرِيعَةِ دَفْعُ الضَّرَرِ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ إِذَا تَعَيَّنَ طَرِيقًا لِدَفْعِ الضَّرَرِ كَالْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ، وَتَرْكِ رَكْعَتَيْنِ مِنَ الصَّلاَةِ لِدَفْعِ ضَرُورَةِ السَّفَرِ، وَكَذَلِكَ يُسْتَعْمَل الْمُحَرَّمُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ كَأَكْل الْمَيْتَةِ لِدَفْعِ ضَرَرِ التَّلَفِ، وَتُسَاغُ الْغُصَّةُ بِشُرْبِ الْخَمْرِ كَذَلِكَ، وَذَلِكَ كُلُّهُ لِتَعَيُّنِ الْوَاجِبِ أَوِ الْمُحَرَّمِ طَرِيقًا لِدَفْعِ الضَّرَرِ.
_________
(١) الموافقات للشاطبي ٢ / ٣٦١.
أَمَّا إِذَا أَمْكَنَ تَحْصِيل الْوَاجِبِ، أَوْ تَرْكُ الْمُحَرَّمِ مَعَ دَفْعِ الضَّرَرِ بِطَرِيقٍ آخَرَ مِنَ الْمَنْدُوبَاتِ أَوِ الْمَكْرُوهَاتِ فَلاَ يَتَعَيَّنُ تَرْكُ الْوَاجِبِ وَلاَ فِعْل الْمُحَرَّمِ، وَلِذَلِكَ لاَ يُتْرَكُ الْغُسْل بِالْمَاءِ، وَلاَ الْقِيَامُ فِي الصَّلاَةِ وَلاَ السُّجُودُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ وَالأَْلَمِ وَالْمَرَضِ، إِلاَّ لِتَعَيُّنِهِ طَرِيقًا لِدَفْعِ ذَلِكَ الضَّرَرِ، وَهَذَا كُلُّهُ قِيَاسٌ مُطَّرِدٌ (١) .
وُجُوبُ دَفْعِ الضَّرَرِ:
٢٧ - قَال الْحَصْكَفِيُّ: يَجِبُ قَطْعُ الصَّلاَةِ لإِغَاثَةِ مَلْهُوفٍ وَغَرِيقٍ وَحَرِيقٍ (٢) وَيَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: الْمُصَلِّي مَتَى سَمِعَ أَحَدًا يَسْتَغِيثُ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْهُ بِالنِّدَاءِ، أَوْ كَانَ أَجْنَبِيًّا وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ مَا حَل بِهِ، أَوْ عَلِمَ وَكَانَ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى إِغَاثَتِهِ قَطَعَ الصَّلاَةَ فَرْضًا كَانَتْ أَوْ غَيْرَهُ (٣) .
وَفِي الْجُمْلَةِ يَجِبُ إِغَاثَةُ الْمُضْطَرِّ بِإِنْقَاذِهِ مِنْ كُل مَا يُعَرِّضُهُ لِلْهَلاَكِ مِنْ غَرَقٍ أَوْ حَرْقٍ، فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ وَجَبَتِ الإِْعَانَةُ عَلَيْهِ وُجُوبًا عَيْنِيًّا، وَإِنْ كَانَ ثُمَّ غَيْرُهُ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا كِفَائِيًّا عَلَى الْقَادِرِينَ، فَإِنْ قَامَ بِهِ أَحَدٌ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ وَإِلاَّ أَثِمُوا جَمِيعًا (٤)
_________
(١) الفروق للقرافي ٢ / ١٢٣.
(٢) الدر المختار ١ / ٤٤٠.
(٣) ابن عابدين ١ / ٤٧٨.
(٤) الموسوعة الفقهية إعانة ف ٥.