الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٢٨
أَوْ غَيْرَهُ صِيَانَةً لِلأَْمْوَال (١) .
ب - إِذَا تَأَنَّسَ وَحْشِيُّ الأَْصْل، كَالظَّبْيِ مَثَلًا، أَوْ قُدِرَ عَلَى الْمُتَوَحِّشِ بِطَرِيقَةٍ أُخْرَى، كَأَنْ وَقَعَ فِي حِبَالِهِ أَوْ شَبَكٍ مَثَلًا، لاَ يُؤْكَل بِالْعَقْرِ، وَإِنَّمَا بِالتَّذْكِيَةِ، لأَِنَّهُ صَارَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ.
أَمَّا إِذَا تَأَنَّسَ الْمُتَوَحِّشُ، ثُمَّ نَدَّ وَتَوَحَّشَ مَرَّةً أُخْرَى، فَأَصْبَحَ غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ، فَيُؤْكَل بِالاِصْطِيَادِ (٢) .
ج - مَنْ رَمَى صَيْدًا فَأَثْخَنَهُ حَتَّى صَارَ لاَ يَقْدِرُ عَلَى الْفِرَارِ، ثُمَّ رَمَاهُ آخَرُ فَقَتَلَهُ لَمْ يُؤْكَل، لأَِنَّهُ صَارَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ (٣) .
وَأَضَافَ الْحَنَابِلَةُ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْقَاتِل أَصَابَ مَذْبَحَهُ حَل، لأَِنَّهُ صَادَفَ مَحَل الذَّبْحِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلاَّ أَرْشُ ذَبْحِهِ، كَمَا لَوْ ذَبَحَ شَاةً لِغَيْرِهِ، بِخِلاَفِ مَا إِذَا كَانَ أَصَابَ غَيْرَ مَذْبَحِهِ فَإِنَّهُ لاَ يَحِل لأَِنَّهُ لَمَّا أَثْبَتَهُ صَارَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ لاَ يَحِل إِلاَّ بِالذَّبْحِ (٤) .
وَهَذَا كُلُّهُ إِذَا لَمْ تَكُنْ حَيَاةُ الصَّيْدِ حَيَاةَ
_________
(١) نفس المراجع.
(٢) تبيين الحقائق للزيلعي ٦ / ٦٠، ٦١، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير ٢ / ١٠٣، والقوانين الفقهية لابن جزي ص ١٨٢، ١٨٣، والبجيرمي على المنهج ٤ / ٢٩١.
(٣) الزيلعي على كنز الدقائق ٦ / ٦٠، حاشية الدسوقي ٢ / ١٠٣، والمغني لابن قدامة ٨ / ٥٥٩، وانظر كذلك كشاف القناع ٦ / ٢١٥.
(٤) المغني لابن قدامة ٨ / ٥٥٩، ٥٦٠.
مَذْبُوحٍ، بَل كَانَتْ حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً، وَإِلاَّ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ يَأْتِي ذِكْرُهُ.
٢٢ - الشَّرْطُ الثَّالِثُ:
أَنْ لاَ يَكُونَ صَيْدَ الْحَرَمِ: فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ فِي الْحَرَمِ صَيْدُ الْحَيَوَانِ الْبَرِّيِّ - أَيْ مَا يَكُونُ تَوَالُدُهُ وَتَنَاسُلُهُ فِي الْبَرِّ - سَوَاءٌ أَكَانَ مَأْكُول اللَّحْمِ أَمْ غَيْرَ مَأْكُول اللَّحْمِ.
أَمَّا حُرْمَةُ صَيْدِ الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ فَلِقَوْلِهِ ﷺ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ، فَلَمْ تَحِل لأَِحَدٍ قَبْلِي وَلاَ تَحِل لأَِحَدٍ بَعْدِي، إِنَّمَا حُلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، لاَ يُخْتَلَى خَلاَهَا، وَلاَ يُعْضَدُ شَجَرُهَا وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا (١) .
وَحُرْمَةُ صَيْدِ الْحَرَمِ تَشْمَل الْمُحْرِمَ وَالْحَلاَل، كَمَا تَشْمَل إِيذَاءَ الصَّيْدِ وَتَنْفِيرَهُ وَالْمُسَاعَدَةَ عَلَى الصَّيْدِ بِأَيِّ وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، مِثْل الدَّلاَلَةِ عَلَيْهِ، أَوِ الإِْشَارَةِ إِلَيْهِ أَوِ الأَْمْرِ بِقَتْلِهِ (٢) .
أَمَّا صَيْدُ الْحَرَمِ الْمَدَنِيِّ فَفِيهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ، يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (حَرَم ف ٣٠) .
٢٣ - الشَّرْطُ الرَّابِعُ:
أَنْ لاَ يُدْرَكَ الصَّيْدُ حَيًّا حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً بَعْدَ الإِْصَابَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَذْهَبَ
_________
(١) حديث: " إن الله حرم مكة. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري ٤ / ٤٦) من حديث ابن عباس ﵄.
(٢) البدائع ٢ / ٢٠٧، ٢٠٩، وابن عابدين ٢ / ٢١٢، والدسوقي ٢ / ٧٢، ومغني المحتاج ١ / ٥٢٤، والمغني لابن قدامة ٣ / ٣٤٤، ٣٤٥.
الصَّائِدُ، أَوْ تَأْتِيَ بِهِ الْجَارِحَةُ فَيَجِدَهُ مَيِّتًا، أَوْ فِي حَرَكَةِ مَذْبُوحٍ، أَوْ يَكُونُ بِحَيْثُ لَوْ ذَهَبَ إِلَيْهِ لَوَجَدَهُ كَذَلِكَ، فَفِي
الْحَالَةِ الأُْولَى: وَهِيَ وُجُودُهُ مَيِّتًا يَحِل بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَفِي
الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ - وَهِيَ وُجُودُهُ فِي حَيَاةٍ غَيْرِ مُسْتَقِرَّةٍ - إِذَا ذَبَحَهُ حَل، وَكَذَا إِذَا لَمْ يَذْبَحْهُ وَمَاتَ، لأَِنَّ الذَّكَاةَ فِي مِثْل هَذَا لاَ تُفِيدُ شَيْئًا، إِلاَّ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ إِمْرَارُ السِّكِّينِ عَلَيْهِ.
أَمَّا إِذَا وَجَدَ الصَّائِدُ الصَّيْدَ حَيًّا حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً بَعْدَ الإِْصَابَةِ، أَوْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ ذَهَبَ إِلَيْهِ لَوَجَدَهُ كَذَلِكَ وَلَمْ يَذْبَحْهُ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ ذَلِكَ، فَمَاتَ لَمْ يَحِل أَكْلُهُ، لأَِنَّ ذَكَاتَهُ تَحَوَّلَتْ مِنَ الْجُرْحِ إِلَى الذَّبْحِ، فَإِذَا لَمْ يُذْبَحْ كَانَ مَيْتَةً، لِقَوْلِهِ ﷺ: مَا رَدَّ عَلَيْكَ كَلْبُكَ الْمُكَلَّبُ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَذَكِّهِ، وَإِنْ لَمْ تُدْرِكْ ذَكَاتَهُ فَلاَ تَأْكُل، وَمَا رَدَّتْ عَلَيْكَ يَدُكَ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ وَأَدْرَكْتَ ذَكَاتَهُ فَذَكِّهِ، وَإِنْ لَمْ تُدْرِكْ ذَكَاتَهُ فَكُلْهُ (١) .
وَكَذَا إِذَا جَاءَ الصَّائِدُ وَلَيْسَ مَعَهُ آلَةُ الذَّبْحِ، أَوْ تَرَاخَى فِي اتِّبَاعِ الصَّيْدِ، ثُمَّ وَجَدَهُ
_________
(١) حديث: " ما رد عليك كلبك المعلم. . . ". أورده بهذا اللفظ الشيرازي في المهذب (٩ / ١١٤ - بشرح النووي) . وقال النووي: " أخرجه البخاري ومسلم مختصرا ". وهو في البخاري (فتح الباري ٩ / ٦١٢) ومسلم (٣ / ١٥٣٢) من حديث أبي ثعلبة.
مَيِّتًا، أَوْ جَعَل الآْلَةَ مَعَ غُلاَمِهِ، وَكَانَ شَأْنُهُ أَنْ يَسْبِقَ الْغُلاَمُ فَسَبَقَهُ، وَأَدْرَكَ الصَّيْدَ حَيًّا، وَلَمْ يَأْتِ الْغُلاَمُ إِلاَّ بَعْدَ مَوْتِ الصَّيْدِ، أَوْ وَضْعِ الآْلَةِ فِي خُرْجِهِ أَوْ نَحْوِهِ مِمَّا يَسْتَدْعِي طُول زَمَنٍ فِي إِخْرَاجِهَا مِنْهُ، فَأَدْرَكَهُ حَيًّا فَلَمْ يَتِمَّ إِخْرَاجُ الآْلَةِ إِلاَّ بَعْدَ مَوْتِ الصَّيْدِ أَوْ تَشَبَّثَتِ الآْلَةُ فِي الْغِمْدِ وَكَانَ ضَيِّقًا، أَوْ سَقَطَتْ مِنْهُ، أَوْ ضَاعَتْ فَمَاتَ الصَّيْدُ حَرُمَ أَكْلُهُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ، وَكَذَا كُل صُورَةٍ لاَ يُتَمَكَّنُ فِيهَا مِنْ ذَبْحِ الصَّيْدِ بِتَقْصِيرٍ مِنْهُ.
أَمَّا إِذَا تَعَذَّرَ ذَبْحُهُ بِدُونِ تَقْصِيرٍ مِنْ صَائِدِهِ، كَأَنْ سَل السِّكِّينَ فَمَاتَ قَبْل إِمْكَانِ ذَبْحِهِ، أَوِ امْتَنَعَ بِقُوَّتِهِ، وَمَاتَ قَبْل الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَاشْتَغَل الصَّائِدُ بِطَلَبِ الْمَذْبَحِ، أَوْ وَقَعَ الصَّيْدُ مُنَكَّسًا فَاحْتَاجَ إِلَى قَلْبِهِ فَقَلَبَهُ، أَوِ اشْتَغَل بِتَوْجِيهِهِ إِلَى الْقِبْلَةِ، أَوْ تَشَبَّثَتِ السِّكِّينُ فِي الْغِمْدِ لِعَارِضٍ وَلَمْ يَكُنْ ضَيِّقًا، أَوْ حَال بَيْنَ الصَّيْدِ وَصَائِدِهِ سَبُعٌ فَمَاتَ الصَّيْدُ الْمُصَابُ حَل أَكْلُهُ لِعَدَمِ تَقْصِيرِهِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ مَشَى الصَّائِدُ عَلَى هَيْئَتِهِ وَلَمْ يَأْتِهِ عَدْوًا فَوَجَدَهُ مَيِّتًا بِسَبَبِ الإِْصَابَةِ حَل عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، وَفِي الْقَوْل الثَّانِي: يُشْتَرَطُ الْعَدْوُ إِلَى الصَّيْدِ عِنْدَ إِصَابَتِهِ، لأَِنَّهُ هُوَ الْمُعْتَادُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.
وَقَال الْحَنَابِلَةُ - فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ - إِذَا أَدْرَكَ الصَّائِدُ الصَّيْدَ وَفِيهِ حَيَاةٌ
مُسْتَقِرَّةٌ، وَلَمْ يَجِدْ مَا يَذْبَحُ بِهِ، وَكَانَتْ مَعَهُ جَارِحَةٌ، وَجَبَ أَنْ يُرْسِلَهَا عَلَيْهِ حَتَّى تَقْتُلَهُ فَيَحِل أَكْلُهُ، وَفِي الرِّوَايَةِ الأُْخْرَى عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ لاَ يَحِل مُطْلَقًا، وَقَال الْقَاضِي: يَحِل إِذَا مَاتَ مِنْ غَيْرِ ذَبْحٍ وَلاَ إِرْسَال جَارِحَةٍ عَلَيْهِ (١) .
٢٤ - الشَّرْطُ الْخَامِسُ:
أَنْ لاَ يَغِيبَ عَنِ الصَّائِدِ مُدَّةً طَوِيلَةً وَهُوَ قَاعِدٌ عَنْ طَلَبِهِ، فَإِنْ تَوَارَى الصَّيْدُ عَنْهُ، وَقَعَدَ عَنْ طَلَبِهِ لَمْ يُؤْكَل، أَمَّا إِذَا لَمْ يَتَوَارَ، أَوْ تَوَارَى وَلَمْ يَقْعُدْ عَنْ طَلَبِهِ أُكِل، وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ وَآرَاؤُهُمْ فِي بَعْضِ الْفُرُوعِ.
وَالْغَرَضُ مِنِ اشْتِرَاطِ هَذَا الشَّرْطِ هُوَ حُصُول التَّيَقُّنِ أَوِ الظَّنِّ، أَيِ الاِعْتِقَادِ الرَّاجِحِ، بِأَنَّ مَا وَجَدَهُ قَبْل الْغِيَابِ، أَوْ بَعْدَهُ مَعَ اسْتِمْرَارِ الطَّلَبِ هُوَ صَيْدُهُ، وَمَا أَرْسَلَهُ مِنَ السَّهْمِ أَوِ الْكَلْبِ أَوْ نَحْوِهِمَا مِنَ الآْلَةِ هُوَ الَّذِي أَصَابَهُ وَأَمَاتَهُ دُونَ غَيْرِهِ.
فَإِنْ شَكَّ فِي صَيْدِهِ، هَل هُوَ أَوْ غَيْرُهُ؟ أَوْ شَكَّ فِي الآْلَةِ الَّتِي أَرْسَلَهَا هَل هِيَ قَتَلَتْهُ؟ أَوْ غَيْرُهَا فَلاَ يُؤْكَل (٢) .
_________
(١» البدائع ٥ / ٥١، وجواهر الإكليل ١ / ٢١٢، المجموع للنووي ٩ / ١١٤، مغني المحتاج ٤ / ٢٦٩، المغني لابن قدامة ٨ / ٥٤٧ - ٥٤٨، كشاف القناع ٦ / ٢١٦، حاشية ابن عابدين ٥ / ٣٠٢، الزيلعي ٦ / ٢٥٣، نهاية المحتاج ٨ / ١٠٩، الشرح الكبير بحاشية الدسوقي ٢ / ١٠٧.
(٢) حاشية ابن عابدين على الدر المختار ٥ / ٣٠١، ٣٠٢، نقلا عن الهداية والزيلعي، والقوانين الفقهية ص ١٨٢، ١٨٣، ونهاية المحتاج للرملي ٨ / ١١٧، وكشاف القناع عن متن الإقناع ٦ / ٢٢٠، ٢٢١.
وَقَدْ فَرَّعَ الْفُقَهَاءُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ فُرُوعًا، مِنْهَا:
٢٥ - أ - إِذَا غَابَ الصَّيْدُ بَعْدَ إِرْسَال السَّهْمِ أَوِ الْكَلْبِ عَلَيْهِ، ثُمَّ وَجَدَهُ مَيِّتًا وَفِيهِ جُرْحٌ آخَرُ غَيْرُ سَهْمِهِ، لَمْ يُؤْكَل بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، لأَِنَّهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ هَل قُتِل بِسَهْمِهِ أَوْ بِسَهْمٍ آخَرَ، وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ ﷺ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ أَفْتِنِي فِي قَوْسِي، قَال: مَا رَدَّ عَلَيْكَ سَهْمُكَ فَكُل. قَال: وَإِنْ تَغَيَّبَ عَلَيَّ؟ قَال: وَإِنْ تَغَيَّبَ عَلَيْكَ، مَا لَمْ تَجِدْ فِيهِ أَثَرَ سَهْمٍ غَيْرَ سَهْمِكَ (١) .
٢٦ - ب - إِنْ أَرْسَل سَهْمًا أَوْ كَلْبًا إِلَى الصَّيْدِ وَغَابَ عَنْهُ، فَقَعَدَ عَنْ طَلَبِهِ غَيْرَ مُتَحَامِلٍ عَلَى الْمَشْيِ (٢)، ثُمَّ وَجَدَهُ مَيِّتًا لاَ يَحِل مَا لَمْ يَعْلَمْ جُرْحَهُ بِسَهْمِهِ يَقِينًا، كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ (٣) .
وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ قَيْدَ الْقُعُودِ عَنِ الطَّلَبِ، فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ:
_________
(١) انظر المراجع السابقة.
(٢) التحامل على المشي هو أن يتكلفه على مشقة وإعياء (ابن عابدين ٥ / ٣٠١) .
(٣) ابن عابدين ٥ / ٣٠١، وانظر كشاف القناع ٦ / ٢١٨. ١٢٨
لَوْ غَابَ عَنْهُ الْكَلْبُ وَالصَّيْدُ قَبْل أَنْ يَجْرَحَهُ الْكَلْبُ، ثُمَّ وَجَدَهُ مَيِّتًا حُرِّمَ عَلَى الصَّحِيحِ، لاِحْتِمَال مَوْتِهِ بِسَبَبٍ آخَرَ، وَكَذَلِكَ إِنْ جَرَحَهُ الْكَلْبُ، أَوْ أَصَابَهُ بِسَهْمٍ وَغَابَ، ثُمَّ وَجَدَهُ مَيِّتًا حُرِّمَ فِي الأَْظْهَرِ، قَال الرَّمْلِيُّ: وَهُوَ الْمَذْهَبُ الْمُعْتَمَدُ (١)، قَال ابْنُ جُزَيٍّ: لَوْ فَاتَ عَنْهُ الصَّيْدُ ثُمَّ وَجَدَهُ غَدًا مَنْفُوذَ الْمَقَاتِل لَمْ يُؤْكَل فِي الْمَشْهُورِ، وَقِيل: يُؤْكَل، وَقِيل: يُكْرَهُ (٢) .
وَالأَْصْل فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ: لَعَل هَوَامَّ الأَْرْضِ قَتَلَتْهُ (٣) .
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَقَدْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ مَنْ رَمَى صَيْدًا، وَلَوْ لَيْلًا، فَجَرَحَهُ وَلَوْ جُرْحًا غَيْرَ مُوحٍ (٤)، فَغَابَ عَنْ عَيْنِهِ، ثُمَّ وَجَدَهُ مَيِّتًا، بَعْدَ مَوْتِهِ الَّذِي رَمَاهُ فِيهِ وَسَهْمُهُ فَقَطْ فِيهِ، أَوْ أَثَرُ السَّهْمِ وَلاَ أَثَرَ بِهِ غَيْرُهُ حَل ذَلِكَ لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ السَّابِقِ (٥) .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْ أَحْمَدَ.
وَعَنْهُ: إِنْ غَابَ نَهَارًا فَلاَ بَأْسَ، وَإِنْ غَابَ لَيْلًا لَمْ يَأْكُلْهُ، وَعَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُل عَلَى أَنَّهُ إِنْ
_________
(١) نهاية المحتاج ٨ / ١١٧.
(٢) القوانين الفقهية ص ١٨٣.
(٣) حديث: " لعل هوام الأرض قتلته. . . ". أورد النووي في المجموع (٩ / ١١٤، ١١٥) أحاديث بهذا المعنى، وأعل أسانيدها كلها.
(٤) غير موح: غير مسرع به إلى الموت.
(٥) كشاف القناع ٦ / ٢٢٠، وانظر فقرة (٢٥) .
غَابَ مُدَّةً طَوِيلَةً لَمْ يُبَحْ، وَإِنْ كَانَتْ يَسِيرَةً أُبِيحَ لَهُ، لأَِنَّهُ قِيل لَهُ: إِنْ غَابَ يَوْمًا؟ قَال: يَوْمٌ كَثِيرٌ.
وَوَجْهُ ذَلِكَ قَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ ﵄ إِذَا رَمَيْتَ فَأَقْعَصْتَ (١) فَكُل، وَإِنْ رَمَيْتَ فَوَجَدْتَ فِيهِ سَهْمَكَ مِنْ يَوْمِكَ أَوْ لَيْلَتِكَ فَكُل، وَإِنْ بَاتَ عَنْكَ لَيْلَةً فَلاَ تَأْكُل، فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِي مَا حَدَثَ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ (٢) .
تَحْدِيدُ مُدَّةِ الْغِيَابِ:
٢٧ - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ - إِلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ لِغِيَابِ الصَّيْدِ لِيَحْرُمَ بَعْدَ ذَلِكَ، حَتَّى إِنَّهُ لَوْ وَجَدَهُ بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ بِشَرْطِ الطَّلَبِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَمُطْلَقًا عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَبْل أَنْ يُنْتِنَ حَل، وَذَلِكَ لِمَا رَوَى عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ ﵁ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَال: وَإِنْ رَمَيْتَ الصَّيْدَ فَوَجَدْتَهُ بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ لَيْسَ بِهِ إِلاَّ أَثَرُ سَهْمِكَ فَكُل (٣) وَعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ ﵁ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَال: إِذَا رَمَيْتَ الصَّيْدَ فَأَدْرَكْتَهُ بَعْدَ ثَلاَثٍ وَسَهْمُكَ فِيهِ فَكُلْهُ، مَا لَمْ يُنْتِنْ (٤) . وَلأَِنَّ جُرْحَهُ بِسَهْمِهِ
_________
(١) أقعصت: القعص الموت الموحى أي: السريع.
(٢) المغني لابن قدامة ٨ / ٥٥٣، ٥٥٤.
(٣) حديث عدي بن حاتم: " وإن رميت الصيد فوجدته. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري ٩ / ٦١٠) .
(٤) حديث أبي ثعلبة: " إذا رميت الصيد فأدركته بعد ثلاث. . . ". أخرجه مسلم (٣ / ١٥٣٢) .
سَبَبُ إِبَاحَتِهِ، وَقَدْ وُجِدَ يَقِينًا، وَالْمُعَارِضُ لَهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ، فَلاَ نُزُول عَنِ الْيَقِينِ بِالشَّكِّ (١) .
لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي أَكْلِهِ أَنْ لاَ يَكُونَ قَدْ قَعَدَ عَنْ طَلَبِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَذَلِكَ تَوْفِيقًا بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ ﷺ: لَعَل هَوَامَّ الأَْرْضِ قَتَلَتْهُ (٢) فَيُحْمَل هَذَا عَلَى مَا إِذَا قَعَدَ عَنْ طَلَبِهِ، وَالأَْوَّل عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَقْعُدْ (٣)،.
وَلأَِنَّهُ يُحْتَمَل أَنْ يَمُوتَ بِسَبَبٍ آخَرَ فَيُعْتَبَرَ فِيمَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ، لأَِنَّ الْمَوْهُومَ فِي الْحُرُمَاتِ كَالْمُتَحَقَّقِ، وَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ فِيمَا لاَ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ لِلضَّرُورَةِ، لأَِنَّ اعْتِبَارَهُ فِيهِ يُؤَدِّي إِلَى سَدِّ بَابِ الاِصْطِيَادِ، وَهَذَا لأَِنَّ الاِصْطِيَادَ يَكُونُ فِي الصَّحْرَاءِ بَيْنَ الأَْشْجَارِ عَادَةً، وَلاَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْتُلَهُ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ غَيْرِ انْتِقَالٍ وَتَوَارٍ عَنْ عَيْنِهِ غَالِبًا، فَيُعْذَرُ - مَا لَمْ يَقْعُدْ عَنْ طَلَبِهِ - لِلضَّرُورَةِ لِعَدَمِ إِمْكَانِ التَّحَرُّزِ عَنْهُ، وَلاَ يُعْذَرُ فِيمَا إِذَا قَعَدَ عَنْ طَلَبِهِ، لأَِنَّ الاِحْتِرَازَ عَنْ مِثْلِهِ مُمْكِنٌ فَلاَ ضَرُورَةَ إِلَيْهِ فَيَحْرُمُ (٤) .
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَالْمَشْهُورُ عِنْدَهُمُ التَّحْدِيدُ بِأَقَل مِنْ يَوْمٍ حَيْثُ قَالُوا: (لَوْ مَاتَ مِنْهُ صَيْدٌ
_________
(١) المغني لابن قدامة ٨ / ٥٥٤، وابن عابدين ٥ / ٣٠٢، والزيلعي ٥ / ٥٧.
(٢) حديث: " لعل هوام الأرض قتلته. . . ". تقدم في فقرة ٢٦.
(٣) الزيلعي ٥ / ٥٧.
(٤) نفس المرجع، وانظر ابن عابدين ٥ / ٣٠٢.
ثُمَّ وَجَدَهُ غَدًا مَنْفُوذَ الْمَقَاتِل لَمْ يُؤْكَل فِي الْمَشْهُورِ) (١) .
وَالشَّافِعِيَّةُ يَقُولُونَ بِالْحُرْمَةِ بِمُجَرَّدِ الْغِيَابِ، وَلَمْ يُحَدِّدُوا لَهُ مُدَّةً مُعَيَّنَةً، فَالصَّحِيحُ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ لَوْ غَابَ عَنْهُ الْكَلْبُ وَالصَّيْدُ قَبْل أَنْ يَجْرَحَهُ ثُمَّ وَجَدَهُ مَيِّتًا حَرُمَ، وَكَذَلِكَ إِنْ جَرَحَهُ الْكَلْبُ، أَوْ أَصَابَهُ سَهْمٌ ثُمَّ وَجَدَهُ مَيِّتًا يَحْرُمُ فِي الأَْظْهَرِ لاِحْتِمَال مَوْتِهِ بِسَبَبٍ آخَرَ، وَالتَّحْرِيمُ يُحْتَاطُ لَهُ (٢) .
٢٨ - ج لَوْ رَمَى صَيْدًا فَوَقَعَ فِي مَاءٍ، أَوْ عَلَى سَطْحٍ أَوْ جَبَلٍ ثُمَّ تَرَدَّى مِنْهُ إِلَى الأَْرْضِ حَرُمَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ﴾ إِلَى قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالْمُتَرَدِّيَةُ﴾ (٣) وَلِقَوْلِهِ ﷺ لِعَدِيٍّ ﵁: إِذَا رَمَيْتَ سَهْمَكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ، فَإِنْ وَجَدْتَهُ قَدْ قُتِل فَكُل، إِلاَّ أَنْ تَجِدَهُ قَدْ وَقَعَ فِي مَاءٍ، فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِي: الْمَاءُ قَتَلَهُ أَوْ سَهْمُكَ (٤) وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (٥) .
وَلاَ فَرْقَ فِي هَذَا الْحُكْمِ بَيْنَ مَا إِذَا كَانَتِ الْجِرَاحَةُ مُوحِيَةً أَوْ غَيْرَ مُوحِيَةٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ،
_________
(١) القوانين الفقهية ص ١٨٣.
(٢) نهاية المحتاج ٨ / ١١٧.
(٣) سورة المائدة: ٣.
(٤) حديث: " إذا رميت سهمك فاذكر اسم الله. . . ". أخرجه مسلم (٣ / ١٥٣١) .
(٥) تبيين الحقائق للزيلعي ٦ / ٥٨، والقوانين الفقهية ص ١٨٣، ومغني المحتاج ٤ / ٢٧٤، والمغني لابن قدامة ٨ / ٥٥٥، ٥٥٦.