الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٢٨
أَوَّلُهُمَا: أَنَّ كُل مَنْ صَارَ فِي آخِرِ النَّهَارِ بِصِفَةٍ، لَوْ كَانَ فِي أَوَّل النَّهَارِ عَلَيْهَا لَلَزِمَهُ الصَّوْمُ، فَعَلَيْهِ الإِْمْسَاكُ.
ثَانِيهِمَا: كُل مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الصَّوْمُ، لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَالأَْهْلِيَّةِ، ثُمَّ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ، بِأَنْ أَفْطَرَ مُتَعَمِّدًا، أَوْ أَصْبَحَ يَوْمَ الشَّكِّ مُفْطِرًا، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ، أَوْ تَسَحَّرَ عَلَى ظَنِّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ، ثُمَّ تَبَيَّنَ طُلُوعُهُ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الإِْمْسَاكُ تَشَبُّهًا عَلَى الأَْصَحِّ؛ لأَِنَّ الْفِطْرَ قَبِيحٌ، وَتَرْكُ الْقَبِيحِ وَاجِبٌ شَرْعًا، وَقِيل: يُسْتَحَبُّ.
وَأَجْمَعَ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَى الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ هَذَا الإِْمْسَاكُ.
وَأَجْمَعُوا عَلَى وُجُوبِهِ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ عَمْدًا، أَوْ خَطَأً، أَوْ أَفْطَرَ يَوْمَ الشَّكِّ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ، وَكَذَا عَلَى مُسَافِرٍ أَقَامَ، وَحَائِضٍ وَنُفَسَاءَ طَهُرَتَا، وَمَجْنُونٍ أَفَاقَ، وَمَرِيضٍ صَحَّ، وَمُفْطِرٍ وَلَوْ مُكْرَهًا أَوْ خَطَأً، وَصَبِيٍّ بَلَغَ، وَكَافِرٍ أَسْلَمَ (١) .
وَقَال ابْنُ جُزَيٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: وَأَمَّا إِمْسَاكُ بَقِيَّةِ الْيَوْمِ، فَيُؤْمَرُ بِهِ مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ خَاصَّةً، عَمْدًا أَوْ نِسْيَانًا، لاَ مَنْ أَفْطَرَ لِعُذْرٍ
_________
(١) رد المحتار على الدر المختار ٢ / ١٠٦.
مُبِيحٍ ثُمَّ زَال الْعُذْرُ مَعَ الْعِلْمِ بِرَمَضَانَ، فَإِنَّهُ لاَ يُنْدَبُ لَهُ الإِْمْسَاكُ، كَمَنِ اضْطُرَّ لِلْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ، مِنْ شِدَّةِ جُوعٍ أَوْ عَطَشٍ فَأَفْطَرَ، وَكَحَائِضٍ وَنُفَسَاءَ طَهُرَتَا نَهَارًا، وَمَرِيضٍ صَحَّ نَهَارًا، وَمُرْضِعٍ مَاتَ وَلَدُهَا، وَمُسَافِرٍ قَدِمَ، وَمَجْنُونٍ أَفَاقَ، وَصَبِيٍّ بَلَغَ نَهَارًا، فَلاَ يُنْدَبُ الإِْمْسَاكُ مِنْهُمْ.
وَقُيِّدَ الْعِلْمُ بِرَمَضَانَ، احْتِرَازٌ عَمَّنْ أَفْطَرَ نَاسِيًا، وَعَمَّنْ أَفْطَرَ يَوْمَ الشَّكِّ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ، فَإِنَّهُ يَجِبُ الإِْمْسَاكُ، كَصَبِيٍّ بَيَّتَ الصَّوْمَ، وَاسْتَمَرَّ صَائِمًا حَتَّى بَلَغَ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الإِْمْسَاكُ، لاِنْعِقَادِ صَوْمِهِ لَهُ نَافِلَةً، أَوْ أَفْطَرَ نَاسِيًا قَبْل بُلُوغِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ بَعْدَ الإِْمْسَاكِ، وَإِنْ لَمْ يَجِبِ الْقَضَاءُ عَلَى الصَّبِيِّ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ.
وَنَصُّوا كَذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْفِطْرِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الإِْمْسَاكُ، بَعْدَ زَوَال الإِْكْرَاهِ قَالُوا: لأَِنَّ فِعْلَهُ قَبْل زَوَال الْعُذْرِ، لاَ يَتَّصِفُ بِإِبَاحَةٍ وَلاَ غَيْرِهَا.
وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ إِمْسَاكُ بَقِيَّةِ الْيَوْمِ لِمَنْ أَسْلَمَ، لِتَظْهَرَ عَلَيْهِ عَلاَمَةُ الإِْسْلاَمِ بِسُرْعَةٍ، وَلَمْ يَجِبْ، تَأْلِيفًا لَهُ لِلإِْسْلاَمِ، كَمَا نُدِبَ قَضَاؤُهُ، وَلَمْ يَجِبْ لِذَلِكَ (١) .
_________
(١) القوانين الفقهية ص ٨٤، وجواهر الإكليل ١ / ١٤٦، والشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي عليه ١ / ٥١٤، ٥١٥، ومنح الجليل ١ / ٣٩٠ و٣٩١، وشرح الزرقاني بحاشية البناني ٢ / ١٩٧ و١٩٨.
وَالشَّافِعِيَّةُ بَعْدَ أَنْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الإِْمْسَاكَ تَشَبُّهًا مِنْ خَوَاصِّ رَمَضَانَ، كَالْكَفَّارَةِ، وَأَنَّ مَنْ أَمْسَكَ تَشَبُّهًا لَيْسَ فِي صَوْمٍ وَضَعُوا هَذِهِ الْقَاعِدَةَ، وَهِيَ: أَنَّ الإِْمْسَاكَ يَجِبُ عَلَى كُل مُتَعَدٍّ بِالْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ، سَوَاءٌ أَكَل أَوِ ارْتَدَّ أَوْ نَوَى الْخُرُوجَ مِنَ الصَّوْمِ - وَقُلْنَا إِنَّهُ يَخْرُجُ بِذَلِكَ - كَمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ نَسِيَ النِّيَّةَ مِنَ اللَّيْل، وَهُوَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى مَنْ أُبِيحَ لَهُ الْفِطْرُ إِبَاحَةً حَقِيقِيَّةً، كَالْمُسَافِرِ إِذَا قَدِمَ، وَالْمَرِيضِ إِذَا بَرِئَ بَقِيَّةَ النَّهَارِ (١) .
وَنَظَرُوا بَعْدَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الأَْحْوَال:
الْمَرِيضُ وَالْمُسَافِرُ، اللَّذَانِ يُبَاحُ لَهُمَا الْفِطْرُ، لَهُمَا ثَلاَثَةُ أَحْوَالٍ:
الأُْولَى: أَنْ يُصْبِحَا صَائِمَيْنِ، وَيَدُومَا كَذَلِكَ إِلَى زَوَال الْعُذْرِ، فَالْمَذْهَبُ لُزُومُ إِتْمَامِ الصَّوْمِ.
الثَّانِيَةُ: أَنْ يَزُول الْعُذْرُ بَعْدَ مَا أَفْطَرَ، فَلاَ يَجِبُ الإِْمْسَاكُ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ - كَمَا يَقُول الْمَحَلِّيُّ - فَإِنْ أَكَلاَ أَخْفَيَاهُ، لِئَلاَّ يَتَعَرَّضَا لِلتُّهْمَةِ وَعُقُوبَةِ السُّلْطَانِ، وَلَهُمَا الْجِمَاعُ بَعْدَ زَوَال الْعُذْرِ، إِذَا لَمْ تَكُنِ الْمَرْأَةُ صَائِمَةً، بِأَنْ كَانَتْ صَغِيرَةً، أَوْ طَهُرَتْ مِنَ الْحَيْضِ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
_________
(١) روضة الطالبين ٢ / ٣٧١، والوجيز ١ / ١٠٤.
الثَّالِثَةُ: أَنْ يُصْبِحَا غَيْرَ نَاوِيَيْنِ، وَيَزُول الْعُذْرُ قَبْل أَنْ يَأْكُلاَ، فَفِي الْمَذْهَبِ قَوْلاَنِ: لاَ يَلْزَمُهُمَا الإِْمْسَاكُ فِي الْمَذْهَبِ، لأَِنَّ مَنْ أَصْبَحَ تَارِكًا لِلنِّيَّةِ فَقَدْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا، فَكَانَ كَمَا لَوْ أَكَل، وَقِيل: يَلْزَمُهُمَا الإِْمْسَاكُ حُرْمَةً لِلْيَوْمِ (١) . وَإِذَا أَصْبَحَ يَوْمَ الشَّكِّ مُفْطِرًا غَيْرَ صَائِمٍ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ، فَقَضَاؤُهُ وَاجِبٌ، وَيَجِبُ إِمْسَاكُهُ عَلَى الأَْظْهَرِ، وَقِيل: لاَ يَلْزَمُهُ؛ لِعُذْرِهِ (٢) .
أَمَّا لَوْ بَانَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ قَبْل الأَْكْل، فَقَدْ حَكَى الْمُتَوَلِّي فِي لُزُومِ الإِْمْسَاكِ الْقَوْلَيْنِ، وَجَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ وَجَمَاعَةٌ بِلُزُومِهِ. قَال الْقَلْيُوبِيُّ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ (٣) .
وَإِذَا بَلَغَ صَبِيٌّ مُفْطِرًا أَوْ أَفَاقَ مَجْنُونٌ، أَوْ أَسْلَمَ كَافِرٌ أَثْنَاءَ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ فَفِيهِ أَوْجُهٌ: أَصَحُّهَا أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُمْ إِمْسَاكُ بَقِيَّةِ النَّهَارِ لأَِنَّهُ يَلْزَمُهُمْ قَضَاؤُهُ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَلْزَمُهُمْ، بِنَاءً عَلَى لُزُومِ الْقَضَاءِ. وَالثَّالِثُ: يَلْزَمُ الْكَافِرَ دُونَهُمَا، لِتَقْصِيرِهِ (٤) .
_________
(١) شرح المحلي على المنهاج بحاشية القليوبي عليه ٢ / ٦٥، روضة الطالبين ٢ / ٣٧١ و٣٧٢.
(٢) شرح المحلي على المنهاج ٢ / ٦٥.
(٣) حاشية القليوبي في الموضع نفسه، وقارن بروضة الطالبين ٢ / ٣٧٢.
(٤) روضة الطالبين ٢ / ٣٧٢.
وَالرَّابِعُ: يَلْزَمَ الْكَافِرَ وَالصَّبِيَّ لِتَقْصِيرِهِمَا، أَوْ لأَِنَّهُمَا مَأْمُورَانِ عَلَى الْجُمْلَةِ - كَمَا يَقُول الْغَزَالِيُّ - دُونَ الْمَجْنُونِ.
قَال الْمَحَلِّيُّ: لَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ بِالنَّهَارِ صَائِمًا، بِأَنْ نَوَى لَيْلًا، وَجَبَ عَلَيْهِ إِتْمَامُهُ بِلاَ قَضَاءٍ، وَقِيل: يُسْتَحَبُّ إِتْمَامُهُ، وَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، لأَِنَّهُ لَمْ يَنْوِ الْفَرْضَ (١) .
وَالْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ إِذَا طَهُرَتَا فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُمَا الإِْمْسَاكُ، وَنَقَل الإِْمَامُ الاِتِّفَاقَ عَلَيْهِ (٢) .
وَفِي مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ بِفُرُوعِهَا:
مَنْ صَارَ فِي أَثْنَاءِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ أَهْلًا لِلْوُجُوبِ لَزِمَهُ إِمْسَاكُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَقَضَاؤُهُ لِحُرْمَةِ الْوَقْتِ، وَلِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ فِيهِ بِالرُّؤْيَةِ، وَلإِدْرَاكِهِ جُزْءًا مِنْ وَقْتِهِ كَالصَّلاَةِ.
وَكَذَا كُل مَنْ أَفْطَرَ، وَالصَّوْمُ يَجِبُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الإِْمْسَاكُ وَالْقَضَاءُ، كَالْفِطْرِ لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَمَنْ أَفْطَرَ يَظُنُّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ وَكَانَ قَدْ طَلَعَ، أَوْ يَظُنُّ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ غَابَتْ وَلَمْ تَغِبْ، أَوِ النَّاسِي لِلنِّيَّةِ، فَكُلُّهُمْ يَلْزَمُهُمُ الإِْمْسَاكُ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لاَ نَعْلَمُ بَيْنَهُمْ فِيهِ اخْتِلاَفًا. أَوْ تَعَمَّدَتْ مُكَلَّفَةٌ
_________
(١) الوجيز ١ / ١٠٤، وروضة الطالبين ٢ / ٣٧٢، وشرح المحلي على المنهاج ٢ / ٦٥.
(٢) روضة الطالبين ٢ / ٢٧٣.
الْفِطْرَ، ثُمَّ حَاضَتْ أَوْ نَفِسَتْ، أَوْ تَعَمَّدَ الْفِطْرَ مُقِيمٌ ثُمَّ سَافَرَ، فَكُلُّهُمْ يَلْزَمُهُمُ الإِْمْسَاكُ وَالْقَضَاءُ؛ لِمَا سَبَقَ (١) .
فَأَمَّا مَنْ يُبَاحُ لَهُ الْفِطْرُ فِي أَوَّل النَّهَارِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا كَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالْمُسَافِرِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالْكَافِرِ وَالْمَرِيضِ إِذَا زَالَتْ أَعْذَارُهُمْ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ، فَطَهُرَتِ الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ، وَأَقَامَ الْمُسَافِرُ، وَبَلَغَ الصَّبِيُّ، وَأَفَاقَ الْمَجْنُونُ، وَأَسْلَمَ الْكَافِرُ، وَصَحَّ الْمَرِيضُ، فَفِيهِمْ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: يَلْزَمُهُمُ الإِْمْسَاكُ بَقِيَّةَ الْيَوْمِ، لأَِنَّهُ مَعْنَى لَوْ وُجِدَ قَبْل الْفَجْرِ أَوْجَبَ الصِّيَامَ، فَإِذَا طَرَأَ بَعْدَ الْفَجْرِ أَوْجَبَ الإِْمْسَاكَ، كَقِيَامِ الْبَيِّنَةِ بِالرُّؤْيَةِ.
وَاقْتَصَرَ عَلَى مُوجِبِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ الْبُهُوتِيُّ، فِي كَشَّافِهِ وَرَوْضِهِ.
وَالأُْخْرَى: لاَ يَلْزَمُهُمُ الإِْمْسَاكُ، لأَِنَّهُ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَال: (مَنْ أَكَل أَوَّل النَّهَارِ، فَلْيَأْكُل آخِرَهُ)، وَلأَِنَّهُ أُبِيحَ لَهُ الْفِطْرُ أَوَّل النَّهَارِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، فَإِذَا أَفْطَرَ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَدِيمَهُ إِلَى آخِرِ النَّهَارِ، كَمَا لَوْ دَامَ الْعُذْرُ.
قَال ابْنُ قُدَامَةَ: فَإِذَا جَامَعَ أَحَدُ هَؤُلاَءِ، بَعْدَ زَوَال عُذْرِهِ، انْبَنَى عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ، فِي
_________
(١) المغني والشرح الكبير ٣ / ٧٢ و٧٣، وكشاف القناع ٢ / ٣٠٩.
وُجُوبِ الإِْمْسَاكِ:
١ - فَإِنْ قُلْنَا: يَلْزَمُهُ الإِْمْسَاكُ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ قَامَتِ الْبَيِّنَةُ بِالرُّؤْيَةِ فِي حَقِّهِ إِذَا جَامَعَ.
٢ - وَإِنْ قُلْنَا: لاَ يَلْزَمُهُ الإِْمْسَاكُ، فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ. . . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ: أَنَّهُ قَدِمَ مِنْ سَفَرِهِ فَوَجَدَ امْرَأَتَهُ قَدْ طَهُرَتْ مِنْ حَيْضٍ، فَأَصَابَهَا (١) .
خَامِسًا: الْعُقُوبَةُ:
٩٢ - يُرَادُ بِالْعُقُوبَةِ هُنَا: الْجَزَاءُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ عَمْدًا فِي رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَهِيَ مِنْ لَوَازِمِ الإِْفْطَارِ وَمُوجِبَاتِهِ.
وَفِي عُقُوبَةِ الْمُفْطِرِ الْعَامِدِ، مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ.
فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ تَارِكَ الصَّوْمِ كَتَارِكِ الصَّلاَةِ، إِذَا كَانَ عَمْدًا كَسَلًا، فَإِنَّهُ يُحْبَسُ حَتَّى يَصُومَ، وَقِيل: يُضْرَبُ فِي حَبْسِهِ، وَلاَ يُقْتَل إِلاَّ إِذَا جَحَدَ الصَّوْمَ أَوِ الصَّلاَةَ، أَوِ اسْتَخَفَّ بِأَحَدِهِمَا.
وَنَقَل ابْنُ عَابِدِينَ عَنِ الشَّرَنْبَلاَلِيِّ، أَنَّهُ لَوْ تَعَمَّدَ مَنْ لاَ عُذْرَ لَهُ الأَْكْل جِهَارًا يُقْتَل، لأَِنَّهُ مُسْتَهْزِئٌ بِالدِّينِ، أَوْ مُنْكِرٌ لِمَا ثَبَتَ مِنْهُ
_________
(١) كشاف القناع ٢ / ٣٠٩، والمغني والشرح الكبير ٣ / ٧٢، ٧٣، والروض المربع ١ / ١٣٨.
بِالضَّرُورَةِ، وَلاَ خِلاَفَ فِي حِل قَتْلِهِ، وَالأَْمْرِ بِهِ (١) .
وَأَطْلَقَ ابْنُ جُزَيٍّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْعُقُوبَةِ قَوْلَهُ: هِيَ لِلْمُنْتَهِكِ لِصَوْمِ رَمَضَانَ (٢) .
وَقَال خَلِيلٌ: أُدِّبَ الْمُفْطِرُ عَمْدًا.
وَكَتَبَ عَلَيْهِ الشُّرَّاحُ: أَنَّ مَنْ أَفْطَرَ فِي أَدَاءِ رَمَضَانَ عَمْدًا اخْتِيَارًا بِلاَ تَأْوِيلٍ قَرِيبٍ، يُؤَدَّبُ بِمَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ: مِنْ ضَرْبٍ أَوْ سَجْنٍ أَوْ بِهِمَا مَعًا، ثُمَّ إِنْ كَانَ فِطْرُهُ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ، كَزِنًا وَشُرْبِ خَمْرٍ، حُدَّ مَعَ الأَْدَبِ، وَقُدِّمَ الأَْدَبُ.
وَإِنْ كَانَ فِطْرُهُ يُوجِبُ رَجْمًا، قُدِّمَ الأَْدَبُ، وَاسْتَظْهَرَ الْمِسْنَاوِيُّ سُقُوطَ الأَْدَبِ بِالرَّجْمِ، لإِتْيَانِ الْقَتْل عَلَى الْجَمِيعِ.
وَمَفْهُومُهُ: أَنَّهُ إِنْ كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا، فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى الأَْدَبِ - كَمَا قَال الدُّسُوقِيُّ - فَإِنْ جَاءَ الْمُفْطِرُ عَمْدًا، قَبْل الاِطِّلاَعِ عَلَيْهِ، حَال كَوْنِهِ تَائِبًا، قَبْل الظُّهُورِ عَلَيْهِ، فَلاَ يُؤَدَّبُ (٣) .
وَالشَّافِعِيَّةُ نَصُّوا - بِتَفْصِيلٍ - عَلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ صَوْمَ رَمَضَانَ، غَيْرَ جَاحِدٍ، مِنْ غَيْرِ
_________
(١) رد المحتار على الدر المختار ٢ / ١١٠ و١ / ٢٣٥، وانظر حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح ص ٩٣.
(٢) القوانين الفقهية ص ٨٤.
(٣) حاشية الدسوقي على: الشرح الكبير للدردير ١ / ٥٣٧، وانظر جواهر الإكليل ١ / ١٥٤، ومنح الجليل ١ / ٤١٢ و٤١٣، وشرح الزرقاني بحاشية البناني ٢ / ٢١٥ و٢١٦.
عُذْرٍ كَمَرَضٍ وَسَفَرٍ، كَأَنْ قَال: الصَّوْمُ وَاجِبٌ عَلَيَّ، وَلَكِنْ لاَ أَصُومُ حُبِسَ، وَمُنِعَ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ نَهَارًا، لِيَحْصُل لَهُ صُورَةُ الصَّوْمِ بِذَلِكَ.
قَالُوا: وَأَمَّا مَنْ جَحَدَ وُجُوبَهُ فَهُوَ كَافِرٌ، لأَِنَّ وُجُوبَ صَوْمِ رَمَضَانَ مَعْلُومٌ مِنْ أَدِلَّةِ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، أَيْ عِلْمًا صَارَ كَالضَّرُورِيِّ فِي عَدَمِ خَفَائِهِ عَلَى أَحَدٍ، وَكَوْنُهُ ظَاهِرًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ (١) .
سَادِسًا: قَطْعُ التَّتَابُعِ:
٩٣ - التَّتَابُعُ هُوَ: الْمُوَالاَةُ بَيْنَ أَيَّامِ الصِّيَامِ، بِحَيْثُ لاَ يُفْطِرُ فِيهَا وَلاَ يَصُومُ عَنْ غَيْرِ الْكَفَّارَةِ.
تَتَأَثَّرُ مُدَّةُ الصَّوْمِ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّتَابُعُ نَصًّا، بِالْفِطْرِ الْمُتَعَمَّدِ، وَهِيَ - بِعَدِّ الْكَاسَانِيِّ -: صَوْمُ رَمَضَانَ، وَصَوْمُ كَفَّارَةِ الْقَتْل، وَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَالإِْفْطَارُ الْعَامِدُ فِي رَمَضَانَ، وَصَوْمُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ - عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (٢) .
صَوْمُ الْمَحْبُوسِ إِذَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ شَهْرُ رَمَضَانَ:
٩٤ - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ مَنِ
_________
(١) الإقناع للشربيني الخطيب بحاشية البجيرمي عليه ٢ / ٣٢٤.
(٢) المغني مع الشرح الكبير ٨ / ٥٩٤، والبدائع ٢ / ٧٦.
اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ الشُّهُورُ لاَ يَسْقُطُ عَنْهُ صَوْمُ رَمَضَانَ، بَل يَجِبُ لِبَقَاءِ التَّكْلِيفِ وَتَوَجُّهِ الْخِطَابِ.
فَإِذَا أَخْبَرَهُ الثِّقَاتُ بِدُخُول شَهْرِ الصَّوْمِ عَنْ مُشَاهَدَةٍ أَوْ عِلْمٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الْعَمَل بِخَبَرِهِمْ، وَإِنْ أَخْبَرُوهُ عَنِ اجْتِهَادٍ مِنْهُمْ فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَل بِذَلِكَ، بَل يَجْتَهِدُ بِنَفْسِهِ فِي مَعْرِفَةِ الشَّهْرِ بِمَا يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ، وَيَصُومُ مَعَ النِّيَّةِ وَلاَ يُقَلِّدُ مُجْتَهِدًا مِثْلَهُ.
فَإِنْ صَامَ الْمَحْبُوسُ الْمُشْتَبَهُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ تَحَرٍّ وَلاَ اجْتِهَادٍ وَوَافَقَ الْوَقْتَ لَمْ يُجْزِئْهُ، وَتَلْزَمُهُ إِعَادَةُ الصَّوْمِ لِتَقْصِيرِهِ وَتَرْكِهِ الاِجْتِهَادَ الْوَاجِبَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَإِنِ اجْتَهَدَ وَصَامَ فَلاَ يَخْلُو الأَْمْرُ مِنْ خَمْسَةِ أَحْوَالٍ: الْحَال الأُْولَى: اسْتِمْرَارُ الإِْشْكَال وَعَدَمُ انْكِشَافِهِ لَهُ، بِحَيْثُ لاَ يَعْلَمُ أَنَّ صَوْمَهُ صَادَفَ رَمَضَانَ أَوْ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ، فَهَذَا يُجْزِئُهُ صَوْمُهُ وَلاَ إِعَادَةَ عَلَيْهِ فِي قَوْل الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَالْمُعْتَمَدِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، لأَِنَّهُ بَذَل وُسْعَهُ وَلاَ يُكَلَّفُ بِغَيْرِ ذَلِكَ، كَمَا لَوْ صَلَّى فِي يَوْمِ الْغَيْمِ بِالاِجْتِهَادِ، وَقَال ابْنُ الْقَاسِمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لاَ يُجْزِيهِ الصَّوْمُ؛ لاِحْتِمَال وُقُوعِهِ قَبْل وَقْتِ رَمَضَانَ.
الْحَال الثَّانِيَةُ: أَنْ يُوَافِقَ صَوْمُ الْمَحْبُوسِ شَهْرَ رَمَضَانَ فَيُجْزِيهِ ذَلِكَ عِنْدَ جُمْهُورِ