الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٢٨
عَائِشَةَ وَأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَتَا: نَشْهَدُ عَلَى رَسُول اللَّهِ ﷺ إِنْ كَانَ لَيُصْبِحُ جُنُبًا، مِنْ غَيْرِ احْتِلاَمٍ، ثُمَّ يَغْتَسِل ثُمَّ يَصُومُ (١) .
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُ دَخَل الْحَمَّامَ وَهُوَ صَائِمٌ هُوَ وَأَصْحَابٌ لَهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ.
وَأَمَّا الْغَوْصُ فِي الْمَاءِ، إِذَا لَمْ يَخَفْ أَنْ يَدْخُل فِي مَسَامِعِهِ، فَلاَ بَأْسَ بِهِ، وَكَرِهَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ حَال الإِْسْرَافِ وَالتَّجَاوُزِ أَوِ الْعَبَثِ، خَوْفَ فَسَادِ الصَّوْمِ (٢) .
الآْثَارُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الإِْفْطَارِ:
٨٥ - حَصَرَ الْفُقَهَاءُ الآْثَارَ الْمُتَرَتِّبَةَ عَلَى الإِْفْطَارِ فِي أُمُورٍ، مِنْهَا: الْقَضَاءُ، وَالْكَفَّارَةُ الْكُبْرَى، وَالْكَفَّارَةُ الصُّغْرَى (وَهَذِهِ هِيَ الْفِدْيَةُ) وَالإِْمْسَاكُ بَقِيَّةَ النَّهَارِ، وَقَطْعُ التَّتَابُعِ، وَالْعُقُوبَةُ (٣) .
أَوَّلًا: الْقَضَاءُ:
٨٦ - مَنْ أَفْطَرَ أَيَّامًا مِنْ رَمَضَانَ - كَالْمَرِيضِ
_________
(١) حديث عائشة وأم سلمة: " نشهد على رسول الله ﷺ إن كان ليصبح جنبا. . . ". أخرجه البخاري (الفتح ٤ / ١٥٣) ومسلم (٢ / ٧٨١) بألفاظ متقاربة.
(٢) مراقي الفلاح ص ٣٧٣، والدر المختار ورد المحتار ٢ / ١١٤، والمغني ٣ / ٤٥، وروضة الطالبين ٢ / ٣٦١.
(٣) القوانين الفقهية ص ٨٣.
وَالْمُسَافِرِ - قَضَى بِعِدَّةِ مَا فَاتَهُ، لأَِنَّ الْقَضَاءَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِعِدَّةِ مَا فَاتَهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ (١)﴾ .
وَمَنْ فَاتَهُ صَوْمُ رَمَضَانَ كُلُّهُ، قَضَى الشَّهْرَ كُلَّهُ، سَوَاءٌ ابْتَدَأَهُ مِنْ أَوَّل الشَّهْرِ أَوْ مِنْ أَثْنَائِهِ، كَأَعْدَادِ الصَّلَوَاتِ الْفَائِتَةِ. قَال الأَْبِيُّ: الْقَضَاءُ لِمَا فَاتَ مِنْ رَمَضَانَ بِالْعَدَدِ: فَمَنْ أَفْطَرَ رَمَضَانَ كُلَّهُ، وَكَانَ ثَلاَثِينَ، وَقَضَاهُ فِي شَهْرٍ بِالْهِلاَل، وَكَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا، صَامَ يَوْمًا آخَرَ. وَإِنْ فَاتَهُ صَوْمُ رَمَضَانَ وَهُوَ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا، وَقَضَاهُ فِي شَهْرٍ - وَكَانَ ثَلاَثِينَ يَوْمًا - فَلاَ يَلْزَمُهُ صَوْمُ الْيَوْمِ الأَْخِيرِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ .
وَقَال ابْنُ وَهْبٍ: إِنْ صَامَ بِالْهِلاَل، كَفَاهُ مَا صَامَهُ، وَلَوْ كَانَ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ، وَرَمَضَانُ ثَلاَثِينَ (٢) .
وَكَذَا قَال الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ: إِنْ قَضَى شَهْرًا هِلاَلِيًّا أَجْزَأَهُ، سَوَاءٌ كَانَ تَامًّا أَوْ نَاقِصًا وَإِنْ لَمْ يَقْضِ شَهْرًا، صَامَ ثَلاَثِينَ يَوْمًا. وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ.
قَال الْمَجْدُ: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلاَمِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ وَقَال: هُوَ أَشْهَرُ.
_________
(١) سورة البقرة: / ١٨٥، وانظر كشاف القناع ٢ / ٣٣٣.
(٢) كشاف القناع ٢ / ٣٣٣، وجواهر الإكليل ١ / ١٥٣ و١٥٤.
وَيَجُوزُ أَنْ يَقْضِيَ يَوْمَ شِتَاءٍ عَنْ يَوْمِ صَيْفٍ، وَيَجُوزُ عَكْسُهُ، بِأَنْ يَقْضِيَ يَوْمَ صَيْفٍ عَنْ يَوْمِ شِتَاءٍ، وَهَذَا لِعُمُومِ الآْيَةِ الْمَذْكُورَةِ وَإِطْلاَقِهَا (١) .
وَقَضَاءُ رَمَضَانَ يَكُونُ عَلَى التَّرَاخِي.
لَكِنَّ الْجُمْهُورَ قَيَّدُوهُ بِمَا إِذَا لَمْ يَفُتْ وَقْتُ قَضَائِهِ، بِأَنْ يُهِل رَمَضَانُ آخَرُ، لِقَوْل عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا " كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَهُ إِلاَّ فِي شَعْبَانَ، لِمَكَانِ النَّبِيِّ ﷺ (٢) كَمَا لاَ يُؤَخِّرُ الصَّلاَةَ الأُْولَى إِلَى الثَّانِيَةِ.
وَلاَ يَجُوزُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ تَأْخِيرُ قَضَاءِ رَمَضَانَ إِلَى رَمَضَانَ آخَرَ، مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ يَأْثَمُ بِهِ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ هَذَا (٣)، فَإِنْ أَخَّرَ فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ: إِطْعَامُ مِسْكِينٍ لِكُل يَوْمٍ، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ ﵃ قَالُوا فِيمَنْ عَلَيْهِ صَوْمٌ فَلَمْ يَصُمْهُ حَتَّى أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ آخَرُ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَإِطْعَامُ مِسْكِينٍ لِكُل يَوْمٍ، وَهَذِهِ الْفِدْيَةُ لِلتَّأْخِيرِ، أَمَّا فِدْيَةُ الْمُرْضِعِ وَنَحْوِهَا فَلِفَضِيلَةِ الْوَقْتِ، وَفِدْيَةُ الْهَرَمِ لأَِصْل الصَّوْمِ، وَيَجُوزُ
_________
(١) الإنصاف للمرداوي ٣ / ٣٣٣، وكشاف القناع ٢ / ٣٣٣.
(٢) حديث عائشة: " كان يكون على الصوم في رمضان. . . ". أخرجه البخاري (الفتح ٤ / ١٨٩) ومسلم (٢ / ٨٠٢ - ٨٠٣) .
(٣) كشاف القناع ٢ / ٣٣٣، ٣٣٤.
الإِْطْعَامُ قَبْل الْقَضَاءِ وَمَعَهُ وَبَعْدَهُ (١)
وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ، وَهُوَ وَجْهٌ مُحْتَمَلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: إِطْلاَقُ التَّرَاخِي بِلاَ قَيْدٍ، فَلَوْ جَاءَ رَمَضَانُ آخَرُ، وَلَمْ يَقْضِ الْفَائِتُ، قَدَّمَ صَوْمَ الأَْدَاءِ عَلَى الْقَضَاءِ، حَتَّى لَوْ نَوَى الصَّوْمَ عَنِ الْقَضَاءِ لَمْ يَقَعْ إِلاَّ عَنِ الأَْدَاءِ، وَلاَ فِدْيَةَ عَلَيْهِ بِالتَّأْخِيرِ إِلَيْهِ، لإِطْلاَقِ النَّصِّ، وَظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: ﴿فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ (٢)﴾ .
وَعِنْدَ غَيْرِ الْحَنَفِيَّةِ يَحْرُمُ التَّطَوُّعُ بِالصَّوْمِ قَبْل قَضَاءِ رَمَضَانَ، وَلاَ يَصِحُّ تَطَوُّعُهُ بِالصَّوْمِ قَبْل قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ مِنْ رَمَضَانَ، بَل يَبْدَأُ بِالْفَرْضِ حَتَّى يَقْضِيَهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ نَذْرٌ صَامَهُ بَعْدَ الْفَرْضِ، لأَِنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ مُتَكَرِّرَةٌ، فَلَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُ الأُْولَى عَنِ الثَّانِيَةِ، كَالصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ (&# x٦٦٣ ;)
مَسَائِل تَتَعَلَّقُ بِالْقَضَاءِ:
الأُْولَى:
٨٧ - إِنْ أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ - وَكَذَا النَّذْرَ وَالْكَفَّارَةَ - لِعُذْرٍ، بِأَنِ اسْتَمَرَّ مَرَضُهُ أَوْ سَفَرُهُ
_________
(١) الإنصاف ٣ / ٣٣٣، وانظر الشرح الكبير للدردير ١ / ٥٣٧، والقوانين الفقهية ص ٨٤، والإقناع ٢ / ٣٤٣، وشرح المحلي على المنهاج ٢ / ٦٨ و٦٩، والمهذب ٦ / ٣٦٣، وكشاف القناع ٢ / ٣٣٤.
(٢) سورة البقرة: ١٨٥، وراجع مراقي الفلاح ص ٣٧٥، والفتاوى الهندية ١ / ٢٠٨، والإنصاف ٣ / ٣٣٤.
(٣) كشاف القناع ٢ / ٣٣٤، المغني مع الشرح الكبير ٣ / ٨٣.
الْمُبَاحُ إِلَى مَوْتِهِ، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الْقَضَاءِ، فَلاَ شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلاَ تَدَارُكَ لِلْغَائِبِ بِالْفِدْيَةِ وَلاَ بِالْقَضَاءِ، لِعَدَمِ تَقْصِيرِهِ، وَلاَ إِثْمَ بِهِ، لأَِنَّهُ فَرْضٌ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُ إِلَى الْمَوْتِ، فَسَقَطَ حُكْمُهُ، كَالْحَجِّ، وَلأَِنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُ رَمَضَانَ بِهَذَا الْعُذْرِ أَدَاءً، فَتَأْخِيرُ الْقَضَاءِ أَوْلَى - كَمَا يَقُول النَّوَوِيُّ.
وَسَوَاءٌ اسْتَمَرَّ الْعُذْرُ إِلَى الْمَوْتِ، أَمْ حَصَل الْمَوْتُ فِي رَمَضَانَ، وَلَوْ بَعْدَ زَوَال الْعُذْرِ كَمَا قَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ.
وَقَال أَبُو الْخَطَّابِ: يُحْتَمَل أَنْ يَجِبَ الصَّوْمُ عَنْهُ أَوِ التَّكْفِيرُ (١)
الثَّانِيَةُ:
٨٨ - لَوْ أَفْطَرَ بِعُذْرٍ وَاتَّصَل الْعُذْرُ بِالْمَوْتِ فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُصَامُ عَنْهُ وَلاَ كَفَّارَةَ فِيهِ، لأَِنَّهُ فَرْضٌ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ فِعْلِهِ إِلَى الْمَوْتِ فَسَقَطَ حُكْمُهُ، كَالْحَجِّ.
أَمَّا إِذَا زَال الْعُذْرُ وَتَمَكَّنَ مِنَ الْقَضَاءِ، وَلَمْ يَقْضِ حَتَّى مَاتَ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ:
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ، وَهُوَ الأَْصَحُّ وَالْجَدِيدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ) إِلَى أَنَّهُ لاَ يُصَامُ عَنْهُ؛ لأَِنَّ
_________
(١) روضة الطالبين ٢ / ٣٦٤، وانظر شرح المحلي على المنهاج ٢ / ٦٩، وكشاف القناع ٢ / ٣٣٤، والإقناع ٢ / ٣٤٣، والإنصاف ٣ / ٣٣٤.
الصَّوْمَ وَاجِبٌ بِأَصْل الشَّرْعِ لاَ يُقْضَى عَنْهُ، لأَِنَّهُ لاَ تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ فِي الْحَيَاةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَمَاتِ كَالصَّلاَةِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْقَدِيمِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ النَّوَوِيِّ، وَهُوَ قَوْل أَبِي الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَصُومَ عَنْهُ، زَادَ الشَّافِعِيَّةُ: وَيَصِحُّ ذَلِكَ، وَيُجْزِئُهُ عَنِ الإِْطْعَامِ، وَتَبْرَأُ بِهِ ذِمَّةُ الْمَيِّتِ وَلاَ يَلْزَمُ الْوَلِيَّ الصَّوْمُ بَل هُوَ إِلَى خِيرَتِهِ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ ﵂ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ صِيَامٌ صَامَ عَنْهُ وَلِيُّهُ (١) .
أَمَّا فِي وُجُوبِ الْفِدْيَةِ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
قَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ بِغَيْرِ عُذْرٍ، ثُمَّ مَاتَ قَبْل رَمَضَانَ آخَرَ أَوْ بَعْدَهُ، وَلَمْ يَقْضِ لَزِمَهُ الإِْيصَاءُ بِكَفَّارَةِ مَا أَفْطَرَهُ بِقَدْرِ الإِْقَامَةِ مِنَ السَّفَرِ وَالصِّحَّةِ مِنَ الْمَرَضِ وَزَوَال الْعُذْرِ، وَلاَ يَجِبُ الإِْيصَاءُ بِكَفَّارَةِ مَا أَفْطَرَهُ عَلَى مَنْ مَاتَ قَبْل زَوَال الْعُذْرِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ - فِي الْجَدِيدِ - إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ فِي تَرِكَتِهِ لِكُل يَوْمٍ مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ. وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى الإِْطْعَامِ عَنْهُ لِكُل يَوْمٍ مِسْكِينًا (٢) .
_________
(١) حديث عائشة: " من مات وعليه صيام صام. . . ". أخرجه البخاري (الفتح ٤ / ١٩٢) ومسلم (٢ / ٨٠٣) .
(٢) مراقي الفلاح ص ٣٧٥، جواهر الإكليل ١ / ١٦٣، والمجموع ٦ / ٣٦٨، والإنصاف ٣ / ٣٣٤ - ٣٣٦، وكشاف القناع ٢ / ٣٣٤، ٣٣٥.
وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ: وُجُوبُ مُدٍّ عَنْ كُل يَوْمٍ أَفْطَرَهُ إِذَا فَرَّطَ، بِأَنْ كَانَ صَحِيحًا مُقِيمًا خَالِيًا مِنَ الأَْعْذَارِ (١) .
ثَانِيًا: الْكَفَّارَةُ الْكُبْرَى:
٨٩ - ثَبَتَتِ الْكَفَّارَةُ الْكُبْرَى بِالنَّصِّ فِي حَدِيثِ الأَْعْرَابِيِّ الَّذِي وَاقَعَ زَوْجَتَهُ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ.
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي وُجُوبِهَا بِإِفْسَادِ الصَّوْمِ بِالْوِقَاعِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنَّمَا الْخِلاَفُ فِي وُجُوبِهَا بِإِفْسَادِهِ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَتَجِبُ - فِي الْجُمْلَةِ أَيْضًا - بِإِفْسَادِ صَوْمِ رَمَضَانَ خَاصَّةً، طَائِعًا مُتَعَمِّدًا غَيْرَ مُضْطَرٍّ، قَاصِدًا انْتِهَاكَ حُرْمَةِ الصَّوْمِ، مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ مُبِيحٍ لِلْفِطْرِ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّمَا يُكَفِّرُ إِذَا نَوَى الصِّيَامَ لَيْلًا، وَلَمْ يَكُنْ مُكْرَهًا، وَلَمْ يَطْرَأْ مُسْقِطٌ، كَمَرَضٍ وَحَيْضٍ.
فَلاَ كَفَّارَةَ فِي الإِْفْطَارِ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ، وَلاَ كَفَّارَةَ عَلَى النَّاسِي وَالْمُكْرَهِ - عِنْدَ الْجُمْهُورِ - وَلاَ عَلَى النُّفَسَاءِ وَالْحَائِضِ وَالْمَجْنُونِ، وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ، وَلاَ عَلَى الْمُرْهَقِ بِالْجُوعِ وَالْعَطَشِ، وَلاَ عَلَى الْحَامِل، لِعُذْرِهِمْ،
_________
(١) الشرح الصغير ١ / ٧٢١.
وَلاَ عَلَى الْمُرْتَدِّ، لأَِنَّهُ هَتَكَ حُرْمَةَ الإِْسْلاَمِ، لاَ حُرْمَةَ الصِّيَامِ خُصُوصًا.
فَتَجِبُ بِالْجِمَاعِ عَمْدًا، لاَ نَاسِيًا - خِلاَفًا لأَِحْمَدَ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ - وَتَجِبُ بِالأَْكْل وَالشُّرْبِ عَمْدًا، خِلاَفًا لِلشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَتَقَدَّمَتْ مُوجِبَاتٌ أُخْرَى مُخْتَلَفٌ فِيهَا، كَالإِْصْبَاحِ بِنِيَّةِ الْفِطْرِ، وَرَفْضِ النِّيَّةِ نَهَارًا، وَالاِسْتِقَاءِ الْعَامِدِ، وَابْتِلاَعِ مَا لاَ يُغَذِّي عَمْدًا (١) .
أَمَّا خِصَال الْكَفَّارَةِ فَهِيَ: الْعِتْقُ وَالصِّيَامُ وَالإِْطْعَامُ، وَهَذَا بِالاِتِّفَاقِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَال: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ، فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ، هَلَكْتُ، قَال: مَا لَكَ؟ قَال: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ، فَقَال رَسُول اللَّهِ ﷺ هَل تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟ قَال: لاَ، قَال: فَهَل تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ قَال: لاَ، قَال: فَهَل تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ قَال: لاَ، قَال: فَمَكَثَ النَّبِيُّ ﷺ فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ، أُتِيَ النَّبِيُّ ﷺ بِعَرَقٍ (٢) فِيهَا
_________
(١) الدر المختار ٢ / ١١٠، والقوانين الفقهية ص ٨٣، ومراقي الفلاح ص ٣٦٦، وروضة الطالبين ٢ / ٣٧٤ وما بعدها، وشرح المحلي على المنهاج ٢ / ٦٩ و٧٠ وكشاف القناع ٢ / ٣٢٤، وما بعدها.
(٢) العرق: وهو مكتل من خوص النخل يسع خمسة عشر صاعا، والصاع أربعة أمداد، فهي ستون مدا (حاشية القليوبي على شرح المحلي ٢ / ٧٢) .
تَمْرٌ، قَال: أَيْنَ السَّائِل؟ فَقَال: أَنَا، قَال: خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ، فَقَال الرَّجُل: عَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُول اللَّهِ، فَوَاللَّهِ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا - يُرِيدُ الْحَرَّتَيْنِ - أَهْل بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْل بَيْتِي، فَضَحِكَ النَّبِيُّ ﷺ حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، ثُمَّ قَال: أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ (١) .
قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ الْجَدُّ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ: وَفِيهِ دَلاَلَةٌ قَوِيَّةٌ عَلَى التَّرْتِيبِ.
قَالُوا: فَكَفَّارَتُهُ كَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ، لَكِنَّهَا ثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ، وَأَمَّا هَذِهِ فَبِالسُّنَّةِ.
وَقَال الشَّوْكَانِيُّ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْكَفَّارَةَ بِالْخِصَال الثَّلاَثِ عَلَى التَّرْتِيبِ. قَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: لأَِنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَقَلَهُ مِنْ أَمْرٍ بَعْدَ عَدَمِهِ إِلَى أَمْرٍ آخَرَ، وَلَيْسَ هَذَا شَأْنَ التَّخْيِيرِ (٢) .
وَقَال الْبَيْضَاوِيُّ: إِنَّ تَرْتِيبَ الثَّانِي عَلَى الأَْوَّل، وَالثَّالِثِ عَلَى الثَّانِي، بِالْفَاءِ يَدُل عَلَى عَدَمِ التَّخْيِيرِ، مَعَ كَوْنِهَا فِي مَعْرِضِ الْبَيَانِ وَجَوَابِ السُّؤَال، فَنَزَل مَنْزِلَةَ الشَّرْطِ. وَإِلَى الْقَوْل بِالتَّرْتِيبِ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ. وَأَنَّهَا كَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ، فَيَعْتِقُ أَوَّلًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَطْعَمَ
_________
(١) حديث أبي هريرة: " بينما نحن جلوس عند النبي ﷺ. . . ". تقدم في فقرة رقم ٦٨.
(٢) منتقى الأخبار ٤ / ٢١٤، والدر المختار ٢ / ١٠٩.
سِتِّينَ مِسْكِينًا، لِهَذَا الْحَدِيثِ (١) .
ثَالِثًا: الْكَفَّارَةُ الصُّغْرَى:
٩٠ - الْكَفَّارَةُ الصُّغْرَى: هِيَ الْفِدْيَةُ، وَتَقَدَّمَ أَنَّهَا مُدٌّ مِنْ طَعَامٍ لِمِسْكِينٍ إِذَا كَانَ مِنَ الْبُرِّ، أَوْ نِصْفُ صَاعٍ إِذَا كَانَ مِنْ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ عَنْ كُل يَوْمٍ، وَهِيَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ كَالْفِطْرَةِ قَدْرًا، وَتَكْفِي فِيهَا الإِْبَاحَةُ، وَلاَ يُشْتَرَطُ التَّمْلِيكُ هُنَا، بِخِلاَفِ الْفِطْرَةِ (٢) .
وَتَجِبُ عَلَى مَنْ أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ حَتَّى دَخَل رَمَضَانُ آخَرُ، وَعَلَى الْحَامِل وَالْمُرْضِعِ وَالشَّيْخِ الْهَرَمِ.
وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ: (فِدْيَة) .
رَابِعًا: الإِْمْسَاكُ لِحُرْمَةِ شَهْرِ رَمَضَانَ:
٩١ - مِنْ لَوَازِمِ الإِْفْطَارِ فِي رَمَضَانَ: الإِْمْسَاكُ لِحُرْمَةِ الشَّهْرِ، قَال النَّوَوِيُّ: وَهُوَ مِنْ خَوَاصِّ رَمَضَانَ، كَالْكَفَّارَةِ، فَلاَ إِمْسَاكَ عَلَى مُتَعَدٍّ بِالْفِطْرِ، وَفِي نَذْرٍ أَوْ قَضَاءٍ (٣) وَفِيهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ وَتَفْرِيعٌ فِي الْمَذَاهِبِ الْفِقْهِيَّةِ:
فَالْحَنَفِيَّةُ وَضَعُوا أَصْلَيْنِ لِهَذَا الإِْمْسَاكِ:
_________
(١) نيل الأوطار ٤ / ٢١٥، وروضة الطالبين ٢ / ٣٧٩، وحاشية القليوبي على شرح المحلي ٢ / ٧٢، والمغني ٣ / ٦٦.
(٢) حاشية البجيرمي على شرح الشربيني الخطيب ٢ / ٣٤٦، والدر المختار ٢ / ١١٧.
(٣) روضة الطالبين ٢ / ٣٧١.