الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٢٧
صَفٌّ
التَّعْرِيفُ:
١ - الصَّفُّ فِي اللُّغَةِ: السَّطْرُ الْمُسْتَقِيمُ مِنْ كُل شَيْءٍ، وَالْقَوْمُ الْمُصْطَفُّونَ وَجَعْل الشَّيْءِ - كَالنَّاسِ وَالأَْشْجَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ - عَلَى خَطٍّ مُسْتَوٍ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾ (١) وَصَافَّ الْجَيْشُ عَدُوَّهُ: قَاتَلَهُ صُفُوفًا، وَتَصَافَّ الْقَوْمُ: وَقَفُوا صُفُوفًا مُتَقَابِلَةً (٢) .
وَلاَ يَخْرُجُ مَعْنَاهُ الاِصْطِلاَحِيُّ عَنْ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالصَّفِّ:
أَوَّلًا: تَسْوِيَةُ الصَّفِّ فِي صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ:
٢ - ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَسْوِيَةُ الصُّفُوفِ فِي صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ بِحَيْثُ لاَ يَتَقَدَّمُ بَعْضُ الْمُصَلِّينَ عَلَى الْبَعْضِ الآْخَرِ، وَيَعْتَدِل الْقَائِمُونَ فِي الصَّفِّ عَلَى سَمْتٍ وَاحِدٍ مَعَ
_________
(١) سورة الصف / ٤.
(٢) لسان العرب، المصباح المنير، والمعجم الوسيط مادة (صف) .
التَّرَاصِّ، وَهُوَ تَلاَصُقُ الْمَنْكِبِ بِالْمَنْكِبِ، وَالْقَدَمِ بِالْقَدَمِ، وَالْكَعْبِ بِالْكَعْبِ حَتَّى لاَ يَكُونَ فِي الصَّفِّ خَلَلٌ وَلاَ فُرْجَةٌ، وَيُسْتَحَبُّ لِلإِْمَامِ أَنْ يَأْمُرَ بِذَلِكَ لِقَوْلِهِ ﷺ: سَوُّوا صُفُوفَكُمْ فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصَّفِّ مِنْ تَمَامِ الصَّلاَةِ (١) وَفِي رِوَايَةٍ: فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلاَةِ (٢) وَفِي رِوَايَةٍ: وَأَقِيمُوا الصَّفَّ فَإِنَّ إِقَامَةَ الصَّفِّ مِنْ حُسْنِ الصَّلاَةِ (٣) وَلِمَا رَوَاهُ أَنَسٌ ﵁ قَال: أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَأَقْبَل عَلَيْنَا رَسُول اللَّهِ ﷺ بِوَجْهِهِ فَقَال: أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ، وَتَرَاصُّوا فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي (٤) .
_________
(١) حديث: " سووا صفوفكم، فإن تسوية الصف من تمام الصلاة " أخرجه مسلم من حديث أنس بن مالك ﵁ مرفوعا (١ / ٣٢٤ط. عيسي الحلبي) .
(٢) ورواية: " فإن تسوية الصفوف من إتمام الصلاة " أخرجه مسلم من حديث أنس بن مالك ﵁ (فتح الباري ٢ / ٢٠٩ط. السلفية) .
(٣) ورواية: " أقيموا الصف فإن إقامة الصف من حسن الصلاة " أخرجه البخاري (فتح الباري ٢ / ٢٠٩ط. السلفية) ومسلم (صحيح مسلم ١ / ٣٢٤ط. الحلبي) من حديث أبي هريرة ﵁ مرفوعا.
(٤) حديث: " أقيمت الصلاة فأقبل علينا رسول الله ﷺ بواجهة فقال: أقيموا صفوفكم وتراصوا فإني أراكم من وراء ظهري " أخرجه البخاري (فتح الباري ٢ / ٢٠٨ط. السلفية)، وجامع الأصول (٥ / ٦٠٧ نشر مكتبة الحلواني) .
وَفِي رِوَايَةٍ: وَكَانَ أَحَدُنَا يَلْزَقُ مَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِ صَاحِبِهِ وَقَدَمَهُ بِقَدَمِهِ (١)
وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ - مِنْهُمُ ابْنُ حَجَرٍ وَبَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ - إِلَى وُجُوبِ تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ لِقَوْلِهِ ﷺ: لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ (٢) فَإِنَّ وُرُودَ هَذَا الْوَعِيدِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ التَّسْوِيَةِ، وَالتَّفْرِيطُ فِيهَا حَرَامٌ؛ وَلأَِمْرِهِ ﷺ بِذَلِكَ وَأَمْرُهُ لِلْوُجُوبِ مَا لَمْ يَصْرِفْهُ صَارِفٌ، وَلاَ صَارِفَ هُنَا.
قَال ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ: وَمَعَ الْقَوْل بِأَنَّ تَسْوِيَةَ الصَّفِّ وَاجِبَةٌ فَصَلاَةُ مَنْ خَالَفَ وَلَمْ يُسَوِّ صَحِيحَةٌ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ: أَنَّ أَنَسًا مَعَ إِنْكَارِهِ عَلَيْهِمْ لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِإِعَادَةِ الصَّلاَةِ (٣) .
_________
(١) ورواية: " وكان أحدنا يلزق منكبه بمكنب صاحبه وقدمه بقدمه " أخرجه البخاري من حديث أنس ﵁ (فتح الباري ٢ / ٢١١ط. السلفية) .
(٢) حديث: " لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم ". أخرجه البخاري (فتح الباري ٢ / ٢٠٦ - ٢٠٧ ط. السلفية) ومسلم ١ / ٣٢٤ ط. عيسي الحلبي) من حديث نعمان بن بشير ﵄.
(٣) مغني المحتاج ١ / ٢٤٨، البدائع ١ / ١٥٩، كشاف القناع ١ / ٣٢٨، سبل السلام ٢ / ٤٧، دليل الفالحين ٢ / ٥٦٣، نيل الأوطار ٣ / ٢١٢، الفواكه الدواني ١ / ٢٤٦، فتح الباري ٢ / ٢٠٦.
٣ - وَمِنْ تَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ إِكْمَال الصَّفِّ الأَْوَّل فَالأَْوَّل، وَأَنْ لاَ يُشْرَعَ فِي إِنْشَاءِ الصَّفِّ الثَّانِي إِلاَّ بَعْدَ كَمَال الأَْوَّل، وَهَكَذَا. وَهَذَا مَوْضِعُ اتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ لِقَوْلِهِ ﷺ: أَتِمُّوا الصَّفَّ الْمُقَدَّمَ ثُمَّ الَّذِي يَلِيَهُ، فَمَا كَانَ مِنْ نَقْصٍ فَلْيَكُنْ فِي الصَّفِّ الْمُؤَخَّرِ (١) وَقَوْلِهِ ﷺ: مَنْ وَصَل صَفًّا وَصَلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَ صَفًّا قَطَعَهُ اللَّهُ (٢) .
وَعَلَيْهِ فَلاَ يَقِفُ فِي صَفٍّ وَأَمَامَهُ صَفٌّ آخَرُ نَاقِصٌ أَوْ فِيهِ فُرْجَةٌ، بَل يَشُقُّ الصُّفُوفَ لِسَدِّ الْخَلَل أَوِ الْفُرْجَةِ الْمَوْجُودَةِ فِي الصُّفُوفِ الَّتِي أَمَامَهُ؛ لِلأَْحَادِيثِ السَّابِقَةِ (٣) .
فَإِذَا حَضَرَ مَعَ الإِْمَامِ رَجُلاَنِ أَوْ أَكْثَرُ، أَوْ رَجُلٌ وَصَبِيٌّ اصْطَفَّا خَلْفَهُ.
_________
(١) حديث: " أتموا الصف المقدم ثم الذي يليه فما كان من نقص فليكن في الصف المؤخر ". أخرجه أبو داود (سنن أبي داود ١ / ٤٣٥ ط إستانبول) والنسائي (سنن النسائي ٢ / ٩٣ نشر مكتب المطبوعات الإسلامية بحلب) من حديث أنس ﵁ مرفوعا، وإسناده صحيح (شرح السنة للبغوي بتحقيق الأرناؤوط ٣ / ٣٧٤) .
(٢) حديث: " من وصل صفا وصله الله ومن قطع صفا قطعه الله " أخرجه أبو داود (سنن أبو داود ١ / ٤٣٣ ط. إستانبول) والنسائي (٢ / ٩٣ نشر مكتب المطبوعات الإسلامية بحلب) من حديث عبد الله بن عمر ﵄. وإسناده حسن (جامع الأصول ٥ / ٦٠٩ - ٦١٠ نشر مكتب الحلواني) .
(٣) المصادر السابقة
وَلَوْ حَضَرَ مَعَهُ رَجُلاَنِ وَامْرَأَةٌ اصْطَفَّ الرَّجُلاَنِ خَلْفَهُ وَالْمَرْأَةُ خَلْفَهُمَا، وَلَوِ اجْتَمَعَ الرِّجَال وَالنِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ وَالصَّبِيَّاتُ الْمُرَاهِقَاتُ وَأَرَادُوا أَنْ يَصْطَفُّوا لِلْجَمَاعَةِ وَقَفَ الرِّجَال فِي صَفٍّ أَوْ صَفَّيْنِ أَوْ صُفُوفٍ مِمَّا يَلِي الإِْمَامَ، ثُمَّ الصِّبْيَانُ بَعْدَهُمْ، وَفِي وَجْهٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَقِفُ بَيْنَ كُل رَجُلَيْنِ صَبِيٌّ لِيَتَعَلَّمَ أَفْعَال الصَّلاَةِ.
ثُمَّ يَقِفُ النِّسَاءُ وَلاَ فَرْقَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ بَيْنَ الْكَبِيرَةِ وَالصَّبِيَّةِ الْمُرَاهِقَةِ.
أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فَيَرَوْنَ أَنَّ الصَّبِيَّاتِ الْمُرَاهِقَاتِ يَقِفْنَ وَرَاءَ النِّسَاءِ الْكَبِيرَاتِ. وَيَتَقَدَّمُ بِالنِّسْبَةِ لِهَؤُلاَءِ جَمِيعًا فِي الصُّفُوفِ الأُْوَل الأَْفْضَل فَالأَْفْضَل لِمَا رَوَاهُ أَبُو مَسْعُودٍ ﵁ قَال: كَانَ رَسُول اللَّهِ ﷺ: يَمْسَحُ مَنَاكِبَنَا فِي الصَّلاَةِ وَيَقُول: اسْتَوُوا وَلاَ تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ؛ لِيَلِيَنِّي مِنْكُمْ أُولُو الأَْحْلاَمِ وَالنُّهَى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ (١) .
وَلِمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ الأَْشْعَرِيِّ قَال: أَلاَ أُحَدِّثُكُمْ
_________
(١) حديث: " كان رسول الله ﷺ يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم ليليني منكم أولوا الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ". أخرجه مسلم من حديث أبي مسعود ﵁ (صحيح مسلم ١ / ٣٢٣ ط. عيسي الحلبي)
بِصَلاَةِ النَّبِيِّ ﷺ؟ قَال: فَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَصَفَّ الرِّجَال وَصَفَّ خَلْفَهُمُ الْغِلْمَانَ ثُمَّ صَلَّى بِهِمْ، فَذَكَرَ صَلاَتَهُ ثُمَّ قَال: هَكَذَا صَلاَةُ. قَال عَبْدُ الأَْعْلَى - رَاوِي الْحَدِيثِ -: لاَ أَحْسَبُهُ إِلاَّ قَال: صَلاَةُ أُمَّتِي (١) .
وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ مَعَ الإِْمَامِ إِلاَّ جَمْعٌ مِنَ النِّسَاءِ صَفَّهُنَّ خَلْفَهُ، وَكَذَا الاِثْنَتَانِ وَالْوَاحِدَةُ. وَمِنْ أَدَبِ الصَّفِّ أَنْ تُسَدَّ الْفُرَجُ وَالْخَلَل، وَأَنْ لاَ يُشْرَعَ فِي صَفٍّ حَتَّى يَتِمَّ الأَْوَّل، وَأَنْ يُفْسَحَ لِمَنْ يُرِيدُ دُخُول الصَّفِّ إِذَا كَانَتْ هُنَاكَ سِعَةٌ، وَيَقِفُ الإِْمَامُ وَسَطَ الصَّفِّ وَالْمُصَلُّونَ خَلْفَهُ (٢) لِقَوْلِهِ ﷺ: وَسِّطُوا الإِْمَامَ وَسُدُّوا الْخَلَل (٣) " وَمُقَابِل
_________
(١) حديث أبي مالك الأشعري ﵁ قال: " ألا أحدثكم بصلاة النبي صلي الله عليه وسلم: قال: فأقام الصلاة وصف الرجال، وصف خلفهم الغلمان، ثم صلى بهم فذكر صلاته ثم قال: هكذا الصلاة، قال عبد الأعلى - راوي الحديث - لا أحسبه إلا قال: صلاة أمتي " أخرجه أبو
(٢) المصادر السابقة.
(٣) حديث: " وسطوا الأمام وسدوا الخلل " أخرجه أبو داود (سنن أبو داود ١ / ٤٣٩ ط. إستانبول) من حديث أبي هريرة ﵁، وسكت عنه أبو داود والمنذري (مختصر سنن أبو داود للمنذري ١ / ٣٣٦ نشر دار المعرفة) قال في المهذب: سنده لين قال المناوي: / وأصله قول عبد الحق: ليس إسناده بقوي ولا مشهور. قال ابن القطان: لم يبين علته، وهي أن فيه يحيى بن بشير بن خلاد وأمه وهما مجهولان. فيض القدير ٦ / ٣٤٦٢ نشر المكتبة التجارية) .
الإِْمَامِ أَفْضَل مِنَ الْجَوَانِبِ، وَجِهَةُ يَمِينِ الإِْمَامِ أَفْضَل مِنْ جِهَةِ يَسَارِهِ لِقَوْلِهِ ﷺ: إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى مَيَامِنِ الصُّفُوفِ (١) .
فَضْل الصَّفِّ الأَْوَّل:
٤ - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ أَفْضَل صُفُوفِ الرِّجَال - سَوَاءٌ كَانُوا يُصَلُّونَ وَحْدَهُمْ أَوْ مَعَ غَيْرِهِمْ مِنَ الصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ - هُوَ الصَّفُّ الأَْوَّل، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ، ثُمَّ الأَْقْرَبُ فَالأَْقْرَبُ، وَكَذَا أَفْضَل صُفُوفِ النِّسَاءِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُنَّ رِجَالٌ. أَمَّا النِّسَاءُ مَعَ الرِّجَال فَأَفْضَل صُفُوفِهِنَّ آخِرُهَا؛ لأَِنَّ ذَلِكَ أَلْيَقُ وَأَسْتَرُ لِقَوْلِهِ ﷺ: خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَال أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا (٢) .
_________
(١) حديث: " إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف " أخرجه أبو داود (سنن أبي داود ١ / ٤٣٧ ط إستانبول) وابن ماجة (سنن ابن ماجة ١ / ٣٢١ ط عيسي الحلبي) من حديث عائشة ﵂ مرفوعا وحسنه الحافظ ابن حجر (فتح الباري ٢ / ٢١٣ ط. السلفية، وجامع الأصول في أحاديث الرسول بتحقيق الأرناؤوط ٥ / ٦١٥) .
(٢) حديث: " خير صفوف الرجال أولها. . . " أخرجه مسلم. صحيح مسلم ١ / ٣٢٦ - ط. عيسي الحلبي وشرح السنة للبغوي بتحقيق الأرناؤوط ٣ / ٣٧١ نشر المكتب الإسلامي) من حديث أبي هريرة ﵁
وَقَوْلِهِ ﷺ: لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَْوَّل ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلاَّ أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاَسْتَهَمُوا (١) .
٥ - قَال الْعُلَمَاءُ: مِنْ فَوَائِدِ الْحَثِّ عَلَى الصَّفِّ الأَْوَّل الْمُسَارَعَةُ إِلَى خَلاَصِ الذِّمَّةِ وَالسَّبْقُ لِدُخُول الْمَسْجِدِ؛ وَالْفِرَارُ مِنْ مُشَابَهَةِ الْمُنَافِقِينَ، وَالْقُرْبُ مِنَ الإِْمَامِ؛ وَاسْتِمَاعُ قِرَاءَتِهِ وَالتَّعَلُّمُ مِنْهُ وَالْفَتْحُ عَلَيْهِ وَالتَّبْلِيغُ عَنْهُ وَمُشَاهَدَةُ أَحْوَالِهِ، وَالسَّلاَمَةُ مِنَ اخْتِرَاقِ الْمَارَّةِ بَيْنَ يَدَيْهِ؛ وَسَلاَمَةُ الْبَال مِنْ رُؤْيَةِ مَنْ يَكُونُ أَمَامَهُ وَسَلاَمَةُ مَوْضِعِ سُجُودِهِ مِنْ أَذْيَال الْمُصَلِّينَ؛ وَالتَّعَرُّضُ لِصَلاَةِ اللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ، وَدُعَاءُ نَبِيِّهِ ﷺ وَغَيْرُ ذَلِكَ.
٦ - وَلَكِنِ الْعُلَمَاءُ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ مِنَ الصَّفِّ الأَْوَّل فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الصَّفَّ الأَْوَّل الْمَمْدُوحَ الَّذِي وَرَدَتِ الأَْحَادِيثُ بِفَضْلِهِ هُوَ الصَّفُّ الَّذِي يَلِي الإِْمَامَ سَوَاءٌ تَخَلَّلَهُ مِنْبَرٌ أَوْ مَقْصُورَةٌ أَوْ أَعْمِدَةٌ أَوْ نَحْوُهَا، وَسَوَاءٌ جَاءَ صَاحِبُهُ مُقَدَّمًا أَوْ مُؤَخَّرًا لِقَوْلِهِ ﷺ: لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الصَّفِّ الْمُقَدَّمِ لَكَانَتْ قُرْعَةٌ (٢) وَلِقَوْلِهِ
_________
(١) حديث: " لو يعلم الناس ما في. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري ٢ / ١٣٩ ط. السلفية) ومسلم ١ / ٣٢٥ ط. عيسي الحلبي) - واللفظ له - ومالك في الموطأ (١ / ١٣١ ط. عيسي الحلبي) .
(٢) حديث: " لو يعلمون. . . . " أخرجه مسلم. ١ / ٣٢٦ - ط. عيسي الحلبي ٩ من حديث أبي هريرة ﵁ مرفوعا.
ﷺ عِنْدَمَا رَأَى فِي أَصْحَابِهِ تَأَخُّرًا: تَقَدَّمُوا فَائْتَمُّوا بِي وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ، لاَ يَزَال قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللَّهُ (١) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ وَمِنْهُمُ الْغَزَالِيُّ إِلَى أَنَّ الصَّفَّ الأَْوَّل الْفَاضِل هُوَ أَوَّل صَفٍّ تَامٍّ يَلِي الإِْمَامَ وَلاَ يَتَخَلَّلُهُ شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ؛ لأَِنَّ مَا فِيهِ خَلَلٌ فَهُوَ نَاقِصٌ. قَال ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ: وَكَأَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْقَوْل لَحَظَ أَنَّ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إِلَى الْكَامِل، وَاسْتَدَل أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْل بِمَا رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ مَحْمُودٍ قَال: صَلَّيْنَا خَلْفَ أَمِيرٍ مِنَ الأُْمَرَاءِ فَاضْطَرَّنَا النَّاسُ فَصَلَّيْنَا بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ، فَلَمَّا صَلَّيْنَا قَال أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ كُنَّا نَتَّقِي هَذَا عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ ﷺ (٢) .
وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الآْخَرِينَ وَمِنْهُمْ بِشْرُ
_________
(١) حديث: " تقدموا فائتموا بي. . . " أخرجه مسلم (صحيح مسلم ١ / ٣٢٥ - ط. عيسي الحلبي) من حديث أبي سعيد الخدري ﵁.
(٢) حديث عبد الحميد بن محمود قال: " صلينا خلف أمير من الأمراء. . . " أخرجه أبو داود (سنن أبي داود ١ / ٤٣٦ ط. إستانبول) والنسائي (سنن النسائي ٢ / ٩٤ نشر مكتبة المطبوعات الإسلامية) والترمذي ١ / ٤٣٣ ط. دار الكتب العلمية) قال: حديث حسن صحيح. ورواه أيضا الحاكم من طريق سفيان الثوري وصححه هو الذهبي. المستدرك ١ / ٢١٠ نشر دار الكتاب العربي)
بْنُ الْحَارِثِ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّفِّ الأَْوَّل هُوَ مَنْ سَبَقَ إِلَى مَكَانِ الصَّلاَةِ وَجَاءَ أَوَّلًا وَإِنْ صَلَّى فِي آخِرِ الصُّفُوفِ، وَاحْتَجُّوا بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ مَنْ جَاءَ أَوَّل الْوَقْتِ وَلَمْ يَدْخُل فِي الصَّفِّ الأَْوَّل أَفْضَل مِمَّنْ جَاءَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ وَزَاحَمَ إِلَى الصَّفِّ الأَْوَّل. قَال ابْنُ حَجَرٍ الْعَسْقَلاَنِيُّ - أَيْضًا -: وَكَأَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْقَوْل لاَحَظَ الْمَعْنَى فِي تَفْضِيل الصَّفِّ الأَْوَّل دُونَ مُرَاعَاةِ لَفْظِهِ (١) .
الْفِرَارُ مِنَ الصَّفِّ فِي الْقِتَال مَعَ الْكُفَّارِ:
٧ - اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى مَنْ لَزِمَهُ الْجِهَادُ - وَهُوَ الْمُسْلِمُ الذَّكَرُ الْحُرُّ الْمُكَلَّفُ الْمُسْتَطِيعُ - الاِنْصِرَافُ عَنِ الصَّفِّ عِنْدَ الْتِقَاءِ صُفُوفِ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ؛ وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ إِنْ ثَبَتَ قُتِل لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَْدْبَارَ﴾ (٢) الآْيَةَ؛ وَلأَِنَّ النَّبِيَّ ﷺ
_________
(١) المجموع للنووي ٤ / ٣٠٠، الفواكه الدواني ١ / ٢٤٦، القوانين الفقهية ص ٧٤، البدائع ١ / ١٥٩، دليل الفالحين ٣ / ٥٦٢، نيل الأوطار ٣ / ٢١٥، مغني المحتاج ١ / ٣٤٦، فتح الباري ٢ / ٢٠٨، شرح السنة للبغوي ٣ / ٣٧٠، كشف القناع ١ / ٣٢٨، ٤٨٧، والمغني ٢ / ٢٢٠ ط. الرياض
(٢) سورة الأنفال / ١٥