الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٢٥ الصفحة 9

الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٢٥

حَاجَةٍ حَتَّى انْهَدَمَ، يُجْبَرُ عَلَى إِعَادَتِهِ. بِهَذَا يَقُول جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ، وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ صَاحِبَ السُّفْل أَتْلَفَ حَقَّ صَاحِبِ الْعُلْوِ بِإِتْلاَفِ مَحَلِّهِ وَيُمْكِنُ جَبْرُهُ بِالإِْعَادَةِ، فَتَجِبُ عَلَيْهِ إِعَادَتُهُ (١) . وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوِ انْهَدَمَ السُّفْل وَلَوْ بِهَدْمِ مَالِكِهِ تَعَدِّيًا لَمْ يُجْبِرْهُ صَاحِبُ الْعُلْوِ عَلَى إِعَادَتِهِ لأَِجْل بِنَائِهِ عَلَيْهِ (٢) .

أَمَّا لَوِ انْهَدَمَ السُّفْل بِلاَ صُنْعِ صَاحِبِهِ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى بِنَائِهِ لِعَدَمِ التَّعَدِّي. بِهَذَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ (٣) .

قَال الْكَاسَانِيُّ: وَلِصَاحِبِ الْعُلْوِ أَنْ يَبْنِيَ السُّفْل مِنْ مَال نَفْسِهِ، ثُمَّ يَرْجِعَ بِمَا أَنْفَقَ إِنْ بَنَى بِإِذْنِ صَاحِبِ السُّفْل أَوْ إِذْنِ الْقَاضِي وَإِلاَّ فَبِقِيمَةِ الْبِنَاءِ يَوْمَ بَنَى؛ لأَِنَّ الْبِنَاءَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَإِنْ كَانَ تَصَرُّفًا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ لَكِنْ فِيهِ ضَرُورَةٌ؛ لأَِنَّ صَاحِبَ الْعُلْوِ لاَ يُمْكِنُهُ الاِنْتِفَاعُ بِمِلْكِ نَفْسِهِ إِلاَّ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ فَصَارَ مُطْلَقًا لَهُ

_________

(١) بدائع الصنائع ٦ / ٢٦٤، وابن عابدين ٤ / ٣٥٨، والزرقاني ٦ / ٦٠، ٦١، والمغني ٤ / ٥٦٩، وكشاف القناع ٣ / ٤١٥.

(٢) القليوبي وعميرة ٢ / ٣١٦.

(٣) بدائع الصنائع ٦ / ٢٦٤، وابن عابدين ٤ / ٣٥٨، وأسنى المطالب ٢ / ٢٢٤، والمغني ٤ / ٥٦٥، ٥٦٨.

شَرْعًا، وَلَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ مَبْنِيًّا؛ لأَِنَّ الْبِنَاءَ مِلْكُهُ لِحُصُولِهِ بِإِذْنِ الشَّرْعِ وَإِطْلاَقِهِ لَهُ فَلَهُ أَنْ لاَ يُمَكِّنَهُ مِنَ الاِنْتِفَاعِ بِمِلْكِهِ إِلاَّ بِبَدَلٍ يَعْدِلُهُ وَهُوَ الْقِيمَةُ (١) .

وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ صَاحِبَ السُّفْل يُجْبَرُ عَلَى الْبِنَاءِ لِيَتَمَكَّنَ صَاحِبُ الْعُلْوِ مِنِ انْتِفَاعِهِ بِهِ (٢) .

التَّنَازُعُ فِي السَّقْفِ

٣ - لَوْ كَانَ السُّفْل لِوَاحِدٍ وَالْعُلْوُ لآِخَرَ وَتَنَازَعَا فِي السَّقْفِ وَلاَ بَيِّنَةَ فَالسَّقْفُ لِلأَْسْفَل عِنْدَ التَّنَازُعِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ﴾ (٣) .

فَأَضَافَ السَّقْفَ لِلْبَيْتِ وَالْبَيْتُ لِلأَْسْفَل؛ وَلأَِنَّ يَدَ رَبِّ السُّفْل أَسْبَقُ فَشَهِدَ الظَّاهِرُ لَهُ - بِهَذَا يَقُول الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ (٤) .

وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: السَّقْفُ الْمُتَوَسِّطُ بَيْنَ سُفْل أَحَدِهِمَا وَعُلْوِ الآْخَرِ كَالْجِدَارِ بَيْنَ مِلْكَيْهِمَا، فَإِذَا تَدَاعَيَاهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إِحْدَاثُهُ بَعْدَ بِنَاءِ الْعُلْوِ كَالأَْزَجِ الَّذِي لاَ يُمْكِنُ عَقْدُهُ

_________

(١) بدائع الصنائع ٦ / ٢٦٤، وانظر ابن عابدين ٤ / ٣٥٨.

(٢) الشرح الصغير ٣ / ٤٨٠، والقوانين الفقهية ص ٣٤٦، والمغني ٤ / ٤٦٨، وكشاف القناع ٣ / ٤١٥.

(٣) سورة الزخرف / ٣٣.

(٤) جامع الفصولين ٢ / ٢١٠، والزرقاني ٦ / ٦٠، ٦١.

عَلَى وَسَطِ الْجِدَارِ بَعْدَ امْتِدَادِهِ فِي الْعُلْوِ جُعِل فِي يَدِ صَاحِبِ السُّفْل؛ لاِتِّصَالِهِ بِبِنَائِهِ عَلَى سَبِيل التَّرْصِيفِ، وَإِنْ أَمْكَنَ بِأَنْ يَكُونَ السَّقْفُ عَالِيًا فَيَثْقُبَ وَسَطَ الْجِدَارِ وَتُوضَعَ رُءُوسُ الْجُذُوعِ فِي الثُّقْبِ فَيَصِيرَ الْبَيْتُ بَيْتَيْنِ، فَهُوَ فِي أَيْدِيهِمَا لاِشْتِرَاكِهِمَا فِي الاِنْتِفَاعِ بِهِ (١) .

وَيَرَى الْحَنَابِلَةُ أَنَّ السَّقْفَ بَيْنَهُمَا؛ لاِنْتِفَاعِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِهِ، لاَ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ وَحْدَهُ (٢) .

إِشْرَافُ الْجَارِ الأَْعْلَى عَلَى دَارِ الْجَارِ الأَْسْفَل:

٤ - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ: وَهُوَ الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ - إِلَى أَنَّهُ يُقْضَى عَلَى مَنْ أَحْدَثَ كُوَّةً أَوْ بَابًا أَوْ غُرْفَةً مِنْ دَارِهِ يُشْرِفُ مِنْهَا عَلَى جَارِهِ أَنْ يَسُدَّ جَمِيعَهَا (٣) .

وَأَمَّا الْكُوَّةُ الْقَدِيمَةُ فَلاَ يُقْضَى بِسَدِّهَا وَيُقَال لِلْجَارِ: اسْتُرْ عَلَى نَفْسِكَ إِنْ شِئْتَ (٤) .

وَقَال الْخَيْرُ الرَّمْلِيُّ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ: لاَ فَرْقَ بَيْنَ الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ، حَيْثُ كَانَتِ الْعِلَّةُ الضَّرَرَ الْبَيِّنَ لِوُجُودِهَا فِيهِمَا (٥) .

_________

(١) روضة الطالبين ٤ / ٢٢٦.

(٢) كشاف القناع ٣ / ٤١٦، والمغني ٤ / ٥٦٤.

(٣) الخرشي ٦ / ٥٩، ٦٠ والدسوقي ٣ / ٣٦٩، وابن عابدين ٤ / ٣٦١، ومغني المحتاج ٢ / ١٨٦.

(٤) الدسوقي ٣ / ٣٦٩.

(٥) ابن عابدين ٤ / ٣٦١

وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ - وَهُوَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ فُقَهَاءِ الْحَنَابِلَةِ - أَنَّ مَنْ أَحْدَثَ شُبَّاكًا أَوْ بِنَاءً جَدِيدًا وَجَعَل لَهُ شُبَّاكًا عَلَى الْمَحَل الَّذِي هُوَ مَقَرٌّ لِنِسَاءِ جَارِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مُلاَصِقًا أَوْ بَيْنَهُمَا طَرِيقٌ فَاصِلٌ، فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِرَفْعِ الضَّرَرِ، وَيُجْبَرُ عَلَى رَفْعِهِ بِصُورَةٍ تَمْنَعُ وُقُوعَ النَّظَرِ إِمَّا بِبِنَاءِ حَائِطٍ أَوْ وَضْعِ طَبْلَةٍ، لَكِنْ لاَ يُجْبَرُ عَلَى سَتْرِ الشُّبَّاكِ بِالْكُلِّيَّةِ (١) .

وَيَرَى الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَالِكِ فَتْحُ كُوَّاتٍ وَشَبَابِيكَ فِي مِلْكِهِ وَلَوْ لِغَيْرِ الاِسْتِضَاءَةِ؛ لأَِنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِهِ. وَقَيَّدَ الْجُرْجَانِيُّ جَوَازَ فَتْحِ الْكُوَّاتِ بِمَا إِذَا كَانَتْ عَالِيَةً لاَ يَقَعُ النَّظَرُ مِنْهَا إِلَى دَارِ جَارِهِ، إِلاَّ أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا حَامِدٍ صَرَّحَ بِجَوَازِ فَتْحِ كُوَّةٍ فِي مِلْكِهِ مُشْرِفَةٍ عَلَى جَارِهِ وَعَلَى حَرِيمِهِ، وَلَيْسَ لِلْجَارِ مَنْعُهُ، لأَِنَّهُ لَوْ أَرَادَ رَفْعَ جَمِيعِ الْحَائِطِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ، فَإِذَا رَفَعَ بَعْضَهُ لَمْ يُمْنَعْ.

وَقَال بَعْضُ مُتَأَخِّرِي الشَّافِعِيَّةِ: يَنْدَفِعُ الضَّرَرُ عَنِ الْجَارِ بِأَنْ يَبْنِيَ فِي مِلْكِهِ جِدَارًا يُقَابِل الْكُوَّةَ وَيَسُدُّ ضَوْأَهَا وَرُؤْيَتَهَا فَإِنَّهُ لاَ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ (٢) .

_________

(١) مجلة الأحكام العدلية المادة (١٢٠٢) والبزازية بهامش الهندية ٦ / ٤١٤، وكشاف القناع ٣ / ٤١٣، والمغني٤ / ٥٧٣، ومطالب أولي النهى # ٣ / ٣٥٨.

(٢) مغني المحتاج ٢ / ١٨٦، ١٨٧، وأسنى المطالب وحاشية الرملي عليه ٢ / ٢٢٢ - ٢٢٣.

وَصَرَّحَ الْبُجَيْرِمِيُّ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الشَّخْصِ فَتْحُ كُوَّةٍ فِي جِدَارِهِ يَطَّلِعُ مِنْهَا عَلَى عَوْرَاتِ جَارِهِ (١) .

_________

(١) بجيرمي على الخطيب ٣ / ٨٤ نشر دار المعرفة.

سَفَه

.

التَّعْرِيفُ:

١ - السَّفَهُ وَالسَّفَاهُ وَالسَّفَاهَةُ: ضِدُّ الْحِلْمِ، وَهِيَ مَصَادِرُ سَفِهَ يَسْفَهُ، مِنْ بَابِ تَعِبَ، وَهُوَ نَقْصٌ فِي الْعَقْل أَصْلُهُ الْخِفَّةُ وَالْحَرَكَةُ.

يُقَال: تَسَفَّهَتِ الرِّيحُ الشَّجَرَ؛ أَيْ مَالَتْ بِهِ، وَسَفُهَ بِالضَّمِّ، وَسَفِهَ بِالْكَسْرِ؛ أَيْ صَارَ سَفِيهًا، وَالْجَمْعُ سُفَهَاءُ وَسُفَّهٌ وَسِفَاهٌ.

وَالْمُؤَنَّثُ مِنْهُ سَفِيهَةٌ، وَالْجَمْعُ سَفَائِهُ (١) .

وَاصْطِلاَحًا: هُوَ التَّبْذِيرُ فِي الْمَال وَالإِْسْرَافُ فِيهِ وَلاَ أَثَرَ لِلْفِسْقِ وَالْعَدَالَةِ فِيهِ.

وَيُقَابِلُهُ الرُّشْدُ: وَهُوَ إِصْلاَحُ الْمَال وَتَنْمِيَتُهُ وَعَدَمُ تَبْذِيرِهِ.

وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ (أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَبِي يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٍ، وَمَالِكٍ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَالْمَرْجُوحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَهُوَ قَوْل

_________

(١) الصحاح والمصباح المنير.

الْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَالسُّدِّيِّ، وَالضَّحَّاكِ) .

وَالرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ: التَّبْذِيرُ فِي الْمَال وَالْفَسَادُ فِيهِ وَفِي الدِّينِ مَعًا. وَهُوَ قَوْلٌ لأَِحْمَدَ (١) .

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ - الْحَجْرُ:

٢ - هُوَ مَصْدَرُ قَوْلِكَ حَجَرَ عَلَيْهِ الْقَاضِي يَحْجُرُ حَجْرًا: إِذَا مَنَعَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ. وَالسَّفَهُ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْحَجْرِ (٢) .

ب - الْعَتَهُ:

٣ - الْعَتَهُ نَقْصٌ فِي الْعَقْل مِنْ غَيْرِ جُنُونٍ أَوْ دَهَشٍ، وَالْمَعْتُوهُ: النَّاقِصُ الْعَقْل. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّفَهِ أَنَّ الْعَتَهَ عِبَارَةٌ عَنْ آفَةٍ نَاشِئَةٍ عَنِ الذَّاتِ تُوجِبُ خَلَلًا فِي الْعَقْل فَيَصِيرُ

_________

(١) لا فرق بين الذكر والأنثى في الرشد عند الجمهور، أما عند مالك ورأي مرجوح للإمام أحمد فلا بد لرشد المرأة بعد بلوغها من أن تتزوج ويدخل بها الزوج. انظر رحمة الأمة في اختلاف الأئمة ص ١٩٨ لأبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن الدمشقي العثماني الشافعي من علماء القرن اوالمغني لابن قدامة ٤ / ٥١٧، والمجموع ١٣ / ٣٦٧، والمبدع ٤ / ٣٣٤، ونيل الأوطار ٥ / ٣٧٠.

(٢) الصحاح والمصباح المنير.

صَاحِبُهُ مُخْتَلِطَ الْعَقْل فَيُشْبِهُ بَعْضُ كَلاَمِهِ كَلاَمَ الْعُقَلاَءِ، وَبَعْضُهُ كَلاَمَ الْمَجَانِينِ بِخِلاَفِ السَّفَهِ فَإِنَّهُ خِفَّةٌ تَعْرِضُ لِلإِْنْسَانِ وَلَيْسَتِ السَّفَهَ فِي ذَاتِهِ (١) .

ج - الرُّشْدُ:

٤ - الرُّشْدُ: الصَّلاَحُ فِي الْمَال عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ الصَّلاَحُ فِي الْمَال وَالدِّينِ جَمِيعًا، فَهُوَ ضِدُّ السَّفَهِ. (ر: رُشْد) .

الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالسَّفَهِ:

أَوَّلًا: أَحْوَال السَّفَهِ:

٤ م - لِلسَّفَهِ حَالَتَانِ:

الأُْولَى: اسْتِمْرَارُ السَّفَهِ بَعْدَ بُلُوغِ الإِْنْسَانِ أَوْ إِفَاقَتِهِ مِنَ الْجُنُونِ.

الثَّانِيَةُ: طُرُوءُهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالرُّشْدِ.

أَمَّا الأُْولَى: فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَمِنْهُمْ صَاحِبَا أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى اسْتِمْرَارِ الْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ بِمَنْعِهِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ، إِذِ الْحَجْرُ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَإِنْ بَلَغَ الصَّبِيُّ أَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ وَهُمَا مُبَذِّرَانِ

_________

(١) التعريفات للجرجاني ص ١١٩، ١٤٧.

لِمَالِهِمَا اسْتَمَرَّ الْحَجْرُ عَلَيْهِمَا وَمُنِعَا مِنَ التَّصَرُّفِ (١) .

وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ لاَ يَحْجُرُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَلَوْ بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ إِلاَّ أَنَّهُ يَمْنَعُ وَلِيَّهُ مِنْ دَفْعِ مَالِهِ إِلَيْهِ، وَلاَ يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يَتَصَرَّفَ بِمَالِهِ بِبَيْعٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، وَلاَ يَدْفَعُ إِلَيْهِ مَالَهُ إِلاَّ أَنْ يَبْلُغَ عُمْرُهُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَإِذَا بَلَغَهَا دَفَعَ إِلَيْهِ مَالَهُ سَفِهَ أَوْ رَشَدَ (٢) .

اسْتَدَل الْجُمْهُورُ (٣) الْقَائِلُونَ بِالْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ بِالسَّفَهِ الْمُسْتَمِرِّ بَعْدَ بُلُوغِ الصَّبِيِّ وَإِفَاقَةِ الْمَجْنُونِ، أَوِ الَّذِي حَصَل بَعْدَ بُلُوغِهِ وَإِفَاقَتِهِ رَشِيدًا، بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ (٤) . وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل بِهَا - أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِدَفْعِ أَمْوَال

_________

(١) الاختيار ٢ / ٩٦ وبلغة السالك ٢ / ١٢٨ وبداية المجتهد ٢ / ٢١٠ ومغني المحتاج ٢ / ١٦٦ والمبدع ٤ / ٣٣٤.

(٢) شرح المنار لابن ملك ٢ / ٩٨٩ وتيسير التحرير ٢ / ٣٠٠ والهداية بأعلى فتح القدير ٤ / ١٩٦ والاختيار ٢ / ٩٥ ومغني المحتاج ٢ / ١٧٠ والمبدع ٤ / ٣٤٢ ونيل الأوطار ٥ / ٣٦٨ وبلغة السالك ٢ / ١٣١.

(٣) والمجموع ١٣ / ٣٦٨ وشرح المنار ٢ / ٩٨٩، وتيسير التحرير ٢ / ٣٠٠، فتح القدير ٤ / ١٩٦، والاختيار ٢ / ٩٥، تفسير القرطبي ٥ / ٣٧، نيل الأوطار ٥ / ٣٦٨.

(٤) سورة النساء / ٦.

الْيَتَامَى بَعْدَ الْبُلُوغِ مَعَ إِينَاسِ الرُّشْدِ، لاَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَال.

وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَل اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ (١) .

وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل بِهَا أَنَّ اللَّهَ يَنْهَى عَنْ إِيتَاءِ الْمَال السُّفَهَاءَ وَلَمْ يُرَخِّصْ لِلأَْوْلِيَاءِ إِلاَّ بِرِزْقِهِمْ مِنْهَا أَكْلًا وَلُبْسًا. وَيَدُل عَلَى أَنَّ إِضَافَةَ الْمَال إِلَى الأَْوْلِيَاءِ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ مَال الْوَلِيِّ بَل مَال السَّفِيهِ:

قَوْله تَعَالَى: ﴿وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ﴾ لأَِنَّهُ لاَ يُرْزَقُ وَلاَ يُكْسَى إِلاَّ مِنْ مَالِهِ.

وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِل هُوَ فَلْيُمْلِل وَلِيُّهُ بِالْعَدْل﴾ (٢) . وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل بِهَا أَنَّهُ جَعَل عِبَارَةَ السَّفِيهِ كَعِبَارَةِ مَنْ لاَ يَسْتَطِيعُ التَّعْبِيرَ وَجَعَل عِبَارَةَ وَلِيِّهِ تَقُومُ مَقَامَ عِبَارَتِهِ وَأَوْجَبَ الْوِلاَيَةَ عَلَيْهِ، وَهَذِهِ هِيَ أَمَارَاتُ الْحَجْرِ.

كَمَا اسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ ﷺ قَال: إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ

_________

(١) سورة النساء / ٥.

(٢) سورة البقرة / ٢٨٢.