الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٢٥ الصفحة 5

الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٢٥

حَجَّاجٍ عَنْ عَطَاءٍ قَال: كَانُوا يَكْرَهُونَ كُل قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً.

وَمِنَ الصُّوَرِ الَّتِي قَدْ تَجْلِبُ نَفْعًا لِلْمُقْرِضِ مَا يُسَمَّى بِالسُّفْتَجَةِ وَصُورَتُهَا: أَنْ يُقْرِضَ شَخْصٌ غَيْرَهُ - تَاجِرًا أَوْ غَيْرَ تَاجِرٍ - فِي بَلَدٍ وَيَطْلُبَ مِنَ الْمُسْتَقْرِضِ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ كِتَابًا يَسْتَوْفِي بِمُوجِبِهِ بَدَل الْقَرْضِ فِي بَلَدٍ آخَرَ مِنْ شَرِيكِ الْمُقْتَرِضِ أَوْ وَكِيلِهِ.

وَالنَّفْعُ الْمُتَوَقَّعُ هُنَا هُوَ أَنْ يَسْتَفِيدَ الْمُقْرِضُ دَفْعَ خَطَرِ الطَّرِيقِ؛ إِذْ قَدْ يَخْشَى لَوْ سَافَرَ بِأَمْوَالِهِ أَنْ يَسْطُوَ عَلَيْهِ اللُّصُوصُ وَقُطَّاعُ الطُّرُقِ فَيَلْجَأُ إِلَى هَذِهِ الْحِيلَةِ لِيَسْتَفِيدَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْقَرْضِ دَفْعَ الْخَطَرِ الْمُتَوَقَّعِ فِي الطَّرِيقِ.

وَالْحُكْمُ فِي ذَلِكَ يَخْتَلِفُ؛ لأَِنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ الَّذِي يَكْتُبُهُ الْمُسْتَقْرِضُ لِوَكِيلِهِ (وَهُوَ السُّفْتَجَةُ) مَشْرُوطًا فِي عَقْدِ الْقَرْضِ أَوْ غَيْرَ مَشْرُوطٍ.

فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَشْرُوطًا فِي عَقْدِ الْقَرْضِ فَهُوَ حَرَامٌ وَالْعَقْدُ فَاسِدٌ؛ لأَِنَّهُ قَرْضٌ جَرَّ نَفْعًا فَيُشْبِهُ الرِّبَا؛ لأَِنَّ الْمَنْفَعَةَ فَضْلٌ لاَ يُقَابِلُهُ عِوَضٌ، وَهَذَا عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَبَعْضِ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ) وَذَكَرَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ مَالِكًا كَرِهَ الْعَمَل

بِالسَّفَاتِجِ بِالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا، وَأَجَازَ ذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِذَلِكَ، وَالأَْشْهَرُ عَنْهُ كَرَاهِيَتُهُ لَمَّا اسْتَعْمَلَهُ النَّاسُ مِنْ أَمْرِ السَّفَاتِجِ.

وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَحْمَدَ جَوَازُهَا لِكَوْنِهَا مَصْلَحَةً لَهُمَا جَمِيعًا، وَقَال عَطَاءٌ: كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَأْخُذُ مِنْ قَوْمٍ بِمَكَّةَ دَرَاهِمَ ثُمَّ يَكْتُبُ لَهُمْ بِهَا إِلَى مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِالْعِرَاقِ فَيَأْخُذُونَهَا مِنْهُ، فَسُئِل عَنْ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ ﵄ فَلَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا، وَمِمَّنْ لَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا: ابْنُ سِيرِينَ وَالنَّخَعِيُّ، رَوَاهُ كُلَّهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ.

وَذَكَرَ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ لِلْوَصِيِّ قَرْضَ مَال الْيَتِيمِ فِي بَلَدٍ أُخْرَى لِيَرْبَحَ خَطَرَ الطَّرِيقِ، وَالصَّحِيحُ جَوَازُهُ، لأَِنَّهُ مَصْلَحَةٌ لَهُمَا مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا.

وَالشَّرْعُ لاَ يَرِدُ بِتَحْرِيمِ الْمَصَالِحِ الَّتِي لاَ مَضَرَّةَ فِيهَا بَل بِمَشْرُوعِيَّتِهَا، وَلأَِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ عَلَى تَحْرِيمِهِ وَلاَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ، فَوَجَبَ إِبْقَاؤُهُ عَلَى الإِْبَاحَةِ. غَيْرَ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ اسْتَثْنَوْا مَا إِذَا عَمَّ الْخَوْفُ جَمِيعَ طُرُقِ الْمَحَل الَّتِي يَذْهَبُ الْمُقْرِضُ مِنْهَا إِلَيْهِ، فَإِذَا كَانَ الْخَوْفُ عَلَى النَّفْسِ أَوِ الْمَال غَالِبًا لِخَطَرِ

الطَّرِيقِ فَلاَ حُرْمَةَ فِي الْعَمَل بِالسُّفْتَجَةِ بَل يُنْدَبُ ذَلِكَ تَقْدِيمًا لِمَصْلَحَةِ حِفْظِ النَّفْسِ وَالْمَال عَلَى مَضَرَّةِ سَلَفٍ جَرَّ نَفْعًا، كَمَا أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ إِذَا كَانَ فِيهِ نَفْعٌ لِلْمُقْتَرِضِ أَوْ كَانَ الْمُتَسَلِّفُ هُوَ الَّذِي طَلَبَ ذَلِكَ.

وَإِنْ كَانَ الْمُقْتَرِضُ هُوَ الَّذِي كَتَبَ السُّفْتَجَةَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ مِنَ الْمُقْرِضِ بِذَلِكَ جَازَ ذَلِكَ بِاتِّفَاقٍ لأَِنَّهُ مِنْ حُسْنِ الْقَضَاءِ، وَقَدِ اسْتَسْلَفَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إِبِل الصَّدَقَةِ، فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِيَ الرَّجُل بَكْرَهُ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ أَبُو رَافِعٍ فَقَال: لَمْ أَجِدْ فِيهَا إِلاَّ خِيَارًا رُبَاعِيًّا، فَقَال: أَعْطِهِ إِيَّاهُ، إِنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً (١) .

وَرَخَّصَ فِي ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَمَكْحُولٌ وَقَتَادَةُ وَإِسْحَاقُ (٢) .

_________

(١) حديث: " استسلف النبي ﷺ من رجل بكرا. . ". أخرجه مسلم (٣ / ١٢٢٤ - ط الحلبي) من حديث أبي هريرة.

(٢) ابن عابدين ٤ / ١٧٤، ٢٩٥، ٢٩٦، وتكملة فتح القدير ٧ / ٢٥٠ - ٢٥١ نشر دار الفكر بيروت، والبدائع ٧ / ٣٩٥، والدسوقي ٣ / ٢٢٥، ٢٢٦، والحطاب والمواق بهامشه ٤ / ٥٤٧، والكافي لابن عبد البر ٢ / ٧٢٨، ٧٢٩، والمهذب ١ / ٣١١، ونهاية المحتاج ٤ / ٢٢٥، والمغني ٤ / ٣٥٤، ٣٥٥، ٣٥٦، وكشاف القناع ٣ / ٣١٧

سَفَر

التَّعْرِيفُ:

١ - السَّفَرُ لُغَةً قَطْعُ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ. يُقَال ذَلِكَ إِذَا خَرَجَ لِلاِرْتِحَال.

قَال الْفَيُّومِيُّ: وَقَال بَعْضُ الْمُصَنَّفِينَ: أَقَل السَّفَرِ يَوْمٌ.

وَالْجَمْعُ أَسْفَارٌ، وَرَجُلٌ مُسَافِرٌ، وَقَوْمٌ سَفْرٌ وَأَسْفَارٌ وَسُفَّارٌ، وَأَصْل الْمَادَّةِ الْكَشْفُ.

وَسُمِّيَ السَّفَرُ سَفَرًا لأَِنَّهُ يُسْفِرُ عَنْ وُجُوهِ الْمُسَافِرِينَ وَأَخْلاَقِهِمْ فَيَظْهَرُ مَا كَانَ خَافِيًا (١) .

وَفِي الاِصْطِلاَحِ: السَّفَرُ هُوَ الْخُرُوجُ عَلَى قَصْدِ قَطْعِ مَسَافَةِ الْقَصْرِ الشَّرْعِيَّةِ فَمَا فَوْقَهَا (٢) .

_________

(١) لسان العرب والمصباح المنير وتاج العروس مادة (سفر) .

(٢) التعريفات ١٥٧ دار الكتاب العربي ١٩٨٥ م. الكليات ٣ / ٣٣، جامع العلوم في اصطلاحات الفنون ٢ / ١٦٩ مؤسسة الأعلمي ١٩٧٥ م.

الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:

أ - الْحَضَرُ:

٢ - الْحَضَرُ بِفَتْحَتَيْنِ وَالْحَضْرَةُ وَالْحَاضِرَةُ خِلاَفُ الْبَادِيَةِ، وَهِيَ الْمُدُنُ وَالْقُرَى وَالرِّيفُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لأَِنَّ أَهْلَهَا حَضَرُوا الأَْمْصَارَ وَمَسَاكِنَ الدِّيَارِ الَّتِي يَكُونُ لَهُمْ بِهَا قَرَارٌ. وَالْحَضَرُ مِنَ النَّاسِ سَاكِنُو الْحَضَرِ، وَالْحَاضِرُ خِلاَفُ الْبَادِي، وَالْحَضَرُ مَنْ لاَ يَصْلُحُ لِلسَّفَرِ (١) .

وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

ب - الإِْقَامَةُ:

٣ - مِنْ مَعَانِي الإِْقَامَةِ: الثُّبُوتُ فِي الْمَكَانِ وَاِتِّخَاذُهُ وَطَنًا، وَهِيَ ضِدُّ السَّفَرِ (٢) .

الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:

٤ - قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ السَّفَرَ مِنْ حَيْثُ حُكْمُهُ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ: سَفَرُ طَاعَةٍ كَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ، وَسَفَرٌ مُبَاحٌ كَالتِّجَارَةِ، وَسَفَرُ مَعْصِيَةٍ كَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَحَجِّ الْمَرْأَةِ بِلاَ مَحْرَمٍ.

وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: السَّفَرُ عَلَى قِسْمَيْنِ: سَفَرُ طَلَبٍ، وَسَفَرُ هَرَبٍ. فَسَفَرُ الْهَرَبِ وَاجِبٌ.

_________

(١) لسان العرب والمصباح المنير مادة (حضر) .

(٢) المصباح المنير مادة (قوم) .

وَهُوَ إِذَا كَانَ فِي بَلَدٍ يَكْثُرُ فِيهِ الْحَرَامُ وَيَقِل فِيهِ الْحَلاَل فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ السَّفَرُ مِنْهُ إِلَى بَلَدٍ يَكْثُرُ فِيهِ الْحَلاَل. وَكَذَلِكَ يَجِبُ الْهُرُوبُ مِنْ مَوْضِعٍ يُشَاهَدُ فِيهِ الْمُنْكَرُ مِنْ شُرْبِ خَمْرٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ سَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ إِلَى مَوْضِعٍ لاَ يُشْهَدُ فِيهِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْهَرَبُ مِنْ بَلَدٍ أَوْ مَوْضِعٍ يُذِل فِيهِ نَفْسَهُ إِلَى مَوْضِعٍ يُعِزُّ فِيهِ نَفْسَهُ؛ لأَِنَّ الْمُؤْمِنَ عَزِيزٌ لاَ يُذِل نَفْسَهُ. وَكَذَلِكَ يَجِبُ الْهُرُوبُ مِنْ بَلَدٍ لاَ عِلْمَ فِيهِ إِلَى بَلَدٍ فِيهِ الْعِلْمُ. وَكَذَلِكَ يَجِبُ الْهُرُوبُ مِنْ بَلَدٍ يُسْمَعُ فِيهِ سَبُّ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَلاَ يَخْفَى أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ حَيْثُ لَمْ يُمْكِنِ الإِْنْسَانَ التَّغْيِيرُ وَالإِْصْلاَحُ.

وَأَمَّا سَفَرُ الطَّلَبِ فَهُوَ عَلَى أَقْسَامٍ - وَيُوَافِقُهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ عَلَيْهَا - وَاجِبٌ كَسَفَرِ حَجِّ الْفَرِيضَةِ وَالْجِهَادِ إِذَا تَعَيَّنَ.

وَمَنْدُوبٌ وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالطَّاعَةِ قُرْبَةً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ كَالسَّفَرِ لِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ أَوْ لِصِلَةِ الرَّحِمِ أَوْ طَلَبِ الْعِلْمِ أَوْ لِلتَّفَكُّرِ فِي الْخَلْقِ، وَمُبَاحٌ وَهُوَ سَفَرُ التِّجَارَةِ، وَمَمْنُوعٌ وَهُوَ السَّفَرُ لِمَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وَمَثَّل الشَّافِعِيَّةُ لِلسَّفَرِ الْمَكْرُوهِ بِاَلَّذِي يُسَافِرُ وَحْدَهُ، وَسَفَرُ الاِثْنَيْنِ أَخَفُّ كَرَاهَةً، وَذَلِكَ لِخَبَرِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ كَرِهَ النَّبِيُّ ﷺ الْوَحْدَةَ فِي السَّفَرِ (١) وَقَوْلِهِ ﷺ: الرَّاكِبُ

_________

(١) حديث: " كره النبي ﷺ الوحدة في السفر ". ذكره صاحب نهاية المحتاج (٢ / ٢٤٨ - ط الحلبي) وعزاه إلى أحمد، ولم نره في المسند المطبوع.

شَيْطَانٌ وَالرَّاكِبَانِ شَيْطَانَانِ وَالثَّلاَثَةُ رَكْبٌ (١) . وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ السَّفَرَ لِرُؤْيَةِ الْبِلاَدِ وَالتَّنَزُّهِ فِيهَا مُبَاحٌ. وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنَّ السِّيَاحَةَ لِغَيْرِ مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ مَكْرُوهٌ (٢) .

السَّفَرُ مِنْ عَوَارِضِ الأَْهْلِيَّةِ:

٥ - السَّفَرُ مِنْ عَوَارِضِ الأَْهْلِيَّةِ الْمُكْتَسَبَةِ، وَهُوَ لاَ يُنَافِي شَيْئًا مِنْ أَهْلِيَّةِ الأَْحْكَامِ وُجُوبًا وَأَدَاءً مِنَ الْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا. فَلاَ يَمْنَعُ وُجُوبَ شَيْءٍ مِنَ الأَْحْكَامِ نَحْوِ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ لِبَقَاءِ الْقُدْرَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ بِكَمَالِهَا. لَكِنَّهُ جُعِل فِي الشَّرْعِ مِنْ أَسْبَابِ التَّخْفِيفِ بِنَفْسِهِ مُطْلَقًا - يَعْنِي مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى كَوْنِهِ مُوجِبًا لِلْمَشَقَّةِ أَوْ غَيْرَ مُوجِبٍ لَهَا - لأَِنَّ السَّفَرَ مِنْ أَسْبَابِ الْمَشَقَّةِ فِي الْغَالِبِ. فَلِذَلِكَ اعْتُبِرَ

_________

(١) حديث: " الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب ". أخرجه الترمذي (٤ / ١٩٣ - ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عمرو، وقال: " حديث حسن ".

(٢) العناية على الهداية بهامش القدير ٢ / ١٩ دار إحياء التراث العربي، مواهب الجليل ٢ / ١٣٩ دار الفكر ١٩٧٨م، نهاية المحتاج ٢ / ٢٤٨ ط. مصطفى الحلبي ١٩٦٧م. حاشية الجمل ١ / ٥٨٩ دار إحياء التراث العربي، كشاف القناع ١ / ٥٠٣ عالم الكتب ١٩٨٣م.

نَفْسُ السَّفَرِ سَبَبًا لِلرُّخَصِ وَأُقِيمَ مَقَامَ الْمَشَقَّةِ (١) .

وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي الْمُلْحَقِ الأُْصُولِيِّ.

شُرُوطُ السَّفَرِ:

٦ - يُشْتَرَطُ فِي السَّفَرِ الَّذِي تَتَغَيَّرُ بِهِ الأَْحْكَامُ، مَا يَلِي:

أ - أَنْ يَبْلُغَ الْمَسَافَةَ الْمُحَدَّدَةَ شَرْعًا:

٧ - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَسَافَةِ السَّفَرِ الَّذِي تَتَغَيَّرُ بِهِ الأَْحْكَامُ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى أَنَّ مَسَافَةَ السَّفَرِ الَّتِي تَتَغَيَّرُ بِهَا الأَْحْكَامُ أَرْبَعَةُ بُرُدٍ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَال: يَا أَهْل مَكَّةَ لاَ تَقْصُرُوا فِي أَقَل مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ، مِنْ مَكَّةَ إِلَى عُسْفَانَ (٢) وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ ﵃ يَقْصُرَانِ وَيُفْطِرَانِ فِي أَرْبَعَةِ بُرُدٍ. وَذَلِكَ إِنَّمَا يُفْعَل عَنْ تَوْقِيفٍ. وَكُل بَرِيدٍ أَرْبَعَةُ

_________

(١) تيسير التحرير ٢ / ٢٥٨، ٣٠٣ ط مصطفى الحلبي ١٣٥٠ هـ، كشف الأسرار ٤ / ٣٧٦ دار الكتاب العربي ١٩٧٤م.

(٢) حديث: " يا أهل مكة، لا تقصروا في أقل من أربعة برد من مكة إلى عسفان ". أخرجه الدارقطني (١ / ٣٨٧ - ط دار المحاسن)، وقال ابن حجر: " إسناده ضعيف والصحيح عن ابن عباس من قوله " كذا في التلخيص الحبير (٢ / ٤٦ - ط شركة الطباعة الفنية) .

فَرَاسِخَ، وَالْفَرْسَخُ ثَلاَثَةُ أَمْيَالٍ هَاشِمِيَّةٍ.

فَهِيَ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا، وَالْفَرْسَخُ بِأَمْيَال بَنَى أُمَيَّةَ مِيلاَنِ وَنِصْفٌ، فَالْمَسَافَةُ عَلَى هَذَا أَرْبَعُونَ مِيلًا.

وَالتَّقْدِيرُ بِثَمَانِيَةٍ وَأَرْبَعِينَ مِيلًا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ (١) وَعِنْدَهُمْ أَقْوَالٌ ضَعِيفَةٌ بِغَيْرِ ذَلِكَ، وَلاَ تُحْسَبُ مِنْ هَذِهِ الْمَسَافَةِ مُدَّةُ الرُّجُوعِ اتِّفَاقًا.

فَلَوْ كَانَتْ مُلَفَّقَةً مِنَ الذَّهَابِ وَالرُّجُوعِ لَمْ تَتَغَيَّرِ الأَْحْكَامُ. وَهِيَ بِاعْتِبَارِ الزَّمَانِ مَرْحَلَتَانِ، وَهُمَا سَيْرُ يَوْمَيْنِ مُعْتَدِلَيْنِ أَوْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ بِسَيْرِ الإِْبِل الْمُثْقَلَةِ بِالأَْحْمَال عَلَى الْمُعْتَادِ، مَعَ النُّزُول الْمُعْتَادِ لِنَحْوِ اسْتِرَاحَةٍ وَأَكْلٍ وَصَلاَةٍ. قَال الأَْثْرَمُ: قِيل لأَِبِي عَبْدِ اللَّهِ: فِي كَمْ تُقْصَرُ الصَّلاَةُ؟ قَال: فِي أَرْبَعَةِ بُرُدٍ. قِيل لَهُ: مَسِيرَةُ يَوْمٍ تَامٍّ؟ قَال: لاَ، أَرْبَعَةُ بُرُدٍ، سِتَّةَ عَشَرَ فَرْسَخًا، مَسِيرَةُ يَوْمَيْنِ.

قَال الْبُهُوتِيُّ: وَقَدْ قَدَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ﵄ مِنْ عُسْفَانَ إِلَى مَكَّةَ، وَمِنَ الطَّائِفِ إِلَى مَكَّةَ، وَمِنْ جَدَّةَ إِلَى مَكَّةَ. وَقَدْ صَرَّحَ

_________

(١) الميل مقياس للطول قدر قديما بأربعة آلاف ذراع، وهو الميل الهاشمي. ويقدر الآن بما يساوي ١٦٠٩ من الأمتار وعليه تكون المسافة المبيحة للقصر حوالي ٧٧ كيلو مترا وينظر مصطلح (مقادير) .

الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّ الْيَوْمَ يُعْتَبَرُ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ لأَِنَّهُ الْمُعْتَادُ لِلسَّيْرِ غَالِبًا لاَ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَأَنَّ الْبَحْرَ كَالْبَرِّ فِي اشْتِرَاطِ الْمَسَافَةِ الْمَذْكُورَةِ.

قَال الدُّسُوقِيُّ: إِنَّ الْبَحْرَ لاَ تُعْتَبَرُ فِيهِ الْمَسَافَةُ بَل الزَّمَانُ وَهُوَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَقِيل بِاعْتِبَارِهَا فِيهِ كَالْبَرِّ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَعَلَيْهِ إِذَا سَافَرَ وَبَعْضُ سَفَرِهِ فِي الْبَرِّ وَبَعْضُ سَفَرِهِ فِي الْبَحْرِ، فَقِيل: يُلَفِّقُ مَسَافَةَ أَحَدِهِمَا لِمَسَافَةِ الآْخَرِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ. وَقِيل: لاَ بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّفْصِيل عَلَى مَا مَرَّ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ.

وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لاَ يَضُرُّ قَطْعُ الْمَسَافَةِ فِي زَمَنٍ يَسِيرٍ، فَلَوْ قَطَعَ الأَْمْيَال فِي سَاعَةٍ مَثَلًا لِشِدَّةِ جَرْيِ السَّفِينَةِ بِالْهَوَاءِ وَنَحْوِهِ، أَوْ قَطَعَهَا فِي الْبَرِّ فِي بَعْضِ يَوْمٍ عَلَى مَرْكُوبٍ جَوَادٍ تَغَيَّرَتِ الأَْحْكَامُ فِي حَقِّهِ لِوُجُودِ الْمَسَافَةِ الصَّالِحَةِ لِتَغَيُّرِ الأَْحْكَامِ؛ وَلأَِنَّهُ صَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ سَافَرَ أَرْبَعَةَ بُرُدٍ (١) .

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَسَافَةَ السَّفَرِ الَّذِي تَتَغَيَّرُ بِهِ الأَْحْكَامُ هُوَ مَسِيرَةُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ،

_________

(١) مواهب الجليل ٢ / ١٤٠ دار الفكر ١٩٧٨م، حاشية الدسوقي١ / ٣٥٨ دار الفكر، نهاية المحتاج ٢ / ٢٥٧ مطبعة مصطفى الحلبي ١٩٦٧م القليوبي وعميرة ١ / ٢٥٩ عيسى الحلبي، كشاف القناع ١ / ٥٠٤ عالم الكتب ١٩٨٣م.