الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٢٥
وَقَدَّرَهَا بَعْضُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ بِأَقْصَرِ أَيَّامِ السَّنَةِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلًا عَنِ الْحِلْيَةِ: الظَّاهِرُ إِبْقَاؤُهَا عَلَى إِطْلاَقِهَا بِحَسَبِ مَا يُصَادِفُهُ مِنَ الْوُقُوعِ فِيهَا طُولًا وَقِصَرًا وَاعْتِدَالًا إِنْ لَمْ تُقَدَّرْ بِالْمُعْتَدِلَةِ الَّتِي هِيَ الْوَسَطُ. وَلاَ اعْتِبَارَ عِنْدَهُمْ بِالْفَرَاسِخِ عَلَى الْمَذْهَبِ. قَال فِي الْهِدَايَةِ: هُوَ الصَّحِيحُ، احْتِرَازًا عَنْ قَوْل عَامَّةِ الْمَشَايِخِ فِي تَقْدِيرِهَا بِالْفَرَاسِخِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَقِيل: وَاحِدٌ وَعِشْرُونَ، وَقِيل: ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَقِيل: خَمْسَةَ عَشَرَ، وَالْفَتْوَى عَلَى الثَّانِي؛ لأَِنَّهُ الأَْوْسَطُ، وَفِي الْمُجْتَبَى: فَتْوَى أَئِمَّةِ خُوَارِزْمَ عَلَى الثَّالِثِ.
ثُمَّ إِنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ سَفَرُ كُل يَوْمٍ إِلَى اللَّيْل بَل يَكْفِي إِلَى الزَّوَال، وَالْمُعْتَبَرُ السَّيْرُ الْوَسَطُ.
قَالُوا: وَيُعْتَبَرُ فِي الْجَبَل بِمَا يُنَاسِبُهُ مِنَ السَّيْرِ؛ لأَِنَّهُ يَكُونُ صُعُودًا وَهُبُوطًا مَضِيقًا وَوَعِرًا فَيَكُونُ مَشْيُ الإِْبِل وَالأَْقْدَامِ فِيهِ دُونَ سَيْرِهَا فِي السَّهْل. وَفِي الْبَحْرِ يُعْتَبَرُ اعْتِدَال الرِّيحِ عَلَى الْمُضِيِّ بِهِ، فَيُعْتَبَرُ فِي كُل ذَلِكَ السَّيْرُ الْمُعْتَادُ فِيهِ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ عِنْدَ النَّاسِ فَيُرْجَعُ إِلَيْهِمْ عِنْدَ الاِشْتِبَاهِ. /. / ٥٠ وَخَرَجَ سَيْرُ الْبَقَرِ يَجُرُّ الْعَجَلَةَ وَنَحْوُهُ؛ لأَِنَّهُ أَبْطَأُ السَّيْرِ، كَمَا أَنَّ أَسْرَعَهُ سَيْرُ الْفَرَسِ وَالْبَرِيدِ، حَتَّى لَوْ كَانَتِ الْمَسَافَةُ ثَلاَثًا بِالسَّيْرِ الْمُعْتَادِ فَسَارَ إِلَيْهَا عَلَى
الْفَرَسِ جَرْيًا حَثِيثًا فَوَصَل فِي يَوْمَيْنِ أَوْ أَقَل قَصَرَ (١) .
ب - الْقَصْدُ:
٨ - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي السَّفَرِ الَّذِي تَتَغَيَّرُ بِهِ الأَْحْكَامُ قَصْدُ مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ عِنْدَ ابْتِدَاءِ السَّفَرِ، فَلاَ قَصْرَ وَلاَ فِطْرَ لِهَائِمٍ عَلَى وَجْهِهِ لاَ يَدْرِي أَيْنَ يَتَوَجَّهُ، وَلاَ لِتَائِهٍ ضَال الطَّرِيقِ، وَلاَ لِسَائِحٍ لاَ يَقْصِدُ مَكَانًا مُعَيَّنًا. وَكَذَا لَوْ خَرَجَ أَمِيرٌ مَعَ جَيْشِهِ فِي طَلَبِ الْعَدُوِّ وَلَمْ يَعْلَمْ أَيْنَ يُدْرِكُهُمْ، فَإِنَّهُ يُتِمُّ وَإِنْ طَالَتِ الْمُدَّةُ أَوِ الْمُكْثُ، وَمِثْلُهُ طَالِبُ غَرِيمٍ وَآبِقٍ يَرْجِعُ مَتَى وَجَدَهُ وَلاَ يَعْلَمُ مَوْضِعَهُ، وَإِنْ طَال سَفَرُهُ (٢) .
وَهَذَا فِيمَنْ كَانَ مُسْتَقِلًّا بِرَأْيِهِ، أَمَّا التَّابِعُ لِغَيْرِهِ كَالزَّوْجَةِ مَعَ زَوْجِهَا، وَالْجُنْدِيِّ مَعَ الأَْمِيرِ فَفِيهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي (صَلاَة الْمُسَافِرِ) .
_________
(١) حاشية ابن عابدين ١ / ٥٢٦، ٥٢٧ دار إحياء التراث العربي، الفتاوى الهندية ١ / ١٣٨ المطبعة الأميرية ١٣١٠ هـ.
(٢) حاشية ابن عابدين ١ / ٥٢٦، حاشية الدسوقي ١ / ٣٦٢، القليوبي وعميرة ١ / ٢٦٠، كشاف القناع ١ / ٥٠٦.
ج - مُفَارَقَةُ مَحِل الإِْقَامَةِ:
٩ - يُشْتَرَطُ فِي السَّفَرِ الَّذِي تَتَغَيَّرُ بِهِ الأَْحْكَامُ مُفَارَقَةُ بُيُوتِ الْمِصْرِ فَلاَ يَصِيرُ مُسَافِرًا قَبْل الْمُفَارَقَةِ.
قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَيُشْتَرَطُ مُفَارَقَةُ مَا كَانَ مِنْ تَوَابِعِ مَوْضِعِ الإِْقَامَةِ كَرُبَضِ الْمِصْرِ. وَهُوَ مَا حَوْل الْمَدِينَةِ مِنْ بُيُوتٍ وَمَسَاكِنَ فَإِنَّهُ فِي حُكْمِ الْمِصْرِ. وَكَذَا الْقُرَى الْمُتَّصِلَةُ بِالرُّبَضِ فِي الصَّحِيحِ، بِخِلاَفِ الْبَسَاتِينِ وَلَوْ مُتَّصِلَةً بِالْبِنَاءِ لأَِنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْبَلْدَةِ، وَلَوْ سَكَنَهَا أَهْل الْبَلْدَةِ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ أَوْ بَعْضِهَا، كَمَا أَنَّهُ لاَ يُعْتَبَرُ سُكْنَى الْحَفَظَةِ وَالأَْكَرَةِ اتِّفَاقًا.
وَأَمَّا الْفِنَاءُ وَهُوَ الْمَكَانُ الْمُعَدُّ لِمَصَالِحِ الْبَلَدِ كَرَكْضِ الدَّوَابِّ وَدَفْنِ الْمَوْتَى وَإِلْقَاءِ التُّرَابِ، فَإِنِ اتَّصَل بِالْمِصْرِ اعْتُبِرَتْ مُجَاوَزَتُهُ لاَ إِنِ انْفَصَل بِمَزْرَعَةٍ بِقَدْرِ ثَلاَثِمِائَةِ إِلَى أَرْبَعِمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَالْقَرْيَةُ الْمُتَّصِلَةُ بِالْفِنَاءِ دُونَ الرُّبَضِ لاَ تُعْتَبَرُ مُجَاوَزَتُهَا عَلَى الصَّحِيحِ.
وَالْمُعْتَبَرُ الْمُجَاوَزَةُ مِنَ الْجَانِبِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ حَتَّى لَوْ جَاوَزَ عُمْرَانَ الْمِصْرِ قَصَرَ، وَإِنْ كَانَ بِحِذَائِهِ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ أَبْنِيَةٌ.
وَاشْتَرَطَ الْمَالِكِيَّةُ مُجَاوَزَةَ الْبَسَاتِينِ إِذَا سَافَرَ مِنْ نَاحِيَتِهَا أَوْ مِنْ غَيْرِ نَاحِيَتِهَا وَإِنْ مُحَاذِيًا لَهَا، وَإِلاَّ فَيَقْصُرُ بِمُجَرَّدِ مُجَاوَزَةِ الْبُيُوتِ.
وَقَال الْبُنَانِيُّ: لاَ يُشْتَرَطُ مُجَاوَزَةُ الْبَسَاتِينِ إِلاَّ إِذَا سَافَرَ مِنْ نَاحِيَتِهَا، وَإِنْ سَافَرَ مِنْ غَيْرِ نَاحِيَتِهَا فَلاَ تُشْتَرَطُ مُجَاوَزَتُهَا وَلَوْ كَانَ مُحَاذِيًا لَهَا إِذْ غَايَةُ الْبَسَاتِينِ أَنْ تَكُونَ كَجُزْءٍ مِنَ الْبَلَدِ.
قَال الدُّسُوقِيُّ: مِثْل الْبَسَاتِينِ الْمَسْكُونَةِ الْقَرْيَتَانِ اللَّتَانِ يَرْتَفِقُ أَهْل أَحَدِهِمَا بِأَهْل الأُْخْرَى بِالْفِعْل، وَإِلاَّ فَكُل قَرْيَةٍ تُعْتَبَرُ بِمُفْرَدِهَا، وَإِذَا كَانَ بَعْضُ سَاكِنِيهَا يَرْتَفِقُ بِالْبَلَدِ الأُْخْرَى كَالْجَانِبِ الأَْيْمَنِ دُونَ الآْخَرِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ حُكْمَهَا كُلَّهَا كَحُكْمِ الْمُتَّصِلَةِ. ثُمَّ إِنَّ الْعِبْرَةَ عِنْدَهُمْ بِالْبَسَاتِينِ الْمُتَّصِلَةِ وَلَوْ حُكْمًا بِأَنْ يَرْتَفِقَ سُكَّانُهَا بِالْبَلَدِ الْمَسْكُونَةِ بِالأَْهْل وَلَوْ فِي بَعْضِ الْعَامِّ ارْتِفَاقَ الاِتِّصَال، مِنْ نَارٍ وَطَبْخٍ وَخَبْزٍ.
أَمَّا الْبَسَاتِينُ الْمُنْفَصِلَةُ أَوْ غَيْرُ الْمَسْكُونَةِ فَلاَ عِبْرَةَ بِهَا، وَلاَ عِبْرَةَ أَيْضًا بِالْحَارِسِ وَالْعَامِل فِيهَا.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ إِذَا كَانَ لِلْبَلَدِ سُورٌ فَأَوَّل سَفَرِهِ مُجَاوَزَةُ سُورِهَا، وَلَوْ مُتَعَدِّدًا أَوْ كَانَ دَاخِلَهُ مَزَارِعُ أَوْ خَرَابٌ؛ إِذْ مَا فِي دَاخِل السُّورِ مَعْدُودٌ مِنْ نَفْسِ الْبَلَدِ مَحْسُوبٌ مِنْ مَوْضِعِ الإِْقَامَةِ. وَإِنْ كَانَ لَهَا بَعْضُ سُورٌ وَهُوَ صَوْبُ مَقْصِدِهِ اشْتُرِطَتْ مُجَاوَزَتُهُ، وَلَوْ كَانَ السُّورُ مُتَهَدِّمًا وَبَقِيَتْ لَهُ بَقَايَا اشْتُرِطَتْ مُجَاوَزَتُهُ أَيْضًا وَإِلاَّ فَلاَ. وَالْخَنْدَقُ فِي الْبَلْدَةِ
الَّتِي لاَ سُورَ لَهَا كَالسُّورِ، وَبَعْضُهُ كَبَعْضِهِ، وَلاَ أَثَرَ لَهُ مَعَ وُجُودِ السُّورِ. وَيَلْحَقُ بِالسُّورِ تَحْوِيطَةُ أَهْل الْقُرَى عَلَيْهَا بِتُرَابٍ وَنَحْوِهِ. وَلاَ تُشْتَرَطُ مُجَاوَزَةُ الْعِمَارَةِ وَرَاءَ السُّورِ فِي الأَْصَحِّ لِعَدَمِ عَدِّهَا مِنَ الْبَلَدِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْبَلَدِ سُوْرٌ أَصْلًا، أَوْ فِي جِهَةِ مَقْصِدِهِ، أَوْ كَانَ لَهَا سُورٌ غَيْرُ خَاصٍّ بِهَا، وَكَقُرَى مُتَفَاصِلَةٍ جَمَعَهَا سُورٌ وَلَوْ مَعَ التَّقَارُبِ، فَأَوَّل سَفَرِهِ مُجَاوَزَةُ الْعُمْرَانِ. وَلَوْ تَخَلَّلَهُ خَرَابٌ لاَ أُصُول أَبْنِيَةٍ بِهِ أَوْ نَهْرٌ وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ مُجَاوَزَتُهُ لِكَوْنِهِ مَحَل الإِْقَامَةِ، أَمَّا الْخَرَابُ خَارِجَ الْعُمْرَانِ الَّذِي لَمْ تَبْقَ أُصُولُهُ أَوْ هَجَرُوهُ بِالتَّحْوِيطِ عَلَيْهِ أَوِ اتَّخَذُوهُ مَزَارِعَ فَلاَ تُشْتَرَطُ مُجَاوَزَتُهُ، كَمَا لاَ تُشْتَرَطُ مُجَاوَزَةُ الْبَسَاتِينِ وَالْمَزَارِعِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَإِنِ اتَّصَلَتْ بِمَا سَافَرَ مِنْهُ أَوْ كَانَتْ مَحُوطَةً لأَِنَّهَا لاَ تُتَّخَذُ لِلإِْقَامَةِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَ بِهَا قُصُورٌ أَمْ دُورٌ تُسْكَنُ فِي بَعْضِ فُصُول السَّنَةِ أَوْ لاَ. وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْقَرْيَتَيْنِ الْمُتَّصِلَتَيْنِ عُرْفًا كَبَلْدَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنِ اخْتَلَفَ اسْمُهُمَا وَإِلاَّ اكْتَفَى بِمُجَاوَزَةِ قَرْيَةِ الْمُسَافِرِ.
وَمَذْهَبُ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ تُشْتَرَطُ مُفَارَقَةُ بُيُوتِ قَرْيَتِهِ الْعَامِرَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ دَاخِل السُّورِ أَوْ خَارِجَهُ، فَيَقْصُرُ إِذَا فَارَقَهَا بِمَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمُفَارَقَةِ بِنَوْعِ الْبُعْدِ عُرْفًا؛ لأَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا أَبَاحَ الْقَصْرَ لِمَنْ ضَرَبَ فِي الأَْرْضِ. وَقَبْل
مُفَارَقَتِهِ مَا ذُكِرَ لاَ يَكُونُ ضَارِبًا فِيهَا وَلاَ مُسَافِرًا؛ وَلأَِنَّ ذَلِكَ أَحَدُ طَرَفَيِ السَّفَرِ أَشْبَهَ حَالَةَ الاِنْتِهَاءِ.
وَلأَِنَّ النَّبِيَّ ﷺ إِنَّمَا كَانَ يَقْصُرُ إِذَا ارْتَحَل، وَلاَ تُعْتَبَرُ مُفَارَقَةُ الْخَرَابِ وَإِنْ كَانَتْ حِيطَانُهُ قَائِمَةً إِنْ لَمْ يَلِهِ عَامِرٌ فَإِنْ وَلِيَهُ عَامِرٌ اعْتُبِرَتْ مُفَارَقَةُ الْجَمِيعِ. وَكَذَا لَوْ جُعِل الْخَرَابُ مَزَارِعَ وَبَسَاتِينَ يَسْكُنُهُ أَهْلُهُ وَلَوْ فِي فَصْل النُّزْهَةِ فَلاَ يَقْصُرُ حَتَّى يُفَارِقَهُ. وَلَوْ كَانَتْ قَرْيَتَانِ مُتَدَانِيَتَيْنِ وَاتَّصَل بِنَاءُ إِحْدَاهُمَا بِالأُْخْرَى فَهُمَا كَالْوَاحِدَةِ، وَإِنْ لَمْ يَتَّصِل فَلِكُل قَرْيَةٍ حُكْمُ نَفْسِهَا.
وَأَمَّا مَسَاكِنُ الْخِيَامِ فَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ أَوَّل سَفَرِهِ مُجَاوَزَةُ حِلَّتِهِ. قَال الشَّافِعِيَّةُ الْحِلَّةُ بُيُوتٌ مُجْتَمَعَةٌ أَوْ مُتَفَرِّقَةٌ بِحَيْثُ يَجْتَمِعُ أَهْلُهَا لِلسَّمَرِ فِي نَادٍ وَاحِدٍ، وَيَسْتَعِيرُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْحِلَّةُ مَنْزِل قَوْمِهِ، فَالْحِلَّةُ وَالْمَنْزِل بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَمَذْهَبُهُمْ أَنَّهُ تُشْتَرَطُ مُفَارَقَةُ بُيُوتِ الْحِلَّةِ وَلَوْ تَفَرَّقَتْ، حَيْثُ جَمَعَهُمُ اسْمُ الْحَيِّ وَالدَّارِ أَوِ الدَّارِ فَقَطْ، بِمَعْنَى أَنَّهُ إِذَا جَمَعَهُمُ اسْمُ الْحَيِّ وَالدَّارِ أَوِ الدَّارِ فَقَطْ فَإِنَّهُ لاَ يَقْصُرُ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ إِلاَّ إِذَا جَاوَزَ جَمِيعَ
الْبُيُوتِ. وَأَمَّا لَوْ جَمَعَهُمُ اسْمُ الْحَيِّ فَقَطْ دُونَ الدَّارِ بِأَنْ كَانَتْ كُل فِرْقَةٍ فِي دَارٍ فَإِنَّهَا تُعْتَبَرُ كُل دَارٍ عَلَى حِدَتِهَا حَيْثُ كَانَ لاَ يَرْتَفِقُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَإِلاَّ فَهُمْ كَأَهْل الدَّارِ الْوَاحِدَةِ. وَكَذَا إِذَا لَمْ يَجْمَعْهُمُ اسْمُ الْحَيِّ وَالدَّارِ فَإِنَّهُ يَقْصُرُ إِذَا جَاوَزَ بُيُوتَ حِلَّتِهِ هُوَ. وَالْمُرَادُ بِالْحَيِّ عِنْدَهُمُ الْقَبِيلَةُ، وَبِالدَّارِ الْمَنْزِل الَّذِي يَنْزِلُونَ فِيهِ. وَمَحَل مُجَاوَزَةِ الْحِلَّةِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ حَيْثُ كَانَ بِمُسْتَوٍ.
فَإِنْ كَانَتْ بَوَادٍ وَمُسَافِرٌ فِي عَرْضِهِ، أَوْ بِرَبْوَةٍ أَوْ وَحْدَةٍ، اشْتُرِطَتْ مُجَاوَزَةُ الْعَرْضِ وَمَحَل الصُّعُودِ وَالْهُبُوطِ إِنْ كَانَتِ الثَّلاَثَةُ مُعْتَدِلَةً، وَإِلاَّ بِأَنْ أَفْرَطَتْ سَعَتُهَا أَوْ كَانَتْ بِبَعْضِ الْعَرْضِ اكْتُفِيَ بِمُجَاوَزَةِ الْحِلَّةِ. قَالُوا: وَلاَ بُدَّ مِنْ مُجَاوَزَةِ مَرَافِقِهَا أَيْضًا كَمَلْعَبِ صِبْيَانٍ وَنَادٍ وَمَطْرَحِ رَمَادٍ وَمَعْطِنِ إِبِلٍ، وَكَذَا مَاءٌ وَحَطَبٌ اخْتَصَّا بِهَا.
وَأَمَّا سَاكِنُ الْجِبَال وَمَنْ نَزَل بِمَحَلٍّ فِي بَادِيَةٍ وَحْدَهُ، فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي سَفَرِهِ مُجَاوَزَةُ مَحَلِّهِ.
وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ سُكَّانَ الْبَسَاتِينِ وَنَحْوَهُمْ كَأَهْل الْعِزَبِ يُشْتَرَطُ فِي سَفَرِهِمِ الاِنْفِصَال عَنْ مَسَاكِنِهِمْ.
قَال الْمَالِكِيَّةُ: سَوَاءٌ أَكَانَتْ تِلْكَ الْبَسَاتِينُ مُتَّصِلَةً بِالْبَلَدِ أَمْ مُنْفَصِلَةً عَنْهَا. وَاعْتَبَرَ الْحَنَابِلَةُ الْعُرْفَ فِي ذَلِكَ فَقَالُوا: لِيَصِيرُوا مُسَافِرِينَ لاَ بُدَّ مِنْ مُفَارَقَةِ مَا نُسِبُوا إِلَيْهِ بِمَا يُعَدُّ مُفَارَقَةً عُرْفًا.
وَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي سَفَرِ الْبَحْرِ الْمُتَّصِل سَاحِلُهُ بِالْبَلَدِ جَرْيُ السَّفِينَةِ أَوِ الزَّوْرَقِ إِلَيْهَا. قَال ابْنُ حَجَرٍ: وَإِنْ كَانَ فِي هَوَاءِ الْعُمْرَانِ كَمَا اقْتَضَاهُ إِطْلاَقُهُمْ (١) .
د - أَلاَّ يَكُونَ سَفَرَ مَعْصِيَةٍ:
١٠ - اشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - الْمَالِكِيَّةُ عَلَى الرَّاجِحِ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - فِي السَّفَرِ الَّذِي تَتَغَيَّرُ بِهِ الأَْحْكَامُ أَلاَّ يَكُونَ الْمُسَافِرُ عَاصِيًا بِسَفَرِهِ كَقَاطِعِ طَرِيقٍ وَنَاشِزَةٍ وَعَاقٍّ وَمُسَافِرٍ عَلَيْهِ دَيْنٌ حَالٌّ قَادِرٌ عَلَى وَفَائِهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ غَرِيمِهِ.
إِذْ مَشْرُوعِيَّةُ التَّرَخُّصِ فِي السَّفَرِ لِلإِْعَانَةِ.
وَالْعَاصِي لاَ يُعَانُ؛ لأَِنَّ الرُّخَصَ لاَ تُنَاطُ بِالْمَعَاصِي، وَمِثْلُهُ مَا إِذَا انْتَقَل مِنْ سَفَرِهِ الْمُبَاحِ
_________
(١) حاشية ابن عابدين ١ / ٥٢٥ دار إحياء التراث العربي، الفتاوى الهندية ١ / ١٣٩ المطبعة الأميرية ١٣١٠ هـ، حاشية الدسوقي ١ / ٣٥٩ دار الفكر، نهاية المحتاج ٢ / ٢٥٢ ط مصطفى الحلبي ١٩٦٧م. كشاف القناع ١ / ٥٠٧ عالم الكتب.
إِلَى سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ بِأَنْ أَنْشَأَ سَفَرًا مُبَاحًا ثُمَّ قَصَدَ سَفَرًا مُحَرَّمًا.
وَالْمُرَادُ بِالْمُسَافِرِ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ أَوْ سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ أَنْ يَكُونَ الْحَامِل عَلَى السَّفَرِ نَفْسَ الْمَعْصِيَةِ كَمَا فِي الأَْمْثِلَةِ السَّابِقَةِ. وَقَدْ أَلْحَقَ الْحَنَابِلَةُ بِسَفَرِ الْمَعْصِيَةِ السَّفَرَ الْمَكْرُوهَ فَلاَ يَتَرَخَّصُ الْمُسَافِرُ عِنْدَهُمْ إِذَا كَانَ مُسَافِرًا لِفِعْلٍ مَكْرُوهٍ، وَفِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ خِلاَفٌ فِي التَّرَخُّصِ فِي السَّفَرِ الْمَكْرُوهِ فَقِيل بِالْمَنْعِ وَقِيل بِالْجَوَازِ. قَال ابْنُ شَعْبَانَ: إِنْ قَصَرَ لَمْ يُعِدْ لِلاِخْتِلاَفِ فِيهِ.
ثُمَّ إِنَّهُ مَتَى تَابَ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ فِي أَثْنَائِهِ فَإِنَّهُ يَتَرَخَّصُ بِسَفَرِهِ كَمَا لَوْ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ مَعْصِيَةٌ. وَيَكُونُ أَوَّل سَفَرِهِ مِنْ حِينِ التَّوْبَةِ.
وَعَلَى هَذَا فَإِنْ كَانَ بَيْنَ مَحَل التَّوْبَةِ وَمَقْصِدِهِ مَرْحَلَتَانِ قَصَرَ، وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي دُونَهَا فَلاَ قَصْرَ. وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَلَمْ يَتَعَرَّضِ الْمَالِكِيَّةُ لِذِكْرِ الْمَسَافَةِ فِي حَال التَّوْبَةِ.
وَعِنْدَ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ يَجُوزُ التَّرَخُّصُ فِي سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ مَعَ الْكَرَاهَةِ.
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الْحَنَفِيَّةُ هَذَا الشَّرْطَ، فَلِلْمُسَافِرِ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ أَنْ يَتَرَخَّصَ بِرُخَصِ السَّفَرِ
كُلِّهَا لإِطْلاَقِ نُصُوصِ الرُّخَصِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ (١) وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵄ قَال: فَرَضَ اللَّهُ الصَّلاَةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ وَفِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ (٢) قَالُوا: وَلأَِنَّ الْقَبِيحَ الْمُجَاوِرَ - أَيِ الْمَعْصِيَةَ - لاَ يُعْدِمُ الْمَشْرُوعِيَّةَ، بِخِلاَفِ الْقَبِيحِ لِعَيْنِهِ وَضْعًا كَالْكُفْرِ، أَوْ شَرْعًا كَبَيْعِ الْحُرِّ، فَإِنَّهُ يُعْدِمُ الْمَشْرُوعِيَّةَ.
كَمَا أَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَيْسَتْ سَبَبًا لِلرُّخْصَةِ وَالسَّبَبُ هُوَ السَّفَرُ، وَالْمَعْصِيَةُ لَيْسَتْ عَيْنَ السَّفَرِ، وَقَدْ وُجِدَ السَّفَرُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الرُّخْصَةِ.
وَأَمَّا الْعَاصِي فِي سَفَرِهِ وَهُوَ مَنْ يَقْصِدُ سَفَرًا مُبَاحًا ثُمَّ تَطْرَأُ عَلَيْهِ مَعْصِيَةٌ يَرْتَكِبُهَا فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَتَرَخَّصُ فِي سَفَرِهِ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَقْصِدِ السَّفَرَ لِلْمَعْصِيَةِ وَلأَِنَّ سَبَبَ تَرَخُّصِهِ - وَهُوَ السَّفَرُ - مُبَاحٌ قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا (٣) .
_________
(١) سورة البقرة / ١٨٤.
(٢) حديث ابن عباس: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربع ركعات وفي السفر ركعتين. أخرجه مسلم (١ / ٤٧٩ - ط الحلبي) .
(٣) تيسير التحرير ٢ / ٣٠٤ ط مصطفى الحلبي ١٣٥٠ هـ حاشية ابن عابدين ١ / ٥٢٧، دار إحياء التراث العربي، حاشية الدسوقي ١ / ٣٥٨ دار الفكر، مواهب الجليل ٢ / ١٤٠ دار الفكر، نهاية المحتاج ٢ / ٢٦٣ ط مصطفى الحلبي ١٩٦٧م. كشاف القناع ١ / ٥٠٥، ٥٠٦، عالم الكتب ١٩٨٣.