الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٢٢
قَوْلُهُ: إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمُ الرَّمَا، يَعْنِي الرِّبَا (١) .
وَالرُّبْيَةُ - بِالضَّمِّ وَالتَّخْفِيفِ - اسْمٌ مِنَ الرِّبَا، وَالرُّبِّيَّةُ: الرِّبَاءُ، وَفِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فِي صُلْحِ أَهْل نَجْرَانَ: أَنْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ رُبِّيَّةٌ وَلاَ دَمٌ (٢) .
قَال أَبُو عُبَيْدٍ: هَكَذَا رُوِيَ بِتَشْدِيدِ الْبَاءِ وَالْيَاءِ، وَقَال الْفَرَّاءُ: أَرَادَ بِهَا الرِّبَا الَّذِي كَانَ عَلَيْهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَالدِّمَاءَ الَّتِي كَانُوا يَطْلُبُونَ بِهَا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَسْقَطَ عَنْهُمْ كُل رِبًا كَانَ عَلَيْهِمْ إِلاَّ رُءُوسَ الأَْمْوَال فَإِنَّهُمْ يَرُدُّونَهَا (٣) .
وَالرِّبَا فِي اصْطِلاَحِ الْفُقَهَاءِ:
عَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ: فَضْلٌ خَالٍ عَنْ عِوَضٍ بِمِعْيَارٍ شَرْعِيٍّ مَشْرُوطٍ لأَِحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الْمُعَاوَضَةِ (٤) .
وَعَرَّفَهُ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّهُ: عَقْدٌ عَلَى عِوَضٍ مَخْصُوصٍ غَيْرِ مَعْلُومِ التَّمَاثُل فِي مِعْيَارِ الشَّرْعِ
_________
(١) تفسير القرطبي ٩ / ٣٠٥، ١٢ / ١٣، وتاج العروس، ولسان العرب، وتهذيب الأسماء واللغات ٣ / ١١٧.
(٢) حديث: " أن ليس عليهم رُبِّيَّة ولا دم " أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (٥ / ٣٨٩ - ط دار الكتب العلمية)، واستغربه ابن كثير في تفسيره (٢ / ٥٠ - ط دار الأندلس) .
(٣) لسان العرب.
(٤) ابن عابدين (٤ / ١٧٦ وما بعدها)، وهذا التعريف للتمرتاشي في تنوير الأبصار، وفي الاختيار (٢ / ٣٠)، وقيل: الربا في الشرع عبارة عن عقد فاسد بصفة سواء كان فيه زيادة أو لم يكن؛ فإن بيع الدراهم بالدنانير نسيئة ربا، ولا زيادة فيه.
حَالَةَ الْعَقْدِ أَوْ مَعَ تَأْخِيرٍ فِي الْبَدَلَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا (١) .
وَعَرَّفَهُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ: تَفَاضُلٌ فِي أَشْيَاءَ، وَنَسْءٌ فِي أَشْيَاءَ، مُخْتَصٌّ بِأَشْيَاءَ وَرَدَ الشَّرْعُ بِتَحْرِيمِهَا - أَيْ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِيهَا - نَصًّا فِي الْبَعْضِ، وَقِيَاسًا فِي الْبَاقِي مِنْهَا (٢) .
وَعَرَّفَ الْمَالِكِيَّةُ كُل نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الرِّبَا عَلَى حِدَةٍ (٣) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْبَيْعُ:
٢ - الْبَيْعُ لُغَةً: مَصْدَرُ بَاعَ، وَالأَْصْل فِيهِ أَنَّهُ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ، وَأُطْلِقَ عَلَى الْعَقْدِ مَجَازًا لأَِنَّهُ سَبَبُ التَّمْلِيكِ وَالتَّمَلُّكِ.
وَالْبَيْعُ مِنَ الأَْضْدَادِ مِثْل الشِّرَاءِ، وَيُطْلَقُ عَلَى كُل وَاحِدٍ مِنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَفْظُ بَائِعٍ، وَلَكِنَّ اللَّفْظَ إِذَا أُطْلِقَ فَالْمُتَبَادَرُ إِلَى الذِّهْنِ بَاذِل السِّلْعَةِ، وَيُطْلَقُ الْبَيْعُ عَلَى الْمَبِيعِ فَيُقَال: بَيْعٌ جَيِّدٌ (٤) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: عَرَّفَهُ الْقَلْيُوبِيُّ بِأَنَّهُ: عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ مَالِيَّةٍ تُفِيدُ مِلْكَ عَيْنٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ عَلَى
_________
(١) مغني المحتاج ٢ / ٢١.
(٢) كشاف القناع ٣ / ٢٥١، ومطالب أولي النهى ٣ / ١٥٧.
(٣) كفاية الطالب الرباني ٢ / ٩٩ وغيرها.
(٤) المصباح المنير ٦٩
التَّأْبِيدِ لاَ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ (١) .
وَلِلْفُقَهَاءِ فِي تَعْرِيفِ الْبَيْعِ أَقْوَالٌ أُخْرَى سَبَقَتْ فِي مُصْطَلَحِ: (بَيْعٌ (٢» .
وَالْبَيْعُ فِي الْجُمْلَةِ حَلاَلٌ، وَالرِّبَا حَرَامٌ.
ب - الْعَرَايَا:
٣ - الْعَرِيَّةُ لُغَةً: النَّخْلَةُ يُعْرِيهَا صَاحِبُهَا غَيْرَهُ لِيَأْكُل ثَمَرَتَهَا فَيَعْرُوهَا أَيْ يَأْتِيهَا، أَوْ هِيَ النَّخْلَةُ الَّتِي أُكِل مَا عَلَيْهَا، وَالْجَمْعُ عَرَايَا، وَيُقَال: اسْتَعْرَى النَّاسُ أَيْ: أَكَلُوا الرُّطَبَ (٣) .
وَعَرَّفَ الشَّافِعِيَّةُ بَيْعَ الْعَرَايَا بِأَنَّهُ: بَيْعُ الرُّطَبِ عَلَى النَّخْل بِتَمْرٍ فِي الأَْرْضِ، أَوْ الْعِنَبِ فِي الشَّجَرِ بِزَبِيبٍ، فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ بِتَقْدِيرِ الْجَفَافِ بِمِثْلِهِ (٤) .
وَيَذْهَبُ آخَرُونَ فِي تَعْرِيفِ بَيْعِ الْعَرَايَا وَحُكْمِهِ مَذَاهِبَ يُرْجَعُ فِي تَفْصِيلِهَا إِلَى مُصْطَلَحِ: (تَعْرِيَةٌ) (وَبَيْعُ الْعَرَايَا) مِنَ الْمَوْسُوعَةِ ٩ ٩١.
وَبَيْعُ الْعَرَايَا مِنَ الْمُزَابَنَةِ، وَفِيهِ مَا فِي الْمُزَابَنَةِ مِنَ الرِّبَا أَوْ شُبْهَتِهِ، لَكِنَّهُ أُجِيزَ بِالنَّصِّ، وَمِنْهُ مَا رُوِيَ عَنْ سَهْل بْنِ أَبِي حَثْمَةَ قَال: نَهَى رَسُول
_________
(١) حاشية قليوبي ٢ / ١٥٢.
(٢) الموسوعة الفقهية ٩ / ٥ وما بعدها
(٣) المصباح المنير والقاموس المحيط.
(٤) شرح المنهاج للمحلي ٢ / ٢٣٨
اللَّهِ ﷺ عَنْ بَيْعِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ، وَرَخَّصَ فِي الْعَرِيَّةِ أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا يَأْكُلُهَا أَهْلُهَا رُطَبًا (١)، وَفِي لَفْظٍ: عَنْ بَيْعِ الثَّمَرِ بِالتَّمْرِ وَقَال: ذَلِكَ الرِّبَا تِلْكَ الْمُزَابَنَةُ، إِلاَّ أَنَّهُ رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرِيَّةِ: النَّخْلَةِ وَالنَّخْلَتَيْنِ يَأْخُذُهَا أَهْل الْبَيْتِ بِخَرْصِهَا تَمْرًا يَأْكُلُونَهَا رُطَبًا (٢) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
٤ - الرِّبَا مُحَرَّمٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ، وَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَمِنَ السَّبْعِ الْمُوبِقَاتِ، وَلَمْ يُؤْذِنِ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ عَاصِيًا بِالْحَرْبِ سِوَى آكِل الرِّبَا، وَمَنِ اسْتَحَلَّهُ فَقَدْ كَفَرَ - لإِنْكَارِهِ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ - فَيُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلاَّ قُتِل، أَمَّا مَنْ تَعَامَل بِالرِّبَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِلًّا لَهُ فَهُوَ فَاسِقٌ (٣) .
قَال الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّ الرِّبَا لَمْ يَحِل فِي شَرِيعَةٍ قَطُّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ﴾ (٤) يَعْنِي فِي الْكُتُبِ السَّابِقَةِ (٥) .
_________
(١) حديث: " نهى عن بيع الثمر بالتمر " أخرجه البخاري (الفتح ٤ / ٣٨٧ - ط السلفية)، ومسلم (٣ / ١١٧٠ - ط الحلبي) واللفظ الثاني هو لمسلم.
(٢) نيل الأوطار ٥ / ٢٢٦.
(٣) المبسوط ١٢ / ١٠٩، وكفاية الطالب ٢ / ٩٩، والمقدمات لابن رشد ص ٥٠١، ٥٠٢، والمجموع ٩ / ٣٩٠، ونهاية المحتاج ٣ / ٤٠٩، والمغني ٣ / ٣.
(٤) سورة النساء / ١٦١
(٥) المجموع ٩ / ٣٩١، ومغني المحتاج ٢ / ٢١.
وَدَلِيل التَّحْرِيمِ مِنَ الْكِتَابِ قَوْل اللَّهِ ﵎: ﴿وَأَحَل اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ (١) .
وَقَوْلُهُ ﷿: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ. . .﴾ (٢) .
٥ - قَال السَّرَخْسِيُّ: ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى لآِكِل الرِّبَا خَمْسًا مِنَ الْعُقُوبَاتِ:
إِحْدَاهَا: التَّخَبُّطُ. . قَال اللَّهُ تَعَالَى: ﴿لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ (٣) .
الثَّانِيَةُ: الْمَحْقُ. . قَال تَعَالَى: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا﴾ (٤) وَالْمُرَادُ الْهَلاَكُ وَالاِسْتِئْصَال، وَقِيل: ذَهَابُ الْبَرَكَةِ وَالاِسْتِمْتَاعِ حَتَّى لاَ يَنْتَفِعَ بِهِ، وَلاَ وَلَدُهُ بَعْدَهُ.
الثَّالِثَةُ: الْحَرْبُ. . قَال اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ (٥) .
الرَّابِعَةُ: الْكُفْرُ. . قَال اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (٦) وَقَال سُبْحَانَهُ بَعْدَ ذِكْرِ الرِّبَا: ﴿وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُل كَفَّارٍ
_________
(١) سورة البقرة / ٢٧٥.
(٢) سورة البقرة / ٢٧٥
(٣) سورة البقرة / ٢٧٥
(٤) سورة البقرة / ٢٧٦
(٥) سورة البقرة / ٢٧٩
(٦) سورة البقرة / ٢٧٨.
أَثِيمٍ﴾ (١) أَيْ: كَفَّارٍ بِاسْتِحْلاَل الرِّبَا، أَثِيمٍ فَاجِرٍ بِأَكْل الرِّبَا.
الْخَامِسَةُ: الْخُلُودُ فِي النَّارِ (٢) . قَال تَعَالَى: ﴿وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ (٣) .
وَكَذَلِكَ - قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (٤)، قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: ﴿أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾ لَيْسَ لِتَقْيِيدِ النَّهْيِ بِهِ، بَل لِمُرَاعَاةِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْعَادَةِ تَوْبِيخًا لَهُمْ بِذَلِكَ، إِذْ كَانَ الرَّجُل يُرْبِي إِلَى أَجَلٍ، فَإِذَا حَل الأَْجَل قَال لِلْمَدِينِ: زِدْنِي فِي الْمَال حَتَّى أَزِيدَكَ فِي الأَْجَل، فَيَفْعَل، وَهَكَذَا عِنْدَ مَحَل كُل أَجَلٍ، فَيَسْتَغْرِقُ بِالشَّيْءِ الطَّفِيفِ مَالَهُ بِالْكُلِّيَّةِ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ وَنَزَلَتِ الآْيَةُ (٥) .
٦ - وَدَلِيل التَّحْرِيمِ مِنَ السُّنَّةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا:
مَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَال: اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ
_________
(١) سورة البقرة / ٢٧٦.
(٢) المبسوط ١٢ / ١٠٩ - ١١٠
(٣) سورة البقرة / ٢٧٥
(٤) سورة آل عمران / ١٣٠
(٥) أحكام القرآن للجصاص ١ / ٤٦٥، وتفسير أبي السعود ١ / ٢٧١، وروح المعاني ٤ / ٥٥.
قَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَال: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْل النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ، وَأَكْل الرِّبَا، وَأَكْل مَال الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ (١) .
وَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَال: لَعَنَ رَسُول اللَّهِ ﷺ آكِل الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ، وَقَال: هُمْ سَوَاءٌ (٢) .
وَأَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى أَصْل تَحْرِيمِ الرِّبَا (٣) .
وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي تَفْصِيل مَسَائِلِهِ وَتَبْيِينِ أَحْكَامِهِ وَتَفْسِيرِ شَرَائِطِهِ.
٧ - هَذَا، وَيَجِبُ عَلَى مَنْ يُقْرِضُ أَوْ يَقْتَرِضُ أَوْ يَبِيعُ أَوْ يَشْتَرِي أَنْ يَبْدَأَ بِتَعَلُّمِ أَحْكَامِ هَذِهِ الْمُعَامَلاَتِ قَبْل أَنْ يُبَاشِرَهَا، حَتَّى تَكُونَ صَحِيحَةً وَبَعِيدَةً عَنِ الْحَرَامِ وَالشُّبُهَاتِ، وَمَا لاَ يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَتَرْكُهُ إِثْمٌ وَخَطِيئَةٌ، وَهُوَ إِنْ لَمْ يَتَعَلَّمْ هَذِهِ الأَْحْكَامَ قَدْ يَقَعُ
_________
(١) حديث: " اجتنبوا السبع الموبقات. . . . " أخرجه البخاري (الفتح ٥ / ٣٩٣ - ط السلفية)، ومسلم (١ / ٩٢ - ط الحلبي) .
(٢) حديث: " لعن رسول الله ﷺ آكل الربا. . . . . " أخرجه مسلم (٣ / ١٢١٩ - ط الحلبي) .
(٣) حاشية الصعيدي على كفاية الطالب ٢ / ٩٩، والمجموع ٩ / ٣٩٠، والمغني ٣ / ٣، والمقدمات لابن رشد ٥٠١، ٥٠٢
فِي الرِّبَا دُونَ أَنْ يَقْصِدَ الإِْرْبَاءَ، بَل قَدْ يَخُوضُ فِي الرِّبَا وَهُوَ يَجْهَل أَنَّهُ تَرَدَّى فِي الْحَرَامِ وَسَقَطَ فِي النَّارِ، وَجَهْلُهُ لاَ يُعْفِيهِ مِنَ الإِْثْمِ وَلاَ يُنَجِّيهِ مِنَ النَّارِ؛ لأَِنَّ الْجَهْل وَالْقَصْدَ لَيْسَا مِنْ شُرُوطِ تَرَتُّبِ الْجَزَاءِ عَلَى الرِّبَا، فَالرِّبَا بِمُجَرَّدِ فِعْلِهِ - مِنَ الْمُكَلَّفِ - مُوجِبٌ لِلْعَذَابِ الْعَظِيمِ الَّذِي تَوَعَّدَ اللَّهُ جَل جَلاَلُهُ بِهِ الْمُرَابِينَ، يَقُول الْقُرْطُبِيُّ: لَوْ لَمْ يَكُنِ الرِّبَا إِلاَّ عَلَى مَنْ قَصَدَهُ مَا حُرِّمَ إِلاَّ عَلَى الْفُقَهَاءِ.
وَقَدْ أُثِرَ عَنِ السَّلَفِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُحَذِّرُونَ مِنْ الاِتِّجَارِ قَبْل تَعَلُّمِ مَا يَصُونُ الْمُعَامَلاَتِ التِّجَارِيَّةَ مِنَ التَّخَبُّطِ فِي الرِّبَا، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْل عُمَرَ ﵁: لاَ يَتَّجِرُ فِي سُوقِنَا إِلاَّ مَنْ فَقِهَ، وَإِلاَّ أَكَل الرِّبَا، وَقَوْل عَلِيٍّ ﵁: مَنِ اتَّجَرَ قَبْل أَنْ يَتَفَقَّهَ ارْتَطَمَ فِي الرِّبَا ثُمَّ ارْتَطَمَ ثُمَّ ارْتَطَمَ، أَيْ: وَقَعَ وَارْتَبَكَ وَنَشِبَ (١) .
وَقَدْ حَرَصَ الشَّارِعُ عَلَى سَدِّ الذَّرَائِعِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الرِّبَا؛ لأَِنَّ مَا أَفْضَى إِلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ، وَكُل ذَرِيعَةٍ إِلَى الْحَرَامِ هِيَ حَرَامٌ، رَوَى أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدِهِ عَنْ جَابِرٍ ﵁ قَال: لَمَّا نَزَلَتْ:
_________
(١) تفسير القرطبي ٣ / ٣٥٢، وتفسير ابن كثير ١ / ٥٨١ - ٥٨٢، وتفسير الطبري ٦ / ٣٨، ومغني المحتاج ٢ / ٢٢ و٦ / ٢٩.
﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ. .﴾ (١) قَال رَسُول اللَّهِ ﷺ: مَنْ لَمْ يَذَرِ الْمُخَابَرَةَ فَلْيُؤْذَنْ بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ (٢) قَال ابْنُ كَثِيرٍ: وَإِنَّمَا حُرِّمَتِ الْمُخَابَرَةُ وَهِيَ الْمُزَارَعَةُ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنَ الأَْرْضِ، وَالْمُزَابَنَةُ وَهِيَ اشْتِرَاءُ الرُّطَبِ فِي رُءُوسِ النَّخْل بِالتَّمْرِ عَلَى وَجْهِ الأَْرْضِ، وَالْمُحَاقَلَةُ وَهِيَ اشْتِرَاءُ الْحَبِّ فِي سُنْبُلِهِ فِي الْحَقْل بِالْحَبِّ عَلَى وَجْهِ الأَْرْضِ، إِنَّمَا حُرِّمَتْ هَذِهِ الأَْشْيَاءُ وَمَا شَاكَلَهَا حَسْمًا لِمَادَّةِ الرِّبَا؛ لأَِنَّهُ لاَ يُعْلَمُ التَّسَاوِي بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ قَبْل الْجَفَافِ، وَلِهَذَا قَال الْفُقَهَاءُ: الْجَهْل بِالْمُمَاثَلَةِ كَحَقِيقَةِ الْمُفَاضَلَةِ، وَمِنْ هَذَا حَرَّمُوا أَشْيَاءَ بِمَا فَهِمُوا مِنْ تَضْيِيقِ الْمَسَالِكِ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الرِّبَا وَالْوَسَائِل الْمُوَصِّلَةِ إِلَيْهِ، وَتَفَاوَتَ نَظَرُهُمْ بِحَسَبِ مَا وَهَبَ اللَّهُ لِكُلٍّ مِنْهُمْ مِنَ الْعِلْمِ.
٨ - وَبَابُ الرِّبَا مِنْ أَشْكَل الأَْبْوَابِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ، وَقَدْ قَال عُمَرُ ﵁: ثَلاَثٌ وَدِدْتُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ ﷺ عَهِدَ إِلَيْنَا فِيهِنَّ عَهْدًا نَنْتَهِي إِلَيْهِ: الْجَدُّ وَالْكَلاَلَةُ وَأَبْوَابٌ مِنَ الرِّبَا، يَعْنِي - كَمَا قَال ابْنُ كَثِيرٍ - بِذَلِكَ بَعْضَ الْمَسَائِل الَّتِي فِيهَا شَائِبَةُ الرِّبَا، وَعَنْ قَتَادَةَ عَنْ
_________
(١) سورة البقرة / ٢٧٥
(٢) حديث: " من لم يذر المخابرة فليؤذن بحرب من الله ورسوله " أخرجه أبو داود (٣ / ٦٩٥ - تحقيق عزت عبيد دعاس) دون ذكر الآية، وأعله المناوي في فيض القدير (٦ / ٢٢٤ - ط المكتبة التجارية) .
سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمَا أَنَّ عُمَرَ ﵁ قَال: مِنْ آخِرِ مَا نَزَل آيَةُ الرِّبَا، وَإِنَّ رَسُول اللَّهِ ﷺ قُبِضَ قَبْل أَنْ يُفَسِّرَهَا لَنَا، فَدَعُوا الرِّبَا وَالرِّيبَةَ، وَعَنْهُ ﵁ قَال: ثَلاَثٌ لأَنْ يَكُونَ رَسُول اللَّهِ ﷺ بَيَّنَهُنَّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا: الْكَلاَلَةُ، وَالرِّبَا، وَالْخِلاَفَةُ (١) .
حِكْمَةُ تَحْرِيمِ الرِّبَا:
٩ - أَوْرَدَ الْمُفَسِّرُونَ لِتَحْرِيمِ الرِّبَا حِكَمًا تَشْرِيعِيَّةً:
مِنْهَا: أَنَّ الرِّبَا يَقْتَضِي أَخْذَ مَال الإِْنْسَانِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ؛ لأَِنَّ مَنْ يَبِيعُ الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ نَقْدًا أَوْ نَسِيئَةً تَحْصُل لَهُ زِيَادَةُ دِرْهَمٍ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، وَمَال الْمُسْلِمِ مُتَعَلِّقُ حَاجَتِهِ، وَلَهُ حُرْمَةٌ عَظِيمَةٌ، قَال ﷺ: حُرْمَةُ مَال الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ (٢) وَإِبْقَاءُ الْمَال فِي يَدِهِ مُدَّةً مَدِيدَةً وَتَمْكِينُهُ مِنْ أَنْ يَتَّجِرَ فِيهِ وَيَنْتَفِعَ بِهِ أَمْرٌ مَوْهُومٌ، فَقَدْ يَحْصُل وَقَدْ لاَ يَحْصُل، وَأَخْذُ الدِّرْهَمِ الزَّائِدِ مُتَيَقَّنٌ، وَتَفْوِيتُ
_________
(١) تفسير القرآن العظيم لابن كثير ١ / ٥٨١ - ٥٨٢، وتفسير الطبري ٦ / ٣٨، وتفسير القرطبي ٣ / ٣٦٤، ٦ / ٢٩.
(٢) حديث: " حرمة مال المسلم كحرمة دمه " أخرجه أبو نعيم في الحلية (٧ / ٣٣٤ - ط السعادة) من حديث عبد الله بن مسعود، وفي إسناده ضعف، ولكن أورد ابن حجر شواهد له يتقوى بها، التلخيص الحبير (٣ / ٤٦ - ط شركة الطباعة الفنية) .