الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٢٢ الصفحة 11

الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٢٢

الْمُتَيَقَّنِ لأَِجْل الْمَوْهُومِ لاَ يَخْلُو مِنْ ضَرَرٍ (١) .

وَمِنْهَا: أَنَّ الرِّبَا يَمْنَعُ النَّاسَ مِنْ الاِشْتِغَال بِالْمَكَاسِبِ؛ لأَِنَّ صَاحِبَ الدِّرْهَمِ إِذَا تَمَكَّنَ بِوَاسِطَةِ عَقْدِ الرِّبَا مِنْ تَحْصِيل الدِّرْهَمِ الزَّائِدِ نَقْدًا كَانَ أَوْ نَسِيئَةً خَفَّ عَلَيْهِ اكْتِسَابُ وَجْهِ الْمَعِيشَةِ، فَلاَ يَكَادُ يَتَحَمَّل مَشَقَّةَ الْكَسْبِ وَالتِّجَارَةِ وَالصِّنَاعَاتِ الشَّاقَّةِ، وَذَلِكَ يُفْضِي إِلَى انْقِطَاعِ مَنَافِعِ الْخَلْقِ الَّتِي لاَ تَنْتَظِمُ إِلاَّ بِالتِّجَارَاتِ وَالْحِرَفِ وَالصِّنَاعَاتِ وَالْعِمَارَاتِ.

وَمِنْهَا: أَنَّ الرِّبَا يُفْضِي إِلَى انْقِطَاعِ الْمَعْرُوفِ بَيْنَ النَّاسِ مِنَ الْقَرْضِ؛ لأَِنَّ الرِّبَا إِذَا حُرِّمَ طَابَتِ النُّفُوسُ بِقَرْضِ الدِّرْهَمِ وَاسْتِرْجَاعِ مِثْلِهِ، وَلَوْ حَل الرِّبَا لَكَانَتْ حَاجَةُ الْمُحْتَاجِ تَحْمِلُهُ عَلَى أَخْذِ الدِّرْهَمِ بِدِرْهَمَيْنِ، فَيُفْضِي إِلَى انْقِطَاعِ الْمُوَاسَاةِ وَالْمَعْرُوفِ وَالإِْحْسَانِ (٢) .

وَمِنْ ذَلِكَ مَا قَال ابْنُ الْقَيِّمِ. . . فَرِبَا النَّسِيئَةِ، وَهُوَ الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، مِثْل أَنْ يُؤَخِّرَ دَيْنَهُ وَيَزِيدَهُ فِي الْمَال، وَكُلَّمَا أَخَّرَهُ زَادَ فِي الْمَال، حَتَّى تَصِيرَ الْمِائَةُ عِنْدَهُ آلاَفًا

_________

(١) نهاية المحتاج ٣ / ٤٠٩، وحاشية الجمل ٣ / ٤٦، والقليوبي ٢ / ١٦٦، وتفسير القرطبي ٣ / ٣٥٩. وينظر الفرق بين العلة والحكمة والسبب في الملحق الأصولي، ويمكن الرجوع إلى كتب أصول الفقه، ومنها: حاشية البناني على شرح جمع الجوامع ١ / ٩٤ وما بعدها، و٢ / ٢٤٠ وما بعدها.

(٢) التفسير الكبير للفخر الرازي ٧ / ٩٣ - ٩٤، وتفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان للنيسابوري ٣ / ٨١ بهامش الطبري.

مُؤَلَّفَةً، وَفِي الْغَالِبِ لاَ يَفْعَل ذَلِكَ إِلاَّ مُعْدِمٌ مُحْتَاجٌ، فَإِذَا رَأَى أَنَّ الْمُسْتَحِقَّ يُؤَخِّرُ مُطَالَبَتَهُ وَيَصْبِرُ عَلَيْهِ بِزِيَادَةٍ يَبْذُلُهَا لَهُ تَكَلَّفَ بَذْلَهَا لِيَفْتَدِيَ مِنْ أَسْرِ الْمُطَالَبَةِ وَالْحَبْسِ، وَيُدَافِعُ مِنْ وَقْتٍ إِلَى وَقْتٍ، فَيَشْتَدُّ ضَرَرُهُ، وَتَعْظُمُ مُصِيبَتُهُ، وَيَعْلُوهُ الدَّيْنُ حَتَّى يَسْتَغْرِقَ جَمِيعَ مَوْجُودِهِ، فَيَرْبُو الْمَال عَلَى الْمُحْتَاجِ مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ يَحْصُل لَهُ، وَيَزِيدُ مَال الْمُرَابِي مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ يَحْصُل مِنْهُ لأَِخِيهِ، فَيَأْكُل مَال أَخِيهِ بِالْبَاطِل، وَيَحْصُل أَخُوهُ عَلَى غَايَةِ الضَّرَرِ، فَمِنْ رَحْمَةِ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ وَحِكْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَى خَلْقِهِ أَنْ حَرَّمَ الرِّبَا (١) . . .

١٠ - وَأَمَّا الأَْصْنَافُ السِّتَّةُ الَّتِي حُرِّمَ فِيهَا الرِّبَا بِمَا رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ ﵁ عَنْ رَسُول اللَّهِ ﷺ قَال: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَمَنْ زَادَ أَوِ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى، الآْخِذُ وَالْمُعْطِي فِيهِ سَوَاءٌ (٢) .

١١ - أَمَّا هَذِهِ الأَْصْنَافُ فَقَدْ أَجْمَل ابْنُ الْقَيِّمِ حِكْمَةَ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِيهَا حَيْثُ قَال: وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ

_________

(١) أعلام الموقعين ٢ / ١٥٤.

(٢) حديث: " الذهب بالذهب، والحنطة بالحنطة " هذا الحديث مركب من حديثين: الأول من حديث عبادة بن الصامت، والثاني من حديث أبي هريرة، أخرجهما مسلم (٣ / ١٢١١ - ط الحلبي) .

أَنَّهُمْ مَنَعُوا مِنَ التِّجَارَةِ فِي الأَْثْمَانِ - أَيِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ - بِجِنْسِهَا لأَِنَّ ذَلِكَ يُفْسِدُ عَلَيْهِمْ مَقْصُودَ الأَْثْمَانِ، وَمَنَعُوا التِّجَارَةَ فِي الأَْقْوَاتِ - أَيِ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالْمِلْحِ - بِجِنْسِهَا لأَِنَّ ذَلِكَ يُفْسِدُ عَلَيْهِمْ مَقْصُودَ الأَْقْوَاتِ (١) .

وَفَصَّل ابْنُ الْقَيِّمِ فَقَال: الصَّحِيحُ بَل الصَّوَابُ أَنَّ الْعِلَّةَ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ هِيَ الثَّمَنِيَّةُ، فَإِنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ أَثْمَانُ الْمَبِيعَاتِ، وَالثَّمَنُ هُوَ الْمِعْيَارُ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ تَقْوِيمُ الأَْمْوَال، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَحْدُودًا مَضْبُوطًا لاَ يَرْتَفِعُ وَلاَ يَنْخَفِضُ، إِذْ لَوْ كَانَ الثَّمَنُ يَرْتَفِعُ وَيَنْخَفِضُ كَالسِّلَعِ لَمْ يَكُنْ لَنَا ثَمَنٌ نَعْتَبِرُ بِهِ الْمَبِيعَاتِ، بَل الْجَمِيعُ سِلَعٌ، وَحَاجَةُ النَّاسِ إِلَى ثَمَنٍ يَعْتَبِرُونَ بِهِ الْمَبِيعَاتِ حَاجَةٌ ضَرُورِيَّةٌ عَامَّةٌ، وَذَلِكَ لاَ يُعْرَفُ إِلاَّ بِسِعْرٍ تُعْرَفُ بِهِ الْقِيمَةُ، وَذَلِكَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِثَمَنٍ تُقَوَّمُ بِهِ الأَْشْيَاءُ وَيَسْتَمِرُّ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلاَ يُقَوَّمُ هُوَ بِغَيْرِهِ، إِذْ يَصِيرُ سِلْعَةً يَرْتَفِعُ وَيَنْخَفِضُ، فَتَفْسُدُ مُعَامَلاَتُ النَّاسِ وَيَقَعُ الْخُلْفُ وَيَشْتَدُّ الضَّرَرُ. . . فَالأَْثْمَانُ لاَ تُقْصَدُ لأَِعْيَانِهَا، بَل يُقْصَدُ التَّوَصُّل بِهَا إِلَى السِّلَعِ، فَإِذَا صَارَتْ فِي أَنْفُسِهَا سِلَعًا تُقْصَدُ لأَِعْيَانِهَا فَسَدَ أَمْرُ النَّاسِ.

وَأَضَافَ: وَأَمَّا الأَْصْنَافُ الأَْرْبَعَةُ الْمَطْعُومَةُ فَحَاجَةُ النَّاسِ إِلَيْهَا أَعْظَمُ مِنْ حَاجَتِهِمْ إِلَى

_________

(١) أعلام الموقعين ٢ / ١٥٩

غَيْرِهَا؛ لأَِنَّهَا أَقْوَاتُ الْعَالَمِ، فَمِنْ رِعَايَةِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ أَنْ مُنِعُوا مِنْ بَيْعِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ إِلَى أَجَلٍ، سَوَاءٌ اتَّحَدَ الْجِنْسُ أَوِ اخْتَلَفَ، وَمُنِعُوا مِنْ بَيْعِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ حَالًّا مُتَفَاضِلًا وَإِنِ اخْتَلَفَتْ صِفَاتُهَا، وَجُوِّزَ لَهُمُ التَّفَاضُل مَعَ اخْتِلاَفِ أَجْنَاسِهَا.

فَقَدْ قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: وَسِرُّ ذَلِكَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّهُ لَوْ جَوَّزَ بَيْعَ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ نَسَاءً لَمْ يَفْعَل ذَلِكَ أَحَدٌ إِلاَّ إِذَا رَبِحَ، وَحِينَئِذٍ تَسْمَحُ نَفْسُهُ بِبَيْعِهَا حَالَّةً لِطَمَعِهِ فِي الرِّبْحِ، فَيَعِزُّ الطَّعَامُ عَلَى الْمُحْتَاجِ وَيَشْتَدُّ ضَرَرُهُ،. . فَكَانَ مِنْ رَحْمَةِ الشَّارِعِ بِهِمْ وَحِكْمَتِهِ أَنْ مَنَعَهُمْ مِنْ رِبَا النَّسَاءِ فِيهَا كَمَا مَنَعَهُمْ مِنْ رِبَا النَّسَاءِ فِي الأَْثْمَانِ؛ إِذْ لَوْ جَوَّزَ لَهُمُ النَّسَاءَ فِيهَا لَدَخَلَهَا " إِمَّا أَنْ تَقْضِيَ وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ " فَيَصِيرُ الصَّاعُ الْوَاحِدُ لَوْ أُخِذَ قُفْزَانًا كَثِيرَةً، فَفُطِمُوا عَنِ النَّسَاءِ، ثُمَّ فُطِمُوا عَنْ بَيْعِهَا مُتَفَاضِلًا يَدًا بِيَدٍ، إِذْ تَجُرُّهُمْ حَلاَوَةُ الرِّبْحِ وَظَفَرُ الْكَسْبِ إِلَى التِّجَارَةِ فِيهَا نَسَاءً وَهُوَ عَيْنُ الْمَفْسَدَةِ، وَهَذَا بِخِلاَفِ الْجِنْسَيْنِ الْمُتَبَايِنَيْنِ فَإِنَّ حَقَائِقَهُمَا وَصِفَاتِهِمَا وَمَقَاصِدَهُمَا مُخْتَلِفَةٌ، فَفِي إِلْزَامِهِمُ الْمُسَاوَاةَ فِي بَيْعِهَا إِضْرَارٌ بِهِمْ، وَلاَ يَفْعَلُونَهُ، وَفِي تَجْوِيزِ النَّسَاءِ بَيْنَهَا ذَرِيعَةٌ إِلَى " إِمَّا أَنْ تَقْضِيَ وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ " فَكَانَ مِنْ تَمَامِ رِعَايَةِ مَصَالِحِهِمْ أَنْ قَصَرَهُمْ عَلَى بَيْعِهَا يَدًا بِيَدٍ كَيْفَ شَاءُوا، فَحَصَلَتْ لَهُمُ الْمُبَادَلَةُ، وَانْدَفَعَتْ عَنْهُمْ مَفْسَدَةُ " إِمَّا أَنْ تَقْضِيَ وَإِمَّا أَنْ تُرْبِيَ " وَهَذَا

بِخِلاَفِ مَا إِذَا بِيعَتْ بِالدَّرَاهِمِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْمَوْزُونَاتِ نَسَاءً فَإِنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَى ذَلِكَ، فَلَوْ مُنِعُوا مِنْهُ لأَضَرَّ بِهِمْ، وَلاَمْتَنَعَ السَّلَمُ الَّذِي هُوَ مِنْ مَصَالِحِهِمْ فِيمَا هُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، وَالشَّرِيعَةُ لاَ تَأْتِي بِهَذَا، وَلَيْسَ بِهِمْ حَاجَةٌ فِي بَيْعِ هَذِهِ الأَْصْنَافِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ نَسَاءً، وَهُوَ ذَرِيعَةٌ قَرِيبَةٌ إِلَى مَفْسَدَةِ الرِّبَا، فَأُبِيحَ لَهُمْ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ حَاجَتُهُمْ وَلَيْسَ بِذَرِيعَةٍ إِلَى مَفْسَدَةٍ رَاجِحَةٍ، وَمُنِعُوا مِمَّا لاَ تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ وَيُتَذَرَّعُ بِهِ غَالِبًا إِلَى مَفْسَدَةٍ رَاجِحَةٍ (١) .

أَقْسَامُ الرِّبَا:

رِبَا الْبَيْعِ (رِبَا الْفَضْل):

١٢ - وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ فِي الأَْعْيَانِ الرِّبَوِيَّةِ، وَالَّذِي عُنِيَ الْفُقَهَاءُ بِتَعْرِيفِهِ وَتَفْصِيل أَحْكَامِهِ فِي الْبُيُوعِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ أَنْوَاعِهِ: فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (٢) إِلَى أَنَّهُ نَوْعَانِ:

١ - رِبَا الْفَضْل. . وَعَرَّفَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّهُ فَضْلٌ خَالٍ عَنْ عِوَضٍ بِمِعْيَارٍ شَرْعِيٍّ مَشْرُوطٍ لأَِحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الْمُعَاوَضَةِ (٣) .

٢ - رِبَا النَّسِيئَةِ. . . وَهُوَ: فَضْل الْحُلُول عَلَى

_________

(١) أعلام الموقعين ٢ / ١٥٧ - ١٥٨

(٢) بدائع الصنائع ٥ / ١٨٣، وجواهر الإكليل ٢ / ١٧، والقوانين الفقهية ٢٥٤، المغني ٤ / ٣.

(٣) الدر المختار ٤ / ١٧٦ - ١٧٧

الأَْجَل، وَفَضْل الْعَيْنِ عَلَى الدَّيْنِ فِي الْمَكِيلَيْنِ أَوِ الْمَوْزُونَيْنِ عِنْدَ اخْتِلاَفِ الْجِنْسِ، أَوْ فِي غَيْرِ الْمَكِيلَيْنِ أَوِ الْمَوْزُونَيْنِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ (١) .

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ رِبَا الْبَيْعِ ثَلاَثَةُ أَنْوَاعٍ:

١ - رِبَا الْفَضْل. . وَهُوَ الْبَيْعُ مَعَ زِيَادَةِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ عَنِ الآْخَرِ فِي مُتَّحِدِ الْجِنْسِ.

٢ - رِبَا الْيَدِ. . وَهُوَ الْبَيْعُ مَعَ تَأْخِيرِ قَبْضِ الْعِوَضَيْنِ أَوْ قَبْضِ أَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ أَجَلٍ.

٣ - رِبَا النَّسَاءِ. . وَهُوَ الْبَيْعُ بِشَرْطِ أَجَلٍ وَلَوْ قَصِيرًا فِي أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ.

وَزَادَ الْمُتَوَلِّي مِنَ الشَّافِعِيَّةِ رِبَا الْقَرْضِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ جَرُّ نَفْعٍ، قَال الزَّرْكَشِيُّ: وَيُمْكِنُ رَدُّهُ إِلَى رِبَا الْفَضْل، وَقَال الرَّمْلِيُّ: إِنَّهُ مِنْ رِبَا الْفَضْل، وَعَلَّل الشَّبْرَامَلِّسِيُّ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إِنَّمَا جُعِل رِبَا الْقَرْضِ مِنْ رِبَا الْفَضْل مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ - يَعْنِي الْبَيْعَ -؛ لأَِنَّهُ لَمَّا شَرَطَ نَفْعًا لِلْمُقْرِضِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ أَنَّهُ بَاعَ مَا أَقْرَضَهُ بِمَا يَزِيدُ عَلَيْهِ مِنْ جِنْسِهِ فَهُوَ مِنْهُ حُكْمًا.

رِبَا النَّسِيئَةِ:

١٣ - وَهُوَ الزِّيَادَةُ فِي الدَّيْنِ نَظِيرَ الأَْجَل أَوِ الزِّيَادَةِ فِيهِ وَسُمِّيَ هَذَا النَّوْعُ مِنَ الرِّبَا رِبَا النَّسِيئَةِ

_________

(١) بدائع الصنائع ٥ / ١٨٣، ومغني المحتاج ٢ / ٢١، وحاشية القليوبي ٢ / ١٦٧، ونهاية المحتاج ٣ / ٤٠٩.

مِنْ أَنْسَأْتُهُ الدَّيْنَ: أَخَّرْتُهُ - لأَِنَّ الزِّيَادَةَ فِيهِ مُقَابِل الأَْجَل أَيًّا كَانَ سَبَبُ الدَّيْنِ بَيْعًا كَانَ أَوْ قَرْضًا (١) .

وَسُمِّيَ رِبَا الْقُرْآنِ؛ لأَِنَّهُ حُرِّمَ بِالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فِي قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً. . .﴾ (٢) .

ثُمَّ أَكَّدَتِ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ تَحْرِيمَهُ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ وَفِي أَحَادِيثَ أُخْرَى.

ثُمَّ انْعَقَدَ إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَحْرِيمِهِ.

وَسُمِّيَ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ، لأَِنَّ تَعَامُل أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ بِالرِّبَا لَمْ يَكُنْ إِلاَّ بِهِ كَمَا قَال الْجَصَّاصُ.

وَالرِّبَا الَّذِي كَانَتِ الْعَرَبُ تَعْرِفُهُ وَتَفْعَلُهُ إِنَّمَا كَانَ قَرْضَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ إِلَى أَجَلٍ بِزِيَادَةٍ عَلَى مِقْدَارِ مَا اسْتَقْرَضَ عَلَى مَا يَتَرَاضَوْنَ بِهِ (٣) .

وَسُمِّيَ أَيْضًا الرِّبَا الْجَلِيَّ، قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: الْجَلِيُّ: رِبَا النَّسِيئَةِ، وَهُوَ الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، مِثْل أَنْ يُؤَخِّرَ دَيْنَهُ وَيَزِيدَهُ فِي الْمَال، وَكُلَّمَا أَخَّرَهُ زَادَهُ فِي الْمَال حَتَّى تَصِيرَ الْمِائَةُ عِنْدَهُ آلاَفًا مُؤَلَّفَةً (٤) . .

_________

(١) المصباح المنير ٢ / ٦٠٥، وجامع البيان عن تأويل آي القرآن ٤ / ٩٠ ط - مصطفى البابي الحلبي.

(٢) سورة آل عمران / ١٣٠.

(٣) أحكام القرآن ١ / ٤٦٥، وجامع البيان عن تأويل آي القرآن ٦ / ٨ - ط دار المعارف، وتفسير النيسابوري ٣ / ٧٩، وتفسير الرازي ٧ / ٩١، وفتح القدير ١ / ٢٦٥

(٤) أعلام الموقعين ٢ / ١٥٤

١٤ - وَرِبَا الْفَضْل يَكُونُ بِالتَّفَاضُل فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنْ أَمْوَال الرِّبَا إِذَا بِيعَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ، كَبَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ نَقْدًا، أَوْ بَيْعِ صَاعِ قَمْحٍ بِصَاعَيْنِ مِنَ الْقَمْحِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَيُسَمَّى رِبَا الْفَضْل لِفَضْل أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ عَلَى الآْخَرِ، وَإِطْلاَقُ التَّفَاضُل عَلَى الْفَضْل مِنْ بَابِ الْمَجَازِ، فَإِنَّ الْفَضْل فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ دُونَ الآْخَرِ.

وَيُسَمَّى رِبَا النَّقْدِ فِي مُقَابَلَةِ رِبَا النَّسِيئَةِ:

وَيُسَمَّى الرِّبَا الْخَفِيَّ، قَال ابْنُ الْقَيِّمِ: الرِّبَا نَوْعَانِ: جَلِيٌّ وَخَفِيٌّ، فَالْجَلِيُّ حُرِّمَ، لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ الْعَظِيمِ، وَالْخَفِيُّ حُرِّمَ، لأَِنَّهُ ذَرِيعَةٌ إِلَى الْجَلِيِّ، فَتَحْرِيمُ الأَْوَّل قَصْدًا، وَتَحْرِيمُ الثَّانِي لأَِنَّهُ وَسِيلَةٌ، فَأَمَّا الْجَلِيُّ فَرِبَا النَّسِيئَةِ وَهُوَ الَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.

وَأَمَّا رِبَا الْفَضْل فَتَحْرِيمُهُ مِنْ بَابِ سَدِّ الذَّرَائِعِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ﵁ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَال: لاَ تَبِيعُوا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمُ الرَّمَاءَ (١) وَالرَّمَاءُ هُوَ الرِّبَا، فَمَنَعَهُمْ مِنْ

_________

(١) حديث أبي سعيد: " لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين؛ فإني أخاف. . . . " لم يرد هذا الحديث مرفوعًا من حديث أبي سعيد، وإنما ورد موقوفًا على عمر بن الخطاب بلفظ: " لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلًا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض. . . " إلى أن قال: " إني أخاف عليكم الرماء "

رِبَا الْفَضْل لِمَا يَخَافُهُ عَلَيْهِمْ مِنْ رِبَا النَّسِيئَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ إِذَا بَاعُوا دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ - وَلاَ يُفْعَل هَذَا إِلاَّ لِلتَّفَاوُتِ الَّذِي بَيْنَ النَّوْعَيْنِ - إِمَّا فِي الْجَوْدَةِ، وَإِمَّا فِي السِّكَّةِ، وَإِمَّا فِي الثِّقَل وَالْخِفَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ - تَدَرَّجُوا بِالرِّبْحِ الْمُعَجَّل فِيهَا إِلَى الرِّبْحِ الْمُؤَخَّرِ وَهُوَ عَيْنُ رِبَا النَّسِيئَةِ، وَهَذَا ذَرِيعَةٌ قَرِيبَةٌ جِدًّا، فَمِنْ حِكْمَةِ الشَّارِعِ أَنْ سَدَّ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الذَّرِيعَةَ، وَهِيَ تَسُدُّ عَلَيْهِمْ بَابَ الْمَفْسَدَةِ (١) . .

أَثَرُ الرِّبَا فِي الْعُقُودِ:

١٥ - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْعَقْدَ الَّذِي يُخَالِطُهُ الرِّبَا مَفْسُوخٌ لاَ يَجُوزُ بِحَالٍ، وَأَنَّ مَنْ أَرْبَى يُنْقَضُ عَقْدُهُ وَيُرَدُّ فِعْلُهُ وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا؛ لأَِنَّهُ فَعَل مَا حَرَّمَهُ الشَّارِعُ وَنَهَى عَنْهُ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ وَالْفَسَادَ، وَقَدْ قَال النَّبِيُّ ﷺ: مَنْ عَمِل عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ (٢) وَلِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ﵁ قَال: جَاءَ بِلاَلٌ ﵁ بِتَمْرٍ بَرْنِيٍّ، فَقَال لَهُ رَسُول اللَّهِ ﷺ: مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ فَقَال بِلاَلٌ: مِنْ تَمْرٍ كَانَ عِنْدَنَا رَدِيءٍ، فَبِعْتُ مِنْهُ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ لِمَطْعَمِ النَّبِيِّ ﷺ فَقَال رَسُول

_________

(١) المجموع ١٠ / ٢٦، وأعلام الموقعين ٢ / ١٥٥.

(٢) حديث: " من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد " أخرجه مسلم (٣ / ١٣٤٤ - ط الحلبي) من حديث عائشة.

اللَّهِ ﷺ عِنْدَ ذَلِكَ: أَوَّهْ عَيْنُ الرِّبَا، لاَ تَفْعَل، وَلَكِنْ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَشْتَرِيَ التَّمْرَ فَبِعْهُ بِبَيْعٍ آخَرَ ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ (١) فَقَوْلُهُ ﷺ: أَوَّهْ عَيْنُ الرِّبَا أَيْ هُوَ الرِّبَا الْمُحَرَّمُ نَفْسُهُ لاَ مَا يُشْبِهُهُ، وَقَوْلُهُ: فَهُوَ رَدٌّ يَدُل عَلَى وُجُوبِ فَسْخِ صَفْقَةِ الرِّبَا وَأَنَّهَا لاَ تَصِحُّ بِوَجْهٍ (٢) .

وَرَوَى مُسْلِمٌ أَنَّ رَسُول اللَّهِ ﷺ قَال: رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ وَأَوَّل رِبًا أَضَعُ رِبَانَا: رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ (٣) .

وَقَال عَنْهُ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَوْلُهُ: الْمُرَادُ بِالْوَضْعِ الرَّدُّ وَالإِْبْطَال (٤) .

وَفَصَّل ابْنُ رُشْدٍ فَقَال: مَنْ بَاعَ بَيْعًا أَرْبَى فِيهِ غَيْرَ مُسْتَحِلٍّ لِلرِّبَا فَعَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ الْمُوجِعَةُ إِنْ لَمْ يُعْذَرْ بِجَهْلٍ، وَيُفْسَخُ الْبَيْعُ مَا كَانَ قَائِمًا، وَالْحُجَّةُ فِي ذَلِكَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ ﷺ أَمَرَ السَّعْدَيْنِ أَنْ يَبِيعَا آنِيَةً مِنَ الْمَغَانِمِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، فَبَاعَا كُل ثَلاَثَةٍ بِأَرْبَعَةٍ عَيْنًا، أَوْ كُل أَرْبَعَةٍ بِثَلاَثَةٍ عَيْنًا، فَقَال لَهُمَا رَسُول اللَّهِ ﷺ: أَرْبَيْتُمَا فَرُدَّا (٥) .

_________

(١) حديث أبي سعيد: " جاء بلال بتمر برني. . . . . " أخرجه البخاري (الفتح ٤ / ٤٩٠ - ط السلفية)، ومسلم (٣ / ١٢١٥ - ١٢١٦ - ط الحلبي)

(٢) تفسير القرطبي ٣ / ٣٥٦ - ٣٥٨، وحاشية القليوبي ٢ / ١٧٥ و١٦٧

(٣) حديث: " ربا الجاهلية موضوع " أخرجه مسلم (٢ / ٨٨٩ - ط الحلبي) من حديث جابر بن عبد الله.

(٤) صحيح مسلم بشرح النووي ٨ / ١٨٣.

(٥) حديث: " أربيتما فردا. . . . " أخرجه مالك في الموطأ (٢ / ٦٣٢ - ط الحلبي) عن يحيى بن سعيد مرسلًا.