الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٢
اشْتِرَاطُ تَأْجِيل تَسْلِيمِ الْعَيْنِ فِي التَّصَرُّفَاتِ النَّاقِلَةِ لِلْمِلْكِيَّةِ:
٣٣ - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِحَّةِ اشْتِرَاطِ تَأْجِيل تَسْلِيمِ (الْعَيْنِ) إِلَى الْمَنْقُول إِلَيْهِ مِلْكِيَّتُهَا مُدَّةً مَعْلُومَةً لِلاِنْتِفَاعِ بِهَا عَلَى رَأْيَيْنِ: الأَْوَّل: يَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (١) وَهُوَ رَأْيٌ مَرْجُوحٌ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ تَأْجِيل تَسْلِيمِ الْعَيْنِ إِلَى الْمُدَّةِ الَّتِي يُحَدِّدُهَا الْمُتَعَاقِدَانِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُنْتَفِعُ بِهَا هُوَ النَّاقِل لِلْمِلْكِيَّةِ، وَهَذَا الرَّأْيُ مَنْقُولٌ عَنِ الأَْوْزَاعِيِّ، وَابْنِ شُبْرُمَةَ، وَإِسْحَاقَ، وَأَبِي ثَوْرٍ.
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ: إِذَا بَاعَ دَارًا عَلَى أَنْ يَسْكُنَهَا الْبَائِعُ شَهْرًا، ثُمَّ يُسَلِّمَهَا إِلَيْهِ، أَوْ أَرْضًا عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا سَنَةً، أَوْ دَابَّةً عَلَى أَنْ يَرْكَبَهَا شَهْرًا، أَوْ ثَوْبًا عَلَى أَنْ يَلْبَسَهُ أُسْبُوعًا.
وَاسْتَدَل لِهَذَا الرَّأْيِ بِأَنَّ عُمُومَ الآْيَاتِ وَالأَْحَادِيثِ تَأْمُرُ بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ. قَال اللَّهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ. . .﴾ (٢) وَقَال تَعَالَى: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾ (٣) وَقَال ﵊: الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إِلاَّ شَرْطًا حَرَّمَ حَلاَلًا، أَوْ أَحَل حَرَامًا (٤)
_________
(١) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ٣ / ٦٥، والمواق على الحطاب ٣ / ٣٧٢، وكشاف القناع ٣ / ١٩٠ ط الرياض.
(٢) أول سورة المائدة.
(٣) سورة الإسراء / ٣٤
(٤) رواه الترمذي وصححه، وأنكروا عليه لأنه من رواية كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف وهو ضعيف. وهذا الحديث له طرق كثيرة، وقد صححه ابن حبان من حديث أبي هريرة. يراجع سبل السلام ٣ / ٤٠ في باب الصلح.
فَالآْيَاتُ وَالأَْحَادِيثُ تَأْمُرُ بِالْوَفَاءِ بِكُل عَقْدٍ وَشَرْطٍ لاَ يُخَالِفُ كِتَابَ اللَّهِ، وَلاَ سُنَّةَ رَسُولِهِ ﷺ. وَبِخُصُوصِ مَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ ﵁ أَنَّهُ كَانَ يَسِيرُ عَلَى جَمَلٍ قَدْ أَعْيَا، فَضَرَبَهُ النَّبِيُّ ﷺ، فَسَارَ سَيْرًا لَمْ يَسِرْ مِثْلَهُ. فَقَال: بِعْنِيهِ. فَبِعْتُهُ وَاسْتَثْنَيْتُ حُمْلاَنَهُ إِلَى أَهْلِي. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُل عَلَى جَوَازِ اشْتِرَاطِ تَأْجِيل تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ فَتْرَةً يَنْتَفِعُ فِيهَا الْبَائِعُ بِهِ، ثُمَّ يُسَلِّمُهُ إِلَى الْمُشْتَرِي. وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ ﷺ نَهَى عَنِ الثُّنْيَا أَيِ الاِسْتِثْنَاءِ إِلاَّ أَنْ تُعْلَمَ وَهَذِهِ مَعْلُومَةٌ، وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ تَأْخِيرُ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ مُدَّةً مَعْلُومَةً، فَصَحَّ (١) .
الثَّانِي: يَرَى الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ الرَّاجِحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، عَدَمَ صِحَّةِ اشْتِرَاطِ تَأْجِيل تَسْلِيمِ الْعَيْنِ. وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ (٢)، وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ اشْتَرَى جَارِيَةً مِنَ امْرَأَتِهِ زَيْنَبَ الثَّقَفِيَّةِ. وَشَرَطَتْ عَلَيْهِ أَنَّكَ إِنْ بِعْتَهَا فَهِيَ لِي بِالثَّمَنِ. فَاسْتَفْتَى عُمَرَ ﵁، فَقَال " لاَ تَقْرَبْهَا وَفِيهَا شَرْطٌ لأَِحَدٍ وَرُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ اشْتَرَى جَارِيَةً
_________
(١) كشاف القناع ٣ / ١٩٠ ط الرياض.
(٢) حديث " نهى عن بيع وشرط " قال ابن حجر: بيض له الرافعي في التذنيب، واستغربه النووي. وقد رواه ابن حزم في المحلى، والخطابي في المعالم، والطبراني في الأوسط، والحاكم في علوم الحديث في قصة طويلة مشهورة، ونقل عن ابن أبي الفوارس أنه قال: غريب، ورواه أصحاب السنن إلا ابن ماجه، وابن حبان والحاكم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ: " لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع " (تلخيص الحبير ٣ / ١٢)
وَاشْتَرَطَ خِدْمَتَهَا، فَقَال لَهُ عُمَرُ لاَ تَقْرَبْهَا وَفِيهَا مَثْنَوِيَّةٌ (١) .
وَأَمَّا إِذَا جَعَل تَأْجِيل تَسْلِيمِ الْعَيْنِ لِمَصْلَحَةِ أَجْنَبِيٍّ عَنِ الْعَقْدِ، كَمَا إِذَا بَاعَهُ بِشَرْطِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا فُلاَنٌ " الأَْجْنَبِيُّ عَنِ الْعَقْدِ " شَهْرًا، فَلَمْ يَرَ صِحَّةَ هَذَا أَحَدٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ غَيْرُ الْحَنَابِلَةِ (٢) .
تَأْجِيل الدَّيْنِ
الدَّيْنُ: هُوَ مَالٌ حُكْمِيٌّ يَحْدُثُ فِي الذِّمَّةِ بِبَيْعٍ أَوِ اسْتِهْلاَكٍ أَوْ غَيْرِهِمَا (٣) .
مَشْرُوعِيَّةُ تَأْجِيل الدُّيُونِ:
٣٤ - لَقَدْ شُرِعَ جَوَازُ تَأْجِيل الدُّيُونِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالإِْجْمَاعِ. أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ. . .﴾ (٤) فَهَذِهِ الآْيَةُ، وَإِنْ كَانَتْ لاَ تَدُل عَلَى جَوَازِ تَأْجِيل سَائِرِ الدُّيُونِ، إِلاَّ أَنَّهَا تَدُل عَلَى أَنَّ مِنَ الدُّيُونِ مَا يَكُونُ مُؤَجَّلًا، وَهُوَ مَا نَقْصِدُهُ هُنَا مِنَ الاِسْتِدْلاَل بِهَا عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الأَْجَل.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنِ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ ﵂
_________
(١) فتح القدير٥ / ٢١٥ - ٢١٨، ورد المحتار على الدر المختار ٤ / ١٢٦ط ٣ الأميرية، والمجموع شرح المهذب٩ / ٣٦٧، والغرر البهية ٢ / ٤٢٦، ونهاية المحتاج ٣ / ٥٩، ومغني المحتاج ٢ / ٣١
(٢) كشاف القناع ٣ / ١٩١ ط الرياض.
(٣) بدائع الصنائع ٥ / ١٧٤
(٤) سورة البقرة / ٢٨٢، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي ٣ / ٣٧٧ ط دار الكتب ١٩٣٦، وأحكام القرآن للجصاص١ / ٥٧٣
: أَنَّ رَسُول اللَّهِ ﷺ اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا إِلَى أَجَلٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعًا لَهُ مِنْ حَدِيدٍ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَاللَّفْظُ لَهُ. فَهُوَ يَدُل عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ تَأْجِيل الأَْثْمَانِ، وَقَدْ أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى ذَلِكَ (١) .
حِكْمَةُ قَبُول الدَّيْنِ التَّأْجِيل دُونَ الْعَيْنِ:
٣٥ - نَصَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الأَْعْيَانِ وَالدُّيُونِ مِنْ حَيْثُ جَوَازُ التَّأْجِيل فِي الثَّانِيَةِ دُونَ الأُْولَى: أَنَّ الأَْعْيَانَ مُعَيَّنَةٌ وَمُشَاهَدَةٌ، وَالْمُعَيَّنُ حَاصِلٌ وَمَوْجُودٌ، وَالْحَاصِل وَالْمَوْجُودُ لَيْسَ هُنَاكَ مَدْعَاةٌ لِجَوَازِ وُرُودِ الأَْجَل عَلَيْهِ. أَمَّا الدُّيُونُ: فَهِيَ مَالٌ حُكْمِيٌّ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ، فَهِيَ غَيْرُ حَاصِلَةٍ وَلاَ مَوْجُودَةٍ، وَمِنْ ثَمَّ شُرِعَ جَوَازُ تَأْجِيلِهَا، رِفْقًا بِالْمَدِينِ، وَتَمْكِينًا لَهُ مِنَ اكْتِسَابِهَا وَتَحْصِيلِهَا فِي الْمُدَّةِ الْمَضْرُوبَةِ، حَتَّى إِنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ عَيَّنَ النُّقُودَ الَّتِي اشْتَرَى بِهَا لَمْ يَصِحَّ تَأْجِيلُهَا.
الدُّيُونُ مِنْ حَيْثُ جَوَازُ التَّأْجِيل وَعَدَمُهُ:
٣٦ - أَوْضَحَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ الدُّيُونَ تَكُونُ حَالَّةً، وَأَنَّهُ يَجُوزُ تَأْجِيلُهَا إِذَا قَبِل الدَّائِنُ، وَاسْتَثْنَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ مِنْ هَذَا الأَْصْل عِدَّةَ دُيُونٍ:
أ - رَأْسُ مَال السَّلَمِ:
٣٧ - وَذَلِكَ لأَِنَّ حَقِيقَتَهُ شِرَاءُ آجِلٍ، وَهُوَ الْمُسْلَمُ فِيهِ (وَهُوَ السِّلْعَةُ)، بِعَاجِلٍ، وَهُوَ رَأْسُ الْمَال (وَهُوَ الثَّمَنُ) فَرَأْسُ مَال السَّلَمِ لاَ بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ حَالًّا، عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ هَذَا
_________
(١) مصطلح " سلم ".
الْعَقْدِ قَبْضَ رَأْسِ الْمَال قَبْل انْتِهَاءِ مَجْلِسِ الْعَقْدِ (١) وَلأَِنَّهُ لَوْ تَأَخَّرَ لَكَانَ فِي مَعْنَى بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، (إِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَال فِي الذِّمَّةِ) وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ ﷺ نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ (٢) أَيِ النَّسِيئَةِ بِالنَّسِيئَةِ؛ وَلأَِنَّ فِي السَّلَمِ غَرَرًا، فَلاَ يَضُمُّ إِلَيْهِ غَرَرَ تَأْخِيرِ تَسْلِيمِ رَأْسِ الْمَال، فَلاَ بُدَّ مِنْ حُلُول رَأْسِ الْمَال، كَالصَّرْفِ، فَلَوْ تَفَرَّقَا قَبْل قَبْضِ رَأْسِ الْمَال بَطَل الْعَقْدُ (٣) . وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ عَقْدِ السَّلَمِ قَبْضَ رَأْسِ الْمَال كُلِّهِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، وَيَجُوزُ تَأْخِيرُ قَبْضِهِ بَعْدَ الْعَقْدِ لِمُدَّةٍ لاَ تَزِيدُ عَلَى ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، وَلَوْ بِشَرْطِ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ؛ لأَِنَّ مَا قَارَبَ الشَّيْءَ يُعْطَى حُكْمَهُ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ أَجَل السَّلَمِ قَرِيبًا كَيَوْمَيْنِ، وَذَلِكَ فِيمَا شُرِطَ قَبْضُهُ فِي بَلَدٍ آخَرَ، وَإِلاَّ فَلاَ يَجُوزُ تَأْخِيرُ هَذِهِ الْمُدَّةِ؛ لأَِنَّهُ عَيْنُ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ، فَيَجِبُ أَنْ يَقْبِضَ رَأْسَ الْمَال بِالْمَجْلِسِ أَوْ مَا يَقْرَبُ مِنْهُ. وَفِي فَسَادِ السَّلَمِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الثَّلاَثِ (بِلاَ شَرْطٍ إِنْ لَمْ تَكْثُرْ جِدًّا - بِأَلاَّ يَحِل أَجَل الْمُسْلَمِ فِيهِ -) وَعَدَمِ فَسَادِهِ قَوْلاَنِ لِمَالِكٍ (٤) .
_________
(١) رد المحتار ٤ / ٢١٧، وبدائع الصنائع ٥ / ٢٠٢ الطبعة الأولى سنة ١٣٢٨ هـ - ١٩١٠م، ومغني المحتاج ٢ / ١٠٢
(٢) حديث " نهى عن بيع الكالئ بالكالئ ". رواه الحاكم والدارقطني. وقال الإمام أحمد ليس في هذا حديث يصح. وقال الإمام الشافعي: أهل الحديث يوهنون هذا الحديث. وجزم الدارقطني في العلل بذلك. (تلخيص الحبير٣ / ٢٦) .
(٣) انظر الروض المربع ٢ / ١٨٦، وكشاف القناع ٣ / ٣٠٤ ط الرياض.
(٤) الخرشي ٤ / ١١٢، وحاشية الدسوقي٣ / ١٩٥
ب - بَدَل الصَّرْفِ:
٣٨ - مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّرْفِ (١) تَقَابُضُ الثَّمَنَيْنِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ، أَيْ قَبْل افْتِرَاقِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِأَبْدَانِهِمَا، فَلَوِ اشْتُرِطَ الأَْجَل فِيهِ فَسَدَ؛ لأَِنَّ الأَْجَل يَمْنَعُ الْقَبْضَ، وَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقِ الْقَبْضُ لَمْ يَتَحَقَّقْ شَرْطُ صِحَّتِهِ، وَهَذَا مَا صَرَّحَ بِهِ الْحَنَفِيَّةُ (٢) وَالْمَالِكِيَّةُ (٣) وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، لِقَوْلِهِ ﷺ الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ. فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَْجْنَاسُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ (٤) أَيْ مُقَابَضَةً. قَال الرَّافِعِيُّ: وَمِنْ لَوَازِمِهِ الْحُلُول (٥) .
وَقَال ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ كُل مَنْ نَحْفَظُ عَنْهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُتَصَارِفَيْنِ إِذَا افْتَرَقَا قَبْل أَنْ يَتَقَابَضَا أَنَّ الصَّرْفَ فَاسِدٌ، لِقَوْل النَّبِيِّ ﷺ الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِبًا إِلاَّ هَاءَ وَهَاءَ (٦)، وَقَوْلِهِ ﵊ بِيعُوا الذَّهَبَ بِالْفِضَّةِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ. (٧)
_________
(١) انظر مصطلح صرف، وهو بيع الثمن بالثمن.
(٢) رد المحتار على الدر المختار ٤ / ٢٤٤.
(٣) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير٣ / ٢٩ ط المكتبة التجارية.
(٤) حديث " الذهب بالذهب. . . " رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه. (الفتح الكبير ٢ / ١٢٣)
(٥) مغني المحتاج ٢ / ٢٤
(٦) " الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء ". رواه مالك والشيخان والترمذي وأبو داود والنسائي. (جامع الأصول ١ / ٥٤٤)
(٧) المغني والشرح الكبير ٤ / ١٦٥، وكشاف القناع٣ / ٢٦٦، وجاء فيه أنه إن طال المجلس قبل القبض وتقابضا قبل التفرقة جاز. وحديث: " بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدا بيد ". رواه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي من حديث عبادة بن الصامت مرفوعا (جامع الأصول١ / ٥٥٣) .
ج - الثَّمَنُ بَعْدَ الإِْقَالَةِ (١):
٣٩ - الإِْقَالَةُ جَائِزَةٌ فِي الْبَيْعِ بِمِثْل الثَّمَنِ الأَْوَّل، عَلَيْهِ إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ (٢)، لِقَوْلِهِ ﷺ مَنْ أَقَال نَادِمًا بَيْعَتَهُ أَقَال اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ الأَْعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁، قَال: قَال رَسُول اللَّهِ ﷺ مَنْ أَقَال مُسْلِمًا بَيْعَتَهُ أَقَال اللَّهُ عَثْرَتَهُ (٣) زَادَ ابْنُ مَاجَهْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ، وَقَال عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَأَمَّا لَفْظُ " نَادِمًا " فَعِنْدَ الْبَيْهَقِيِّ.
وَالإِْقَالَةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ عَوْدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ إِلَى الْحَال الأَْوَّل، بِحَيْثُ يَأْخُذُ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ وَالْمُشْتَرِي الثَّمَنَ. فَإِنْ شَرَطَ غَيْرَ جِنْسِ الثَّمَنِ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ، أَوْ أَجَّلَهُ، بِأَنْ كَانَ الثَّمَنُ حَالًّا فَأَجَّلَهُ الْمُشْتَرِي عِنْدَ الإِْقَالَةِ، فَإِنَّ التَّأْجِيل يَبْطُل، وَتَصِحُّ الإِْقَالَةُ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الإِْقَالَةَ بَيْعٌ فَتَجْرِي عَلَيْهَا أَحْكَامُهُ مِنَ التَّأْجِيل وَغَيْرِهِ (٤) .
د - بَدَل الْقَرْضِ:
٤٠ - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي جَوَازِ اشْتِرَاطِ تَأْجِيل الْقَرْضِ: فَيَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُقْرِضِ الْمُطَالَبَةُ بِبَدَلِهِ فِي الْحَال، وَأَنَّهُ لَوِ اشْتُرِطَ فِيهِ التَّأْجِيل لَمْ يَتَأَجَّل، وَكَانَ حَالًّا، وَبِهَذَا قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ
_________
(١) راجع مصطلح (إقالة) .
(٢) فتح القدير ٦ / ١١٣، والمغني والشرح الكبير٤ / ٢٢٥، ٢٢٦
(٣) صححه الشيخ أحمد محمد شاكر (المسند بتحقيقه ١٣ / ١٦٧) .
(٤) جواهر الإكليل٢ / ٥٤، الروضة٣ / ٤٩٤
وَالْحَنَابِلَةُ وَالْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ (١) . وَذَلِكَ لأَِنَّهُ سَبَبٌ يُوجِبُ رَدَّ الْمِثْل فِي الْمِثْلِيَّاتِ، فَأَوْجَبَهُ حَالًّا، كَالإِْتْلاَفِ، وَلَوْ أَقْرَضَهُ بِتَفَارِيقَ، ثُمَّ طَالَبَهُ بِهَا جُمْلَةً فَلَهُ ذَلِكَ؛ لأَِنَّ الْجَمِيعَ حَالٌّ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ بَاعَهُ بُيُوعًا حَالَّةً، ثُمَّ طَالَبَهُ بِثَمَنِهَا جُمْلَةً؛ وَلأَِنَّ الْحَقَّ يَثْبُتُ حَالًّا، وَالتَّأْجِيل تَبَرُّعٌ مِنْهُ وَوَعْدٌ، فَلاَ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ، كَمَا لَوْ أَعَارَهُ شَيْئًا، وَهَذَا لاَ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الشَّرْطِ، وَلَوْ سُمِّيَ شَرْطًا، فَلاَ يَدْخُل فِي حَدِيثِ: الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ. (٢)
هـ - ثَمَنُ الْمَشْفُوعِ فِيهِ:
٤١ - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَوْنِ ثَمَنِ الْمَشْفُوعِ فِيهِ هَل يَجِبُ حَالًّا، أَوْ يَجُوزُ فِيهِ التَّأْجِيل، فَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ يَجِبُ حَالًّا وَلَوْ كَانَ الثَّمَنُ مُؤَجَّلًا عَلَى الْمُشْتَرِي، وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّهُ إِذَا بِيعَ الْعَقَارُ مُؤَجَّلًا أَخَذَهُ الشَّفِيعُ إِلَى أَجَلِهِ (٣) .
الدُّيُونُ الْمُؤَجَّلَةُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ
أ - الدِّيَةُ: (٤)
٤٢ - لَمَّا كَانَتِ الدِّيَةُ قَدْ تَجِبُ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ (إِذَا عُفِيَ عَنِ الْقَاتِل، وَطَلَبَهَا أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُول، كَمَا هُوَ رَأْيُ
_________
(١) المغني والشرح الكبير ٤ / ٣٥٤، والروض المربع ٢ / ١٩٠، والأشباه والنظائر لابن نجيم ص ٣٥٧ وللسيوطى ص ٣٢٩، ورد المحتار٤ / ١٧٧
(٢) " المؤمنون عند شروطهم " تقدم تخريجه (ر: إجاره ف ٤٦) .
(٣) الاختيار ١ / ٢٢٠، ومغني المحتاج ٢ / ٣٠٠، والدسوقي ٣ / ٤٧٨، وكشاف القناع ٤ / ١٦٠ ط الرياض.
(٤) انظر مصطلح " دية " وهي اسم للضمان المالي الذي يجب بالجناية على الآدمي، أو على طرف منه.
الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ - أَوْ رَضِيَ أَوْلِيَاءُ الدَّمِ وَرَضِيَ الْقَاتِل بِدَفْعِهَا كَمَا هُوَ رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ)، وَفِي شِبْهِ الْعَمْدِ، وَفِي الْخَطَأِ، وَلَمَّا كَانَ الْفُقَهَاءُ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ أَدَائِهَا فِي كُل نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْقَتْل الَّذِي وَجَبَتْ فِيهِ، كَانَ لاَ بُدَّ مِنْ بَيَانِ آرَائِهِمْ فِيمَا يَكُونُ مِنْهَا حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلًا.
الدِّيَةُ فِي الْقَتْل الْعَمْدِ:
٤٣ - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْمَالِكِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) أَنَّهَا تَجِبُ فِي مَال الْقَاتِل حَالَّةً غَيْرَ مُؤَجَّلَةٍ وَلاَ مُنَجَّمَةٍ، وَذَلِكَ لأَِنَّ مَا وَجَبَ بِالْقَتْل الْعَمْدِ كَانَ حَالًّا، كَالْقِصَاصِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ حَالًّا، وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الدِّيَةِ الَّتِي تَجِبُ بِالصُّلْحِ، فَيَجْعَلُونَهَا حَالَّةً فِي مَال الْقَاتِل، وَبَيْنَ الَّتِي تَجِبُ بِسُقُوطِ الْقِصَاصِ بِشُبْهَةٍ، كَمَا إِذَا قَتَل الأَْبُ ابْنَهُ عَمْدًا، فَإِنَّهَا تَجِبُ فِي مَال الْقَاتِل فِي ثَلاَثِ سِنِينَ، وَذَلِكَ قِيَاسًا عَلَى الْقَتْل الْخَطَأِ (١) .
الدِّيَةُ فِي الْقَتْل شِبْهِ الْعَمْدِ:
٤٤ - تَجِبُ الدِّيَةُ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْقَتْل عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي ثَلاَثِ سِنِينَ، وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، (وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ ﵃، وَبِهِ قَال الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَقَتَادَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ) . وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ وَعَلِيًّا قَضَيَا بِالدِّيَةِ عَلَى
_________
(١) فتح القدير ٩ / ٢٠٤، ٢٣١ وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير ٤ / ٢٥٠، ٢٥٣، ومغني المحتاج ٤ / ٩٥، ٩٧، والروض المربع ٢ / ٣٣٧، ٣٤٤
الْعَاقِلَةِ فِي ثَلاَثِ سِنِينَ (١)، وَلاَ مُخَالِفَ لَهُمَا فِي عَصْرِهِمَا فَكَانَ إِجْمَاعًا، وَلأَِنَّ الْمَرْوِيَّ عَنْهُمَا كَالْمَرْوِيِّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ لأَِنَّهُ مِمَّا لاَ يُعْرَفُ بِالرَّأْيِ (٢) .
الدِّيَةُ فِي الْقَتْل الْخَطَأِ:
٤٥ - يَرَى جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الدِّيَةَ فِي الْقَتْل الْخَطَأِ تَكُونُ مُؤَجَّلَةً لِمُدَّةِ ثَلاَثِ سَنَوَاتٍ، يُؤْخَذُ فِي كُل سَنَةٍ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَيَجِبُ فِي آخِرِ كُل سَنَةٍ، وَهُوَ رَأْيُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي ثَلاَثِ سِنِينَ، وَقَدْ قَال هَذَا أَيْضًا عَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَقَدْ عَزَاهُ الإِْمَامُ الشَّافِعِيُّ فِي الْمُخْتَصَرِ إِلَى قَضَاءِ رَسُول اللَّهِ ﷺ وَقَدْ نَقَل الرَّافِعِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ الإِْجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ (٣) .
ب - الْمُسْلَمُ فِيهِ (٤):
٤٦ - لَمَّا كَانَ السَّلَمُ هُوَ شِرَاءُ آجِلٍ بِعَاجِلٍ، وَالآْجِل هُوَ الْمُسْلَمُ فِيهِ، فَقَدِ اشْتَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ
_________
(١) روي أن عمر وعليا رضى الله عنهما " قضيا بالدية على العاقلة في ثلاث سنين " قضاء عمر: رواه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق. (نصب الراية ٤ / ٣٩٨) . ورواه البيهقى (٨ / ١٠٩) وقضاء على: رواه البيهقي (٨ / ١١٠) .
(٢) فتح القدير ٩ / ١٤٤، والمغني والشرح الكبير ٩ / ٤٩٢ مع ملاحظة أن المالكية يرون أن الجناية إما عمد أو خطأ ولا ثالث لهما.
(٣) نيل الأوطار ٧ / ٧٦، والمغني والشرح الكبير ٩ / ٤٩٧، والدسوقي ٤ / ٢٨٥، ونهاية المحتاج ٧ / ٣٠١، وابن عابدين ٥ / ٤١١.
(٤) راجع مصطلح: " سلم ".