الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ١٨
فَهَذِهِ الْحُقُوقُ وَمَا شَابَهَهَا يَجُوزُ إِسْقَاطُهَا، لأَِنَّ كُل صَاحِبِ حَقٍّ لاَ يُمْنَعُ مِنْ إِسْقَاطِ حَقِّهِ مَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَانِعٌ. (١)
وَمِنَ الْمَوَانِعِ الَّتِي تَمْنَعُ إِسْقَاطَ مِثْل هَذِهِ الْحُقُوقِ مَا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ.
فَمِمَّا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَى مَنْعِ إِسْقَاطِهِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ، كَحَقِّ الصَّغِيرِ فِي النَّسَبِ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْحَقُّ فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِمَنْ لَحِقَ بِهِ الصَّغِيرُ إِسْقَاطُ النَّسَبِ، فَمَنْ أَقَرَّ بِابْنٍ، أَوْ هُنِّئَ بِهِ فَسَكَتَ فَقَدِ الْتَحَقَ بِهِ، وَلاَ يَصِحُّ لَهُ إِسْقَاطُ نَسَبِهِ بَعْدَ ذَلِكَ. (٢)
وَمِنْ ذَلِكَ تَصَرُّفُ الْمُفْلِسِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِلْفَلَسِ، فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ حَقِّ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ تَصَرُّفًا مُسْتَأْنَفًا، كَوَقْفٍ وَعِتْقٍ وَإِبْرَاءٍ وَعَفْوٍ مَجَّانًا، وَذَلِكَ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِمَالِهِ. (٣)
وَمِنْ أَمْثِلَةِ مَا هُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ صِفَاتُ الْحُقُوقِ كَالأَْجَل وَالْجَوْدَةِ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: صِفَاتُ الْحُقُوقِ لاَ تُفْرَدُ بِالإِْسْقَاطِ فِي الأَْصَحِّ فَلاَ يَسْقُطُ الأَْجَل، وَمِثْلُهُ الْجَوْدَةُ بِالإِْسْقَاطِ فِي حِينِ أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. (٤)
_________
(١) البدائع ٥ / ٢٩٧ وشرح منتهى الإرادات ٢ / ٢٦٠.
(٢) الكافي لابن عبد البر ٢ / ٦١٦ ونهاية المحتاج ٧ / ١١٦ والمغني ٧ / ٤٢٤.
(٣) الدسوقي ٣ / ٢٦٥ ونهاية المحتاج ٤ / ٣٠٥ - ٣٠٦ ومنتهى الإرادات ٢ / ٢٧٨.
(٤) أشباه ابن نجيم / ١٢٠ والمنثور في القواعد ٢ / ٣١٥ - ٣١٦.
وَغَيْرُ ذَلِكَ كَإِسْقَاطِ الْمَجْهُول، وَإِسْقَاطِ الْحَقِّ قَبْل وُجُوبِهِ، وَبَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ.
وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (إِبْرَاءٌ - إِسْقَاطٌ) .
وَأَمَّا الاِعْتِيَاضُ عَنِ الْحُقُوقِ فَالْقَاعِدَةُ عِنْدَ بَعْضِ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْحَقَّ إِذَا كَانَ مُجَرَّدًا عَنِ الْمِلْكِ فَإِنَّهُ لاَ يَجُوزُ الاِعْتِيَاضُ عَنْهُ، كَحَقِّ الشُّفْعَةِ، فَلَوْ صَالَحَ عَنْهُ بِمَالٍ بَطَل حَقُّهُ فِي الشُّفْعَةِ وَيَرْجِعُ بِهِ. إِلَخْ.
وَحَقُّ الْقَسْمِ لِلزَّوْجَةِ، وَحَقُّ الْخِيَارِ فِي النِّكَاحِ لِلْمُخَيَّرَةِ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا مُنْفَرِدًا فِي الْمَحَل الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ صَحَّ الاِعْتِيَاضُ عَنْهُ، كَحَقِّ الْقِصَاصِ، وَمِلْكِ النِّكَاحِ، وَحَقِّ الرِّقِّ، وَقَال آخَرُونَ مِنْهُمْ: إِنَّ الْحَقَّ إِذَا كَانَ شُرِعَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ فَلاَ يَجُوزُ الاِعْتِيَاضُ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ ثُبُوتُهُ عَلَى وَجْهِ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ فَيَكُونُ ثَابِتًا لِصَاحِبِهِ أَصَالَةً فَيَصِحُّ الاِعْتِيَاضُ عَنْهُ. (١)
أَمَّا غَيْرُ الْحَنَفِيَّةِ فَلَمْ يُشِيرُوا إِلَى قَاعِدَةٍ يُمْكِنُ الاِسْتِنَادُ إِلَيْهَا فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ، لَكِنْ بَعْدَ التَّتَبُّعِ لِبَعْضِ الْمَسَائِل يُمْكِنُ أَنْ يُقَال فِي الْجُمْلَةِ: إِنَّ الشَّافِعِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ (٢) يَعْتَبِرُونَ أَنَّ الْحَقَّ الَّذِي لاَ يَئُول إِلَى الْمَال، أَوْ مَا لَيْسَ عَيْنًا وَلاَ مَنْفَعَةً
_________
(١) أشباه ابن نجيم / ٢١٢ وابن عابدين ٤ / ١٤ - ١٥ والبدائع ٦ / ٤٩، ٥ / ٢١.
(٢) نهاية المحتاج ٦ / ٣٨٢ والمهذب ١ / ٢٩١، ٣٨٧ والمنثور ٣ / ٣٩٤، والقواعد لابن رجب / ١٩٩ وشرح منتهى الإرادات ٢ / ٢٦٦ وكشاف القناع ٥ / ٢٠٦ والمغني ٤ / ١٦٢.
كَحَقِّ الشُّفْعَةِ، وَحَقِّ خِيَارِ الشَّرْطِ، وَهِبَةِ الزَّوْجَةِ يَوْمَهَا لِضَرَّتِهَا، فَهَذَا لاَ يَجُوزُ الاِعْتِيَاضُ عَنْهُ، أَمَّا مَا كَانَ يَئُول إِلَى مَالٍ كَحَقِّ الْقِصَاصِ وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ الاِعْتِيَاضُ عَنْهُ. وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ إِذْ أَنَّ ابْنَ تَيْمِيَّةَ أَجَازَ لِلزَّوْجَةِ أَخْذَ الْعِوَضِ عَنْ هِبَتِهَا يَوْمَهَا لِضَرَّتِهَا وَعَنْ سَائِرِ حُقُوقِهَا مِنَ الْقَسْمِ، كَمَا أَنَّهُ فِي رِوَايَةٍ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ جَوَازُ الاِعْتِيَاضِ عَنْ حَقِّ الشُّفْعَةِ مِنَ الْمُشْتَرِي لاَ مِنْ غَيْرِهِ، وَيُؤْخَذُ مِنَ الْمَسَائِل الَّتِي وَرَدَتْ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُمْ يُجِيزُونَ أَخْذَ الْعِوَضِ عَنْ كُل حَقٍّ ثَبَتَ لِلإِْنْسَانِ فَيَجُوزُ عِنْدَهُمُ الاِعْتِيَاضُ عَنِ الشُّفْعَةِ وَعَنْ هِبَةِ الزَّوْجَةِ يَوْمَهَا لِضَرَّتِهَا وَغَيْرَ ذَلِكَ. (١)
وَيُنْظَرُ ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِهِ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.
تَقْسِيمُ الْحُقُوقِ بِاعْتِبَارِ مَعْقُولِيَّةِ الْمَعْنَى:
٢٧ - قَسَّمَ الشَّاطِبِيُّ الْحُقُوقَ بِاعْتِبَارِ مَعْقُولِيَّةِ الْمَعْنَى وَعَدَمِ مَعْقُولِيَّةِ الْمَعْنَى (التَّعَبُّدِيِّ) إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
الْقِسْمُ الأَْوَّل: مَا هُوَ حَقُّ اللَّهِ خَالِصًا.
مِثْل: الْعِبَادَاتِ، لأَِنَّ الأَْصْل فِي تَنْفِيذِ حَقِّ اللَّهِ هُوَ التَّعَبُّدُ.
حُكْمُهُ: إِذَا طَابَقَ الْفِعْل الأَْمْرَ صَحَّ الْفِعْل،
_________
(١) الدسوقي ٢ / ٣٤١ ومنح الجليل ٢ / ١٧٤، ٦٦٨، ٣ / ٥٩١ وفتح العلي المالك ١ / ٣٠٧ - ٣١٣، وكشاف القناع ٥ / ٢٠٦.
وَإِذَا لَمْ يُطَابِقِ الْفِعْل الأَْمْرَ لاَ يَصِحُّ الْفِعْل، وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ الأَْصْل فِي التَّعَبُّدِ رُجُوعُهُ إِلَى عَدَمِ مَعْقُولِيَّةِ الْمَعْنَى، بِحَيْثُ لاَ يَصِحُّ فِيهِ إِجْرَاءُ الْقِيَاسِ، وَإِذَا لَمْ يُعْقَل مَعْنَاهُ دَل عَلَى أَنَّ قَصْدَ الشَّارِعِ فِيهِ هُوَ الْوُقُوفُ عِنْدَ مَا حَدَّهُ الشَّارِعُ، بِحَيْثُ لاَ يَتَعَدَّاهُ. مِثْل بَعْضِ أَفْعَال الصَّلاَةِ وَالْحَجِّ. (١) وَانْظُرْ مُصْطَلَحَ (تَعَبُّدِيٌّ) .
الْقِسْمُ الثَّانِي: مَا هُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْعَبْدِ، وَالْمُغَلَّبُ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ، وَالأَْصْل فِي حَقِّ اللَّهِ عَدَمُ مَعْقُولِيَّةِ الْمَعْنَى.
مِثْل: قَتْل النَّفْسِ، لأَِنَّهُ لَيْسَ لِلشَّخْصِ خِيَرَةٌ أَوْ حَقٌّ فِي أَنْ يُسْلِمَ نَفْسَهُ لِلْقَتْل لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ كَالْفِتَنِ وَنَحْوِهَا، كَمَا أَنَّهُ لاَ يَمْلِكُ الاِعْتِدَاءَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْقَتْل، لِحَقِّ اللَّهِ أَوِ الاِعْتِدَاءِ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ.
وَحَقُّ اللَّهِ هُوَ الْمُعْتَبَرُ وَالْمُغَلَّبُ.
حُكْمُهُ: مِثْل الْقِسْمِ الأَْوَّل وَرَاجِعٌ لَهُ فِي أَنَّ الأَْصْل فِيهِ عَدَمُ مَعْقُولِيَّةِ الْمَعْنَى، لأَِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْحَقَّيْنِ هُوَ حَقُّ اللَّهِ، فَصَارَ حَقُّ الْعَبْدِ مُطْرَحًا شَرْعًا، فَكَأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، لأَِنَّ حَقَّ الْعَبْدِ لَوْ كَانَ مُعْتَبَرًا تَغَلَّبَ حَقُّهُ، وَالْمَفْرُوضُ: أَنَّ حَقَّ اللَّهِ هُوَ الْمُغَلَّبُ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا اشْتَرَكَ فِيهِ الْحَقَّانِ وَحَقُّ الْعَبْدِ هُوَ الْمُغَلَّبُ. وَأَصْلُهُ مَعْقُولِيَّةُ الْمَعْنَى. فَإِذَا
_________
(١) الموافقات ٢ / ٣١٨.
طَابَقَ مُقْتَضَى الأَْمْرِ وَالنَّهْيِ فَلاَ إِشْكَال فِي الصِّحَّةِ، لِحُصُول مَصْلَحَةِ الْعَبْدِ بِذَلِكَ عَاجِلًا أَوْ آجِلًا حَسْبَمَا يَتَهَيَّأُ لَهُ. وَإِنْ وَقَعَتِ الْمُخَالَفَةُ فَهُنَا نَظَرٌ، أَصْلُهُ الْمُحَافَظَةُ عَلَى تَحْصِيل مَصْلَحَةِ الْعَبْدِ. فَإِمَّا أَنْ يَحْصُل مَعَ ذَلِكَ حَقُّ الْعَبْدِ وَلَوْ بَعْدَ الْوُقُوعِ، عَلَى حَدِّ مَا كَانَ يَحْصُل عِنْدَ الْمُطَابَقَةِ أَوْ أَبْلَغُ، أَوْ لاَ. فَإِنْ فُرِضَ غَيْرُ حَاصِلٍ فَالْعَمَل بَاطِلٌ، لأَِنَّ مَقْصُودَ الشَّارِعِ لَمْ يَحْصُل. وَإِنْ حَصَل - وَلاَ يَكُونُ حُصُولُهُ إِلاَّ مُسَبَّبًا عَنْ سَبَبٍ آخَرَ غَيْرَ السَّبَبِ الْمُخَالِفِ - صَحَّ وَارْتَفَعَ مُقْتَضَى النَّهْيِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَقِّ الْعَبْدِ. وَلِذَلِكَ يُصَحِّحُ مَالِكٌ بَيْعَ الْمُدَبَّرِ إِذَا أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي، لأَِنَّ النَّهْيَ لأَِجْل فَوْتِ الْعِتْقِ. فَإِذَا حَصَل فَلاَ مَعْنَى لِلْفَسْخِ عِنْدَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَقِّ الْمَمْلُوكِ. وَكَذَلِكَ يُصَحَّحُ الْعَقْدُ فِيمَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ إِذَا أَسْقَطَ ذُو الْحَقِّ حَقَّهُ، لأَِنَّ النَّهْيَ قَدْ فَرَضْنَاهُ لِحَقِّ الْعَبْدِ، فَإِذَا رَضِيَ بِإِسْقَاطِهِ فَلَهُ ذَلِكَ. وَأَمْثِلَةُ هَذَا الْقِسْمِ كَثِيرَةٌ. فَإِذَا رَأَيْتَ مَنْ يُصَحِّحُ الْعَمَل الْمُخَالِفَ بَعْدَ الْوُقُوعِ، فَذَلِكَ لأَِحَدِ الأُْمُورِ الثَّلاَثَةِ. (١)
أَمَّا الْعِبَادَاتُ فَمِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى الَّذِي لاَ يَحْتَمِل الشَّرِكَةَ، فَهِيَ مَصْرُوفَةٌ إِلَيْهِ.
وَأَمَّا الْعَادَاتُ فَهِيَ أَيْضًا مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى النَّظَرِ الْكُلِّيِّ، وَلِذَلِكَ لاَ يَجُوزُ تَحْرِيمُ
_________
(١) الموافقات ٢ / ٣٢٠.
مَا أَحَل اللَّهُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، فَقَدْ قَال تَعَالَى: ﴿قُل مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ (١) وَقَال تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَل اللَّهُ لَكُمْ﴾ (٢) . فَنَهَى عَنِ التَّحْرِيمِ وَجَعَلَهُ تَعَدِّيًا عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَمَّا هَمَّ بَعْضُ أَصْحَابِهِ بِتَحْرِيمِ بَعْضِ الْمُحَلَّلاَتِ قَال ﵊: مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي (٣) وَذَمُّ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِمَّا وَضَعَهُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿مَا جَعَل اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ﴾ وَقَوْلِهِ: ﴿وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ﴾ (٤) . فَذَمَّهُمْ عَلَى أَشْيَاءَ فِي الأَْنْعَامِ وَالْحَرْثِ اخْتَرَعُوهَا، مِنْهَا التَّحْرِيمُ. وَهُوَ الْمَقْصُودُ هَاهُنَا.
وَأَيْضًا فَفِي الْعَادَاتِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ جِهَةِ وَجْهِ الْكَسْبِ وَوَجْهِ الاِنْتِفَاعِ، لأَِنَّ حَقَّ الْغَيْرِ مُحَافَظٌ عَلَيْهِ شَرْعًا أَيْضًا، وَلاَ خِيرَةَ فِيهِ لِلْعَبْدِ، فَهُوَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى صَرْفًا فِي حَقِّ الْغَيْرِ، حَتَّى يَسْقُطَ حَقُّهُ بِاخْتِيَارِهِ فِي بَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ، لاَ فِي
_________
(١) سورة الأعراف / ٣٢.
(٢) سورة المائدة / ٨٧.
(&# x٦٦٣ ;) حديث: " من رغب عن سنتي فليس مني. . . " أخرجه البخاري (الفتح ٩ / ١٠٤ - ط السلفية) ومسلم (٢ / ١٠٢٠ - ط الحلبي) من حديث أنس.
(٤) سورة الأنعام / ١٣٨.
الأَْمْرِ الْكُلِّيِّ. (١) وَنَفْسُ الْمُكَلَّفِ أَيْضًا دَاخِلَةٌ فِي هَذَا الْحَقِّ، إِذْ لَيْسَ لَهُ التَّسْلِيطُ عَلَى نَفْسِهِ وَلاَ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ بِالإِْتْلاَفِ.
فَإِذًا الْعَادِيَّاتُ يَتَعَلَّقُ بِهَا حَقُّ اللَّهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا " مِنْ جِهَةِ الْوَضْعِ الأَْوَّل الْكُلِّيِّ الدَّاخِل تَحْتَ الضَّرُورِيَّاتِ، " الثَّانِي " مِنْ جِهَةِ الْوَضْعِ التَّفْصِيلِيِّ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْعَدْل بَيْنَ الْخَلْقِ، وَإِجْرَاءِ الْمَصْلَحَةِ عَلَى وَفْقِ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ، فَصَارَ الْجَمِيعُ ثَلاَثَةَ أَقْسَامٍ، وَفِي الْعَادِيَّاتِ أَيْضًا حَقٌّ لِلْعَبْدِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا " جِهَةُ الدَّارِ الآْخِرَةِ، وَهُوَ كَوْنُهُ مُجَازًى عَلَيْهِ بِالنَّعِيمِ، مُوقًى بِسَبَبِهِ عَذَابَ الْجَحِيمِ " وَالثَّانِي " جِهَةُ أَخْذِهِ لِلنِّعْمَةِ عَلَى أَقْصَى كَمَالِهَا فِيمَا يَلِيقُ بِالدُّنْيَا لَكِنْ بِحَسَبِهِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، كَمَا قَال تَعَالَى: ﴿قُل هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ (٢) .
الْحَقُّ الْمَحْدُودُ الْمِقْدَارِ وَالْحَقُّ غَيْرُ الْمَحْدُودِ:
٢٨ - تَنْقَسِمُ الْحُقُوقُ بِاعْتِبَارِ التَّحْدِيدِ وَالتَّقْدِيرِ وَعَدَمِهِ إِلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
_________
(١) قال الشيخ عبد الله دراز: أي فليس كل حق للعبد له إسقاطه، فالنفس للشخص حق المحافظة عليها ولله ذلك الحق أيضا ولكنه لا يسقط إذا أسقطه العبد بتعريضها للتلف بل يؤاخذ المعتدي والمتعرض. وهكذا كل الضروريات العادية من عقل ونسل ومال. وهو ما يشير إليه قوله (من ج
(٢) سورة الأعراف / ٣٢.
حَقٌّ مَحْدُودٌ، وَحَقٌّ غَيْرُ مَحْدُودٍ، وَحَقٌّ مُخْتَلَفٌ فِيهِ.
الْقِسْمُ الأَْوَّل: الْحَقُّ الْمَحْدُودُ وَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي بَيَّنَ الشَّرْعُ أَوِ الاِلْتِزَامُ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ. مِثْل: الْفَرَائِضِ الْخَمْسِ فِي الصَّلاَةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَالْمَقَادِيرِ الْوَاجِبِ إِخْرَاجُهَا فِي الزَّكَاةِ حَسَبَ أَنْوَاعِهَا، وَذَلِكَ فِي الْعِبَادَاتِ. أَمَّا فِي الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ، فَمِثْل: أَثْمَانِ الْمُشْتَرَيَاتِ فِي الْعُقُودِ، وَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ.
حُكْمُ الْحَقِّ الْمَحْدُودِ:
٢٩ - لِلْحَقِّ الْمَحْدُودِ الْمِقْدَارِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
١ - أَنَّهُ مَطْلُوبُ الأَْدَاءِ.
٢ - يَتَعَلَّقُ بِذِمَّةِ مَنْ عَلَيْهِ أَدَاءُ الْحَقِّ، وَذَلِكَ بِمُجَرَّدِ وُجُودِ سَبَبِهِ، وَيَصِيرُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ.
٣ - لاَ تَبْرَأُ الذِّمَّةُ مِنْهُ إِلاَّ بِأَدَاءِ الْمِقْدَارِ الْمُحَدَّدِ، عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي عَيَّنَهُ الشَّرْعُ أَوِ الاِلْتِزَامُ وَبَيَّنَهُ، لأَِنَّ التَّحْدِيدَ مُشْعِرٌ بِقَصْدِ الشَّارِعِ أَوِ الاِلْتِزَامِ.
٤ - لاَ يَسْقُطُ عِنْدَ عَدَمِ الأَْدَاءِ بِالسُّكُوتِ أَوْ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ.
٥ - يُؤَدَّى عَنِ الْمُدَّةِ السَّابِقَةِ.
٦ - لاَ يَتَوَقَّفُ ثُبُوتُهُ عَلَى الرِّضَا أَوْ حُكْمِ الْقَاضِي أَوِ الْمُصَالَحَةِ، لأَِنَّهُ مُحَدَّدٌ مِنْ قَبْل مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ أَوِ الاِلْتِزَامِ.
٧ - حُكْمُ الْقَاضِي بِهِ مُظْهِرٌ لِلْحَقِّ لاَ مُثْبِتٌ لَهُ، لأَِنَّهُ ثَابِتٌ مِنْ وَقْتِ تَحْدِيدِهِ عَلَى الْمُكَلَّفِ.
٨ - لاَ يَسْقُطُ هَذَا الْحَقُّ عِنْدَ عَدَمِ الأَْدَاءِ إِلاَّ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ فِي حَقِّ اللَّهِ، مِثْل: سُقُوطِ الصَّلاَةِ عَنِ الْحَائِضِ، أَمَّا فِي حَقِّ الشَّخْصِ فَيَسْقُطُ بِإِبْرَاءِ الذِّمَّةِ. وَحَقُّ اللَّهِ الْمَحْدُودُ لاَحِقٌ بِضَرُورِيَّاتِ الدِّينِ. (١)
الْقِسْمُ الثَّانِي: الْحَقُّ غَيْرُ الْمَحْدُودِ:
٢٩ م - هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَمْ يُعَيِّنِ الشَّرْعُ أَوِ الاِلْتِزَامُ مِقْدَارَهُ، مَعَ وُجُودِ التَّكْلِيفِ بِهِ. مِثْل: الصَّدَقَاتِ، وَالإِْنْفَاقِ فِي سَبِيل اللَّهِ، وَالإِْنْفَاقِ عَلَى الأَْقَارِبِ، وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ، وَسَدِّ حَاجَةِ الْمُحْتَاجِينَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي لَمْ تُحَدَّدْ، وَذَلِكَ لِتَعَذُّرِ تَحْدِيدِ هَذِهِ الْحُقُوقِ بِالنِّسْبَةِ لِظُرُوفِ كُل حَقٍّ، حَيْثُ تَخْتَلِفُ الْمَقَادِيرُ الْمَطْلُوبَةُ حَسَبَ الأَْزْمِنَةِ وَالأَْمْكِنَةِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَكَذَلِكَ الْحَال بِالنِّسْبَةِ لِلأَْشْخَاصِ - الْمُؤَدَّى لَهُ الْحَقُّ وَالْمُؤَدِّي - وَذَلِكَ لأَِنَّ الْمَطْلُوبَ أَدَاءُ الْحَقِّ عَلَى أَكْمَل وَجْهٍ، وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ كُل حَقٍّ، فَتَرَكَ التَّحْدِيدَ بَادِئَ ذِي بَدْءٍ لِيَتَحَدَّدَ قَدْرُ الْمَطْلُوبِ حَسَبَ كُل حَالَةٍ عَلَى حِدَةٍ.
حُكْمُ الْحَقِّ غَيْرِ الْمَحْدُودِ:
٣٠ - لِلْحَقِّ غَيْرِ الْمَحْدُودِ أَحْكَامٌ مِنْهَا:
١ - أَنَّهُ مَطْلُوبُ الأَْدَاءِ.
_________
(١) الموافقات في أصول الشريعة، قاعدة الضروريات (١ / ١٥٦ - ١٦١) .
٢ - لاَ يَتَعَلَّقُ بِذِمَّةِ مَنْ عَلَيْهِ الأَْدَاءُ بِمُجَرَّدِ وُجُودِ السَّبَبِ، وَلِذَلِكَ لاَ يَصِيرُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، لأَِنَّ الذِّمَمَ لاَ يَتَعَلَّقُ بِهَا غَيْرُ الْمَحْدُودِ مِنَ الْحُقُوقِ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ الْحَقُّ الْمَحْدُودُ وَالْمُقَدَّرُ، لِيَتَيَسَّرَ عَلَى الْمُكَلَّفِ الأَْدَاءُ.
٣ - الْحَقُّ غَيْرُ الْمَحْدُودِ لاَ يَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ إِلاَّ بَعْدَ التَّحْدِيدِ، وَالتَّحْدِيدُ يَكُونُ بِالتَّرَاضِي، أَوْ بِالصُّلْحِ، أَوْ بِحُكْمِ الْقَاضِي، لأَِنَّ التَّكْلِيفَ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ وَلِذَلِكَ لاَ يَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ إِلاَّ مِنْ وَقْتِ التَّحْدِيدِ.
٤ - لاَ يَجُوزُ الْمُطَالَبَةُ بِالْحَقِّ غَيْرِ الْمَحْدُودِ عَنِ الْمُدَّةِ السَّابِقَةِ لِلتَّحْدِيدِ، لأَِنَّ الذِّمَّةَ لَمْ تَكُنْ مَشْغُولَةً بِهِ.
٥ - يَسْقُطُ الْحَقُّ غَيْرُ الْمَحْدُودِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ وَالسُّكُوتِ عَنِ الْمُطَالَبَةِ بِهِ.
٦ - حَقُّ اللَّهِ غَيْرُ الْمَحْدُودِ لاَحِقٌ بِقَاعِدَةِ التَّحْسِينِ وَالتَّزْيِينِ، وَلِذَلِكَ تَرَكَ تَحْدِيدَهُ إِلَى الْمُكَلَّفِينَ وَنَظَرِ الْقَاضِي، لِتَقْدِيرِ كُل حَالَةٍ حَسَبَ الْحَاجَةِ. (١)
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: الْحَقُّ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ:
٣١ - هُوَ الْحَقُّ الَّذِي أُخِذَ بِشَبَهٍ مِنَ الْحَقِّ الْمَحْدُودِ، وَبِشَبَهٍ مِنَ الْحَقِّ غَيْرِ الْمَحْدُودِ. مِثْل: نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ
، حَيْثُ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي هَذَا الْحَقِّ، فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ
_________
(١) نفس المراجع.