الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ١٨ الصفحة 5

الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ١٨

مَنْ غَلَّبَ فِيهِ جَانِبَ الْعَبْدِ أَجَازَ الْعَفْوَ فِيهِ قَبْل الرَّفْعِ لِلْحَاكِمِ وَبَعْدَهُ وَهُمُ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ. وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يَجُوزُ الْعَفْوُ فِيهِ بَعْدَ الرَّفْعِ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ.

وَقَيَّدَ الْمَالِكِيَّةُ الْعَفْوَ بَعْدَ الرَّفْعِ لِلْحَاكِمِ بِمَا إِذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ يُرِيدُ السِّتْرَ عَلَى نَفْسِهِ، وَلاَ يُشْتَرَطُ هَذَا الْقَيْدُ بَيْنَ الاِبْنِ وَأَبِيهِ. (١)

وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْحُدُودِ، أَمَّا التَّعْزِيرُ فَمَا كَانَ مِنْهُ حَقًّا لِلآْدَمِيِّ جَازَ الْعَفْوُ عَنْهُ وَمَا كَانَ مِنْهُ حَقًّا لِلَّهِ فَهُوَ مَوْكُولٌ إِلَى الإِْمَامِ بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ. (٢)

وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مَوَاضِعِهِ مِنْ أَبْوَابِ الْفِقْهِ.

كَمَا أَنَّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى مَا شُرِعَ أَصْلًا لِمَصْلَحَةِ الْعِبَادِ، وَلِذَلِكَ لاَ يَسْقُطُ بِالإِْسْقَاطِ لِمُنَافَاةِ الإِْسْقَاطِ لِمَا هُوَ مَشْرُوعٌ، وَمِنْ ذَلِكَ وِلاَيَةُ الأَْبِ عَلَى الصَّغِيرِ، فَهِيَ مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي اعْتَبَرَهَا الشَّارِعُ وَصْفًا ذَاتِيًّا لِصَاحِبِهَا فَهِيَ لاَزِمَةٌ لَهُ وَلاَ تَنْفَكُّ عَنْهُ، فَحَقُّهُ ثَابِتٌ بِإِثْبَاتِ الشَّرْعِ، فَيُعْتَبَرُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ لاَ يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِ الْعَبْدِ. (٣)

_________

(١) البدائع ٧ / ٥٥ - ٥٦ والهداية ٢ / ١١٣ ومنح الجليل ٣ / ٤٢٤، ٤ / ٥١٥، والمهذب ٢ / ٢٧٥، ٢٨٤ والمنثور ٢ / ٢٤٩ والمغني ٨ / ٢١٧، ٢٨٢.

(٢) البدائع ٧ / ٦٤ - ٦٥ والدسوقي ٤ / ٣٥٤ ومغني المحتاج ٤ / ١٩٣ والمغني ٨ / ٣٢٦.

(٣) البدائع ٥ / ١٥٢، ٦ / ٤٨ وأشباه ابن نجيم / ١٦٠ وابن عابدين ٢ / ١٠٢ وشرح منتهى الإرادات ٢ / ٥٢٦ والمنثور ٣ / ٣٩٣.

وَمِنْ ذَلِكَ السُّكْنَى فِي بَيْتِ الْعِدَّةِ، فَعَلَى الْمُعْتَدَّةِ أَنْ تَعْتَدَّ فِي الْمَنْزِل الَّذِي يُضَافُ إِلَيْهَا بِالسُّكْنَى حَال وُقُوعِ الْفُرْقَةِ، وَالْبَيْتُ الْمُضَافُ إِلَيْهَا فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ﴾ (١) هُوَ الْبَيْتُ الَّذِي تَسْكُنُهُ، وَلاَ يَجُوزُ لِلزَّوْجِ وَلاَ لِغَيْرِهِ إِخْرَاجُ الْمُعْتَدَّةِ مِنْ مَسْكَنِهَا، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ وَإِنْ رَضِيَ الزَّوْجُ بِذَلِكَ، لأَِنَّ فِي الْعِدَّةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى وَإِخْرَاجُهَا أَوْ خُرُوجُهَا مِنْ مَسْكَنِ الْعِدَّةِ مُنَافٍ لِلْمَشْرُوعِ، فَلاَ يَجُوزُ لأَِحَدٍ إِسْقَاطُهُ. (٢) وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ وَيُنْظَرُ: (سُكْنَى - عِدَّةٌ) .

وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ، فَبَيْعُ الشَّيْءِ قَبْل رُؤْيَتِهِ يُثْبِتُ لِلْمُشْتَرِي خِيَارَ الرُّؤْيَةِ، فَلَهُ الأَْخْذُ وَلَهُ الرَّدُّ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ لِقَوْل النَّبِيِّ ﷺ: مَنِ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ فَلَهُ الْخِيَارُ إِذَا رَآهُ (٣) ". فَالْخِيَارُ هُنَا لَيْسَ بِاشْتِرَاطِ الْعَاقِدِينَ، وَإِنَّمَا هُوَ ثَابِتٌ شَرْعًا فَكَانَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَلِهَذَا لاَ يَجُوزُ

_________

(١) سورة الطلاق / ١.

(٢) لبدائع ٣ ٣؟ / ١٥٢، والهداية ٢ / ٣٢ وجواهر الإكليل ١ / ٣٩٢ ومغني المحتاج ٣ / ٤٠٢ وشرح منتهى الإرادات ٣ / ٢٣٠.

(٣) حديث: " من اشترى شيئا لم يره فله الخيار إذا رآه " أخرجه الدارقطني (٣ / ٥ - ط دار المحاسن) من حديث أبي هريرة وقال: " هذا باطل لا يصح، وإنما يروى عن ابن سيرين موقوفا عليه ".

إِسْقَاطُهُ وَلاَ يَسْقُطُ بِالإِْسْقَاطِ. وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ مَنْ يُجِيزُونَ بَيْعَ الشَّيْءِ الْغَائِبِ مَعَ مُرَاعَاةِ شَرَائِطِ ثُبُوتِ الْخِيَارِ. (١)

وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي " خِيَارِ الرُّؤْيَةِ ".

وَهَكَذَا فِي كُل مَا كَانَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى مِمَّا شُرِعَ لِمَصْلَحَةِ الْعِبَادِ لاَ يَجُوزُ إِسْقَاطُهُ.

وَمَا دَامَتْ حُقُوقُ اللَّهِ تَعَالَى لاَ تَقْبَل الإِْسْقَاطَ مِنَ الْعِبَادِ فَلاَ يَجُوزُ الاِعْتِيَاضُ عَنْ إِسْقَاطِهَا، فَلاَ يَصِحُّ أَنْ يُصَالِحَ أَحَدٌ سَارِقًا أَوْ شَارِبًا لِلْخَمْرِ لِيُطْلِقَهُ وَلاَ يَرْفَعَهُ لِلسُّلْطَانِ لأَِنَّهُ لاَ يَصِحُّ أَخْذُ الْعِوَضِ فِي مُقَابَلَتِهِ، وَكَذَا لاَ يَصِحُّ أَنْ يُصَالِحَ شَاهِدًا عَلَى أَنْ لاَ يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِحَقٍّ لِلَّهِ أَوْ لآِدَمِيٍّ، لأَِنَّ الشَّاهِدَ فِي إِقَامَةِ الشَّهَادَةِ مُحْتَسِبٌ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ﴾ (٢) وَالصُّلْحُ عَنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى بَاطِلٌ، وَيَجِبُ عَلَى مَنْ أَخَذَ عِوَضًا رَدُّهُ لأَِنَّهُ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ. (٣)

وَإِذَا كَانَتْ حُقُوقُ اللَّهِ ﷾ لاَ تَقْبَل الإِْسْقَاطَ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ، فَإِنَّهَا تَقْبَل الإِْسْقَاطَ مِنْ قِبَل صَاحِبِ الشَّرْعِ رَحْمَةً بِالْعِبَادِ وَتَخْفِيفًا عَنْهُمْ، وَلِذَلِكَ يَقُول الْفُقَهَاءُ: إِنَّ حُقُوقَ

_________

(١) البدائع ٥ / ٢٩٢، ٢٩٧، والهداية ٣ / ٣٢ والاختيار ٢ / ١٥ - ١٦، وأسهل المدارك ٢ / ٢٧٧، والفروق للقرافي ٣ / ٢٤٧، والمغني ٣ / ٥٨١.

(٢) سورة الطلاق / ٢.

(٣) البدائع ٦ / ٤٨ وشرح منتهى الإرادات ٢ / ٢٦٦ والذخيرة / ١٥٢.

اللَّهِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُسَامَحَةِ بِمَعْنَى أَنَّهُ ﷾ لَنْ يَلْحَقَهُ ضَرَرٌ فِي شَيْءٍ، وَمِنْ ثَمَّ قَبِل الرُّجُوعَ عَنِ الإِْقْرَارِ بِالزِّنَى فَيَسْقُطُ الْحَدُّ بِخِلاَفِ حُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ فَإِنَّهُمْ يَتَضَرَّرُونَ، وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ أَسْبَابِ سُقُوطِ الْحَدِّ الشُّبْهَةُ الْمُعْتَبَرَةُ (١)، لِقَوْل النَّبِيِّ ﷺ: ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ. (٢)

وَالْحَرَجُ وَالْمَشَقَّةُ الَّتِي تَلْحَقُ الْمُكَلَّفَ تَكُونُ سَبَبًا لإِسْقَاطِ بَعْضِ التَّكَالِيفِ عَمَّنْ تَلْحَقُهُمُ الْمَشَقَّةُ وَذَلِكَ تَفَضُّلًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَرَحْمَةً بِهِمْ، وَذَلِكَ كَإِسْقَاطِ الْعِبَادَاتِ وَالْعُقُوبَاتِ عَنِ الْمَجْنُونِ، وَإِسْقَاطِ بَعْضِ الْعِبَادَاتِ بِالنِّسْبَةِ لأَِصْحَابِ الأَْعْذَارِ كَالْمَرْضَى وَالْمُسَافِرِينَ لِمَا يَنَالُهُمْ مِنْ مَشَقَّةٍ.

وَقَدْ فَصَّل الْفُقَهَاءُ الْمَشَاقَّ وَأَنْوَاعَهَا، وَبَيَّنُوا لِكُل عِبَادَةٍ مَرْتَبَةً مُعَيَّنَةً مِنْ مَشَاقِّهَا الْمُؤَثِّرَةِ فِي إِسْقَاطِهَا، وَأَدْرَجُوا ذَلِكَ تَحْتَ قَاعِدَةِ: الْمَشَقَّةُ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ، أَخْذًا مِنْ قَوْله تَعَالَى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ (٣)، وقَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا جَعَل عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ

_________

(١) المنثور ٢ / ٥٩، ٢٢٥ والبدائع ٧ / ٦١ والفروق للقرافي ٤ / ١٧٢.

(٢) حديث: " ادرؤوا الحدود بالشبهات ". عزاه السخاوي في (المقاصد الحسنة) إلى أبي سعد السمعاني في كتابه " الذيل " وقال: " قال شيخنا - يعني ابن حجر: - في سنده من لا يعرف ". المقاصد (ص٣٠ - ط الخانجي) .

(٣) سورة البقرة / ١٨٥.

حَرَجٍ﴾ (١) . وَرَاجِعْ مُصْطَلَحَ (تَيْسِيرٌ) .

وَالْحُكْمُ الْمَبْنِيُّ عَلَى الأَْعْذَارِ يُسَمَّى رُخْصَةً، وَمِنْ أَقْسَامِ الرُّخْصَةِ مَا يُسَمَّى رُخْصَةَ إِسْقَاطٍ كَإِسْقَاطِ الصَّلاَةِ عَنِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ، وَإِسْقَاطُ الصَّوْمِ عَنِ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لاَ يَقْوَى عَلَى الصَّوْمِ (٢) .

بَل إِنَّ صَلاَةَ الْمُسَافِرِ قَصْرًا فَرْضٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَتُعْتَبَرُ رُخْصَةَ إِسْقَاطٍ لِقَوْل النَّبِيِّ ﷺ: صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ. (٣)

وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل أَنَّ التَّصَدُّقَ بِمَا لاَ يَحْتَمِل التَّمْلِيكَ إِسْقَاطٌ لاَ يَحْتَمِل الرَّدَّ، وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لاَ يَلْزَمُ طَاعَتُهُ كَوَلِيِّ الْقِصَاصِ، فَهُوَ مِنَ اللَّهِ الَّذِي تَلْزَمُ طَاعَتُهُ أَوْلَى. (٤)

وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا إِسْقَاطُ الْحُرْمَةِ فِي تَنَاوُل الْمُحَرَّمِ لِلضَّرُورَةِ كَأَكْل الْمُضْطَرِّ لِلْمَيْتَةِ وَإِسَاغَةِ اللُّقْمَةِ بِالْخَمْرِ لِمَنْ غُصَّ بِهَا، وَإِبَاحَةِ نَظَرِ الْعَوْرَةِ لِلطَّبِيبِ.

وَيَسْرِي هَذَا الْحُكْمُ عَلَى الْمُعَامَلاَتِ، فَمِنَ الرُّخْصَةِ مَا سَقَطَ مَعَ كَوْنِهِ مَشْرُوعًا فِي الْجُمْلَةِ،

_________

(١) سورة الحج / ٧٨.

(٢) الأشباه لابن نجيم / ٧٥ وما بعدها والفروق للقرافي ١ / ١١٨ - ١١٩، والمنثور ١ / ٢٥٣ وما بعدها.

(٣) حديث: " صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " أخرجه مسلم (١ / ٤٧٨ - ط الحلبي) من حديث عمر بن الخطاب.

(٤) التلويح ٢ / ١٣٠ وأشباه ابن نجيم / ٧٥.

وَذَلِكَ كَمَا فِي السَّلَمِ لِقَوْل الرَّاوِي: نَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الإِْنْسَانِ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ (١) وَالأَْصْل فِي الْبَيْعِ أَنْ يُلاَقِيَ عَيْنًا وَهَذَا مَشْرُوعٌ لَكِنَّهُ سَقَطَ فِي السَّلَمِ. (٢) وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي بَحْثِ: (تَيْسِيرٌ - رُخْصَةٌ - وَإِسْقَاطٌ) وَمَوَاضِعُهُ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ.

حُقُوقُ الْعِبَادِ:

٢٢ - حَقُّ الْعَبْدِ بِالنِّسْبَةِ لِلإِْسْقَاطِ وَعَدَمِهِ يَشْمَل الأَْعْيَانَ وَالْمَنَافِعَ وَالدُّيُونَ وَالْحُقُوقَ الْمُطْلَقَةَ وَهِيَ الَّتِي لَيْسَتْ عَيْنًا وَلاَ دَيْنًا وَلاَ مَنْفَعَةً. (٣)

وَالأَْصْل أَنَّ كُل صَاحِبِ حَقٍّ لاَ يُمْنَعُ مِنْ إِسْقَاطِ حَقِّهِ إِذَا كَانَ جَائِزَ التَّصَرُّفِ - بِأَنْ لَمْ يَكُنْ مَحْجُورًا عَلَيْهِ - وَكَانَ الْمَحَل قَابِلًا لِلإِْسْقَاطِ - بِأَنْ لَمْ يَكُنْ عَيْنًا أَوْ شَيْئًا مُحَرَّمًا - وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَانِعٌ

_________

(١) حديث: " نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم ". هذا الحديث يركب من حديثين: الأول: " لا تبع ما ليس عندك " أخرجه الترمذي من حديث حكيم بن حزام وحسنه، (تحفة الأحوذي ٤ / ٤٣٠ - ط السلفية بالمدينة المنورة) . وأما ترخيصه في السلم فقد ورد في صحيح البخاري (الفتح ٤ / ٤٢٨ - ط السلفية) ومسلم (٣ / ١٢٢٧ ط الحلبي) من حديث عبد الله بن عباس.

(٢) التلويح ٢ / ١٢٩ وأشباه ابن نجيم / ٧٥ وما بعدها ومسلم الثبوت ١ / ١١٨ والمنثور ٢ / ١٦٤.

(٣) البدائع ٦ / ٤٢ - ٤٨، ٧ / ٢٢٣ والدسوقي ٣ / ٣٠٩ - ٣١٠، ٤١١، والمنثور ٢ / ٦٧ وكشاف القناع ٣ / ٣٩٠ إلى ٤٠٠ والمغني ٩ / ٢٣٧ - ٢٣٨.

كَتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ. (١) وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:

أ - الْعَيْنُ:

٢٣ - الْعَيْنُ مَا تَحْتَمِل التَّعْيِينَ مُطْلَقًا جِنْسًا وَنَوْعًا وَقَدْرًا وَصِفَةً كَالْعُرُوضِ مِنَ الثِّيَابِ، وَالْعَقَارِ مِنَ الأَْرْضِينَ وَالدُّورِ، وَالْحَيَوَانِ مِنَ الدَّوَابِّ، وَالْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ (٢) .

وَمَالِكُ الْعَيْنِ يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا بِالنَّقْل عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. أَمَّا التَّصَرُّفُ فِيهَا بِالإِْسْقَاطِ بِأَنْ يَقُول الشَّخْصُ: أَسْقَطْتُ مِلْكِي فِي هَذِهِ الدَّارِ لِفُلاَنٍ، يُرِيدُ بِذَلِكَ زَوَال مِلْكِهِ وَثُبُوتَهُ لِغَيْرِهِ فَقَدْ قَال الْفُقَهَاءُ: إِنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ، لأَِنَّ الأَْعْيَانَ لاَ تَقْبَل الإِْسْقَاطَ وَهَذَا فِي الْجُمْلَةِ، إِذْ أَنَّ الْعِتْقَ يُعْتَبَرُ إِسْقَاطًا لِمِلْكِ الرَّقَبَةِ وَهِيَ عَيْنٌ، وَالْوَقْفُ كَذَلِكَ يُعْتَبَرُ إِسْقَاطًا لِلْمِلْكِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ. (٣)

وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي بَحْثَيْ: (إِبْرَاءٌ - إِسْقَاطٌ) .

ب - الدَّيْنُ:

٢٤ - الدَّيْنُ يَجُوزُ إِسْقَاطُهُ وَالاِعْتِيَاضُ عَنْهُ بِاتِّفَاقٍ

_________

(١) البدائع ٦ / ٢٦٣ - ٢٦٤ والفروق ١ / ١٩٥ وشرح منتهى الإرادات ٢ / ٢٦٠ والمنثور ٣ / ٣٩٣.

(٢) البدائع ٦ / ٤٢.

(٣) أشباه ابن نجيم / ٣٥٢ وتكملة حاشية ابن عابدين ٢ / ١٤٣ - ١٤٤، والدسوقي ٣ / ٤١١ وقليوبي ٣ / ١٣ وشرح منتهى الإرادات ٢ / ٢٦٣.

سَوَاءٌ أَكَانَ الدَّيْنُ ثَمَنَ مَبِيعٍ، أَمْ كَانَ مُسْلَمًا فِيهِ، أَمْ كَانَ نَفَقَةً مَفْرُوضَةً مَاضِيَةً لِلزَّوْجَةِ، أَمْ غَيْرَ ذَلِكَ.

وَكَمَا يَجُوزُ إِسْقَاطُ كُل الدَّيْنِ يَجُوزُ إِسْقَاطُ بَعْضِهِ وَتَخْتَلِفُ الْكَيْفِيَّةُ الَّتِي يَتِمُّ بِهَا الاِعْتِيَاضُ فَقَدْ يَكُونُ فِي صُورَةِ صُلْحٍ، أَوْ خُلْعٍ، أَوْ تَعْلِيقٍ عَلَى حُصُول شَيْءٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ. (١)

وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَا جَاءَ فِي ابْنِ عَابِدِينَ: إِذَا أَبْرَأَتِ الزَّوْجَةُ زَوْجَهَا مِنَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ لِيُطَلِّقَهَا، صَحَّ الإِْبْرَاءُ وَيَكُونُ بِعِوَضٍ وَهُوَ مِلْكُهَا نَفْسَهَا. (٢)

وَيَقُول الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا أَعْطَى الْمَدِينُ الدَّائِنَ ثَوْبًا فِي مُقَابَلَةِ إِبْرَائِهِ مِمَّا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، فَيَمْلِكُ الدَّائِنُ الْعِوَضَ الْمَبْذُول لَهُ نَظِيرَ الإِْبْرَاءِ وَيَبْرَأُ الْمَدِينُ. (٣)

وَقَدْ جَعَل الْقَرَافِيُّ مِنْ أَقْسَامِ الإِْسْقَاطِ بِعِوَضٍ: الصُّلْحَ عَنِ الدَّيْنِ (٤) .

وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي: (إِبْرَاءٌ - إِسْقَاطٌ) .

ج - الْمَنَافِعُ:

٢٥ - الْمَنَافِعُ كَذَلِكَ يَجُوزُ إِسْقَاطُهَا، سَوَاءٌ أَكَانَ

_________

(١) ابن عابدين ٢ / ٦٥٣ والبدائع ٥ / ٢٠٣ - ٢١٤، ٦ / ٤٤ والدسوقي ٣ / ٢٢٠، ٣١٠ والمهذب ١ / ٤٥٥ وقليوبي ٢ / ٣٠٨، ٤ / ٣٦٨، والوجيز ١ / ١٧٧ وشرح منتهى الإرادات ٣ / ٢٢٢ - ٢٣٣، ٥٢١، والمغني ٥ / ٢٢.

(٢) ابن عابدين ٢ / ٥٦٦.

(٣) الجمل على شرح المنهج ٣ / ٣٨١ ونهاية المحتاج ٤ / ٤٢٩.

(٤) الذخيرة / ١٥٢.

الْمُسْقِطُ مَالِكًا لِلرَّقَبَةِ وَالْمَنْفَعَةِ، أَمْ كَانَ مَالِكًا لِلْمَنْفَعَةِ فَقَطْ بِمُقْتَضَى عَقْدٍ، كَالإِْجَارَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَالْوَصِيَّةِ بِالْمَنْفَعَةِ، أَمْ بِغَيْرِ عَقْدٍ كَتَحْجِيرِ الْمَوَاتِ لإِحْيَائِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ الاِخْتِصَاصُ بِمَقَاعِدِ الأَْسْوَاقِ وَمَا شَابَهَ ذَلِكَ، فَالْمَنَافِعُ تَقْبَل الإِْسْقَاطَ بِإِسْقَاطِ مُسْتَحِقِّ الْمَنْفَعَةِ مَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَانِعٌ. (١)

وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِسُكْنَى دَارِهِ فَمَاتَ الْمُوصِي وَبَاعَ الْوَارِثُ الدَّارَ وَرَضِيَ الْمُوصَى لَهُ جَازَ الْبَيْعُ وَبَطَلَتْ سُكْنَاهُ، وَكَذَا لَوْ لَمْ يَبِعِ الْوَارِثُ الدَّارَ وَلَكِنْ قَال الْمُوصَى لَهُ بِالْمَنْفَعَةِ: أَسْقَطْتُ حَقِّي سَقَطَ حَقُّهُ بِالإِْسْقَاطِ. (٢)

وَأَمَاكِنُ الْجُلُوسِ فِي الْمَسَاجِدِ وَالأَْسْوَاقِ يَجُوزُ لِلْمُنْتَفِعِ بِهَا إِسْقَاطُ الْحَقِّ فِيهَا (٣) . هَذَا بِالنِّسْبَةِ لإِسْقَاطِهَا بِدُونِ عِوَضٍ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لإِسْقَاطِهَا بِعِوَضٍ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى قَاعِدَةِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ وَمِلْكِ الاِنْتِفَاعِ، فَمَنْ مَلَكَ الْمَنْفَعَةَ مَلَكَ الْمُعَاوَضَةَ عَلَيْهَا، وَمَنْ مَلَكَ الاِنْتِفَاعَ فَقَطْ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ الإِْسْقَاطَ وَلَكِنْ لاَ يَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ، وَهَذَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ (٤) - الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ

_________

(١) البدائع ٧ / ٢٢٧ والمنثور في القواعد ٣ / ٣٩٣ وشرح منتهى الإرادات ٢ / ٢٦٠.

(٢) أشباه ابن نجم / ٣١٦، وقليوبي ٢ / ٣١٢ والمنثور ٣ / ٢٣٠.

(٣) المنثور ٣ / ٣٩٤ والدسوقي ٣ / ٤٣٤ والقواعد لابن رجب / ١٩٩ ومنتهى الإرادات٢ / ٤٦٤ - ٤٦٥.

(٤) منح الجليل ٣ / ٤٤٨، ٧٧١، ونهاية المحتاج ٥ / ١١٧ - ١١٨، والمغني ٤ / ٥٤٦ - ٥٤٧ ومنتهى شرح الإرادات ٢ / ٣٥١، ٣٩١.

وَالْحَنَابِلَةِ - أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَلَهُمْ بَعْضُ الْقُيُودِ فَإِنَّ الاِعْتِيَاضَ عَنِ الْمَنَافِعِ عِنْدَهُمْ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ لِمَالِكِ الرَّقَبَةِ وَالْمَنْفَعَةِ، أَوْ لِمَالِكِ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ، أَمَّا مَالِكُ الْمَنْفَعَةِ بِدُونِ عِوَضٍ فَلاَ يَجُوزُ الاِعْتِيَاضُ عَنْهَا. وَالْمَنَافِعُ عِنْدَهُمْ لَيْسَتْ بِأَمْوَالٍ. كَمَا لاَ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ إِفْرَادُ حُقُوقِ الاِرْتِفَاقِ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ عَلَى الأَْصَحِّ وَإِنَّمَا يَجُوزُ تَبَعًا. (١)

وَمِنْ أَمْثِلَةِ الْمُعَاوَضَةِ عَلَى الْمَنْفَعَةِ مَا لَوْ أَوْصَى شَخْصٌ لِرَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا بِعَيْنِ الدَّارِ وَالثَّانِي بِسُكْنَاهَا، وَصَالَحَ الأَْوَّل الثَّانِيَ لأَِنَّ الْمُوصَى لَهُ بِعَيْنِ الدَّارِ صَالَحَ الْمُوصَى لَهُ بِسُكْنَاهَا بِدَرَاهِمَ أَوْ بِمَنْفَعَةِ عَيْنٍ أُخْرَى لِتَسْلَمَ الدَّارُ لَهُ جَازَ. (٢)

وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي (إِجَارَةٌ - إِعَارَةٌ - وَصِيَّةٌ - وَقْفٌ - ارْتِفَاقٌ) .

د - الْحَقُّ الْمُطْلَقُ:

٢٦ - الْمُرَادُ بِحَقِّ الْعَبْدِ الْمُطْلَقِ هُنَا مَا لَيْسَ بِعَيْنٍ وَلاَ دَيْنٍ وَلاَ مَنْفَعَةٍ كَمَا سَبَقَ، وَذَلِكَ كَحَقِّ الشُّفْعَةِ، وَحَقِّ الْخِيَارِ، وَحَقِّ الزَّوْجَةِ فِي الْقَسْمِ، وَحَقِّ الْقِصَاصِ، وَحَقِّ الأَْجَل، وَمَا شَابَهُ ذَلِكَ

_________

(١) الهداية ٤ / ٢٥٣ والبدائع ٦ / ١٨٩ - ٢٢٠ وأشباه ابن نجيم / ٣٥٣ وابن عابدين ٥ / ٤٤٣ - ٤٤٤.

(٢) ابن عابدين ٤ / ١٥ وتكملة فتح القدير ٧ / ٣٨٥ وشرح منتهى الإرادات ٢ / ٢٦٣.