الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ١٨
وَهُوَ جِهَةُ التَّعَبُّدِ، فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَعِبَادَتُهُ امْتِثَال أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ بِإِطْلاَقٍ.
فَإِنْ جَاءَ مَا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ حَقٌّ مُجَرَّدٌ لِلْعَبْدِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ بِإِطْلاَقٍ، بَل جَاءَ عَلَى تَغْلِيبِ حَقِّ الْعَبْدِ فِي الأَْحْكَامِ الدُّنْيَوِيَّةِ.
كَمَا أَنَّ كُل حُكْمٍ شَرْعِيٍّ فِيهِ حَقٌّ لِلْعِبَادِ إِمَّا عَاجِلًا وَإِمَّا آجِلًا، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الشَّرِيعَةَ إِنَّمَا وُضِعَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَلِذَلِكَ قَال فِي الْحَدِيثِ: حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا عَبَدُوهُ وَلَمْ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا أَنْ لاَ يُعَذِّبَهُمْ. (١)
وَعَادَتُهُمْ فِي تَفْسِيرِ حَقِّ اللَّهِ أَنَّهُ مَا فَهِمَ مِنَ الشَّرْعِ أَنَّهُ لاَ خِيرَةَ فِيهِ لِلْمُكَلَّفِ، كَانَ لَهُ مَعْنًى مَعْقُولٌ أَوْ غَيْرُ مَعْقُولٍ.
وَحَقُّ الْعَبْدِ: مَا كَانَ رَاجِعًا إِلَى مَصَالِحِهِ فِي الدُّنْيَا. فَإِنْ كَانَ مِنَ الْمَصَالِحِ الأُْخْرَوِيَّةِ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ.
وَمَعْنَى التَّعَبُّدِ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ مَا لاَ يُعْقَل مَعْنَاهُ عَلَى الْخُصُوصِ.
وَأَصْل الْعِبَادَاتِ رَاجِعَةٌ إِلَى حَقِّ اللَّهِ، وَأَصْل الْعَادَاتِ رَاجِعَةٌ إِلَى حُقُوقِ الْعِبَادِ. (٢)
وَقَال الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ: حُقُوقُ اللَّهِ ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا مَا هُوَ خَالِصٌ لِلَّهِ كَالْمَعَارِفِ
_________
(١) حديث " حق العباد على الله. . . " تقدم تخريجه ف / ٣.
(٢) لموافقات للشاطبي ٢ ٢ / ٣١٧، ٣١٨ المكتبة التجارية بمصر، الناشر دار المعرفة بيروت.
وَالأَْحْوَال الْمَبْنِيَّةِ عَلَيْهَا، وَالإِْيمَانِ بِمَا يَجِبُ الإِْيمَانُ بِهِ، كَالإِْيمَانِ بِإِرْسَال الرُّسُل وَإِنْزَال الْكُتُبِ وَبِمَا تَضَمَّنَتْهُ الشَّرَائِعُ مِنَ الأَْحْكَامِ، وَبِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ.
الثَّانِي: مَا يَتَرَكَّبُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ كَالزَّكَاةِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالأَْمْوَال الْمَنْدُوبَاتِ وَالضَّحَايَا وَالْهَدَايَا وَالْوَصَايَا وَالأَْوْقَافِ، فَهَذِهِ قُرْبَةٌ إِلَى اللَّهِ مِنْ وَجْهٍ، وَنَفْعٌ لِعِبَادِهِ مِنْ وَجْهٍ، وَالْغَرَضُ الأَْظْهَرُ مِنْهَا نَفْعُ عِبَادِهِ وَإِصْلاَحُهُمْ بِمَا وَجَبَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ نُدِبَ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ قُرْبَةٌ لِبَاذِلِيهِ وَرِفْقٌ لآِخِذِيهِ.
الثَّالِثُ: مَا يَتَرَكَّبُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ رَسُولِهِ ﷺ وَحُقُوقِ الْمُكَلَّفِ وَالْعِبَادِ أَوْ يَشْتَمِل عَلَى الْحُقُوقِ الثَّلاَثَةِ.
وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ: أَحَدُهَا الأَْذَانُ، فِيهِ الْحُقُوقُ الثَّلاَثَةُ، أَمَّا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَالتَّكْبِيرَاتُ وَالشَّهَادَةُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، وَأَمَّا حَقُّ الرَّسُول ﷺ فَالشَّهَادَةُ لَهُ بِالرِّسَالَةِ، وَأَمَّا حَقُّ الْعِبَادِ فَبِالإِْرْشَادِ إِلَى تَعْرِيفِ دُخُول الأَْوْقَاتِ فِي حَقِّ النِّسَاءِ وَالْمُنْفَرِدِينَ، وَالدُّعَاءِ إِلَى الْجَمَاعَاتِ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي. (١)
تَقْدِيمُ الْحُقُوقِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ عِنْدَ تَيَسُّرِهِ وَتَعَذُّرِ الْجَمْعِ:
١٩ - قَال الإِْمَامُ الزَّرْكَشِيُّ: حُقُوقُ اللَّهِ إِذَا اجْتَمَعَتْ فَهِيَ عَلَى أَقْسَامٍ:
_________
(١) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام ١٢٩.
أ - مَا يَتَعَارَضُ فَيُقَدَّمُ آكَدُهُ.
(فَمِنْهُ): تَقْدِيمُ الصَّلاَةِ آخِرَ وَقْتِهَا عَلَى رَوَاتِبِهَا وَكَذَلِكَ عَلَى الْمَقْضِيَّةِ إِذَا لَمْ يَبْقَ مِنَ الْوَقْتِ إِلاَّ مَا يَسَعُ الْحَاضِرَةَ فَإِنْ كَانَ يَسَعُ الْمُؤَدَّاةَ وَالْمَقْضِيَّةَ فَالْفَائِتَةُ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ مُرَاعَاةً لِلتَّرْتِيبِ.
(وَمِنْهَا): تَقْدِيمُ النَّوَافِل الْمَشْرُوعِ فِيهَا الْجَمَاعَةُ كَالْعِيدَيْنِ عَلَى الرَّوَاتِبِ. نَعَمْ تُقَدَّمُ الرَّوَاتِبُ عَلَى التَّرَاوِيحِ فِي الأَْصَحِّ (وَتَقْدِيمُ الرَّوَاتِبِ عَلَى النَّوَافِل الْمُطْلَقَةِ، وَتَقْدِيمُ الْوِتْرِ عَلَى رَكْعَتَي الْفَجْرِ فِي الأَْصَحِّ) وَتَقْدِيمُ الزَّكَاةِ عَلَى صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ، وَالصِّيَامِ الْوَاجِبِ عَلَى نَفْلِهِ، وَالنُّسُكِ الْوَاجِبِ عَلَى غَيْرِهِ. وَإِذَا تَيَقَّنَ الْمُسَافِرُ وُجُودَ الْمَاءِ آخِرَ الْوَقْتِ فَتَأْخِيرُ الصَّلاَةِ لاِنْتِظَارِهِ أَفْضَل مِنَ التَّقْدِيمِ بِالتَّيَمُّمِ.
وَلَوْ أَوْصَى بِمَاءٍ لأَِوْلَى النَّاسِ بِهِ قُدِّمَ غُسْل الْمَيِّتِ عَلَى غَيْرِهِ، وَغُسْل النَّجَاسَةِ عَلَى الْحَدَثِ، لأَِنَّهُ لاَ بَدَل لَهُ، وَفِي غُسْل الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ: الأَْوَّل تَقْدِيمُ غُسْل الْجَنَابَةِ، وَالثَّانِي تَقْدِيمُ غُسْل الْحَيْضِ، وَثَالِثُهَا أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فَيُقْرَعُ. وَيُقَدَّمُ (الْغُسْل مِنْ غُسْل الْمَيِّتِ) وَغُسْل الْجُمُعَةِ عَلَى غَيْرِهِمَا مِنَ الأَْغْسَال، وَأَيُّهُمَا يُقَدَّمُ قَوْلاَنِ: فَصَحَّحَ الْعِرَاقِيُّونَ تَقْدِيمَ الْغُسْل مِنْ غُسْل الْمَيِّتِ عَلَى غُسْل الْجُمُعَةِ، لأَِنَّ الشَّافِعِيَّ عَلَّقَ الْقَوْل بِوُجُوبِهِ
عَلَى صِحَّةِ الْحَدِيثِ، (١) وَصَحَّحَ الْخُرَاسَانِيُّونَ وَتَابَعَهُمُ النَّوَوِيُّ تَقْدِيمَ غُسْل الْجُمُعَةِ، لِصِحَّةِ أَحَادِيثِهِ. (٢) وَمِنْهَا، قَاعِدَةُ الْمُحَافَظَةِ عَلَى فَضِيلَةٍ تَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الْعِبَادَةِ أَوْلَى مِنَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى فَضِيلَةٍ تَتَعَلَّقُ بِمَكَانِهَا.
ب - مَا يَتَسَاوَى لِعَدَمِ الْمُرَجِّحِ، كَمَنْ عَلَيْهِ فَائِتٌ مِنْ رَمَضَانَيْنِ، فَإِنَّهُ يَبْدَأُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ، وَكَذَلِكَ الشَّيْخُ الَّذِي عَلَيْهِ فِدْيَةُ أَيَّامٍ مِنْ رَمَضَانَيْنِ، وَمَنْ عَلَيْهِ شَاتَانِ مَنْذُورَتَانِ فَلَمْ يَقْدِرْ إِلاَّ عَلَى إِحْدَاهُمَا، نَذَرَ حَجًّا أَوْ عَمْرَةً بِنَذْرٍ وَاحِدٍ أَوْ بِنُذُورٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَإِنَّهُ يَبْدَأُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ.
ج - مَا تَفَاوَتَتْ، فَيُقَدَّمُ الْمُرَجَّحُ، كَالدَّمِ الْوَاجِبِ فِي الإِْحْرَامِ، وَالزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ، فَإِذَا اجْتَمَعَا فِي شَاةٍ، فَالزَّكَاةُ أَوْلَى، وَمِثْلُهُ زَكَاةُ التِّجَارَةِ وَالْفِطْرَةِ، إِذَا اجْتَمَعَا فِي مَالٍ يَقْصُرُ عَنْهُمَا، فَالْفِطْرَةُ أَوْلَى، لِتَعَلُّقِهِمَا بِالْعَيْنِ.
_________
(١) حديث: " من غسل ميتا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ. . . " أخرجه الترمذي (٣ / ٣٠٩ - ط الحلبي) وابن ماجه (١ / ٤٧٠ ط الحلبي) من حديث أبي هريرة. واللفظ لابن ماجه إلا أنه لم يذكر الشطر الثاني، وقال الترمذي: " حديث حسن ".
(٢) حديث: " غسل الجمعة واجب على كل محتلم " أخرجه البخاري (الفتح ٢ / ٣٥٧ ط السلفية)، ومسلم (٢ / ٥٨٠ ط الحلبي) من حديث أبي سعيد الخدري. واللفظ للبخاري. وانظر فيها فتح الباري ٢ / ٢٨٤ و٢٨٧ و٢٨٨ و٢٩٦ صحيح مسلم بشرح النووي ٦ / ١٣٠ - ١٣١ - وسنن الترمذي ٢ / ٢٧٨ - ٢٧٩ - وسنن أبي داود بشرحه المنهل العذب ٣ / ١٩٨ - ٢٠١ - وسنن ابن ماجه ١ / ٣٤٦ - والنسائي ٣ / ٩٣.
وَلَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ وَالْقَتْل، وَوَجَدَ الإِْطْعَامَ لإِحْدَاهُمَا وَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ، وَقُلْنَا بِالإِْطْعَامِ فِي الْقَتْل، فَالظِّهَارُ أَوْلَى.
د - مَا اخْتُلِفَ فِيهِ كَالْعَارِي هَل يُصَلِّي قَائِمًا؟ وَيُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ مُحَافَظَةً عَلَى الأَْرْكَانِ، أَوْ يُصَلِّي قَاعِدًا مُومِيًا مُحَافَظَةً عَلَى سَتْرِ الْعَوْرَةِ، أَوْ يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا؟ وَالأَْصَحُّ الأَْوَّل، وَكَذَا الْمَحْبُوسُ بِمَكَانٍ نَجَسٍ، وَالأَْصَحُّ أَنَّهُ لاَ يَسْجُدُ وَلاَ يَجْلِسُ، بَل يَنْحَنِي لِلسُّجُودِ إِلَى الْقَدْرِ الَّذِي لَوْ زَادَ عَلَيْهِ لاَقَى النَّجَاسَةَ.
وَلَوْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ نَجَسٍ وَمَعَهُ ثَوْبٌ، فَهَل يَبْسُطُهُ وَيُصَلِّي عُرْيَانًا أَوْ يُصَلِّي فِيهِ أَوْ يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا؟ فِيهِ الأَْوْجُهُ الثَّلاَثَةُ، وَلَوْ لَمْ يَجِدْ إِلاَّ ثَوْبَ حَرِيرٍ، فَالأَْصَحُّ أَنَّهُ تَجِبُ الصَّلاَةُ فِيهِ. وَلَوِ اجْتَمَعَ عُرَاةٌ فَهَل يُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلُّوا فُرَادَى أَوْ جَمَاعَةً أَوْ يَتَخَيَّرُوا أَوْ هُمَا سَوَاءٌ؟ فِيهِ ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ. (١)
وَفِي حُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ إِذَا اجْتَمَعَتْ: قَال الزَّرْكَشِيُّ أَيْضًا: فَتَارَةً تَسْتَوِي كَالْقَسْمِ وَالنَّفَقَةِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ، وَتَسَاوِي أَوْلِيَاءِ النِّكَاحِ فِي دَرَجَةٍ، وَتَسْوِيَةِ الْحُكَّامِ بَيْنَ الْخُصُومِ فِي الْمُحَاكَمَاتِ، وَتَسَاوِي الشُّرَكَاءِ فِي الْقِسْمَةِ وَالإِْجْبَارِ عَلَيْهَا، وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَ السَّابِقَيْنِ إِلَى مُبَاحٍ. وَتَارَةً يَتَرَجَّحُ أَحَدُهُمَا كَنَفَقَةِ نَفْسِهِ عَلَى نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ وَقَرِيبِهِ،
_________
(١) المنثور ٢ / ٦٠ - ٦٣، وقواعد الأحكام ١ / ١٤٤.
وَتَقْدِيمِ نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ عَلَى نَفَقَةِ قَرِيبِهِ، وَتَقْدِيمِ غُرَمَائِهِ عَلَيْهِ فِي بَيْعِ مَالِهِ، وَقَضَاءِ دَيْنِهِ، وَتَقْدِيمِهِ عَلَى غُرَمَائِهِ بِنَفَقَتِهِ وَنَفَقَةِ عِيَالِهِ وَكِسْوَتِهِمْ فِي مُدَّةِ الْحَجْرِ، وَتَقْدِيمِ الْمُضْطَرِّ عَلَى غَيْرِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ، وَتَقْدِيمِ ذَوِي الضَّرُورَاتِ عَلَى ذَوِي الْحَاجَاتِ، وَالتَّقْدِيمِ بِالسَّبْقِ إِلَى الْمَسَاجِدِ وَمَقَاعِدِ الأَْسْوَاقِ، وَتَقْدِيمِ حَقِّ الْبَائِعِ عَلَى حَقِّ الْمُشْتَرِي، وَالتَّقْدِيمِ فِي الإِْرْثِ بِالْعُصُوبَةِ وَقُرْبِ الدَّرَجَةِ وَفِي وِلاَيَةِ النِّكَاحِ بِالأُْبُوَّةِ وَالْجُدُودَةِ، ثُمَّ بِالْعُصُوبَةِ، وَالْحَقُّ الثَّابِتُ لِمُعَيِّنٍ أَقْوَى مِنَ الْحَقِّ الثَّابِتِ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَلِهَذَا تَجِبُ زَكَاةُ الْمَال الْمَوْقُوفِ عَلَى مُعَيَّنٍ، بِخِلاَفِ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ، وَالْحَقُّ الْمُتَعَلِّقُ بِالْعَيْنِ أَقْوَى مِنَ الْمُتَعَلِّقِ بِالذِّمَّةِ، وَلِهَذَا قُدِّمَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُفْلِسِ بِالسِّلْعَةِ عَلَى الْغُرَمَاءِ، وَكَذَلِكَ الْمُرْتَهِنُ يُقَدَّمُ بِالْمَرْهُونِ، وَيُقَدَّمُ مَا لَهُ مُتَعَلَّقٌ وَاحِدٌ عَلَى مَا لَهُ مُتَعَلَّقَانِ، كَمَا لَوْ جَنَى الْمَرْهُونُ يُقَدَّمُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ، لأَِنَّهُ لاَ مُتَعَلَّقَ لَهُ سِوَى الرَّقَبَةِ، وَحَقُّ الْمُرْتَهِنِ ثَابِتٌ فِي الذِّمَّةِ.
وَفِي اجْتِمَاعِ حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الآْدَمِيِّ قَال الزَّرْكَشِيُّ: هُوَ ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ:
أ - مَا قُطِعَ فِيهِ بِتَقْدِيمِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، كَالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ، وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ، فَإِنَّهَا تُقَدَّمُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا عَلَى سَائِرِ أَنْوَاعِ التَّرَفُّهِ وَالْمَلاَذِّ تَحْصِيلًا لِمَصْلَحَةِ الْعَبْدِ فِي الآْخِرَةِ، وَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ وَطْءِ الْمُتَحَيِّرَةِ، وَإِيجَابُ الْغُسْل عَلَيْهَا لِكُل صَلاَةٍ.
ب - مَا قُطِعَ فِيهِ بِتَقْدِيمِ حَقِّ الآْدَمِيِّ كَجَوَازِ التَّلَفُّظِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ عِنْدَ الإِْكْرَاهِ وَلُبْسِ الْحَرِيرِ عِنْدَ الْحَكَّةِ، وَكَتَجْوِيزِ التَّيَمُّمِ بِالْخَوْفِ مِنَ الْمَرَضِ وَغَيْرِهِ مِنَ الأَْعْذَارِ، وَكَذَلِكَ الأَْعْذَارُ الْمُجَوِّزَةُ لِتَرْكِ الْجُمُعَةِ وَالْجَمَاعَاتِ، وَالْفِطْرُ فِي رَمَضَانَ، وَالْحَجُّ وَالْجِهَادُ وَغَيْرُهَا، وَالتَّدَاوِي بِالنَّجَاسَاتِ غَيْرُ الْخَمْرِ، وَإِذَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ قَتْل قِصَاصٍ وَقَتْل رِدَّةٍ قُدِّمَ قَتْل الْقِصَاصِ، وَجَوَازُ التَّحَلُّل بِإِحْصَارِ الْعَدُوِّ.
ج - مَا فِيهِ خِلاَفٌ بِحَقِّهِ.
فَمِنْهَا، إِذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ زَكَاةٌ وَدَيْنُ آدَمِيٍّ وَفِيهِ أَقْوَالٌ ثَلاَثَةٌ: قِيل: تُقَدَّمُ الزَّكَاةُ، وَقِيل: يُقَدَّمُ الدَّيْنُ، وَقِيل إِنَّهُمَا يَتَسَاوَيَانِ وَالأَْصَحُّ تَقْدِيمُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى.
وَمِنْهَا، الْحَجُّ وَالْكَفَّارَةُ، وَالأَْصَحُّ تَقْدِيمُ الْحَجِّ وَالْكَفَّارَةِ، قَال الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الإِْيمَانِ: وَلاَ تَجْرِي هَذِهِ الأَْقْوَال فِي حَقِّ الْمَحْجُورِ، بَل يُقَدَّمُ حَقُّ الآْدَمِيِّ وَيُؤَخَّرُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى مَا دَامَ حَيًّا، وَمُرَادُهُ الْحُقُوقُ الْمُسْتَرْسِلَةُ فِي الذِّمَّةِ دُونَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ، فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ حَيًّا وَمَيِّتًا، وَلِهَذَا الزَّكَاةُ الْوَاجِبَةُ فِي الْمَرْهُونِ تُقَدَّمُ عَلَى حَقِّ الْمُرْتَهِنِ، وَإِذَا اجْتَمَعَ عَلَى التَّرِكَةِ دَيْنُ آدَمِيٍّ وَجِزْيَةٌ، فَالصَّحِيحُ تَسَاوِيهِمَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الزَّكَاةِ أَنَّ الْمُغَلِّبَ فِي الْجِزْيَةِ حَقُّ الآْدَمِيِّ، فَإِنَّهَا عِوَضٌ عَنْ سُكْنَى الدَّارِ، فَأَشْبَهَتْ غَيْرَهَا مِنْ دُيُونِ الآْدَمِيِّينَ، وَلِهَذَا، لَوْ أَسْلَمَ أَوْ مَاتَ فِي أَثْنَاءِ
السَّنَةِ لاَ تَسْقُطُ الْجِزْيَةُ، وَلَوْ مَاتَ فِي أَثْنَاءِ الْحَوْل لَمْ تَجِبْ الزَّكَاةُ، وَأَيْضًا، فَإِنَّ الْجِزْيَةَ تَجِبُ فِي أَوَّل الْوُجُوبِ وُجُوبًا مُوَسَّعًا، وَالزَّكَاةُ لاَ تَجِبُ، إِلاَّ بِآخِرِ الْحَوْل.
وَمِنْهَا إِذَا وَجَدَ الْمُضْطَرُّ مَيْتَةً وَطَعَامَ الْغَيْرِ، فَأَقْوَالٌ، قِيل: تُقَدَّمُ الْمَيْتَةُ، وَقِيل: طَعَامُ الْغَيْرِ، وَالثَّالِثُ أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ.
وَمِنْهَا، لَوْ بَذَل الْوَلَدُ لِوَالِدِهِ الطَّاعَةَ فِي أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ وَجَبَ عَلَى الأَْبِ قَبُولُهُ، وَكَذَا لَوْ بَذَل لَهُ الأُْجْرَةَ عَلَى وَجْهٍ وَلَمْ نُوجِبْ عَلَيْهِ الْقَبُول فِي دَيْنِ الآْدَمِيِّ، بِلاَ خِلاَفٍ. (١)
تَقْسِيمُ الْحُقُوقِ بِاعْتِبَارِ قَابِلِيَّتِهَا لِلإِْسْقَاطِ وَعَدَمِهِ:
٢٠ - الْحَقُّ إمَّا أَنْ يَكُونَ خَالِصًا لِلَّهِ ﷾، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ حَقًّا خَالِصًا لِلْعَبْدِ، وَإِمَّا أَنْ يَجْتَمِعَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ وَحَقُّ الْعَبْدِ مَعَ الاِخْتِلاَفِ فِي تَغْلِيبِ أَحَدِهِمَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ. (٢)
وَحُقُوقُ اللَّهِ فِي الْجُمْلَةِ إِمَّا عِبَادَاتٌ مَحْضَةٌ مَالِيَّةً كَانَتْ كَالزَّكَاةِ، أَوْ بَدَنِيَّةً كَالصَّلاَةِ، أَوْ جَامِعَةً لِلْبَدَنِ وَالْمَال كَالْحَجِّ. وَإِمَّا عُقُوبَاتٌ مَحْضَةٌ
_________
(١) لمنثور ٢ ٢؟ / ٦٤ - ٦٦، وانظر غاية القصوى في دراية الفتوى للبيضاوي ١ / ٢٥٨، وقواعد الأحكام ١ / ١٤٢ - ١٤٨.
(٢) راجع فيما تقدم تقسيم الحقوق باعتبار عموم النفع وخصوصه.
كَالْحُدُودِ، وَإِمَّا كَفَّارَاتٌ وَهِيَ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ الْعُقُوبَةِ وَالْعِبَادَةِ.
وَالأَْصْل أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ ﷾، لأَِنَّهُ مَا مِنْ حَقٍّ لِلْعَبْدِ إِلاَّ وَفِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ أَمْرُهُ بِإِيصَال ذَلِكَ الْحَقِّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ، وَإِفْرَادُ نَوْعٍ مِنَ الْحُقُوقِ بِجَعْلِهِ حَقًّا لِلْعَبْدِ فَقَطْ إِنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ تَسْلِيطِ الْعَبْدِ عَلَى التَّصَرُّفِ فِيهِ بِحَيْثُ لَوْ أَسْقَطَهُ لَسَقَطَ. (١)
وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ مَا يَسْقُطُ مِنْ هَذِهِ الْحُقُوقِ وَمَا لاَ يَسْقُطُ:
أَوَّلًا: حَقُّ اللَّهِ ﷾:
٢١ - الأَْصْل أَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ ﷾ سَوَاءٌ أَكَانَتْ عِبَادَاتٍ كَالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ، أَمْ كَانَتْ عُقُوبَاتٍ كَالْحُدُودِ، أَمْ كَانَتْ مُتَرَدِّدَةً بَيْنَ الْعُقُوبَةِ وَالْعِبَادَةِ كَالْكَفَّارَاتِ، أَمْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي تَثْبُتُ لِلْعَبْدِ بِصِفَةٍ ذَاتِيَّةٍ بِمُقْتَضَى الشَّرِيعَةِ كَحَقِّ الْوِلاَيَةِ عَلَى الصَّغِيرِ، وَحَقِّ الأُْبُوَّةِ، وَالأُْمُومَةِ، وَحَقِّ الاِبْنِ فِي الأُْبُوَّةِ وَالنَّسَبِ - هَذِهِ الْحُقُوقُ لاَ تَقْبَل الإِْسْقَاطَ مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعِبَادِ، لأَِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ. (٢)
_________
(١) الفروق للقرافي ١ / ١٤٠ - ١٤١ والمنثور في القواعد ٢ / ٥٨ - ٥٩، وشرح المنار / ٨٨٦ وما بعدها.
(٢) البدائع ٧ / ٥٥ - ٥٦ والموافقات ٢ / ٣٧٥ - ٣٧٦ والفروق للقرافي ١ / ١٤٠ - ١٤١، ١٩٥ والمنثور ٣ / ٣٩٣ وشرح المنار / ٨٨٥ - ٨٨٦ ومغني المحتاج ٤ / ١٩٤ وإعلام الموقعين ١ / ١٠٨.
وَمَنْ حَاوَل إِسْقَاطَ حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ يُقَاتَل كَمَا فَعَل أَبُو بَكْرٍ ﵁ بِمَانِعِي الزَّكَاةِ. (١)
بَل إِنَّ السُّنَنَ الَّتِي فِيهَا إِظْهَارُ الدِّينِ وَتُعْتَبَرُ مِنْ شَعَائِرِهِ كَالآْذَانِ لَوِ اتَّفَقَ أَهْل بَلْدَةٍ عَلَى تَرْكِهِ وَجَبَ قِتَالُهُمْ. (٢)
وَلاَ يَجُوزُ التَّحَيُّل عَلَى إِسْقَاطِ الْعِبَادَاتِ كَمَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ يَقْدِرُ بِهِ عَلَى الْحَجِّ فَوَهَبَهُ كَيْ لاَ يَجِبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ، وَكَمَنْ دَخَل عَلَيْهِ وَقْتُ صَلاَةٍ فَشَرِبَ دَوَاءً مُنَوِّمًا حَتَّى يَخْرُجَ وَقْتُهَا وَهُوَ فَاقِدٌ لِعَقْلِهِ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ (٣) .
كَمَا تَحْرُمُ الشَّفَاعَةُ لإِسْقَاطِ الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، لأَِنَّ الْحَدَّ حَقٌّ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْل النَّبِيِّ ﷺ وَقَدْ غَضِبَ حِينَ شَفَعَ أُسَامَةُ فِي الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ: أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى؟ (٤)
أَمَّا مَا اجْتَمَعَ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ وَحَقُّ الْعَبْدِ كَالْقَذْفِ مَعَ الاِخْتِلاَفِ فِي تَغْلِيبِ أَحَدِهِمَا، فَإِنَّ
_________
(١) البدائع ٢ / ٣٥ والمغني ٢ / ٥٧٢ والتبصرة بهامش فتح العلي ٢ / ١٨٨ والمهذب ١ / ١٤٨.
(٢) الاختيار ١ / ٤٢ ومنح الجليل ١ / ١١٧ والمهذب ١ / ٦٢.
(٣) الموافقات ٢ / ٣٧٥ - ٣٧٦ - ٣٧٩ والشرح الصغير ١ / ٢١٠ ط الحلبي.
(٤) ديث: " أتشفع في حد. . . " أخرجه البخاري (الفتح ١٢ / ٨٧ - ط السلفية) ومسلم ٣ / ١٣١٥ - ط الحلبي) من حديث عائشة.