الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ١٣
وَقَال مُحَمَّدُ بْنُ الأَْشْعَثِ: ذُهِبَ بِي إِلَى عَائِشَةَ ﵂ وَفِي عَيْنَيَّ سُوءٌ فَرَقَتْنِي وَنَفَثَتْ (١) .
وَاسْتَدَل الآْخَرُونَ: وَهُمْ إِبْرَاهِيمُ وَعِكْرِمَةُ، وَالْحَكَمُ بِمَا قَال بَعْضُهُمْ: دَخَلْتُ عَلَى الضَّحَّاكِ وَهُوَ وَجِعٌ، فَقُلْتُ: أَلاَ أَعَوِّذُكَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ؟ قَال: بَلَى، وَلَكِنْ لاَ تَنْفُثْ، فَعَوَّذْتُهُ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ. وَبِمَا قَال ابْنُ جُرَيْجٍ لِعَطَاءٍ: الْقُرْآنُ يَنْفُخُ أَوْ يَنْفُثُ. قَال: لاَ شَيْءَ مِنْ ذَلِكَ (٢) .
وَأَمَّا حُكْمُ النُّشْرَةِ، فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَدَا ابْنَ عَبْدِ السَّلاَمِ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) إِلَى أَنَّهُ جَائِزٌ وَهُوَ قَوْل سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَعَائِشَةَ ﵂، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ وَالطَّبَرِيِّ وَكَانَتْ عَائِشَةُ ﵂ تَقْرَأُ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي إِنَاءٍ، ثُمَّ تَأْمُرُ أَنْ يُصَبَّ عَلَى الْمَرِيضِ.
وَذَهَبَ ابْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ حَرَامٌ، وَمَنَعَهَا أَيْضًا الْحَسَنُ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَابْنُ الْجَوْزِيِّ. وَكَذَلِكَ مُجَاهِدٌ لَمْ يَرَ أَنْ تُكْتَبَ آيَاتُ الْقُرْآنِ، ثُمَّ تُغْسَل، ثُمَّ يُسْقَاهُ صَاحِبُ الْفَزَعِ. وَقَال النَّخَعِيُّ: أَخَافُ أَنْ
_________
(١) نيل الأوطار ٨ / ٢١٢، وتفسير القرطبي ١٠ / ٣١٨، و٢٠ / ٢٥٨، والأذكار ص ١٢٠.
(٢) القرطبي ٢٠ / ٢٥٨.
يُصِيبَهُ بَلاَءٌ. لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: إِنَّ النُّشْرَةَ مِنْ عَمَل الشَّيْطَانِ (١) .
وَقِيل: الْمَنْعُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا كَانَتْ خَارِجَةً عَمَّا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُول اللَّهِ ﷺ وَعَنِ الْمُدَاوَاةِ الْمَعْرُوفَةِ. وَالنُّشْرَةُ مِنْ جِنْسِ الطِّبِّ، فَهِيَ غُسَالَةُ شَيْءٍ لَهُ فَضْلٌ كَوُضُوءِ رَسُول اللَّهِ ﷺ (٢) . وَأَمَّا الرَّتِيمَةُ فَيَخْتَلِفُ حُكْمُهَا بِاخْتِلاَفِ مَعَانِيهَا:
فَحُكْمُ الرَّتِيمَةِ - بِمَعْنَى: أَنَّهَا خَيْطٌ يُرْبَطُ بِأُصْبُعٍ أَوْ خَاتَمٍ لِتُسْتَذْكَرَ بِهِ الْحَاجَةُ - فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ أَنَّهَا لاَ تُكْرَهُ، لأَِنَّهَا تُفْعَل لِحَاجَةٍ فَلَيْسَ بِعَبَثٍ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْغَرَضِ الصَّحِيحِ، وَهُوَ التَّذَكُّرُ عِنْدَ النِّسْيَانِ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَمَرَ بَعْضَ أَصْحَابِهِ بِذَلِكَ (٣)، وَفِي الْمِنَحِ: أَنَّهُ
_________
(١) حديث: " النشرة من عمل الشيطان. . . " أخرجه أبو داود لفظ: " سئل رسول الله ﷺ عن النشرة فقال: هو من عمل الشيطان " (سنن أبي داود ٤ / ٢٠١ تحقيق عزت عبيد دعاس) وحسنه ابن حجر في الفتح (١٠ / ٢٣٣ ط السلفية) .
(٢) ابن عابدين ٥ / ٢٣٢، ٢٣٣، والإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع ١ / ٩٥، وشرح منتهى الإرادات ١ / ٣٢٠، ٣٢١، وتفسير القرطبي ١٠ / ٣١٨ - ٣١٩.
(٣) حديث: " أمر بعض أصحابه بربط الخيط للتذكر عند النسيان " قال الزيلعي: غريب، وفيه أحاديث عن النبي ﷺ نفسه " أنه كان يربط في أصبعه خيطا ليذكر به الحاجة " ثم ذكرها وبين عللها وليس فيها شيء يحتج به. " (نصب الراية ٤ / ٢٣٨ ط المجلس العلمي) وكذا ذكرها السيوطي في اللآلئ (٢ / ٢٨٢ - ٢٨٣ نشر المعرفة) .
مَكْرُوهٌ؛ لأَِنَّهُ مَحْضُ عَبَثٍ. وَعَلَى هَذَا الْخِلاَفِ: الدُّمْلُجُ، وَهُوَ مَا يَصْنَعُهُ بَعْضُ الرِّجَال فِي الْعَضُدِ وَأَمَّا حُكْمُ الرَّتِيمَةِ - بِمَعْنَى أَنَّهَا خَيْطٌ كَانَ يُرْبَطُ فِي الْعُنُقِ أَوْ فِي الْيَدِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ بِزَعْمِهِمْ - فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، لأَِنَّهُ مِنْ جِنْسِ التَّمَائِمِ الْمُحَرَّمَةِ، وَذُكِرَ فِي حُدُودِ الإِْيمَانِ أَنَّهُ كُفْرٌ (١)
الْقِسْمُ الثَّانِي:
١١ - مَا كَانَ تَعْوِيذًا بِكَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِأَسْمَائِهِ فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الاِسْتِرْقَاءَ بِذَلِكَ جَائِزٌ، وَقَال السُّيُوطِيُّ: إِنَّ الْجَوَازَ مُقَيَّدٌ بِاجْتِمَاعِ ثَلاَثَةِ شُرُوطٍ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ وَهِيَ:
أ - أَنْ يَكُونَ بِكَلاَمِ اللَّهِ أَوْ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ.
ب - أَنْ يَكُونَ بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ وَبِمَا يُعْرَفُ مَعْنَاهُ.
ج - أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ التَّعْوِيذَ وَالرُّقْيَةَ لاَ تُؤَثِّرُ بِذَاتِهَا، بَل بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى (٢) .
وَقِيل: إِنْ كَانَ مَأْثُورًا فَيُسْتَحَبُّ. وَذَكَرَ
_________
(١) ابن عابدين ٥ / ٢٣٢، وفتح القدير ٨ / ٤٥٩.
(٢) ابن عابدين ٥ / ٢٣٢، وعمدة القارئ ٥ / ٦٥٤، والقوانين الفقهية لابن جزي ص ٤٥٣، الشرح الصغير ٤ / ٧٦٨، والفتاوى الحديثية ص ١٢١، وروضة الطالبين ٢ / ٢٦٣، والمغني ٢ / ٤٤٩، ونيل الأوطار ٨ / ٢١٥، والدين الخالص ٢ / ٢٣٥.
الْخَطَّابِيُّ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَفْهُومَ الْمَعْنَى، وَكَانَ فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ. وَأَنَّ الرُّقْيَةَ الَّتِي أَمَرَ بِهَا رَسُول اللَّهِ ﷺ هُوَ مَا يَكُونُ بِقَوَارِعِ الْقُرْآنِ وَبِمَا فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى. وَمَا نُهِيَ عَنْهُ هُوَ رُقْيَةُ الْعَزَّامِينَ، وَمَنْ يَدَّعِي تَسْخِيرَ الْجِنِّ (١) وَبِالْجَوَازِ قَال أَيْضًا الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَآخَرُونَ.
١٢ - وَاحْتَجَّ الْمُجَوِّزُونَ بِأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ مِنْهَا: - مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ كَانَ يُعَوِّذُ نَفْسَهُ (٢) . وَرَوَتْ عَائِشَةُ ﵂: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُعَوِّذُ بَعْضَ أَهْلِهِ، يَمْسَحُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى وَيَقُول: اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ أَذْهِبِ الْبَأْسَ، وَاشْفِهِ وَأَنْتَ الشَّافِي، لاَ شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لاَ يُغَادِرُ سَقَمًا (٣) .
- وَرَوَى جَابِرٌ ﵁ قَال: نَهَى رَسُول اللَّهِ ﷺ عَنِ الرُّقَى، فَجَاءَ آل عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، فَقَالُوا: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ عِنْدَنَا رُقْيَةٌ نَرْقِي
_________
(١) نيل الأوطار ٨ / ٢١٢ - ٢١٤. والدين الخالص ٢ / ٢٣٥، وعمدة القارئ ١٠ / ١٨٧ - ١٩١، والزواجر ١ / ١٥٥، والأذكار ص ١٢٣ ط الحلبي.
(٢) حديث: " كان يعوذ نفسه. . . " أخرجه البخاري (الفتح ١١ / ١٢٥ ط السلفية) .
(٣) حديث: " روت عائشة أن النبي ﷺ كان يعوذ بعض أهله " أخرجه البخاري (الفتح ١٠ / ٢٠٦ ط السلفية)، ومسلم (٤ / ١٧٢٢ ط الحلبي) .
بِهَا مِنَ الْعَقْرَبِ، وَإِنَّكَ نَهَيْتَ عَنِ الرُّقَى، قَال: فَعَرَضُوهَا عَلَيْهِ، فَقَال: مَا أَرَى بِهَا بَأْسًا، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَل (١) .
وَقَال الشَّعْبِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ وَجَمَاعَةٌ آخَرُونَ: تُكْرَهُ الرُّقَى، وَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَتْرُكَ ذَلِكَ اعْتِصَامًا بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ، وَثِقَةً بِهِ وَانْقِطَاعًا إِلَيْهِ. وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ رَسُول اللَّهِ ﷺ بِأَنَّهُ ذَكَرَ أَهْل الْجَنَّةِ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَلَمَّا سُئِل مَا صِفَتُهُمْ قَال: هُمُ الَّذِينَ لاَ يَتَطَيَّرُونَ وَلاَ يَكْتَوُونَ، وَلاَ يَسْتَرْقُونَ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ:
١٣ - مَا كَانَ بِأَسْمَاءِ غَيْرِ اللَّهِ مِنْ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ أَوْ مِنْ مُعَظَّمٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ كَالْعَرْشِ. فَصَرَّحَ الشَّوْكَانِيُّ: بِأَنَّهُ يُكْرَهُ مِنَ الرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ بِذِكْرِ اللَّهِ وَأَسْمَائِهِ خَاصَّةً، لِيَكُونَ بَرِيئًا مِنْ شَوْبِ الشِّرْكِ قَال: وَعَلَى كَرَاهَةِ الرُّقَى بِغَيْرِ الْقُرْآنِ عُلَمَاءُ الأُْمَّةِ. وَقَال الْقُرْطُبِيُّ: هَذَا لَيْسَ مِنَ
_________
(١) حديث: " ما أرى بها بأسا، فمن استطاع منكم. . " رواه مسلم (٤ / ١٧٢٦ - ١٧٢٧ ط الحلبي) .
(٢) حديث: " ذكر رسول الله ﷺ أهل الجنة الذين. . . " أخرجه البخاري (الفتح ١٠ / ٢١١ - السلفية) من حديث ابن عباس ﵄، وأخرجه مسلم (١ / ١٩٨ ط عيسى الحلبي) من حديث عمران بن حصين ﵁.
الْوَاجِبِ اجْتِنَابُهُ وَلاَ مِنَ الْمَشْرُوعِ الَّذِي يَتَضَمَّنُ الاِلْتِجَاءَ إِلَى اللَّهِ وَالتَّبَرُّكَ بِأَسْمَائِهِ، فَيَكُونُ تَرْكُهُ أَوْلَى، إِلاَّ أَنْ يَتَضَمَّنَ تَعْظِيمَ الْمَرْقِيِّ بِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْتَنَبَ كَالْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ (١) .
الْغَرَضُ مِنَ اتِّخَاذِ التَّعَاوِيذِ:
أَوَّلًا: الاِسْتِشْفَاءُ:
أ - الاِسْتِشْفَاءُ بِالْقُرْآنِ:
١٤ - الأَْصْل فِي هَذَا الْبَابِ قَوْله تَعَالَى ﴿وَنُنَزِّل مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا﴾ (٢)
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كَوْنِ الْقُرْآنِ شِفَاءً عَلَى قَوْلَيْنِ (٣):
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لاَ يُشْرَعُ الاِسْتِشْفَاءُ بِهِ مِنَ الأَْمْرَاضِ الْبَدَنِيَّةِ، بَل هُوَ شِفَاءٌ لِلْقُلُوبِ، بِزَوَال الْجَهْل عَنْهَا وَإِزَالَةِ الرَّيْبِ، وَلِكَشْفِ غِطَاءِ الْقَلْبِ مِنْ مَرَضِ الْجَهْل لِفَهْمِ الْمُعْجِزَاتِ، وَالأُْمُورِ الدَّالَّةِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ﴾ (٤) .
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنَّهُ شِفَاءٌ أَيْضًا مِنَ الأَْمْرَاضِ
_________
(١) عمدة القاري ٥ / ٦٥٣، ٦٥٤، ونيل الأوطار ٨ / ٢١٥، والشرح الصغير ٤ / ٧٦٨.
(٢) سورة الإسراء / ٨٢.
(٣) القرطبي ١٠ / ٣١٦.
(٤) سورة يونس / ٥٧.
بِالرُّقْيَةِ وَالتَّعَوُّذِ وَنَحْوِهِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ (١)، فَجَوَّزُوا الاِسْتِشْفَاءَ بِالْقُرْآنِ: بِأَنْ يُقْرَأَ عَلَى الْمَرِيضِ، أَوِ الْمَلْدُوغِ الْفَاتِحَةُ، وَيَتَحَرَّى مَا يُنَاسِبُ، وَإِنْ كَانَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ شِفَاءً عَلَى أَنَّ ﴿مِنْ﴾ فِي قَوْله تَعَالَى ﴿وَنُنَزِّل مِنَ الْقُرْآنِ﴾ (٢) لِلْبَيَانِ. وَفِي الْخَبَرِ مَنْ لَمْ يَسْتَشْفِ بِالْقُرْآنِ فَلاَ شَفَاهُ اللَّهُ (٣) .
وَلِمَا رَوَى الأَْئِمَّةُ، وَاللَّفْظُ لِلدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ﵁ قَال: بَعَثَنَا رَسُول اللَّهِ ﷺ فِي سَرِيَّةٍ ثَلاَثِينَ رَاكِبًا، قَال فَنَزَلْنَا عَلَى قَوْمٍ مِنَ الْعَرَبِ، فَسَأَلْنَاهُمْ أَنْ يُضَيِّفُونَا، فَأَبَوْا، فَلُدِغَ سَيِّدُ الْحَيِّ. فَأَتَوْا فَقَالُوا: فِيكُمْ أَحَدٌ يَرْقِي مِنَ الْعَقْرَبِ؟ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ قَتَّةَ: إِنَّ الْمَلِكَ يَمُوتُ. قَال: قُلْتُ أَنَا: نَعَمْ، وَلَكِنْ لاَ أَفْعَل حَتَّى تُعْطُونَا. فَقَالُوا: فَإِنَّا نُعْطِيكُمْ ثَلاَثِينَ شَاةً، قَال: فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ سَبْعَ مَرَّاتٍ فَبَرَأَ وَفِي رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ قَتَّةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ فَأَفَاقَ وَبَرَأَ. فَبَعَثَ إِلَيْنَا بِالنُّزُل، وَبَعَثَ إِلَيْنَا
_________
(١) ابن عابدين ٥ / ٢٣٢، والشرح الصغير ٤ / ٧٦٨، وكشاف القناع ٢ / ٨١، الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع ١ / ٩٥ ط دار المعرفة، ونيل الأوطار ٨ / ٢١٢، ٢١٥، وتفسير القرطبي ١٠ / ٣١٦.
(٢) سورة الإسراء / ٨٢.
(٣) حديث: " من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله " عزاه صاحب كنز العمال إلى الدارقطني في الأفراد من حديث أبي هريرة (كنز العمال ١٠ / ٩ ط الرسالة) .
بِالشَّاءِ، فَأَكَلْنَا الطَّعَامَ أَنَا وَأَصْحَابِي، وَأَبَوْا أَنْ يَأْكُلُوا مِنَ الْغَنَمِ، حَتَّى أَتَيْنَا رَسُول اللَّهِ ﷺ فَأَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ، فَقَال: وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ قُلْتُ: يَا رَسُول اللَّهِ. شَيْءٌ أُلْقِيَ فِي رَوْعِي، قَال: كُلُوا وَأَطْعِمُونَا مِنَ الْغَنَمِ (١) .
قَال ابْنُ حَجَرٍ (٢): فَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ، مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَرْمَلَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ﵁ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَكْرَهُ عَشْرَ خِصَالٍ، (٣) فَذَكَرَ فِيهَا الرُّقَى إِلاَّ بِالْمُعَوِّذَاتِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَرْمَلَةَ قَال الْبُخَارِيُّ: لاَ يَصِحُّ حَدِيثُهُ، وَقَال الطَّبَرِيُّ لاَ يُحْتَجُّ بِهَذَا الْخَبَرِ لِجَهَالَةِ رَاوِيهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ صِحَّتِهِ فَهُوَ مَنْسُوخٌ بِالإِْذْنِ فِي الرُّقْيَةِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَأَشَارَ الْمُهَلَّبُ إِلَى الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ فِي الْفَاتِحَةِ مَعْنَى
_________
(١) تفسير القرطبي ١٠ / ٣١٥، ٣١٦، والشرح الصغير ٤ / ٧٦٨، ونيل الأوطار ٨ / ٢١٥، والأذكار / ١١٩ ط الحلبي. وحديث " أبي سعيد الخدري ﵁ قال: بعثنا رسول الله ﷺ. . " أخرجه الدارقطني (٣ / ٩٤ ط دار المحاسن) وأصله في صحيح البخاري (الفتح ١٠ / ٤٥٣ ط السلفية) .
(٢) فتح الباري ١٠ / ١٩٥ - ١٩٧.
(٣) حديث ابن مسعود ﵁: " كان يكره عشر خصال. . . " أخرجه أحمد (١ / ٣٨٠ ط الميمنية) وأبو داود (٤ / ٤٢٧ - ٤٢٨ تحقيق عزت عبيد دعاس) وضعفه ابن حجر كما في الفتح (١٠ / ١٩٥ ط السلفية) واستنكره الذهبي كما في الميزان (٢ / ٥٥٦ ط الحلبي) .
الاِسْتِعَاذَةِ، وَهُوَ الاِسْتِعَانَةُ، فَعَلَى هَذَا يَخْتَصُّ الْجَوَازُ بِمَا يَشْتَمِل عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ ﵁ كَانَ رَسُول اللَّهِ ﷺ يَتَعَوَّذُ مِنَ الْجَانِّ وَعَيْنِ الإِْنْسَانِ حَتَّى نَزَلَتِ الْمُعَوِّذَاتُ، فَأَخَذَ بِهَا وَتَرَكَ مَا سِوَاهَا (١) .
وَهَذَا لاَ يَدُل عَلَى الْمَنْعِ مِنَ التَّعَوُّذِ بِغَيْرِ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ، بَل يَدُل عَلَى الأَْوْلَوِيَّةِ، وَلاَ سِيَّمَا مَعَ ثُبُوتِ التَّعَوُّذِ بِغَيْرِهِمَا، وَإِنَّمَا اجْتَزَأَ بِهِمَا لِمَا اشْتَمَلَتَا عَلَيْهِ مِنْ جَوَامِعِ الاِسْتِعَاذَةِ مِنْ كُل مَكْرُوهٍ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا.
ثُمَّ قَال ابْنُ حَجَرٍ بَعْدَئِذٍ: لاَ يَلْزَمُ مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ الرُّقَى بِالْمُعَوِّذَاتِ أَنْ يُشْرَعَ بِغَيْرِهَا مِنَ الْقُرْآنِ، لاِحْتِمَال أَنْ يَكُونَ فِي الْمُعَوِّذَاتِ سِرٌّ لَيْسَ فِي غَيْرِهَا. وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ ﵁ أَنَّهُ ﷺ تَرَكَ مَا عَدَا الْمُعَوِّذَاتِ، لَكِنْ ثَبَتَتِ الرُّقْيَةُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فَدَل عَلَى أَنْ لاَ اخْتِصَاصَ لِلْمُعَوِّذَاتِ، وَفِي الْفَاتِحَةِ مِنْ مَعْنَى الاِسْتِعَاذَةِ بِاَللَّهِ الاِسْتِعَانَةُ بِهِ، فَمَهْمَا كَانَ فِيهِ اسْتِعَاذَةٌ أَوِ اسْتِعَانَةٌ بِاَللَّهِ وَحْدَهُ - أَوْ مَا يُعْطِي مَعْنَى ذَلِكَ - فَالاِسْتِرْقَاءُ بِهِ مَشْرُوعٌ. وَيُجَابُ عَنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ بِأَنَّ الْمُرَادَ: أَنَّهُ تَرَكَ مَا كَانَ يَتَعَوَّذُ بِهِ مِنَ الْكَلاَمِ غَيْرَ الْقُرْآنِ، وَيُحْتَمَل أَنْ
_________
(١) حديث أبي سعيد ﵁: كان يتعوذ من الجان وعين الإنسان. . " أخرجه الترمذي (٤ / ٣٩٥ ط الحلبي) وحسنه.
يَكُونَ الْمُرَادُ بِتَبْوِيبِ الْبُخَارِيِّ بِعِنْوَانِ (الرُّقَى بِالْقُرْآنِ) بَعْضَهُ، فَإِنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ يَصْدُقُ عَلَى بَعْضِهِ، وَالْمُرَادُ مَا كَانَ فِيهِ الْتِجَاءٌ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَمِنْ ذَلِكَ الْمُعَوِّذَاتُ. وَقَدْ ثَبَتَتِ الاِسْتِعَاذَةُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ كَمَا مَضَى. قَال ابْنُ بَطَّالٍ: فِي الْمُعَوِّذَاتِ جَوَامِعُ مِنَ الدُّعَاءِ تَعُمُّ أَكْثَرَ الْمَكْرُوهَاتِ مِنَ السِّحْرِ وَالْحَسَدِ وَشَرِّ الشَّيْطَانِ وَوَسْوَسَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَكْتَفِي بِهَا.
ب -
الاِسْتِشْفَاءُ بِالأَْدْعِيَةِ الْمُنَاسِبَةِ وَالأَْذْكَارِ الْمَأْثُورَةِ:
١٥ - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي جَوَازِ الاِسْتِشْفَاءِ بِالأَْدْعِيَةِ وَالأَْذْكَارِ الْمَأْثُورَةِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ ﵂ أَنَّهُ ﷺ كَانَ يُعَوِّذُ أَهْل بَيْتِهِ، يَمْسَحُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى، وَيَقُول: اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ أَذْهِبِ الْبَأْسَ وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، لاَ شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لاَ يُغَادِرُ سَقَمًا (١) وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ ﵁ أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُول اللَّهِ ﷺ وَجَعًا يَجِدُهُ فِي جَسَدِهِ مُنْذُ أَسْلَمَ، فَقَال لَهُ رَسُول اللَّهِ ﷺ: ضَعْ يَدَكَ عَلَى الَّذِي تَأَلَّمَ مِنْ جَسَدِكَ، وَقُل: بِسْمِ اللَّهِ ثَلاَثًا، وَقُل سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ (٢)
_________
(١) حديث عائشة ﵄: " كان يتعوذ بعض أهل بيته ". أخرجه البخاري (الفتح ١٠ / ٢٠٦ ط السلفية) .
(٢) حديث عثمان بن أبي العاص ﵁: " ضع يدك على الذي تألم. . " أخرجه مسلم (٤ / ١٧٢٨ ط الحلبي) .