الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٩
أَمَّا إِذَا كَانَ بَعْضُ الثَّمَنِ مُعَجَّلًا وَبَعْضُهُ مُؤَجَّلًا، فَإِنَّ لِلْبَعْضِ الْمُعَجَّل حُكْمَ تَعْجِيل الثَّمَنِ كُلِّهِ، فَلاَ يُطَالِبُ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، إِلاَّ بَعْدَ تَسْلِيمِ الْجُزْءِ الْمُعَجَّل مِنَ الثَّمَنِ.
وَلاَ بُدَّ فِي جَمِيعِ الأَْحْوَال مِنْ أَنْ يَكُونَ الأَْجَل مَعْلُومًا، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ الْبَيْعُ مَهْمَا طَال وَلَوْ إِلَى عِشْرِينَ سَنَةً. وَتَفْصِيلُهُ فِي (أَجَل) .
وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ بِأَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِبَيْعِ أَهْل السُّوقِ عَلَى التَّقَاضِي، وَقَدْ عَرَفُوا قَدْرَ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ. وَالتَّقَاضِي: تَأْخِيرُ الْمُطَالَبَةِ بِالدَّيْنِ إِلَى مَدًى مُتَعَارَفٍ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ.
وَمِنْ حَقِّ الْمُشْتَرِي إِذَا كَانَ الْمَبِيعُ مَعِيبًا، أَوْ ظَهَرَ أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ أَدَاءِ الثَّمَنِ، إِلَى أَنْ يَسْتَخْدِمَ حَقَّهُ فِي الْعَيْبِ فَسْخًا أَوْ طَلَبًا لِلأَْرْشِ أَوْ إِلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ أَمْرُ الاِسْتِحْقَاقِ.
وَيَجُوزُ تَأْخِيرُ الدَّيْنِ الْحَال، أَوِ الْمُؤَجَّل بِأَجَلٍ قَرِيبٍ إِلَى أَجَلٍ بَعِيدٍ، وَأَخْذُ مُسَاوِي الثَّمَنِ أَوْ أَقَل مِنْهُ مِنْ جِنْسِهِ لأَِنَّهُ تَسْلِيفٌ أَوْ تَسْلِيفٌ مَعَ إِسْقَاطِ الْبَعْضِ وَهُوَ مِنَ الْمَعْرُوفِ، وَلَكِنْ لاَ يَجُوزُ. تَأْخِيرُ رَأْسِ مَال السَّلَمِ (١) .
وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ تَأْخِيرَ رَأْسِ الْمَال فِي حُدُودِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ وَلَوْ بِشَرْطٍ (٢) .
_________
(١) البهجة شرح التحفة ٢ / ١٠، والفواكه الدواني ٢ / ١٢٠.
(٢) جواهر الإكليل ٢ / ٢٤ و٥٧ و٦٦، والشرح الصغير ٢ / ٣٣.
ثَالِثًا: تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ
٦٦ - قَال ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الأَْعْيَانِ إِلَى أَجَلٍ، وَمِنْ شَرْطِهَا تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ إِلَى الْمُبْتَاعِ بِإِثْرِ عَقْدِ الصَّفْقَةِ (١) .
وَقَال التَّسَوُّلِيُّ فِي الْبَهْجَةِ شَرْحِ التُّحْفَةِ: يَجِبُ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ الْمُعَيَّنِ؛ لأَِنَّ وُجُوبَ التَّسْلِيمِ حَقٌّ لِلَّهِ، وَالْعَقْدُ يَفْسُدُ بِالتَّأْخِيرِ (٢) .
وَأُجْرَةُ الْكَيْل وَالْوَزْنِ أَوِ الْعَدِّ عَلَى الْبَائِعِ، إِذْ لاَ تَحْصُل التَّوْفِيَةُ إِلاَّ بِهِ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: لأَِنَّ عَلَى الْبَائِعِ تَقْبِيضَ الْمَبِيعِ لِلْمُشْتَرِي، وَالْقَبْضُ لاَ يَحْصُل إِلاَّ بِذَلِكَ.
أَمَّا أُجْرَةُ عَدِّ الثَّمَنِ وَكَيْلِهِ وَوَزْنِهِ فَعَلَى الْمُشْتَرِي، وَأُجْرَةُ نَقْل الْمَبِيعِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهِ فِي تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ الْمَنْقُول عَلَى الْمُشْتَرِي (٣)
وَتَسْلِيمُ الْمَبِيعِ أَهَمُّ الأُْثَّارِ الَّتِي يَلْتَزِمُ بِهَا الْبَائِعُ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ، وَهُوَ يَثْبُتُ عِنْدَ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ الْحَال (أَمَّا فِي الثَّمَنِ الْمُؤَجَّل فَلاَ يَتَوَقَّفُ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ عَلَى أَدَائِهِ) وَلاَ يَتَحَقَّقُ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ إِلاَّ إِذَا سُلِّمَ لِلْمُشْتَرِي خَالِيًا مِنْ أَيِّ شَاغِلٍ، أَيْ كَانَتِ الْعَيْنُ قَابِلَةً لِكَمَال الاِنْتِفَاعِ بِهَا. فَإِذَا كَانَ مَشْغُولًا
_________
(١) بداية المجتهد ٢ / ١٧٠.
(٢) البهجة شرح التحفة ٢ / ١٢، ومغني المحتاج ٢ / ٧٤.
(٣) الشرح الصغير ٢ / ٧١ ط الحلبي، ومغني المحتاج ٢ / ٧٣، والمغني ٤ / ١٢٦ ط الرياض.
لَمْ يَصِحَّ التَّسْلِيمُ، وَأُجْبِرَ الْبَائِعُ عَلَى تَفْرِيغِ الْمَبِيعِ (١) .
وَمِنْ صُوَرِ شَغْل الْمَبِيعِ: أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِعَقْدِ إِجَارَةٍ أَبْرَمَهُ الْبَائِعُ، فَإِنْ رَضِيَ الْمُشْتَرِي بِالاِنْتِظَارِ إِلَى نِهَايَةِ مُدَّةِ الإِْجَارَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالتَّسْلِيمِ، وَلَكِنْ يَحِقُّ لَهُ حَبْسُ الثَّمَنِ إِلَى أَنْ تَنْتَهِيَ الإِْجَارَةُ، وَيُصْبِحَ الْمَبِيعُ قَابِلًا لِلتَّسْلِيمِ (٢) .
وَكَمَا يَجِبُ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ يَجِبُ تَسْلِيمُ تَوَابِعِهِ (٣) .
يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْقَبْضِ بَيْنَ الْمِثْلِيِّ مِنْ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ أَوْ مَعْدُودٍ، وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ عَقَارٍ أَوْ حَيَوَانٍ وَنَحْوِهِ.
فَفِي قَبْضِ الْعَقَارِ تَكْفِي التَّخْلِيَةُ اتِّفَاقًا بِشَرْطِ فَرَاغِهِ مِنْ أَمْتِعَةِ الْبَائِعِ، فَلَوْ جُمِعَتْ أَمْتِعَةُ الْبَائِعِ فِي غَرْفَةٍ صَحَّ قَبْضُ مَا عَدَاهَا، وَتَوَقَّفَ قَبْضُهَا عَلَى تَفْرِيغِهَا (٤) .
لَكِنْ لَوْ أَذِنَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي بِقَبْضِ الدَّارِ وَالْمَتَاعِ صَحَّ التَّسْلِيمُ؛ لأَِنَّ الْمَتَاعَ صَارَ وَدِيعَةً عِنْدَ الْمُشْتَرِي (٥) .
_________
(١) المجلة (المواد ٢٦٢، ٢٦٩، ٢٧٦، وحاشية ابن عابدين ٤ / ٥٦٢.
(٢) جامع الفصولين الفصل الثاني والثلاثين.
(٣) المجلة المادة (٤٨) .
(٤) حاشية ابن عابدين ٤ / ٨٨ و٥١٢، والقليوبي ٢ / ٢١٦.
(٥) الفتاوى الهندية ٣ / ١٧.
وَمِنْ عِبَارَاتِ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّ الْعَقَارَ إِنْ كَانَ أَرْضًا فَقَبْضُهُ بِالتَّخْلِيَةِ، وَإِنْ كَانَ دَارًا لِلسُّكْنَى فَقَبْضُهَا بِالإِْخْلاَءِ (١) .
فَإِنْ لَمْ يَحْضُرِ الْعَاقِدَانِ الْعَقَارَ الْمَبِيعَ. فَقَدْ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ (وَنُقِل مِثْلُهُ عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ فِي الْعَقَارِ الْبَعِيدِ عَنِ الْعَاقِدَيْنِ) إِلَى أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مُرُورُ زَمَنٍ يُمْكِنُ فِيهِ الْمُضِيُّ إِلَى الْعَقَارِ، لأَِنَّهُ إِذَا لَمْ يُعْتَبَرْ حُضُورُ الْعَاقِدَيْنِ إِلَى الْعَقَارِ لِلْمَشَقَّةِ، فَلاَ مَشَقَّةَ فِي اعْتِبَارِ مُضِيِّ الزَّمَانِ (٢)، وَيَبْدُو أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي ذَلِكَ الأَْمْنُ مِنْ تَدَاخُل الضَّمَانَيْنِ.
أَمَّا الْمَنْقُول، فَقَدْ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى: أَنَّ قَبْضَ الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ وَالْمَعْدُودِ بِاسْتِيفَاءِ الْكَيْل أَوِ الْوَزْنِ أَوِ الْعَدِّ. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ بُدَّ مَعَ ذَلِكَ مِنَ النَّقْل. وَهَذَا مَا لَمْ يُبَعْ جُزَافًا، فَيَحْصُل قَبْضُهُ بِالنَّقْل، عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ (٣) . ر: (بَيْعُ الْجُزَافِ) .
وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ، فَإِنَّ قَبْضَهَا بِحَسَبِ الْعُرْفِ، كَتَسْلِيمِ الثَّوْبِ وَزِمَامِ الدَّابَّةِ وَسَوْقِهَا أَوْ عَزْلِهَا عَنْ دَوَابِّ الْبَائِعِ أَوِ انْصِرَافِ الْبَائِعِ عَنْهَا.
_________
(١) الشرح الصغير ٢ / ٧١ ط الحلبي.
(٢) مغني المحتاج ٢ / ٧٢، وحاشية ابن عابدين ٤ / ٥٦٣.
(٣) مغني المحتاج ٢ / ٧٣، والمغني ٤ / ١٢٥ ط الرياض.
وَلَمْ يُفَرِّقِ الْحَنَفِيَّةُ - وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ - بَيْنَ الْمَكِيلاَتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا. فَالتَّخْلِيَةُ قَبْضٌ فِي الْجَمِيعِ، حَتَّى لَوْ كَانَتِ التَّخْلِيَةُ فِي بَيْتِ الْبَائِعِ فَإِنَّهَا صَحِيحَةٌ. فَإِنْ هَلَكَ الْمَبِيعُ بَعْدَئِذٍ هَلَكَ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، لأَِنَّهُ كَالْوَدِيعَةِ عِنْدَهُ (١) .
وَيَنُوبُ الْقَبْضُ السَّابِقُ لِلْمَبِيعِ عَنْ تَجْدِيدِ قَبْضِهِ، إِذَا كَانَ قَدْ قُبِضَ عَلَى سَبِيل الضَّمَانِ، بِأَنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ غَصَبَهُ مِنَ الْبَائِعِ قَبْل أَنْ يَشْتَرِيَهُ مِنْهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْقَبْضَ يُغْنِي، لأَِنَّهُ قَبْضٌ قَوِيٌّ بِمَنْزِلَةِ قَبْضِ الْمُشْتَرِي مَا اشْتَرَاهُ، إِذْ تَبِعَةُ هَلاَكِهِ فِي الْحَالَيْنِ عَلَى الْقَابِضِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الْقَبْضُ السَّابِقُ مِنْ قَبِيل قَبْضِ الأَْمَانَةِ، كَقَبْضِ الْمُسْتَعِيرِ وَالْوَدِيعِ - وَهُوَ مَا لاَ ضَمَانُهُ مِمَّنْ هُوَ بِيَدِهِ فِي حَال هَلاَكِهِ دُونَ تَعَدٍّ أَوْ تَقْصِيرٍ - فَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ الْقَبْضُ ضَعِيفًا لاَ يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الضَّمَانِ (٢) .
انْتِهَاءُ الْبَيْعِ:
٦٧ - بِالإِْضَافَةِ إِلَى مَا سَبَقَ الْكَلاَمُ عَنْهُ مِنَ انْفِسَاخِ الْبَيْعِ بِسَبَبِ بَعْضِ حَالاَتِ الْهَلاَكِ
_________
(١) الفتاوى الهندية ٣ / ١٦، والفروع ٤ / ١٤٢، والمغني ٤ / ١٢٤ - ١٢٥.
(٢) حاشية ابن عابدين ٤ / ٥١٢، وشرح المجلة للأتاسي (المادة ٨٤٦) .
الْكُلِّيِّ، فَإِنَّ الْبَيْعَ يَنْتَهِي بِتَمَامِ آثَارِهِ مِنْ تَسْلِيمٍ وَتَسَلُّمٍ.
وَيَنْتَهِي الْبَيْعُ أَيْضًا بِالإِْقَالَةِ (١) . وَتَفْصِيل الْكَلاَمِ عَنْهَا فِي مُصْطَلَحِ (إِقَالَة) .
_________
(١) بداية المجتهد ٢ / ١٥٣.
بَيْعُ الاِسْتِجْرَارِ
التَّعْرِيفُ:
١ - الْبَيْعُ: مُبَادَلَةُ الْمَال بِالْمَال تَمْلِيكًا وَتَمَلُّكًا (١) .
وَالاِسْتِجْرَارُ لُغَةً: الْجَذْبُ وَالسَّحْبُ، وَأَجْرَرْتُهُ الدَّيْنَ: أَخَّرْتُهُ لَهُ (٢) . وَبَيْعُ الاِسْتِجْرَارِ: أَخْذُ الْحَوَائِجِ مِنَ الْبَيَّاعِ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَدَفْعُ ثَمَنِهَا بَعْدَ ذَلِكَ (٣) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
الْبَيْعُ بِالتَّعَاطِي:
٢ - الْمُعَاطَاةُ وَالتَّعَاطِي: الْمُنَاوَلَةُ وَالْمُبَادَلَةُ. وَالْبَيْعُ بِالتَّعَاطِي: أَنْ يَتَقَابَضَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ صِيغَةٍ، أَيْ إِنَّ الْبَائِعَ يُعْطِي الْمَبِيعَ وَلاَ يَتَلَفَّظُ بِشَيْءٍ، وَالْمُشْتَرِيَ يُعْطِي الثَّمَنَ كَذَلِكَ (٤) .
_________
(١) المغني ٣ / ٥٦٠، ومجلة الأحكام العدلية م (١٠٥) .
(٢) لسان العرب والمصباح المنير.
(٣) ابن عابدين ٤ / ١٢، والمدونة ٤ / ٢٩٢، وأسنى المطالب ٢ / ٣، والمحرر ١ / ٢٩٨.
(٤) البناية شرح الهداية ٦ / ١٩٧.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ بَيْعِ الاِسْتِجْرَارِ وَالتَّعَاطِي هُوَ: أَنَّ بَيْعَ الاِسْتِجْرَارِ أَعَمُّ، لأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ، وَقَدْ يَكُونُ بِالتَّعَاطِي، كَمَا أَنَّ الْغَالِبَ فِي الاِسْتِجْرَارِ تَأْجِيل الثَّمَنِ، وَعَدَمُ تَحْدِيدِهِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ.
الأَْحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِبَيْعِ الاِسْتِجْرَارِ:
تَتَعَدَّدُ صُوَرُ بَيْعِ الاِسْتِجْرَارِ، وَلِذَلِكَ تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهُ مِنْ صُورَةٍ لأُِخْرَى، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ:
صُوَرُ بَيْعِ الاِسْتِجْرَارِ الَّتِي وَرَدَتْ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هِيَ:
٣ - الصُّورَةُ الأُْولَى: أَنْ يَأْخُذَ الإِْنْسَانُ مِنَ الْبَيَّاعِ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ شَيْئًا فَشَيْئًا مِمَّا يُسْتَهْلَكُ عَادَةً، كَالْخُبْزِ وَالْمِلْحِ وَالزَّيْتِ وَالْعَدَسِ وَنَحْوِهَا، مَعَ جَهَالَةِ الثَّمَنِ وَقْتَ الأَْخْذِ، ثُمَّ يَشْتَرِيهَا بَعْدَ اسْتِهْلاَكِهَا.
فَالأَْصْل عَدَمُ انْعِقَادِ هَذَا الْبَيْعِ؛ لأَِنَّ الْمَبِيعَ مَعْدُومٌ وَقْتَ الشِّرَاءِ، وَمِنْ شَرَائِطِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا، لَكِنَّهُمْ تَسَامَحُوا فِي هَذَا الْبَيْعِ وَأَخْرَجُوهُ عَنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ (اشْتِرَاطُ وُجُودِ الْمَبِيعِ) وَأَجَازُوا بَيْعَ الْمَعْدُومِ هُنَا اسْتِحْسَانًا، وَذَلِكَ كَمَا فِي الْبَحْرِ الرَّائِقِ وَالْقُنْيَةِ.
وَقَال بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ: لَيْسَ هَذَا بَيْعَ مَعْدُومٍ،
إِنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ ضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ بِإِذْنِ مَالِكِهَا عُرْفًا، تَسْهِيلًا لِلأَْمْرِ وَدَفْعًا لِلْحَرَجِ، كَمَا هُوَ الْعَادَةُ. وَلَمْ يَرْتَضِ الْحَمَوِيُّ وَغَيْرُهُ هَذَا الْمَعْنَى.
وَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ الْمَسْأَلَةَ اسْتِحْسَانٌ، وَيُمْكِنُ تَخْرِيجُهَا عَلَى قَرْضِ الأَْعْيَانِ، وَيَكُونُ ضَمَانُهَا بِالثَّمَنِ اسْتِحْسَانًا، كَحِل الاِنْتِفَاعِ فِي الأَْشْيَاءِ الْقِيَمِيَّةِ؛ لأَِنَّ قَرْضَهَا فَاسِدٌ لاَ يَحِل الاِنْتِفَاعُ بِهِ وَإِنْ مُلِّكَتْ بِالْقَبْضِ.
٤ - الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ نَفْسُ الصُّورَةِ الأُْولَى، لَكِنْ تَخْتَلِفُ عَنْهَا بِالنِّسْبَةِ لِمَعْرِفَةِ الثَّمَنِ، أَيْ إِنَّ الإِْنْسَانَ يَأْخُذُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ شَيْئًا فَشَيْئًا مَعَ الْعِلْمِ بِالثَّمَنِ وَقْتَ الأَْخْذِ، ثُمَّ يُحَاسِبُهُ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَهَذَا الْبَيْعُ جَائِزٌ وَلاَ خِلاَفَ فِي انْعِقَادِهِ، لأَِنَّهُ كُلَّمَا أَخَذَ شَيْئًا انْعَقَدَ بَيْعًا بِثَمَنِهِ الْمَعْلُومِ، وَيَكُونُ بَيْعًا بِالتَّعَاطِي، وَالْبَيْعُ بِالتَّعَاطِي يَنْعَقِدُ، سَوَاءٌ أَدَفَعَ الثَّمَنَ وَقْتَ الأَْخْذِ أَمْ تَأَجَّل.
وَمِثْلُهَا فِي الْحُكْمِ: أَنْ يَدْفَعَ الإِْنْسَانُ إِلَى الْبَيَّاعِ الدَّرَاهِمَ دُونَ أَنْ يَقُول لَهُ: اشْتَرَيْتُ، وَجَعَل يَأْخُذُ كُل يَوْمٍ خَمْسَةَ أَرْطَالٍ مَعَ الْعِلْمِ بِثَمَنِهَا.
هَذَا الْبَيْعُ جَائِزٌ، وَمَا أَكَلَهُ حَلاَلٌ، لأَِنَّهُ وَإِنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ الشِّرَاءَ وَقْتَ الدَّفْعِ إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَنْعَقِدُ بَيْعًا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، وَإِنَّمَا انْعَقَدَ بَيْعًا الآْنَ بِالتَّعَاطِي، وَالآْنَ الْمَبِيعُ مَعْلُومٌ فَيَنْعَقِدُ الْبَيْعُ صَحِيحًا.
٥ - الصُّورَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَدْفَعَ الإِْنْسَانُ إِلَى الْبَيَّاعِ دَرَاهِمَ، وَيَقُول لَهُ: اشْتَرَيْتُ مِنْكَ مِائَةَ رِطْلٍ مِنْ خُبْزٍ مَثَلًا، وَجَعَل يَأْخُذُ كُل يَوْمٍ خَمْسَةَ أَرْطَالٍ.
هَذَا الْبَيْعُ فَاسِدٌ، وَمَا أَكَل فَهُوَ مَكْرُوهٌ، وَذَلِكَ لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ، لأَِنَّهُ اشْتَرَى خُبْزًا غَيْرَ مُشَارٍ إِلَيْهِ فَكَانَ الْمَبِيعُ مَجْهُولًا، وَمِنْ شَرَائِطِ صِحَّةِ الْبَيْعِ: أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مَعْلُومًا.
٦ - الصُّورَةُ الرَّابِعَةُ: وَهِيَ أَنْ يَدْفَعَ الإِْنْسَانُ الدَّرَاهِمَ لِلْبَيَّاعِ دُونَ أَنْ يَقُول لَهُ: اشْتَرَيْتُ، وَجَعَل يَأْخُذُ كُل يَوْمٍ خَمْسَةَ أَرْطَالٍ وَلاَ يَعْلَمُ ثَمَنَهَا. فَهَذَا لاَ يَنْعَقِدُ بَيْعًا بِالتَّعَاطِي لِجَهَالَةِ الثَّمَنِ، فَإِذَا تَصَرَّفَ الآْخِذُ فِي الْمَبِيعِ، وَقَدْ دَفَعَهُ الْبَيَّاعُ بِرِضَاهُ بِالدَّفْعِ وَبِالتَّصَرُّفِ فِيهِ عَلَى وَجْهِ التَّعْوِيضِ عَنْهُ، لَمْ يَنْعَقِدْ بَيْعًا، وَإِنْ كَانَ عَلَى نِيَّةِ الْبَيْعِ، لأَِنَّ الْبَيْعَ لاَ يَنْعَقِدُ بِالنِّيَّةِ، فَيَكُونُ شَبِيهَ الْقَرْضِ الْمَضْمُونِ بِمِثْلِهِ أَوْ بِقِيمَتِهِ، فَإِذَا تَوَافَقَا عَلَى شَيْءٍ بَدَل الْمِثْل أَوِ الْقِيمَةِ بَرِئَتْ ذِمَّةُ الآْخِذِ (١) .
مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ:
الصُّوَرُ الَّتِي وَرَدَتْ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ هِيَ:
٧ - أَنْ يَضَعَ الإِْنْسَانُ عِنْدَ الْبَيَّاعِ دَرَاهِمَ، ثُمَّ يَأْخُذَ بِجُزْءٍ مَعْلُومٍ مِنَ الدَّرَاهِمِ سِلْعَةً مَعْلُومَةً
_________
(١) الدر المختار وحاشية ابن عابدين ٤ / ١٢، ١٣، والبحر الرائق ٥ / ٢٧٩، وأشباه ابن نجيم ص ٣٦٤.