الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٩
وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ رُشْدٍ الْحَفِيدُ تَقْسِيمَاتٍ لِلْبَيْعِ بَلَغَتْ تِسْعَةً، تَبَعًا لِمَا تَمَّ عَلَيْهِ التَّبَادُل وَكَيْفِيَّةُ تَحْدِيدِ الثَّمَنِ وَوُجُوبِ الْخِيَارِ، وَالْحُلُول وَالنَّسِيئَةِ فِي كُلٍّ مِنَ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ، بِمَا لاَ يَخْرُجُ عَمَّا سَبَقَ (١) .
وَهُنَاكَ تَقْسِيمَاتٌ أُخْرَى فَرْعِيَّةٌ بِحَسَبِ حُضُورِ الْمَبِيعِ وَغَيْبَتِهِ، وَبِحَسَبِ رُؤْيَتِهِ وَعَدَمِهَا، وَبِحَسَبِ بَتِّ الْعَقْدِ أَوِ التَّخْيِيرِ فِيهِ (٢) .
١٧ - أَمَّا التَّقْسِيمُ بِاعْتِبَارِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فَأَنْوَاعُهُ كَثِيرَةٌ، فَمِنْ ذَلِكَ الْبَيْعُ الْمُنْعَقِدُ، وَيُقَابِلُهُ الْبَيْعُ الْبَاطِل. وَالْبَيْعُ الصَّحِيحُ وَيُقَابِلُهُ الْبَيْعُ الْفَاسِدُ. وَالْبَيْعُ النَّافِذُ، وَيُقَابِلُهُ الْبَيْعُ الْمَوْقُوفُ. وَالْبَيْعُ اللاَّزِمُ، وَيُقَابِلُهُ الْبَيْعُ غَيْرُ اللاَّزِمِ (وَيُسَمَّى الْجَائِزَ أَوِ الْمُخَيَّرَ) وَتَفْصِيل مَا يَتَّصِل بِهَذِهِ الأَْنْوَاعِ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا. وَتُنْظَرُ الْبُيُوعُ الْمَنْهِيُّ عَنْهَا فِي مُصْطَلَحِ (بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ) .
وَهُنَاكَ بُيُوعٌ مُسَمَّاةٌ بِأَسْمَاءٍ خَاصَّةٍ وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهَا كَبَيْعِ النَّجْشِ، وَبَيْعِ الْمُنَابَذَةِ، وَنَحْوِهِمَا. وَتُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحَاتِهَا.
وَهُنَاكَ أَنْوَاعٌ أُخْرَى رُوعِيَ فِي تَسْمِيَتِهَا أَحْوَالٌ تَقْتَرِنُ بِالْعَقْدِ، وَتُؤَثِّرُ فِي الْحُكْمِ، كَبَيْعِ الْمُكْرَهِ، أَوِ الْهَازِل، وَبَيْعِ التَّلْجِئَةِ، وَبَيْعِ الْفُضُولِيِّ، وَبَيْعِ الْوَفَاءِ. وَلَهَا مُصْطَلَحَاتُهَا أَيْضًا.
كَمَا أَنَّ (الاِسْتِصْنَاعَ) يُدْرَجُ فِي عِدَادِ الْبُيُوعِ، مَعَ الْخِلاَفِ فِي أَنَّهُ بَيْعٌ أَوْ إِجَارَةٌ، وَيُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِهِ.
وَهَذِهِ الْبُيُوعُ الْمُسَمَّاةُ حَظِيَتْ مِنَ الْفُقَهَاءِ.
_________
(١) بداية المجتهد ٢ / ١٠٨
(٢) الحطاب ٤ / ٢٢٦.
بِبَحْثٍ مُسْتَقِلٍّ عَنِ الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ، لَكِنَّهَا تَأْتِي تَالِيَةً لَهُ.
وَمِنْ هُنَا جَاءَتْ تَسْمِيَةُ (الْبُيُوعِ)؛ لأَِنَّهَا يَشْمَلُهَا مُطْلَقُ الْبَيْعِ، لَكِنَّهَا لاَ تَدْخُل فِي (الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ) كَمَا سَبَقَ
أَرْكَانُ الْبَيْعِ وَشُرُوطُهُ:
١٨ - لِلْفُقَهَاءِ خِلاَفٌ مَشْهُورٌ فِي تَحْدِيدِ الأَْرْكَانِ فِي الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُقُودِ، هَل هِيَ الصِّيغَةُ (الإِْيجَابُ أَوِ الْقَبُول) أَوْ مَجْمُوعُ الصِّيغَةِ وَالْعَاقِدَيْنِ (الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي) وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ أَوْ مَحَل الْعَقْدِ (الْمَبِيعُ وَالثَّمَنُ) .
فَالْجُمْهُورُ (الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ) يَرَوْنَ أَنَّ هَذِهِ كُلَّهَا أَرْكَانُ الْبَيْعِ؛ لأَِنَّ الرُّكْنَ عِنْدَهُمْ: مَا تَوَقَّفَ عَلَيْهِ وُجُودُ الشَّيْءِ وَتَصَوُّرُهُ عَقْلًا، سَوَاءٌ أَكَانَ جُزْءًا مِنْ حَقِيقَتِهِ أَمْ لَمْ يَكُنْ، وَوُجُودُ الْبَيْعِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعَاقِدَيْنِ وَالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَؤُلاَءِ جُزْءًا مِنْ حَقِيقَتِهِ (١) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الرُّكْنَ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ: هُوَ الصِّيغَةُ فَقَطْ. أَمَّا الْعَاقِدَانِ وَالْمَحَل فَمِمَّا يَسْتَلْزِمُهُ وُجُودُ الصِّيغَةِ لاَ مِنَ الأَْرْكَانِ؛ لأَِنَّ مَا عَدَا الصِّيغَةَ لَيْسَ جُزْءًا مِنْ حَقِيقَةِ الْبَيْعِ، وَإِنْ كَانَ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ وُجُودُهُ (٢) .
وَاسْتَحْسَنَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْمُعَاصِرِينَ تَسْمِيَةَ مَجْمُوعِ الصِّيغَةِ وَالْعَاقِدَيْنِ وَالْمَحَل (مُقَوِّمَاتِ الْعَقْدِ): لِلاِتِّفَاقِ عَلَى عَدَمِ قِيَامِ الْعَقْدِ بِدُونِهَا (٣) .
_________
(١) الشرح الصغير ٢ / ٣ ط الحلبي، ومغني المحتاج ٢ / ٥ - ٧، وشرح منتهى الإرادات ٢ / ١٤٠.
(٢) الاختيار ٢ / ٤.
(٣) المدخل الفقهي العام ١ / ٢٩٩ - ٣٠٠.
هَذَا، وَلِكُلٍّ مِنَ الصِّيغَةِ وَالْعَاقِدَيْنِ وَالْمَحَل شُرُوطٌ لاَ يَتَحَقَّقُ الْوُجُودُ الشَّرْعِيُّ لأَِيٍّ مِنْهَا إِلاَّ بِتَوَافُرِهَا، وَتَخْتَلِفُ تِلْكَ الشُّرُوطُ مِنْ حَيْثُ أَثَرُ وُجُودِهَا أَوْ فِقْدَانِهَا.
فَمِنْهَا شُرُوطُ الاِنْعِقَادِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى تَخَلُّفِ أَحَدِهَا بُطْلاَنُ الْعَقْدِ.
وَمِنْهَا شُرُوطُ الصِّحَّةِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى تَخَلُّفِ شَيْءٍ مِنْهَا بُطْلاَنُ الْعَقْدِ، أَوْ فَسَادُهُ عَلَى الْخِلاَفِ بَيْنَ الْجُمْهُورِ وَالْحَنَفِيَّةِ.
وَمِنْهَا شُرُوطُ النَّفَاذِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى فَقْدِ أَحَدِهَا اعْتِبَارُ الْعَقْدِ مَوْقُوفًا.
وَمِنْهَا شُرُوطُ اللُّزُومِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى تَخَلُّفِهَا أَوْ تَخَلُّفِ بَعْضِهَا عَدَمُ لُزُومِ الْعَقْدِ.
وَهَذَا التَّنْوِيعُ لِلشُّرُوطِ هُوَ مَا عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ. وَفِي بَعْضِهِ خِلاَفٌ لِغَيْرِهِمْ سَيَأْتِي بَيَانُهُ.
الصِّيغَةُ وَشُرُوطُهَا:
٢٠ - الصِّيغَةُ - كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ الْحَطَّابُ (١) - هِيَ الإِْيجَابُ وَالْقَبُول.
وَيَصْلُحُ لَهُمَا كُل قَوْلٍ يَدُل عَلَى الرِّضَا، مِثْل قَوْل الْبَائِعِ: بِعْتُكَ أَوْ أَعْطَيْتُكَ، أَوْ مَلَّكْتُكَ بِكَذَا. وَقَوْل الْمُشْتَرِي: اشْتَرَيْتُ أَوْ تَمَلَّكْتُ أَوِ ابْتَعْتُ أَوْ قَبِلْتُ، وَشِبْهِ ذَلِكَ.
وَالإِْيجَابُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: مَا يَصْدُرُ مِنَ الْبَائِعِ دَالًّا عَلَى الرِّضَا، وَالْقَبُول: مَا يُصْدَرُ مِنَ الْمُشْتَرِي كَذَلِكَ.
وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الإِْيجَابَ يُطْلَقُ عَلَى مَا يَصْدُرُ أَوَّلًا مِنْ كَلاَمِ أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ، سَوَاءٌ
_________
(١) الحطاب ٤ / ٢٢٨.
أَكَانَ هُوَ الْبَائِعَ أَمِ الْمُشْتَرِيَ، وَالْقَبُول مَا يَصْدُرُ بَعْدَهُ (١) . وَلِلتَّفْصِيل يُنْظَرُ (إِيجَابٌ، وَقَبُولٌ) .
وَقَدْ صَرَّحَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ تَقَدُّمَ لَفْظِ الْمُشْتَرِي عَلَى لَفْظِ الْبَائِعِ جَائِزٌ لِحُصُول الْمَقْصُودِ (٢) .
وَلاَ تَخْتَلِفُ شُرُوطُ الصِّيغَةِ فِي الْبَيْعِ عَنِ الصِّيغَةِ فِي غَيْرِهِ مِنَ الْعُقُودِ الْمَالِيَّةِ مِمَّا خُلاَصَتُهُ كَوْنُ الصِّيغَةِ بِالْمَاضِي، أَوْ بِمَا يُفِيدُ إِنْشَاءَ الْعَقْدِ فِي الْحَال كَمَا يَأْتِي، وَتَوَافُقُ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول، فَلَوْ خَالَفَ الْقَبُول الإِْيجَابَ لَمْ يَنْعَقِدِ الْبَيْعُ.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ الْقَبُول الْمُخَالِفَ لِلإِْيجَابِ يَكُونُ إِيجَابًا جَدِيدًا.
وَيُشْتَرَطُ لِلصِّيغَةِ كَذَلِكَ: اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ، وَهُوَ يَجْمَعُ الْمُتَفَرِّقَاتِ فِيهِ، فَلَوْ تَرَاخَى الْقَبُول عَنِ الإِْيجَابِ أَوْ عَكْسُهُ صَحَّ الْمُتَقَدِّمُ مِنْهُمَا، وَلَمْ يُلْغَ مَا دَامَا فِي الْمَجْلِسِ وَلَمْ يَتَشَاغَلاَ بِمَا يَقْطَعُهُ عُرْفًا. وَيُشْتَرَطُ: عَدَمُ الْهَزْل فِي الإِْيجَابِ أَوِ الْقَبُول.
وَيُشْتَرَطُ لِبَقَاءِ الإِْيجَابِ صَالِحًا: عَدَمُ رُجُوعِ الْمُوجِبِ، وَعَدَمُ وَفَاتِهِ قَبْل الْقَبُول، وَعَدَمُ هَلاَكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ.
وَيُشْتَرَطُ أَلاَّ يَطْرَأَ قَبْل الْقَبُول تَغْيِيرٌ عَلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَصِيرُ مُسَمًّى آخَرَ غَيْرَ الْمُتَعَاقَدِ عَلَيْهِ، كَتَحَوُّل الْعَصِيرِ خَلًّا. وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحَيْ: (عَقْدٌ) (وَصِيغَةٌ) .
وَفِيمَا يَلِي بَعْضُ التَّطْبِيقَاتِ الْهَامَةِ الْخَاصَّةِ
_________
(١) المجلة مادة (١٠١)، (١٠٢)، والاختيار ٢ / ٤.
(٢) منح الجليل ٢ / ٤٦٢، وجواهر الإكليل ٢ / ٢، وقليوبي ٢ / ١٥٣، وشرح منتهى الإرادات ٢ / ١٤٠.
بِصِيغَةِ الْبَيْعِ. فَضْلًا عَمَّا سَبَقَتِ الإِْشَارَةُ إِلَيْهِ مِنْ شُرُوطِ الصِّيغَةِ فِي الْعُقُودِ عَامَّةً.
٢١ - لاَ خِلاَفَ فِيمَا إِذَا كَانَ الإِْيجَابُ وَالْقَبُول بِصِيغَةِ الْمَاضِي مِثْل: بِعْتُ، أَوِ اشْتَرَيْتُ. أَوِ الْمُضَارِعِ الْمُرَادِ بِهِ الْحَال بِقَرِينَةٍ لَفْظِيَّةٍ مِثْل: أَبِيعُكَ الآْنَ أَوْ قَرِينَةٍ حَالِيَّةٍ. كَمَا إِذَا جَرَى الْعُرْفُ عَلَى اسْتِعْمَال الْمُضَارِعِ بِمَعْنَى الْحَال.
وَلاَ يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ إِذَا كَانَ الإِْيجَابُ أَوِ الْقَبُول بِصِيغَةِ الاِسْتِفْهَامِ، مِثْل: أَتْبِيعُنِي؟ أَوِ الْمُضَارِعِ الْمُرَادِ بِهِ الاِسْتِقْبَال، مِثْل: سَأَبِيعُكَ، أَوْ أَبِيعُكَ غَدًا.
أَمَّا الأَْمْرُ مِثْل: بِعْنِي، فَإِذَا أَجَابَهُ الآْخَرُ بِقَوْلِهِ: بِعْتُكَ. كَانَ هَذَا اللَّفْظُ الثَّانِي إِيجَابًا، وَاحْتَاجَ إِلَى قَبُولٍ مِنَ الأَْوَّل (الآْمِرِ بِالْبَيْعِ) .
وَهَذَا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَمُقَابِل الأَْظْهَرِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (١) .
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ: يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ بِقَوْل الْمُشْتَرِي: بِعْنِي، وَبِقَوْل الْبَائِعِ: بِعْتُكَ، لِلدَّلاَلَةِ عَلَى الرِّضَا، وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى قَبُولٍ مِنَ الأَْوَّل (٢) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ قَال الْمُشْتَرِي بِلَفْظِ الْمَاضِي أَوِ الْمُضَارِعِ: بِعْتَنِي، أَوْ تَبِيعُنِي، فَقَال الْبَائِعُ: بِعْتُكَ، لَمْ يَنْعَقِدِ الْبَيْعُ حَتَّى يَقْبَل بَعْدَ ذَلِكَ (٣) .
_________
(١) شرح المجلة للأتاسي ٢ / ٣٢، والاختيار ٢ / ٤، ومغني المحتاج ٢ / ٥، والمغني ٣ / ٥٦١.
(٢) منح الجليل ٢ / ٤٦٢، ومغني المحتاج ٢ / ٥، وشرح منتهى الإرادات ٢ / ١٤٠، والمغني ٣ / ٥٦١.
(٣) مغني المحتاج ٢ / ٥.
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ بِصِحَّةِ الإِْيجَابِ بِلَفْظِ الأَْمْرِ أَوِ الْمُضَارِعِ، إِذَا كَانَ فِي الْعِبَارَةِ إِيجَابٌ أَوْ قَبُولٌ ضِمْنِيٌّ، مِثْل: خُذْ هَذِهِ السِّلْعَةَ بِكَذَا، فَقَال: أَخَذْتُهَا؛ لأَِنَّ (خُذْ) تَتَضَمَّنُ بِعْتُكَ فَخُذْ، وَكَذَلِكَ قَوْل الْبَائِعِ بَعْدَ إِيجَابِ الْمُشْتَرِي: يُبَارِكُ اللَّهُ لَكَ فِي السِّلْعَةِ، لأَِنَّهُ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى قَبِلْتُ الْبَيْعَ. وَمِثْل ذَلِكَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ. وَنَحْوُ هَذَا لِلشَّافِعِيَّةِ فِي مِثْل: أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي بِكَذَا، لأَِنَّهُ تَضَمَّنَ: بِعْنِيهِ وَأَعْتِقْهُ عَنِّي (١)
٢٢ - وَتَدُل عِبَارَاتُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالدَّلاَلَةِ عَلَى الْمَقْصُودِ، سَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ بِوَضْعِ اللُّغَةِ أَمْ بِجَرَيَانِ الْعُرْفِ، قَال الدُّسُوقِيُّ: يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ بِمَا يَدُل عَلَى الرِّضَا عُرْفًا، سَوَاءٌ دَل لُغَةً أَوْ لاَ، مِنْ قَوْلٍ أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا.
وَفِي كَشَّافِ الْقِنَاعِ: الصِّيغَةُ الْقَوْلِيَّةُ غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ فِي لَفْظٍ بِعَيْنِهِ كَبِعْتُ وَاشْتَرَيْتُ، بَل هِيَ كُل مَا أَدَّى مَعْنَى الْبَيْعِ؛ لأَِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَخُصَّهُ بِصِيغَةٍ مُعَيَّنَةٍ، فَيَتَنَاوَل كُل مَا أَدَّى مَعْنَاهُ (٢) .
٢٣ - وَيَحْصُل التَّوَافُقُ بَيْنَ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول بِأَنْ يَقْبَل الْمُشْتَرِي كُل الْمَبِيعِ بِكُل الثَّمَنِ. فَلاَ تَوَافُقَ إِنْ قَبِل بَعْضَ الْعَيْنِ الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا الإِْيجَابُ أَوْ قَبِل عَيْنًا غَيْرَهَا، وَكَذَلِكَ لاَ تَوَافُقَ إِنْ قَبِل بِبَعْضِ الثَّمَنِ الَّذِي وَقَعَ بِهِ الإِْيجَابُ أَوْ بِغَيْرِهِ، إِلاَّ إِنْ كَانَ الْقَبُول إِلَى خَيْرٍ مِمَّا فِي الإِْيجَابِ، كَمَا
_________
(١) شرح المجلة ٢ / ٣٤، والدسوقي ٣ / ٣، وقليوبي ٢ / ١٥٣، وشرح منتهى الإرادات ٢ / ١٤٠.
(٢) الدسوقي ٣ / ٣، وكشاف القناع ٣ / ١٤٦.
لَوْ بَاعَ شَخْصٌ السِّلْعَةَ بِأَلْفٍ فَقَبِلَهَا الْمُشْتَرِي بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، أَوِ اشْتَرَى شَخْصٌ سِلْعَةً بِأَلْفٍ فَقَبِل الْبَائِعُ بَيْعَهَا بِثَمَانِمِائَةٍ، وَهَذِهِ مُوَافَقَةٌ ضِمْنِيَّةٌ وَلَكِنْ لاَ تَلْزَمُ الزِّيَادَةُ، إِلاَّ إِنْ قَبِلَهَا الطَّرَفُ الآْخَرُ.
أَمَّا الْحَطُّ مِنَ الثَّمَنِ فَجَائِزٌ وَلَوْ بَعْدَ الْبَيْعِ (١) .
وَكَذَلِكَ لاَ تَوَافُقَ إِنْ بَاعَهُ سِلْعَةً بِأَلْفٍ فَقَبِل نِصْفَهَا بِخَمْسِمِائَةٍ مَثَلًا، إِلاَّ إِنْ رَضِيَ الْبَائِعُ بَعْدَ هَذَا، فَيَصِيرُ الْقَبُول إِيجَابًا، وَرِضَا الْبَائِعِ بَعْدَهُ قَبُولٌ.
وَصَرَّحَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّهُ لَوْ قَال الْبَائِعُ: بِعْتُكَ هَذَا بِأَلْفٍ وَنِصْفَهُ بِخَمْسِمِائَةٍ، فَقَبِل نِصْفَهُ جَازَ، وَمِنْهُ يُعْرَفُ حُكْمُ مَا لَوْ وُجِدَتْ قَرِينَةٌ بِرِضَا الْبَائِعِ بِتَجْزِئَةِ الْمَبِيعِ بِالنِّسْبَةِ لِلثَّمَنِ (٢) .
انْعِقَادُ الْبَيْعِ بِالْمُعَاطَاةِ (أَوِ التَّعَاطِي)
٢٤ - الْمُعَاطَاةُ هِيَ: إِعْطَاءُ كُلٍّ مِنَ الْعَاقِدَيْنِ لِصَاحِبِهِ مَا يَقَعُ التَّبَادُل عَلَيْهِ دُونَ إِيجَابٍ وَلاَ قَبُولٍ، أَوْ بِإِيجَابٍ دُونَ قَبُولٍ، أَوْ عَكْسِهِ، وَهِيَ مِنْ قَبِيل الدَّلاَلَةِ الْحَالِيَّةِ، وَيَصِحُّ بِهَا الْبَيْعُ فِي الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ كَالْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيِّ، خِلاَفًا لِغَيْرِهِمْ (٣) .
_________
(١) شرح المجلة للأتاسي ٢ / ٤٤، والشرح الصغير ٢ / ٩ ط الحلبي، وهامش الفروق ٣ / ٢٩٠، والبهجة شرح التحفة ٢ / ٢٤، وقليوبي ٢ / ١٥٤، وشرح منتهى الإرادات ٢ / ١٤٠.
(٢) المراجع السابقة.
(٣) شرح المجلة ٢ / ٣٦، والدسوقي ٣ / ٣، ومغني المحتاج ٢ / ٣، وشرح منتهى الإرادات ٢ / ١٤١.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ وَالْخِلاَفُ فِيهِ يُذْكَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (تَعَاطِي) .
انْعِقَادُ الْبَيْعِ بِالْكِتَابَةِ وَالْمُرَاسَلَةِ:
٢٥ - يَصِحُّ التَّعَاقُدُ بِالْكِتَابَةِ بَيْنَ حَاضِرَيْنِ أَوْ بِاللَّفْظِ مِنْ حَاضِرٍ وَالْكِتَابَةِ مِنَ الآْخَرِ. وَكَذَلِكَ يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ إِذَا أَوْجَبَ الْعَاقِدُ الْبَيْعَ بِالْكِتَابَةِ إِلَى غَائِبٍ بِمِثْل عِبَارَةِ: بِعْتُكَ دَارِي بِكَذَا، أَوْ أَرْسَل بِذَلِكَ رَسُولًا فَقَبِل الْمُشْتَرِي بَعْدَ اطِّلاَعِهِ عَلَى الإِْيجَابِ مِنَ الْكِتَابِ أَوِ الرَّسُول.
وَاشْتَرَطَ الشَّافِعِيَّةُ الْفَوْرَ فِي الْقَبُول، وَقَالُوا: يَمْتَدُّ خِيَارُ الْمَجْلِسِ لِلْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ أَوِ الْمُرْسَل إِلَيْهِ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِ قَبُولِهِ، وَلاَ يُعْتَبَرُ لِلْكَاتِبِ مَجْلِسٌ، وَلَوْ بَعْدَ قَبُول الْمَكْتُوبِ إِلَيْهِ، بَل يَمْتَدُّ خِيَارُهُ مَا دَامَ خِيَارُ الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ. كَمَا قَالُوا: لاَ يُشْتَرَطُ إِرْسَال الْكِتَابِ أَوِ الرَّسُول فَوْرًا عَقِبَ الإِْجَابَةِ.
وَلَمْ يَشْتَرِطْ غَيْرُ الشَّافِعِيَّةِ الْفَوْرَ فِي الْقَبُول، بَل صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ لاَ يَضُرُّ التَّرَاخِي هُنَا بَيْنَ الإِْيجَابِ وَالْقَبُول؛ لأَِنَّ التَّرَاخِيَ مَعَ غَيْبَةِ الْمُشْتَرِي لاَ يَدُل عَلَى إِعْرَاضِهِ عَنِ الإِْيجَابِ (١) .
انْعِقَادُ الْبَيْعِ بِالإِْشَارَةِ مِنَ الأَْخْرَسِ وَغَيْرِهِ:
٢٦ - يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ بِالإِْشَارَةِ مِنَ الأَْخْرَسِ إِذَا كَانَتْ مَعْرُوفَةً، وَلَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكِتَابَةِ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ؛ لأَِنَّ كُلًّا مِنَ الإِْشَارَةِ وَالْكِتَابَةِ حُجَّةٌ.
_________
(١) شرح المجلة ٢ / ٣٤، والخرشي ٥ / ٥، والحطاب ٤ / ٢٤١، والقليوبي ٢ / ١٥٤، وكشاف القناع ٣ / ١٤٨.
أَمَّا الإِْشَارَةُ غَيْرُ الْمَفْهُومَةِ فَلاَ عِبْرَةَ بِهَا.
وَلاَ تُقْبَل الإِْشَارَةُ مِنَ النَّاطِقِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
أَمَّا الْمَالِكِيَّةُ فَعِنْدَهُمْ يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ بِالإِْشَارَةِ الْمُفْهِمَةِ وَلَوْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النُّطْقِ.
وَأَمَّا مَنِ اعْتُقِل لِسَانُهُ، وَهُوَ: مَنْ طَرَأَ عَلَيْهِ الْخَرَسُ فَفِيهِ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ (١) يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (اعْتِقَال اللِّسَانِ) .
شُرُوطُ الْبَيْعِ:
٢٧ - اخْتَلَفَتْ طَرِيقَةُ الْفُقَهَاءِ فِي حَصْرِ شُرُوطِ الْبَيْعِ، فَقَدْ جَعَلَهَا بَعْضُهُمْ شُرُوطًا لِصِحَّةِ الْبَيْعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ، فِي حِينِ اهْتَمَّ آخَرُونَ بِذِكْرِ شُرُوطِ الْمَبِيعِ، ثُمَّ إِلْحَاقِ الثَّمَنِ فِي جَمِيعِ شُرُوطِ الْمَبِيعِ أَوْ فِي بَعْضِهَا، حَسَبَ إِمْكَانِ تَصَوُّرِهَا فِيهِ.
وَلاَ تَبَايُنَ بَيْنَ مُعْظَمِ تِلْكَ الشُّرُوطِ، لِتَقَارُبِ الْمَقْصُودِ بِمَا عَبَّرُوا بِهِ عَنْهَا.
وَهُنَاكَ شُرُوطٌ انْفَرَدَ بِذِكْرِهَا بَعْضُ الْمَذَاهِبِ دُونَ بَعْضٍ. وَمَعَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ شُرُوطِ الاِنْعِقَادِ وَشُرُوطِ الصِّحَّةِ، فَإِنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ شُرُوطَ الاِنْعِقَادِ شُرُوطًا لِلصِّحَّةِ؛ لأَِنَّ مَا لَمْ يَنْعَقِدْ فَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ، وَلاَ عَكْسَ.
وَفِيمَا يَلِي بَيَانُ تِلْكَ الشُّرُوطِ عَلَى طَرِيقَةِ الْجُمْهُورِ، مَعَ الإِْشَارَةِ إِلَى مَا اعْتَبَرَهُ الْحَنَفِيَّةُ مِنْهَا شَرْطَ انْعِقَادٍ (٢) .
_________
(١) شرح المجلة ٢ / ٣٥، والفواكه الدواني ٢ / ١٥٧، والقليوبي ٢ / ١٥٥.
(٢) الفتاوى الهندية ٣ / ٣، وشرح المجلة مادة: ٢٠٥، ٢٠٨.
شُرُوطُ الْمَبِيعِ:
لِلْمَبِيعِ شُرُوطٌ هِيَ:
أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مَوْجُودًا حِينَ الْعَقْدِ.
٢٨ - فَلاَ يَصِحُّ بَيْعُ الْمَعْدُومِ، وَذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ.
وَهَذَا شَرْطُ انْعِقَادٍ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ بَيْعِ الْمَعْدُومِ بَيْعُ الثَّمَرَةِ قَبْل أَنْ تُخْلَقَ، وَبَيْعُ الْمَضَامِينِ (وَهِيَ مَا سَيُوجَدُ مِنْ مَاءِ الْفَحْل)، وَبَيْعُ الْمَلاَقِيحِ (وَهِيَ مَا فِي الْبُطُونِ مِنَ الأَْجِنَّةِ) وَذَلِكَ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵄: نَهَى رَسُول اللَّهِ ﷺ عَنْ بَيْعِ الْمَضَامِينِ وَالْمَلاَقِيحِ وَحَبَل الْحَبَلَةِ (١) . وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ. وَلِلْحَدِيثِ: نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ (٢) .
وَلاَ خِلاَفَ فِي اسْتِثْنَاءِ بَيْعِ السَّلَمِ، فَهُوَ صَحِيحٌ مَعَ أَنَّهُ بَيْعُ الْمَعْدُومِ، وَذَلِكَ لِلنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِيهِ، وَمِنْهَا: نَهَى رَسُول اللَّهِ ﷺ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الإِْنْسَانِ، وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ (٣) .
أَنْ يَكُونَ مَالًا:
٢٩ - وَعَبَّرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ عَنْ هَذَا الشَّرْطِ بِلَفْظِ: النَّفْعِ أَوِ الاِنْتِفَاعِ، ثُمَّ قَالُوا: مَا لاَ نَفْعَ
_________
(١) حديث: " نهى رسول الله ﷺ عن بيع المضامين. . . " أخرجه عبد الرزاق في مصنفه من حديث ابن عمر (٨ / ٢١ ط المجلس العلمي) وقوى ابن حجر إسناده في التلخيص (٣ / ١٢ ط شركة الطباعة الفنية) .
(٢) حديث: " نهى رسول الله ﷺ عن بيع الغرر " أخرجه مسلم (٣ / ١١٥٣ ط الحلبي) .
(٣) فتح القدير ١ / ٥٠، والدسوقي ٣ / ١٥٧ - ١٥٨، والمغني والشرح الكبير ٤ / ٢٧٦، والقليوبي ٢ / ١٧٥ - ١٧٦.