الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٦
رِضَاهُ، فَلاَ بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ وَقْتِ التَّعَلُّقِ. (١)
٣٥ - وَلَمَّا كَانَ الإِْقْرَارُ إِخْبَارًا عَنْ كَائِنٍ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ مَعْلُومًا وَقَدْ يَكُونُ مَجْهُولًا، فَإِنَّ جَهَالَةَ الْمُقَرِّ بِهِ لاَ تَمْنَعُ صِحَّةَ الإِْقْرَارِ بِغَيْرِ خِلاَفٍ. (٢) فَلَوْ أَتْلَفَ عَلَى آخَرَ شَيْئًا لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الأَْمْثَال فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ، أَوْ جَرَحَ آخَرَ جِرَاحَةً لَيْسَ لَهَا فِي الشَّرْعِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فَأَقَرَّ بِالْقِيمَةِ وَالأَْرْشِ، فَكَانَ الإِْقْرَارُ بِالْمَجْهُول إِخْبَارًا عَنِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ عَلَى مَا هُوَ بِهِ. وَيُجْبَرُ عَلَى الْبَيَانِ لأَِنَّهُ هُوَ الْمُجْمَل، فَكَانَ الْبَيَانُ عَلَيْهِ، قَال اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ (٣) وَيَصِحُّ بَيَانُهُ مُتَّصِلًا وَمُنْفَصِلًا، لأَِنَّهُ بَيَانٌ مَحْضٌ فَلاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْوَصْل.
٣٦ - لاَ بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ شَيْئًا لَهُ قِيمَةٌ، لأَِنَّهُ أَقَرَّ بِمَا فِي ذِمَّتِهِ، وَمَا لاَ قِيمَةَ لَهُ لاَ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ، وَإِذَا بَيَّنَ شَيْئًا لَهُ قِيمَةٌ فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ وَادَّعَى عَلَيْهِ زِيَادَةً، أَخَذَ ذَلِكَ الْقَدْرَ الْمُعَيَّنَ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الزِّيَادَةِ، وَإِلاَّ حَلَّفَهُ عَلَيْهَا إِنْ أَرَادَ، لأَِنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ، وَالْقَوْل قَوْل الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنْ كَذَّبَهُ وَادَّعَى عَلَيْهِ مَالًا آخَرَ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ، وَإِلاَّ حَلَّفَهُ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا عَيَّنَهُ، لأَِنَّهُ أَبْطَل إِقْرَارَهُ بِالتَّكْذِيبِ.
وَعَلَى هَذَا فَإِذَا قَال: لِفُلاَنٍ عَلَيَّ مَالٌ، يُصَدَّقُ
_________
(١) البدائع ٧ / ٢٢٤.
(٢) البدائع ٧ / ٢١٤، ورد المحتار ٤ / ٤٥٠، وتبيين الحقائق وحاشية الشلبي عليه ٥ / ٤، وتكملة الفتح والهداية ٦ / ٢٨٥، وحاشية الدسوقي ٣ / ٤١٠، والتاج والإكليل ٥ / ٢٣٠ - ٢٣١، ومواهب الجليل ٥ / ٢٣١، ونهاية المحتاج ٥ / ٢٨٦، والمهذب ٢ / ٣٤٤، والمغني ٥ / ١٨٧، وكشاف القناع ٦ / ٤٥٣، ٤٦٥، والإنصاف ١٢ / ٢٠٤.
(٣) سورة القيامة / ١٨ - ١٩.
فِي الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ؛ لأَِنَّ الْمَال اسْمُ مَا يُتَمَوَّل، وَهَذَا يَقَعُ عَلَى الْقَلِيل وَالْكَثِيرِ، وَيَصِحُّ بَيَانُهُ مُتَّصِلًا وَمُنْفَصِلًا. (١) وَبِهَذَا قَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ. وَنَقَل ابْنُ قُدَامَةَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لاَ يُقْبَل تَفْسِيرُهُ بِغَيْرِ الْمَال الزَّكَوِيِّ، وَأَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِ مَالِكٍ حَكَوْا عَنْهُ ثَلاَثَةَ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا كَغَيْرِ الْمَالِكِيَّةِ، وَالثَّانِي: لاَ يُقْبَل إِلاَّ أَوَّل نِصَابٍ مِنْ نُصُبِ الزَّكَاةِ مِنْ نَوْعِ أَمْوَالِهِمْ، وَالثَّالِثُ: مَا يُقْطَعُ فِيهِ السَّارِقُ وَيَصِحُّ مَهْرًا. (٢)
وَيَقُول الزَّيْلَعِيُّ: لَمْ يُصَدَّقْ فِي أَقَل مِنْ دِرْهَمٍ؛ لأَِنَّ مَا دُونَهُ لاَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْمَال عَادَةً وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ.
وَلَوْ قَال: لَهُ عَلَيَّ مَالٌ عَظِيمٌ فَالْوَاجِبُ نِصَابٌ، لأَِنَّهُ عَظِيمٌ فِي الشَّرْعِ حَتَّى اعْتُبِرَ صَاحِبُهُ غَنِيًّا. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لاَ يُصَدَّقُ فِي أَقَل مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ، لأَِنَّهُ نِصَابُ السَّرِقَةِ وَالْمَهْرِ، وَهُوَ عَظِيمٌ حَيْثُ تُقْطَعُ بِهِ الْيَدُ وَيَصْلُحُ مَهْرًا. (٣)
وَيُجْبِرُهُ الْقَاضِي عَلَى الْبَيَانِ، وَلاَ بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ مَا لَهُ قِيمَةٌ، لأَِنَّ مَا لاَ قِيمَةَ لَهُ لاَ يَجِبُ فِي الذِّمَّةِ، فَإِذَا بَيَّنَ بِمَا لاَ قِيمَةَ لَهُ اعْتُبِرَ رُجُوعًا، وَالْقَوْل قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَإِنِ ادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَالْقَوْل قَوْل الْمُقِرِّ مَعَ يَمِينِهِ. (٤)
وَلَوْ أَقَرَّ لَهُ بِشَيْءٍ أَوْ حَقٍّ، وَقَال: أَرَدْتُ حَقَّ
_________
(١) البدائع ٧ / ٢١٤، ورد المحتار ٤ / ٤٥٠، وتبيين الحقائق ٥ / ٤ - ٥، ونهاية المحتاج ٥ / ٨٦، والمغني ٥ / ١٨٧، وكشاف القناع ٦ / ٤٧٦.
(٢) المغني ٥ / ١٨٨ - ١٨٩.
(٣) تبيين الحقائق ٥ / ٥.
(٤) تكملة الفتح والهداية ٦ / ٢٨٥.
الإِْسْلاَمِ، لاَ يَصِحُّ إِنْ قَالَهُ مَفْصُولًا، وَيَصِحُّ إِنْ قَالَهُ مَوْصُولًا. (١)
وَيَنُصُّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِنْ قَال: لَكَ أَحَدُ ثَوْبَيْنِ، عَيَّنَ الْمُقِرُّ. فَإِنْ عَيَّنَ لَهُ الأَْدْنَى حَلَفَ إِنِ اتَّهَمَهُ الْمُقَرُّ لَهُ، وَإِذَا لَمْ يُعَيِّنْ بِأَنْ قَال: لاَ أَدْرِي. قِيل لِلْمُقَرِّ لَهُ: عَيِّنْ أَنْتَ. فَإِنْ عَيَّنَ أَدْنَاهُمَا أَخَذَهُ بِلاَ يَمِينٍ، وَإِنْ عَيَّنَ أَجْوَدَهُمَا حَلَفَ لِلتُّهْمَةِ وَأَخَذَهُ، وَإِنْ قَال: لاَ أَدْرِي، حَلَفَا مَعًا عَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ، وَاشْتَرَكَا فِيهِمَا بِالنِّصْفِ. (٢)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ قَال: لَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ حَقٌّ، أَوْ فِي هَذَا الْحَائِطِ، أَوْ فِي هَذِهِ الأَْرْضِ، ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ بِجُزْءٍ مِنْهَا قُبِل تَفْسِيرُهُ، قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا، شَائِعًا كَانَ أَوْ مُعَيَّنًا.
وَيَنُصُّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّهُ إِنِ امْتَنَعَ عَنِ التَّفْسِيرِ حُبِسَ حَتَّى يُفَسِّرَ، لأَِنَّهُ مُمْتَنِعٌ مِنْ حَقٍّ عَلَيْهِ، فَيُحْبَسُ بِهِ، كَمَا لَوْ عَيَّنَهُ وَامْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهِ. وَقَال الْقَاضِي: يُجْعَل نَاكِلًا وَيُؤْمَرُ الْمُقَرُّ لَهُ بِالْبَيَانِ. وَقَالُوا: إِنْ مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ أُخِذَ وَرَثَتُهُ بِمِثْل ذَلِكَ، لأَِنَّ الْحَقَّ ثَبَتَ عَلَى مُورَثِهِمْ فَيَتَعَلَّقُ بِتَرِكَتِهِ، وَقَدْ صَارَتْ إِلَى الْوَرَثَةِ، فَيَلْزَمُهُمْ مَا لَزِمَ مُورَثَهُمْ، كَمَا لَوْ كَانَ الْحَقُّ مُبَيَّنًا، وَإِنْ لَمْ يُخَلِّفِ الْمَيِّتُ تَرِكَةً فَلاَ شَيْءَ عَلَى الْوَرَثَةِ. (٣)
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ فَسَّرَهُ بِمَا لاَ يُتَمَوَّل - لَكِنْ مِنْ جِنْسِهِ - كَحَبَّةِ حِنْطَةٍ، أَوْ بِمَا يَحِل اقْتِنَاؤُهُ
_________
(١) حاشية ابن عابدين ٤ / ٤٥٠، وحاشية الدسوقي ٣ / ٤١٠، ومواهب الجليل ٥ / ٢٣١، والتاج والإكليل ٥ / ٢٣٠ - ٢٣١.
(٢) التاج والإكليل ٥ / ٢٢٨.
(٣) المغني ٥ / ١٨٧، وكشاف القناع ٦ / ٤٥٣، ٤٨٠ - ٤٨١، والإنصاف ١٢ / ٢٠٤.
كَكَلْبٍ مُعَلَّمٍ، قُبِل فِي الأَْصَحِّ وَيَحْرُمُ أَخْذُهُ وَيَجِبُ رَدُّهُ. وَقِيل: لاَ يُقْبَل فِيهِمَا، لأَِنَّ الأَْوَّل لاَ قِيمَةَ لَهُ فَلاَ يَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِكَلِمَةِ " عَلَيَّ "، وَالثَّانِي: لَيْسَ بِمَالٍ، وَظَاهِرُ الإِْقْرَارِ الْمَال. (١) وَقَالُوا: لاَ يُقْبَل تَفْسِيرُهُ بِنَحْوِ عِيَادَةِ مَرِيضٍ وَرَدِّ سَلاَمٍ، إِذْ لاَ مُطَالَبَةَ بِهِمَا، وَهُمْ يَشْتَرِطُونَ أَنْ يَكُونَ الْمُقَرُّ بِهِ مِمَّا يَجُوزُ بِهِ الْمُطَالَبَةُ (٢) . أَمَّا لَوْ كَانَ قَال: لَهُ عَلَيَّ حَقٌّ، فَإِنَّهُ يُقْبَل لِشُيُوعِ الْحَقِّ فِي اسْتِعْمَال كُل ذَلِكَ. (٣)
وَكَذَلِكَ يُصَرِّحُ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّهُ مَتَى فَسَّرَ إِقْرَارَهُ بِمَا يُتَمَوَّل فِي الْعَادَةِ قُبِل تَفْسِيرُهُ وَثَبَتَ، إِلاَّ أَنْ يُكَذِّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ، وَيَدَّعِيَ جِنْسًا آخَرَ أَوْ لاَ يَدَّعِيَ شَيْئًا، فَبَطَل إِقْرَارُهُ، وَكَذَا إِنْ فَسَّرَهُ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ فِي الشَّرْعِ، وَإِنْ فَسَّرَهُ بِكَلْبٍ غَيْرِ جَائِزٍ اقْتِنَاؤُهُ فَكَذَلِكَ. وَإِنْ فَسَّرَهُ بِكَلْبٍ يَجُوزُ اقْتِنَاؤُهُ، أَوْ جِلْدِ مَيْتَةٍ غَيْرِ مَدْبُوغٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ، الأَْوَّل: يُقْبَل لأَِنَّهُ شَيْءٌ يَجِبُ رَدُّهُ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لاَ يُقْبَل، لأَِنَّ الإِْقْرَارَ إِخْبَارٌ عَمَّا يَجِبُ ضَمَانُهُ وَهَذَا لاَ يَجِبُ ضَمَانُهُ، غَيْرَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ فَسَّرَهُ بِحَبَّةِ حِنْطَةٍ أَوْ شَعِيرٍ لَمْ يُقْبَل، لأَِنَّ هَذَا لاَ يُتَمَوَّل عَادَةً عَلَى انْفِرَادِهِ. وَقَالُوا أَيْضًا: إِنْ فَسَّرَهُ بِحَقِّ شُفْعَةٍ قُبِل، لأَِنَّهُ حَقٌّ وَاجِبٌ وَيَئُول إِلَى مَالٍ، وَإِنْ فَسَّرَهُ بِحَدِّ قَذْفٍ قُبِل، لأَِنَّهُ حَقٌّ يَجِبُ عَلَيْهِ - وَهُمْ فِي ذَلِكَ كَالشَّافِعِيَّةِ - غَيْرَ أَنَّهُمْ قَالُوا بِالنِّسْبَةِ لِحَدِّ الْقَذْفِ: يَحْتَمِل أَلاَّ يُقْبَل لأَِنَّهُ لاَ يَئُول إِلَى مَالٍ، وَالأَْوَّل أَصَحُّ وَإِنْ فَسَّرَهُ بِرَدِّ سَلاَمٍ أَوْ تَشْمِيتِ عَاطِسٍ وَنَحْوِهِ لَمْ يُقْبَل - خِلاَفًا لِلشَّافِعِيَّةِ - لأَِنَّهُ يَسْقُطُ بِفَوَاتِهِ فَلاَ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ، وَقَالُوا:
_________
(١) نهاية المحتاج٥ / ٨٦، ٨٧.
(٢) نهاية المحتاج ٥ / ٨١.
(٣) نهاية المحتاج ٥ / ٨٨.
يَحْتَمِل أَنْ يُقْبَل تَفْسِيرُهُ، فَهُمْ فِي هَذَا كَالشَّافِعِيَّةِ. (١)
٣٧ - وَلَوْ كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ مَعْلُومَ الأَْصْل وَمَجْهُول الْوَصْفِ، نَحْوَ أَنْ يَقُول: إِنَّهُ غَصَبَ مِنْ فُلاَنٍ ثَوْبًا مِنَ الْعُرُوضِ، فَيُصَدَّقُ فِي الْبَيَانِ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ سَلِيمًا كَانَ أَوْ مَعِيبًا، لأَِنَّ الْغَصْبَ يُرَدُّ عَلَى السَّلِيمِ وَالْمَعِيبِ عَادَةً، وَقَدْ بَيَّنَ الأَْصْل وَأَجَّل الْوَصْفَ، فَيُرْجَعُ فِي بَيَانِ الْوَصْفِ إِلَيْهِ فَيَصِحُّ مُنْفَصِلًا، وَمَتَى صَحَّ بَيَانُهُ يَلْزَمُهُ الرَّدُّ إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ تَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ (٢) وَإِنْ قَال: غَصَبْتُ شَيْئًا فَطَلَبَ مِنْهُ الْبَيَانَ فَفَسَّرَهُ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ قُبِل، لأَِنَّ اسْمَ الْغَصْبِ يَقَعُ عَلَيْهِ. قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ.
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لاَ يُقْبَل تَفْسِيرُهُ بِغَيْرِ الْمَكِيل وَالْمَوْزُونِ مِمَّا لاَ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ بِنَفْسِهِ. (٣)
وَلَوْ أَقَرَّ بِأَنَّ مَا عِنْدَهُ لِغَيْرِهِ كَانَ رَهْنًا، فَقَال الْمُقَرُّ لَهُ: بَل وَدِيعَةٌ، فَالْقَوْل قَوْل الْمُقَرِّ لَهُ (الْمَالِكِ) لأَِنَّ الْعَيْنَ تَثْبُتُ بِالإِْقْرَارِ، وَادَّعَى الْمُقِرُّ دَيْنًا لاَ يَعْتَرِفُ لَهُ بِهِ وَالْقَوْل قَوْل الْمُنْكِرِ، وَلأَِنَّهُ أَقَرَّ بِمَالٍ لِغَيْرِهِ وَادَّعَى أَنَّ لَهُ بِهِ تَعَلُّقًا (حَقًّا فِي الاِحْتِبَاسِ) فَلَمْ يُقْبَل، كَمَا لَوِ ادَّعَاهُ بِكَلاَمٍ مُنْفَصِلٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِدَارٍ وَقَال: اسْتَأْجَرْتُهَا، أَوْ بِثَوْبٍ وَادَّعَى أَنَّهُ خَاطَهُ بِأَجْرٍ يَلْزَمُ الْمُقَرَّ لَهُ. لَمْ يُقْبَل لأَِنَّهُ مُدَّعٍ عَلَى غَيْرِهِ حَقًّا فَلاَ يُقْبَل قَوْلُهُ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ.
وَإِنْ قَال: لَكَ عَلَيَّ أَلْفٌ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ لَمْ
_________
(١) المغني ٥ / ١٨٧، وكشاف القناع ٦ / ٤٨٠ - ٤٨١، والإنصاف ١٢ / ٢٠٥.
(٢) البدائع ٧ / ٢١٥.
(٣) المغني ٥ / ١٨٨.
أَقْبِضْهُ، فَقَال الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: بَل لِي عَلَيْكَ أَلْفٌ وَلاَ شَيْءَ لَكَ عِنْدِي. قَال أَبُو الْخَطَّابِ: فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا. الْقَوْل قَوْل الْمُقَرِّ لَهُ، لأَِنَّهُ اعْتَرَفَ لَهُ بِالأَْلْفِ وَادَّعَى عَلَيْهِ مَبِيعًا، فَأَشْبَهَ مَا إِذَا قَال: هَذَا رَهْنٌ، فَقَال الْمَالِكُ: وَدِيعَةٌ، أَوْ لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ لَمْ أَقْبِضْهَا.
الثَّانِي: الْقَوْل قَوْل الْمُقِرِّ وَهُوَ قِيَاسُ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ، لأَِنَّهُ أَقَرَّ بِحَقٍّ فِي مُقَابَلَةِ حَقٍّ لَهُ وَلاَ يَنْفَكُّ أَحَدُهُمَا عَنِ الآْخَرِ. (١)
وَيُصَرِّحُ ابْنُ قُدَامَةَ بِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الإِْقْرَارِ بِالْمَجْهُول تُقْبَل، لأَِنَّ الإِْقْرَارَ بِهِ صَحِيحٌ، وَمَا كَانَ صَحِيحًا فِي نَفْسِهِ صَحَّتِ الشَّهَادَةُ بِهِ كَالْمَعْلُومِ (٢) .
٣٨ - وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُقَرِّ بِهِ لِصِحَّةِ الإِْقْرَارِ أَلاَّ يَكُونَ مِلْكًا لِلْمُقِرِّ حِينَ يُقِرُّ، لأَِنَّ الإِْقْرَارَ لَيْسَ إِزَالَةً عَنِ الْمِلْكِ، وَإِنَّمَا هُوَ إِخْبَارٌ عَنْ كَوْنِهِ مِلْكًا لِلْمُقَرِّ لَهُ، فَلاَ بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ الْمَخْبَرِ عَنْهُ عَلَى الْخَبَرِ، فَلَوْ قَال: دَارِي أَوْ ثَوْبِي أَوْ دَيْنِي الَّذِي عَلَى زَيْدٍ لِعَمْرٍو وَلَمْ يُرِدِ الإِْقْرَارَ فَهُوَ لَغْوٌ، لأَِنَّ الإِْضَافَةَ إِلَيْهِ تَقْتَضِي الْمِلْكَ لَهُ، فَيُنَافِي إِقْرَارَهُ لِغَيْرِهِ وَيُحْمَل عَلَى الْوَعْدِ بِالْهِبَةِ. وَلَوْ قَال: هَذَا لِفُلاَنٍ وَكَانَ مِلْكِي إِلَى أَنْ أَقْرَرْتُ بِهِ، فَأَوَّل كَلاَمِهِ إِقْرَارٌ، وَآخِرُهُ لَغْوٌ، فَلْيُطْرَحْ آخِرُهُ فَقَطْ، وَيُعْمَل بِأَوَّلِهِ، لاِشْتِمَالِهِ عَلَى جُمْلَتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ. (٣)
٣٩ - كَمَا اشْتَرَطُوا لإِعْمَال الإِْقْرَارِ - أَيِ التَّسْلِيمِ
_________
(١) المغني ٥ / ١٩٤.
(٢) المغني ٥ / ١٩٣.
(٣) نهاية المحتاج ٥ / ٨١ - ٨٢.
لاَ لِصِحَّتِهِ، أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ الْمُقَرُّ بِهَا فِي يَدِ الْمُقِرِّ حِسًّا أَوْ حُكْمًا، كَالْمُعَارِ أَوِ الْمُؤَجَّرِ تَحْتَ يَدِ الْغَيْرِ، لأَِنَّهُ عِنْدَ انْتِفَاءِ يَدِهِ عَنْهُ يَكُونُ مُدَّعِيًا أَوْ شَاهِدًا، وَمَتَى حَصَل بِيَدِهِ لَزِمَهُ تَسْلِيمُهُ، لأَِنَّ هَذَا الشَّرْطَ لَيْسَ شَرْطَ صِحَّةٍ. فَلَوْ أَقَرَّ وَلَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ ثُمَّ صَارَ فِي يَدِهِ عَمِل بِمُقْتَضَى إِقْرَارِهِ، وَاسْتَثْنَوْا مِنِ اشْتِرَاطِ أَنْ يَكُونَ فِي يَدِهِ مَا لَوْ بَاعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَهُ أَوْ لَهُمَا، ثُمَّ ادَّعَاهُ رَجُلٌ، فَأَقَرَّ الْبَائِعُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ لَهُ بِهِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ. (١)
أَمَّا لَوْ كَانَتِ الْعَيْنُ فِي يَدِهِ بِاعْتِبَارِهِ نَائِبًا عَنْ غَيْرِهِ كَنَاظِرِ وَقْفٍ وَوَلِيِّ مَحْجُورٍ فَلاَ يَصِحُّ إِقْرَارُهُ. (٢)
وَكَذَلِكَ صَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِاشْتِرَاطِ أَنْ يَكُونَ الْمُقَرُّ بِهِ بِيَدِ الْمُقِرِّ وَوِلاَيَتِهِ وَاخْتِصَاصِهِ، فَلاَ يَصِحُّ إِقْرَارُهُ بِشَيْءٍ فِي يَدِ غَيْرِهِ، أَوْ فِي وِلاَيَةِ غَيْرِهِ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ أَجْنَبِيٌّ عَلَى صَغِيرٍ، أَوْ وَقْفٍ فِي وِلاَيَةِ غَيْرِهِ أَوِ اخْتِصَاصِهِ، لَكِنَّهُمْ قَالُوا بِصِحَّةِ إِقْرَارِهِ بِمَالٍ فِي وِلاَيَتِهِ وَاخْتِصَاصِهِ، كَأَنْ يُقِرَّ وَلِيُّ الْيَتِيمِ وَنَحْوُهُ أَوْ نَاظِرُ الْوَقْفِ، لأَِنَّهُ يَمْلِكُ إِنْشَاءَ ذَلِكَ.
وَاشْتَرَطُوا أَنْ يُتَصَوَّرَ الْتِزَامُ الْمُقِرِّ بِمَا أَقَرَّ بِهِ، أَيْ أَنْ يُمْكِنَ صِدْقُهُ، فَلَوْ أَقَرَّ بِارْتِكَابِهِ جِنَايَةً مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً وَعُمُرُهُ لاَ يَتَجَاوَزُ الْعِشْرِينَ، فَإِنَّ إِقْرَارَهُ لاَ يَصِحُّ. (٣)
الرُّكْنُ الرَّابِعُ: الصِّيغَةُ:
٤٠ - الصِّيغَةُ هِيَ مَا يُظْهِرُ الإِْرَادَةَ مِنْ لَفْظٍ، أَوْ
_________
(١) نهاية المحتاج ٥ / ٨٢ - ٨٣، واللجنة ترى أنه لا حاجة للاستثناء هنا لأنه في يده حكما لبقاء ملك البائع عليه.
(٢) نهاية المحتاج٥ / ٨٣.
(٣) كشاف القناع ٦ / ٤٥٣.
مَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ كِتَابَةٍ أَوْ إِشَارَةٍ، وَإِظْهَارُ الإِْرَادَةِ لاَ بُدَّ مِنْهُ، فَلاَ عِبْرَةَ بِالإِْرَادَةِ الْبَاطِنَةِ (١)
يَقُول السَّرَخْسِيُّ: إِنَّ مَا يَكُونُ بِالْقَلْبِ فَهُوَ نِيَّةٌ، وَالنِّيَّةُ وَحْدَهَا لاَ تَكْفِي، وَيَقُول ابْنُ الْقَيِّمِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ الأَْلْفَاظَ بَيْنَ عِبَادِهِ تَعْرِيفًا وَدَلاَلَةً عَلَى مَا فِي نُفُوسِهِمْ، فَإِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ مِنَ الآْخَرِ شَيْئًا عَرَّفَهُ بِمُرَادِهِ وَمَا فِي نَفْسِهِ بِلَفْظِهِ، وَرَتَّبَ عَلَى تِلْكَ الإِْرَادَاتِ وَالْمَقَاصِدِ أَحْكَامَهَا بِوَاسِطَةِ الأَْلْفَاظِ، وَلَمْ يُرَتِّبْ تِلْكَ الأَْحْكَامَ عَلَى مُجَرَّدِ مَا فِي النُّفُوسِ مِنْ غَيْرِ دَلاَلَةِ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ، وَلاَ عَلَى مُجَرَّدِ أَلْفَاظٍ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ بِهَا لَمْ يُرِدْ مَعَانِيَهَا. (٢)
وَصِيغَةُ الإِْقْرَارِ نَوْعَانِ: صَرِيحٌ وَدَلاَلَةٌ. (٣) فَالصَّرِيحُ نَحْوُ أَنْ يَقُول: لِفُلاَنٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ، لأَِنَّ كَلِمَةَ (عَلَيَّ) كَلِمَةُ إِيجَابٍ لُغَةً وَشَرْعًا. قَال اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ. .﴾ (٤) وَكَذَا لَوْ قَال لِرَجُلٍ: هَل لِي عَلَيْكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ؟ فَقَال الرَّجُل: نَعَمْ. لأَِنَّ كَلِمَةَ نَعَمْ بِمَثَابَةِ إِعَادَةٍ لِكَلاَمِهِ، وَكَذَا لَوْ قَال: لِفُلاَنٍ فِي ذِمَّتِي أَلْفُ دِرْهَمٍ، لأَِنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ هُوَ الدَّيْنُ، فَيَكُونُ إِقْرَارًا بِالدَّيْنِ.
هَذَا مَا مَثَّل بِهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَلاَ تَخْرُجُ أَمْثِلَةُ غَيْرِهِمْ عَنْ ذَلِكَ، وَالْعُرْفُ فِي هَذَا هُوَ الْمَرْجِعُ.
وَالأَْمْرُ بِكِتَابَةِ الإِْقْرَارِ إِقْرَارٌ حُكْمًا، إِذِ الإِْقْرَارُ كَمَا يَكُونُ بِاللِّسَانِ يَكُونُ بِالْبَنَانِ، فَلَوْ قَال لِلْكَاتِبِ: اكْتُبْ إِقْرَارًا بِأَلْفٍ عَلَيَّ لِفُلاَنٍ، صَحَّ الإِْقْرَارُ وَاعْتُبِرَ،
_________
(١) المبسوط ١٣ / ٤٦.
(٢) إعلام الموقعين ٣ / ١٠٥ ط دار الجيل بيروت.
(٣) البدائع ٧ / ٢٠٧، والتاج والإكليل ٥ / ٢٢٤، ونهاية المحتاج ٥ / ٧٦، وكشاف القناع ٦ / ٤٥٦.
(٤) سورة آل عمران / ٩٧.
كُتِبَ أَوْ لَمْ يُكْتَبْ. (١)
وَيَقُول ابْنُ عَابِدِينَ: إِنَّ الْكِتَابَةَ الْمَرْسُومَةَ الْمُعَنْوَنَةَ كَالنُّطْقِ بِالإِْقْرَارِ، وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْكِتَابَةُ بِطَلَبٍ مِنَ الدَّائِنِ أَوْ بِلاَ طَلَبِهِ. وَنَقَل عَنِ الأَْشْبَاهِ لاِبْنِ نُجَيْمٍ أَنَّهُ إِذَا كَتَبَ وَلَمْ يَقُل شَيْئًا لاَ تَحِل الشَّهَادَةُ، لأَِنَّ الْكِتَابَةَ قَدْ تَكُونُ لِلتَّجْرِبَةِ. وَلَوْ كَتَبَ أَمَامَ الشُّهُودِ وَقَال: اشْهَدُوا عَلَيَّ بِمَا فِيهِ، كَانَ إِقْرَارًا إِنْ عَلِمُوا بِمَا فِيهِ وَإِلاَّ فَلاَ. (٢)
وَالإِْيمَاءُ بِالرَّأْسِ مِنَ النَّاطِقِ لَيْسَ بِإِقْرَارٍ إِلاَّ فِي النَّسَبِ وَالإِْسْلاَمِ وَالْكُفْرِ وَالإِْفْتَاءِ. (٣)
وَأَمَّا الصِّيغَةُ الَّتِي تُفِيدُ الإِْقْرَارَ دَلاَلَةً فَهِيَ أَنْ يَقُول لَهُ رَجُلٌ: لِي عَلَيْكَ أَلْفٌ، فَيَقُول: قَدْ قَبَضْتُهَا، لأَِنَّ الْقَضَاءَ اسْمٌ لِتَسْلِيمِ مِثْل الْوَاجِبِ فِي الذِّمَّةِ، فَيَقْتَضِي مَا يُعَيِّنُ الْوُجُوبَ، فَكَانَ الإِْقْرَارُ بِالْقَضَاءِ إِقْرَارًا بِالْوُجُوبِ، ثُمَّ يَدَّعِي الْخُرُوجَ عَنْهُ بِالْقَضَاءِ فَلاَ يَصِحُّ إِلاَّ بِالْبَيِّنَةِ، وَكَذَا إِذَا قَال: أَجِّلْنِي بِهَا. لأَِنَّ التَّأْجِيل تَأْخِيرُ الْمُطَالَبَةِ مَعَ قِيَامِ أَصْل الدَّيْنِ فِي الذِّمَّةِ. (٤)
الصِّيغَةُ مِنْ حَيْثُ الإِْطْلاَقُ وَالتَّقْيِيدُ:
الصِّيغَةُ قَدْ تَكُونُ مُطْلَقَةً كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ تَكُونُ مُقْتَرِنَةً. وَالْقَرِينَةُ فِي الأَْصْل نَوْعَانِ:
٤١ - أ - قَرِينَةٌ مُبَيِّنَةٌ (عَلَى الإِْطْلاَقِ)، وَهِيَ الْمُعَيِّنَةُ لِبَعْضِ مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ، فَإِنْ كَانَ اللَّفْظُ يَحْتَمِل الْمَعْنَيَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ صَحَّ بَيَانُهُ مُتَّصِلًا كَانَ الْبَيَانُ أَوْ
_________
(١) رد المحتار على الدر المختار ٤ / ٤٥٥.
(٢) رد المحتار ٤ / ٤٥٦.
(٣) رد المحتار ٤ / ٤٥٢.
(٤) البدائع ٧ / ٢٠٨.
مُنْفَصِلًا، وَإِنْ كَانَ لأَِحَدِ الاِحْتِمَالَيْنِ رُجْحَانٌ تَسْبِقُ إِلَيْهِ الأَْفْهَامُ مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ لاَ يَصِحُّ إِنْ كَانَ الْبَيَانُ مُنْفَصِلًا، وَيَصِحُّ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُتَّصِل إِذَا لَمْ يَتَضَمَّنِ الرُّجُوعَ. (١)
وَبِصِفَةٍ عَامَّةٍ إِذَا كَانَتِ الْقَرِينَةُ مُنْفَصِلَةً عَنِ الإِْقْرَارِ بِأَنْ قَال: لِفُلاَنٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَسَكَتَ، ثُمَّ قَال: إِلاَّ دِرْهَمًا، لاَ يَصِحُّ الاِسْتِثْنَاءُ عِنْدَ كَافَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ، إِلاَّ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵄ أَنَّهُ يَصِحُّ، لأَِنَّ الاِسْتِثْنَاءَ بَيَانٌ فَيَصِحُّ مُتَّصِلًا وَمُنْفَصِلًا.
وَوَجْهُ قَوْل الْعَامَّةِ أَنَّ صِيغَةَ الاِسْتِثْنَاءِ إِذَا انْفَصَلَتْ عَنِ الْجُمْلَةِ الْمَلْفُوظَةِ لاَ تَكُونُ كَلاَمَ اسْتِثْنَاءٍ لُغَةً، وَقَالُوا: إِنَّ الرِّوَايَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لاَ تَكَادُ تَصِحُّ. (٢) وَبَيَانُ ذَلِكَ تَفْصِيلًا سَبَقَ فِي مُصْطَلَحِ (اسْتِثْنَاء) .
٤٢ - ب - قَرِينَةٌ مُغَيِّرَةٌ (مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ) مُبَيِّنَةٌ (حَقِيقَةً)، وَهَذِهِ يَتَغَيَّرُ بِهَا الاِسْمُ لَكِنْ يَتَبَيَّنُ بِهَا الْمُرَادُ، فَكَانَ تَغْيِيرًا صُورَةً، تَبْيِينًا مَعْنًى، وَمِنْهُ مَا يَلِي:
أ - تَعْلِيقُ الإِْقْرَارِ عَلَى الْمَشِيئَةِ:
٤٣ - الْقَرِينَةُ الْمُغَيِّرَةُ قَدْ تَدْخُل عَلَى أَصْل الإِْقْرَارِ، وَتَكُونُ مُتَّصِلَةً بِهِ، كَتَعْلِيقِ الإِْقْرَارِ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ أَوْ مَشِيئَةِ فُلاَنٍ. وَهَذَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الإِْقْرَارِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، لأَِنَّ التَّعْلِيقَ عَلَى الْمَشِيئَةِ يَجْعَل الأَْمْرَ مُحْتَمَلًا. وَالإِْقْرَارُ إِخْبَارٌ عَنْ كَائِنٍ، وَالْكَائِنُ لاَ يَحْتَمِل التَّعْلِيقَ. وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ الْمَوَّازِ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِذْ قَالاَ: لَوْ عَلَّقَ الإِْقْرَارَ عَلَى
_________
(١) البدائع ٧ / ٢١٤.
(٢) البدائع ٧ / ٢١٢.