الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٤٣
الْمَجَلَّةِ الْعَدْلِيَّةِ: إِذَا مَاتَ الْمُسْتَوْدِعُ، وَوُجِدَتِ الْوَدِيعَةُ عَيْنًا فِي تَرِكَتِهِ، تَكُونُ أَمَانَةً فِي يَدِ وَارِثِهِ، فَيَرُدُّهَا لِصَاحِبِهَا. وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا مَاتَ الْمُودِعُ، فَعَلَى وَارِثِهِ رَدُّهَا فَإِنْ تَلِفَتْ فِي يَدِهِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ ضَمِنَ عَلَى الأَْصَحِّ. فَإِنْ كَانَ الْمَالِكُ غَائِبًا، سَلَّمَهَا إِلَى الْحَاكِمِ (١) .
وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَإِنْ مَاتَ، وَعِنْدَهُ وَدِيعَةٌ مَعْلُومَةٌ بِعَيْنِهَا، فَعَلَى وَرَثَتِهِ تَمْكِينُ صَاحِبِهَا مِنْ أَخْذِهَا، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِمَوْتِهِ، وَجَبَ عَلَيْهِمْ إِعْلاَمُهُ بِهِ، وَلَيْسَ لَهُمْ إِمْسَاكُهَا قَبْل أَنْ يَعْلَمَ بِهَا رَبُّهَا، لأَِنَّهُ لَمْ يَأْتَمِنْهُمْ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا حَصَّل مَال غَيْرِهِمْ فِي أَيْدِيهِمْ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَطَارَتِ الرِّيحُ إِلَى دَارِهِ ثَوْبًا، وَعَلِمَ بِهِ، فَعَلَيْهِ إِعْلاَمُ صَاحِبِهِ بِهِ. فَإِنْ أَخَّرَ ذَلِكَ مَعَ الإِْمْكَانِ ضَمِنَ، كَذَا هَاهُنَا (٢) .
وَالثَّانِي: زَوَال أَهْلِيَّةِ أَحَدِهِمَا لِلتَّصَرُّفِ بِجُنُونٍ وَنَحْوِهِ كَإِغْمَاءٍ مِنْ غَيْرِ إِفَاقَةٍ، كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي الْوَكَالَةِ.
أَمَّا الْوَدِيعُ، فَلأَِنَّهُ لَمْ يَعُدْ أَهْلًا لِلْحِفْظِ.
وَأَمَّا الْمُودِعُ، فَلأَِنَّهُ لَمْ يَعُدْ وَلِيَّ نَفْسِهِ، بَل يَلِي غَيْرُهُ مَالَهُ وَشُئُونَهُ.
_________
(١) رَوْضَة الطَّالِبِينَ ٦ / ٣٤٧.
(٢) الْمُغْنِي ٩ / ٢٧٠.
وَعَلَى ذَلِكَ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ مُقْتَضَى مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ اعْتِبَارًا بِالْوَكَالَةِ (١) .
وَالثَّالِثُ: عَزْل الْوَدِيعِ نَفْسَهُ، أَوْ عَزْل الْمُودِعِ لَهُ مَعَ عِلْمِهِ: فَإِذَا وَقَعَ ذَلِكَ انْفَسَخَ عَقْدُ الإِْيدَاعِ، وَتَكُونُ الْوَدِيعَةُ فِي يَدِهِ أَمَانَةً شَرْعِيَّةً، لَهَا حُكْمُ الأَْمَانَاتِ مِنْ حَيْثُ وُجُوبُ الْمُبَادَرَةِ لِرَدِّهَا إِلَى أَهْلِهَا.
وَعَلَى ذَلِكَ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ مُقْتَضَى مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ اعْتِبَارًا بِالْوَكَالَةِ (٢) .
وَالرَّابِعُ: نَقْل الْمَالِكِ مِلْكِيَّةَ الْوَدِيعَةِ لِغَيْرِ الْوَدِيعِ: كَمَا لَوْ بَاعَهَا لآِخَرَ وَنَحْوَ ذَلِكَ، حَيْثُ تَرْتَفِعُ الْوَدِيعَةُ وَيَنْتَهِي حُكْمُهَا.
نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ (٣) . قَال فِي تُحْفَةِ الْمُحْتَاجِ: وَفَائِدَةُ الاِرْتِفَاعِ أَنَّهَا تَصِيرُ أَمَانَةً
_________
(١) تُحْفَة الْمُحْتَاج ٧ / ١٠٤، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ ٦ / ٣٢٦، وَأَسْنَى الْمَطَالِب ٣ / ٧٦، وَرَوْضَة الْقُضَاة ٢ / ٦١٦، وَالْمُبْدِع ٥ / ٢٣٣، وَكَشَّاف الْقِنَاع ٤ / ١٨٦.
(٢) أَسْنَى الْمَطَالِب ٣ / ٧٦، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ ٦ / ٣٢٦، وَرَوْضَة الْقُضَاة للسمناني ٢ / ٦١٦، وَالْمُبْدِع ٥ / ٢٣٣، وَالْمُهَذَّب ١ / ٣٦٦، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج ٧ / ١٠٤، وَكَشَّاف الْقِنَاع ٤ / ١٨٦، وَمَوَاهِب الْجَلِيل ٥ / ٢١٤، وَحَاشِيَة الدُّسُوقِيّ ٣ / ٤١٩.
(٣) أَسْنَى الْمَطَالِب ٣ / ٧٦.
شَرْعِيَّةً، فَعَلَيْهِ الرَّدُّ لِمَالِكِهَا أَوْ وَلِيِّهِ إِنْ عَرَفَهُ، أَيْ إِعْلاَمُهُ بِهَا أَوْ بِمَحَلِّهَا فَوْرًا عِنْدَ التَّمَكُّنِ، وَإِنْ لَمْ يَطْلُبْهُ، كَضَالَّةٍ وَجَدَهَا وَعَرَفَ مَالِكَهَا. فَإِنْ غَابَ رَدَّهَا لِلْحَاكِمِ، وَإِلاَّ ضَمِنَ (١) .
وَالْخَامِسُ: إِقْرَارُ الْوَدِيعِ بِالْوَدِيعَةِ لِغَيْرِ صَاحِبِهَا: لأَِنَّ ذَلِكَ يُنَافِي حِفْظَهَا لِلْمَالِكِ، فَيَنْفَسِخُ عَقْدُ الإِْيدَاعِ ضَرُورَةً، لِعَدَمِ فَائِدَةِ الْبَقَاءِ، وَتَصِيرُ مَضْمُونَةً بِيَدِهِ لِتَعَدِّيهِ بِذَلِكَ الإِْقْرَارِ.
نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الشَّافِعِيَّةُ (٢) .
وَالسَّادِسُ: تَعَدِّي الْوَدِيعِ أَوْ تَفْرِيطُهُ الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ: سَوَاءٌ بِالإِْنْفَاقِ أَوْ بِالاِسْتِعْمَال غَيْرِ الْمَأْذُونِ بِهِ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ، حَيْثُ يَزُول بِذَلِكَ الاِئْتِمَانُ، وَتَنْقَلِبُ يَدُ الْوَدِيعِ إِلَى يَدِ ضَمَانٍ، وَيَنْفَسِخُ عَقْدُ الإِْيدَاعِ.
وَعَلَى ذَلِكَ نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ (٣) .
وَحُجَّتُهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ - وَهُوَ الْحِفْظُ - قَدْ زَال وَانْعَدَمَ بِالتَّعَدِّي. وَخَالَفَهُمُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي ذَلِكَ، فَلَمْ
_________
(١) تُحْفَة الْمُحْتَاج ٧ / ١٠٤.
(٢) حَاشِيَة الرَّمْلِيّ عَلَى أَسْنَى الْمَطَالِب ٣ / ٧٦، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج وَحَاشِيَة الْعِبَادِيّ والشرواني عَلَيْهِ ٧ / ١٠٤.
(٣) تُحْفَة الْمُحْتَاج وَحَاشِيَة الْعِبَادِيّ عَلَيْهِ ٧ / ١٠٤، وَشَرْح مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ ٢ / ٤٥٤، وَأَسْنَى الْمَطَالِب وَحَاشِيَة الرَّمْلِيّ عَلَيْهِ ٣ / ٧٦، وَكَشَّاف الْقِنَاع ٤ / ١٩٦.
يَذْهَبُوا لاِرْتِفَاعِ عَقْدِ الْوَدِيعَةِ بِالتَّعَدِّي، وَقَالُوا: إِنَّ الْوَدِيعَ إِذَا تَعَدَّى، فَخَالَفَ فِي الْوَدِيعَةِ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ بِذَلِكَ ضَامِنًا، فَإِذَا عَادَ إِلَى الْوِفَاقِ بِتَرْكِ الْخِلاَفِ، وَمُعَاوَدَةِ الْحِفْظِ لِلْمَالِكِ، بَرِئَ مِنَ الضَّمَانِ. لأَِنَّ سَبَبَ ضَمَانِهِ إِنَّمَا هُوَ إِعْجَازُ الْمَالِكِ عَنِ الاِنْتِفَاعِ بِالْوَدِيعَةِ، وَضَرَرُ الإِْعْجَازِ قَدِ ارْتَفَعَ بِالْعَوْدِ إِلَى الْوِفَاقِ، فَوَجَبَ أَلاَّ يُؤَاخَذَ بِالضَّمَانِ عِنْدَ الْهَلاَكِ (١) .
وَالسَّابِعُ: جُحُودُ الْوَدِيعَةِ: لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي انْفِسَاخِ عَقْدِ الْوَدِيعَةِ وَانْتِهَائِهِ بِالْجَحُودِ الْمُضَمِّنِ لَهَا (٢) . لأَِنَّ الْمَالِكَ لَمَّا طَلَبَ مِنْهُ الْوَدِيعَةَ، فَقَدْ عَزَلَهُ عَنِ الْحِفْظِ، وَالْوَدِيعَ لَمَّا جَحَدَ الْوَدِيعَةَ حَال حَضْرَةِ الْمَالِكِ، فَقَدْ عَزَل نَفْسَهُ عَنِ الْحِفْظِ، فَانْفَسَخَ الْعَقْدُ، فَبَقِيَ مَال الْغَيْرِ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَيَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ، فَإِذَا هَلَكَ، تَقَرَّرَ الضَّمَانُ (٣) .
الْخُصُومَةُ بِالْوَدِيعَةِ:
٥٨ - إِذَا غُصِبَتِ الْوَدِيعَةُ مِنْ يَدِ الْوَدِيعِ،
_________
(١) إِيثَار الإِْنْصَافِ فِي آثَارِ الْخِلاَفِ لِسِبْط ابْن الْجَوْزِيِّ الْحَنَفِيّ ص ٢٦٣، وَمَوَاهِب الْجَلِيل وَالتَّاج وَالإِْكْلِيل ٥ / ٢٥٤، والزرقاني ٦ / ١١٥.
(٢) أَسْنَى الْمَطَالِب ٣ / ٧٦، وَتُحْفَة الْمُحْتَاج ٧ / ١٠٤، وَكَشَّاف الْقِنَاع ٤ / ١٩٥، وَمَا بَعْدَهَا، وَشَرْح مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ ٢ / ٤٥٤ وَالْمَبْسُوط للسرخسي١١ / ١١٧.
(٣) بَدَائِع الصَّنَائِع ٦ / ٢١٢.
فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَقِّهِ بِأَنْ يُخَاصِمَ فِيهَا مَنْ غَصَبَهَا لاِسْتِرْجَاعِهَا أَوْ لِتَضْمِينِهِ بَدَلَهَا إِذَا تَلِفَتْ فِي يَدِهِ، وَذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الأَْوَّل: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّ لِلْوَدِيعِ مُخَاصَمَةَ الْغَاصِبِ، لأَِنَّهُ مَأْمُورٌ بِحِفْظِ الْمَال الْمُودَعِ (١)، وَذَلِكَ لأَِنَّ لِلْوَدِيعِ يَدًا مُعْتَبَرَةً فِي الْوَدِيعَةِ، وَقَدْ أَزَالَهَا الْغَاصِبُ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ عَنْ نَفْسِهِ لإِعَادَةِ الْيَدِ الَّتِي أَزَالَهَا بِالْغَصْبِ. وَلأَِنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْحِفْظِ مِنْ جِهَةِ الْمُودِعِ، وَلاَ يَتَأَتَّى لَهُ الْحِفْظُ إِلاَّ بِاسْتِرْدَادِ عَيْنِهِ مِنَ الْغَاصِبِ، أَوِ اسْتِرْدَادِ قِيمَتِهِ بَعْدَ هَلاَكِ الْعَيْنِ، لِيَحْفَظَ مَالِيَّتَهُ عَلَيْهِ فَكَانَ كَالْمَأْمُورِ بِهِ دَلاَلَةً.
وَفِي إِثْبَاتِ حَقِّ الْخُصُومَةِ لَهُ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْحِفْظِ، لأَِنَّ الْغَاصِبَ إِذَا عَلِمَ أَنَّ الْوَدِيعَ لاَ يُخَاصِمُهُ فِي حَال غَيْبَةِ الْمُودِعِ، تَجَاسَرَ عَلَى أَخْذِهِ، فَلِهَذَا كَانَ الْوَدِيعُ فِيهِ خَصْمًا (٢) .
فَلَهُ حَقُّ الدَّعْوَى وَالْمُطَالَبَةِ بِالْوَدِيعَةِ إِذْ غُصِبَتْ.
ثُمَّ قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَكَمَا أَنَّ لِلْوَدِيعِ أَنْ يُخَاصِمَ الْغَاصِبَ بِالْوَدِيعَةِ، فَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ
_________
(١) الْمَبْسُوط ١١ / ١٢٤، وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة ٤ / ٣٥٩، وَالْمُبْدِع ٥ / ٢٤٧، وَشَرْح مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ ٢ / ٤٥٨، وَكَشَّاف الْقِنَاع ٤ / ٢٠٥.
(٢) الْمَبْسُوط ١١ / ١٢٤.
سَارِقَهَا وَمُتْلِفَهَا وَمُلْتَقِطَهَا إِذَا ضَاعَتْ مِنْهُ (١) .
وَالثَّانِي: لِلْمَالِكِيَّةِ وَفِي وَجْهٍ لِلْحَنَابِلَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَدِيعِ بِأَنْ يُخَاصِمَ بِالْوَدِيعَةِ، لأَِنَّ الْمَال الْمُودَعَ مِلْكُ صَاحِبِهِ، وَإِنَّمَا يُخَاصِمُ لاِسْتِرْدَادِهِ أَوْ بَدَلِهِ هُوَ أَوْ وَكِيلُهُ، وَالْوَدِيعُ لَيْسَ بِوَكِيلٍ عَنْهُ فِي الْخُصُومَةِ، فَلاَ يُخَاصِمُ فِي الاِسْتِرْدَادِ، كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ.
وَعَلَّل الْمَالِكِيَّةُ ذَلِكَ بِأَنَّ الإِْيدَاعَ اسْتِحْفَاظٌ وَائْتِمَانٌ، فَلاَ يَتَضَمَّنُ الْخُصُومَةَ (٢) .
تَعَدُّدُ الْوَدِيعِ:
٧٠ - قَال الْحَنَفِيَّةُ: يُمْكِنُ إِيدَاعُ الْوَدِيعَةِ عِنْدَ أَكْثَرَ مِنْ شَخْصٍ. وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِذَا تَعَدَّدَ الْوَدِيعُ بِأَنْ كَانَ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ، فَيُنْظَرُ: فَإِنْ لَمْ تَكُنِ الْوَدِيعَةُ قَابِلَةً لِلْقِسْمَةِ - يَعْنِي أَنَّ تَقْسِيمَهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ أَلْبَتَّةَ، كَمَا لَوْ كَانَتْ حَيَوَانًا، أَوْ كَانَ تَقْسِيمُهَا مُمْكِنًا، وَلَكِنْ تَنْقُصُ قِيمَتُهَا عِنْدَ تَقْسِيمِهَا، كَمَا لَوْ كَانَتْ ثَوْبًا - فَيَحْفَظُهَا أَحَدُهُمْ بِإِذْنِ الْبَاقِينَ، أَوْ يَحْفَظُونَهَا مُنَاوَبَةً، أَيْ بِطَرِيقِ الْمُهَايَأَةِ مِنْ حَيْثُ الزَّمَانُ،
_________
(١) الْعُقُود الدُّرِّيَّة لاِبْنِ عَابِدِينَ ٢ / ٧٦، وَرَوْضَة ٢ / ٦٢٧، وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة ٤ / ٣٥٩.
(٢) الْمُبْدِع ٥ / ٢٤٧، وَالإِْشْرَاف لِلْقَاضِي عَبْد الْوَهَّاب ٢ / ٤٣.
لأَِنَّ الْمَالِكَ لَمَّا أَوْدَعَهُمْ مَعَ عِلْمِهِ بِتَعَذُّرِ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى حِفْظِهَا دَائِمًا، كَانَ رَاضِيًا بِثُبُوتِ يَدِ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى الاِنْفِرَادِ فِي الْكُل. وَبِهَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ: إِذَا هَلَكَتِ الْوَدِيعَةُ بِلاَ تَعَدٍّ وَلاَ تَقْصِيرٍ، فَلاَ ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ. أَمَّا إِذَا هَلَكَتْ بِتَعَدٍّ أَوْ تَقْصِيرٍ، فَيَضْمَنُ الْمُتَعَدِّي أَوِ الْمُقَصِّرُ وَحْدَهُ، وَلاَ يَلْزَمُ شَيْءٌ عَلَى الآْخَرِ.
وَإِنْ كَانَتِ الْوَدِيعَةُ قَابِلَةً لِلْقِسْمَةِ - كَالْمِثْلِيَّاتِ الَّتِي لاَ تَتَعَيَّبُ بِالتَّقْسِيمِ - فَيُقَسِّمُهَا الْمُسْتَوْدَعُونَ بَيْنَهُمْ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَحْفَظُ حِصَّتَهُ مِنْهَا. لأَِنَّ الْوَدِيعَ إِنَّمَا يَلْتَزِمُ الْحِفْظَ بِحَسَبِ إِمْكَانِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُسْتَوْدَعِينَ - مَثَلًا - لاَ يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يَتْرُكُوا جَمِيعَ أَشْغَالِهِمْ وَيَجْتَمِعُوا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ لِحِفْظِ الْوَدِيعَةِ، وَالْمَالِكُ لَمَّا أَوْدَعَهُمْ مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ وَدِيعَةً تَحْتَمِل الْقِسْمَةَ، فَقَدْ صَارَ رَاضِيًا بِقِسْمَتِهَا، وَحِفْظِ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِجُزْءٍ مِنْهَا دَلاَلَةً.
وَبِهَذِهِ الصُّورَةِ لَيْسَ لأَِحَدِهِمْ أَنْ يُسَلِّمَ حِصَّتَهُ لِوَدِيعٍ آخَرَ بِدُونِ إِذْنِ الْمُودِعِ، لأَِنَّ الْمَالِكَ عِنْدَمَا أَوْدَعَ الْمَال الْقَابِل لِلْقِسْمَةِ لأَِشْخَاصٍ مُتَعَدِّدِينَ، فَقَدْ رَضِيَ بِثُبُوتِ يَدِ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى الْبَعْضِ دُونَ الْكُل، إِذْ رِضَاهُ بِحِفْظِ الاِثْنَيْنِ - مَثَلًا - لاَ يَسْتَلْزِمُ رِضَاهُ بِحِفْظِ
الْوَاحِدِ. وَعَلَى ذَلِكَ: فَإِذَا سَلَّمَ أَحَدُهُمْ حِصَّتَهُ لآِخَرَ، فَهَلَكَتْ فِي يَدِ الآْخَرِ، بِلاَ تَعَدٍّ وَلاَ تَقْصِيرٍ مِنْهُ، فَلاَ يَلْزَمُهُ ضَمَانُهَا، بَل يَلْزَمُ الَّذِي سَلَّمَهُ إِيَّاهَا ضَمَانُ حِصَّتِهِ مِنْهَا. أَيْ لاَ يَلْزَمُ الضَّمَانُ لِلْوَدِيعِ الآْخَرِ الَّذِي تَسَلَّمَ الْوَدِيعَةَ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَعَلَيْهِ جَرَتْ مَجَلَّةُ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ.
وَعِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ: لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَفِظُ كُل الْوَدِيعَةِ بِإِذْنِ الآْخَرِ، لأَِنَّ الْمَالِكَ رَضِيَ بِأَمَانَتِهِمَا، فَكَانَ لِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُسَلِّمَ حِصَّتَهُ لِلآْخَرِ، وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ (١) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِذَا أَوْدَعَ شَخْصٌ اثْنَيْنِ وَغَابَ، فَتَنَازَعَا فِيمَنْ تَكُونُ بِيَدِهِ، جُعِلَتْ بِيَدِ الأَْعْدَل مِنْهُمَا، فَإِنْ حَصَل فِيهَا مَا يَقْتَضِي الضَّمَانَ، كَانَ مِمَّنْ هِيَ بِيَدِهِ. وَيُحْتَمَل مِنَ الآْخَرِ أَيْضًا، لِكَوْنِهِ مُودَعًا أَيْضًا مِنْ رَبِّهَا. فَإِنْ تَسَاوَيَا عَدَالَةً، جُعِلَتْ بِأَيْدِيهِمَا (٢) .
_________
(١) الْبَدَائِع ٦ / ٢٠٨، وَرَدّ الْمُحْتَارِ ٤ / ٤٤٩، وَالْمَبْسُوطِ ١١ / ١٢٥، ١٣١، وَقُرَّة عُيُون الأَْخْيَار ٢ / ٢٥٥، وَمَجْمَع الأَْنْهُر وَالدَّرّ الْمُنْتَقَى ٢ / ٣٤٢، وَدُرَر الْحُكَّام ٢ / ٢٤٤، وَالْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة ٤ / ٣٥٥، وَانْظُرِ الْمَادَّة (٧٨٣) مِنَ الْمَجَلَّةِ الْعَدْلِيَّة.
(٢) الزُّرْقَانِيّ عَلَى خَلِيل ٦ / ١٢٦.
الاِخْتِلاَفُ فِي الْوَدِيعَةِ: لِلاِخْتِلاَفِ فِي الْوَدِيعَةِ صُوَرٌ مُتَعَدِّدَةٌ تَفْصِيلُهَا فِيمَا يَلِي:
الصُّورَةُ الأُْولَى: الاِخْتِلاَفُ فِي أَصْل عَقْدِ الْوَدِيعَةِ:
٧١ - إِذَا أَوْدَعَ رَجُلٌ آخَرَ مَالًا، ثُمَّ اخْتَلَفَا، فَقَال الآْخَرُ: أَمَرْتَنِي أَنْ أُنْفِقَهُ عَلَى أَهْلِكَ، أَوْ أَتَصَدَّقَ بِهِ أَوْ أَدْفَعَهُ لِفُلاَنٍ، وَأَنْكَرَ الْمُودِعُ ذَلِكَ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لِلْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالثَّوْرِيِّ، وَهُوَ أَنَّ الْقَوْل قَوْل رَبِّ الْوَدِيعَةِ مَعَ يَمِينِهِ، وَعَلَى الْوَدِيعِ الْبَيِّنَةُ بِمَا ادَّعَى، لأَِنَّ الأَْصْل عَدَمُ الإِْذْنِ لَهُ بِذَلِكَ (١) .
وَقَدْ جَاءَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِنِ اسْتَوْدَعَنِي رَجُلٌ وَدِيعَةً، فَجَاءَ يَطْلُبُهَا، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّكَ أَمَرْتَنِي أَنْ أَدْفَعَهَا إِلَى فُلاَنٍ، وَقَدْ دَفَعْتُهَا إِلَيْهِ. وَقَال رَبُّ الْوَدِيعَةِ: مَا أَمَرْتُكَ بِذَلِكَ. قَال: هُوَ ضَامِنٌ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ
_________
(١) الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّة ٤ / ٣٥٨، وَاخْتِلاَفُ الْعِرَاقِيِّينَ لأَِبِي يُوسُفَ ٤ / ٦٢، وَرَوْضَة الطَّالِبِينَ ٦ / ٣٤٨، وَأَسْنَى الْمَطَالِب ٣ / ٨٦، وَالأُْمّ ٤ / ٦١، وَمَوَاهِب الْجَلِيل وَالتَّاج وَالإِْكْلِيل ٥ / ٢٥٩ وَمَا بَعْدَهَا، والزرقاني عَلَى خَلِيل ٦ / ١٢١، وَالْمُغْنِي ٩ / ٢٧٣، وَالإِْشْرَاف لاِبْن الْمُنْذِر ١ / ٢٦٦.
أَمَرَهُ بِذَلِكَ (١) .
وَقَال السَّرَخْسِيُّ: وَإِنِ ادَّعَى الْوَدِيعُ أَنَّهُ أَنْفَقَ الْوَدِيعَةَ عَلَى عِيَال الْمُودِعِ بِأَمْرِهِ، وَصَدَّقَهُ عِيَالُهُ فِي ذَلِكَ. وَقَال رَبُّ الْوَدِيعَةِ: لَمْ آمُرْكَ بِذَلِكَ. فَالْقَوْل قَوْل رَبِّ الْوَدِيعَةِ مَعَ يَمِينِهِ، لأَِنَّ الْوَدِيعَ بَاشَرَ سَبَبَ الضَّمَانِ فِي الْوَدِيعَةِ، وَهُوَ الإِْنْفَاقُ، وَادَّعَى مَا يُسْقِطُ الضَّمَانَ عَنْهُ، وَهُوَ إِذْنُ الْمَالِكِ، فَلاَ يُصَدَّقُ عَلَى ذَلِكَ إِلاَّ بِبَيِّنَةٍ. وَإِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ، فَالْقَوْل قَوْل رَبِّ الْوَدِيعَةِ مَعَ يَمِينِهِ لإِنْكَارِهِ.
وَكَذَلِكَ لَوِ ادَّعَى أَنَّهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ أَوْ يَهَبَهَا لِفُلاَنٍ (٢) .
وَالثَّانِي: لِلْحَنَابِلَةِ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى: وَهُوَ أَنَّ الْقَوْل قَوْل الْوَدِيعِ، وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ الْيَمِينُ. وَذَلِكَ لأَِنَّهُ ادَّعَى دَفْعًا يَبْرَأُ بِهِ مِمَّنْ رَدَّ الْوَدِيعَةَ، فَكَانَ الْقَوْل قَوْلَهُ فِيهِ، كَمَا لَوِ ادَّعَى رَدَّهَا إِلَى مَالِكِهَا، وَلاَ يَلْزَمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِلْمَالِكِ غَيْرُ الْيَمِينِ (٣) .
_________
(١) الْمُدَوَّنَة ١٥ / ١٥٤.
(٢) الْمَبْسُوط ١١ / ١٢٧.
(٣) الْمُغْنِي لاِبْن قُدَامَةَ ٩ / ٢٧٣، وَكَشَّاف الْقِنَاع ٤ / ١٩٩، وَشَرْح مُنْتَهَى الإِْرَادَاتِ ٢ / ٤٥٥، وَالْمُبْدِع ٥ / ٢٤٢، وَاخْتِلاَف الْعِرَاقِيِّينَ لأَِبِي يُوسُف ٤ / ٦٢، وَانْظُرِ الْمَادَّة (١٣٤٣) مِنْ مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.