الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٤١
وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَسْتَبِنْ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لِلشَّافِعِيَّةِ، إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا أَلْقَتْ مُضْغَةً أَوْ عَلَقَةً خَفِيَتْ عَلَى غَيْرِ الْقَوَابِل، وَقَال الْقَوَابِل: إِنَّهُ مُبْتَدَأُ خَلْقِ آدَمِيٍّ - فَالدَّمُ الْمَوْجُودُ بَعْدَهُ نِفَاسٌ.
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لَوْ أَلْقَتْ دَمًا اجْتَمَعَ لاَ يَذُوبُ بِصَبِّ الْمَاءِ الْحَارِّ عَلَيْهِ، تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ وَمَا بَعْدَهُ نِفَاسٌ (١) .
الْقَوْل الثَّانِي: وَهُوَ قَوْل الْحَنَفِيَّةِ، فَقَالُوا: إِنَّهُ إِنْ لَمْ يَسْتَبِنْ مِنْ خَلْقِهِ شَيْءٌ فَلاَ نِفَاسَ لَهَا (٢) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَثْبُتُ حُكْمُ النِّفَاسِ بِوَضْعِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهِ خَلْقُ الإِْنْسَانِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، فَلَوْ وَضَعَتْ عَلَقَةً، أَوْ مُضْغَةً لاَ تَخْطِيطَ فِيهَا - لَمْ يَثْبُتْ بِذَلِكَ حُكْمُ النِّفَاسِ، نَصَّ عَلَيْهِ وَقَدَّمَهُ فِي الْفُرُوعِ، وَالْمَجْدُ فِي شَرْحِهِ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ تَمِيمٍ وَالْفَائِقُ.
وَعَنْهُ يَثْبُتُ - أَيْ حُكْمُ النِّفَاسِ - بِمُضْغَةٍ، وَعَنْهُ: وَعَلَقَةٍ.
وَقِيل: يَثْبُتُ لَهَا حُكْمُ النُّفَسَاءِ إِذَا وَضَعَتْهُ لأَِرْبَعَةِ أَشْهُرٍ (٣) .
_________
(١) الْخُرَشِيُّ ٤ / ١٤٣، وَالدُّسُوقِيُّ ٢ / ٤٧٤، وَرَوْضَةُ الطَّالِبِينَ ١ / ١٧٤، وَالْمُغْنِي لاِبْنِ قُدَامَةَ.
(٢) الْعِنَايَةُ بِهَامِشِ فَتْحِ الْقَدِيرِ ١ / ١٦٥.
(٣) الإِْنْصَافُ ١ / ٣٨٣، وَكَشَّافُ الْقِنَاعِ ١ / ٢١٩.
وُجُوبُ الْغُسْل عِنْدَ انْقِطَاعِ دَمِ النِّفَاسِ:
١٦ - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْغُسْل عَلَى الْمَرْأَةِ بَعْدَ انْقِطَاعِ دَمِ النِّفَاسِ، وَدَلِيل وُجُوبِ الْغُسْل مِنْهُ الإِْجْمَاعُ؛ لأَِنَّهُ لَمْ يَرِدْ نَصٌّ مِنْ قُرْآنٍ أَوْ سُنَّةٍ عَلَى وُجُوبِهِ (١) .
١٧ - وَإِذَا عَرِيَتِ الْوِلاَدَةُ أَوْ خَلَتْ عَنْ دَمٍ، بِأَنْ خَرَجَ الْوَلَدُ جَافًّا - فَهِيَ طَاهِرٌ لاَ نِفَاسَ لَهَا؛ لأَِنَّ النِّفَاسَ هُوَ الدَّمُ، وَلَمْ يُوجَدْ.
وَفِي وُجُوبِ الْغُسْل وَعَدَمِهِ اخْتِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ:
الرَّأْيُ الأَْوَّل: يَرَى عَدَمَ وُجُوبِ الْغُسْل، ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ الْمَالِكِيَّةُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ؛ لأَِنَّهُ لاَ نَصَّ فِيهِ، وَلاَ هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ، وَلاَ يَبْطُل الصَّوْمُ بِالْوِلاَدَةِ الْعَارِيَةِ عَنْ دَمٍ، وَلاَ يَحْرُمُ الْوَطْءُ.
وَلأَِنَّ الْوُجُوبَ بِالشَّرْعِ، وَلَمْ يَرِدْ بِالْغُسْل هَاهُنَا، وَلاَ هُوَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِدَمٍ وَلاَ مَنِيٍّ، وَإِنَّمَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهَذَيْنِ الشَّيْئَيْنِ، إِلاَّ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ يَرَوْنَ نَدْبَ الْغُسْل.
وَالرَّأْيُ الثَّانِي: يَجِبُ الْغُسْل، ذَهَبَ إِلَى هَذَا الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ
_________
(١) فَتْحُ الْقَدِيرِ ١ / ١٦٥، وَحَاشِيَةُ الدُّسُوقِيِّ ١ / ١٣٠، وَمُغْنِي الْمُحْتَاجِ ١ / ٦٩، وَرَوْضَةُ الطَّالِبِينَ ١ / ٨١، وَالْمُغْنِي لاِبْنِ قُدَامَةَ ١ / ٢١٠.
الْحَنَابِلَةِ؛ لأَِنَّهَا مَظِنَّةٌ لِلنِّفَاسِ الْمُوجِبِ فَقَامَتْ مَقَامَهُ فِي الإِْيجَابِ كَالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ، وَلأَِنَّهَا يَسْتَبْرِئُ بِهَا الرَّحِمُ فَأَشْبَهَتِ الْحَيْضَ.
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا وَلَدَتْ وَلَمْ تَرَ دَمًا لاَ تَكُونُ نُفَسَاءَ فِي الصَّحِيحِ، وَلاَ يَلْزَمُهَا إِلاَّ الْوُضُوءُ عِنْدَ الصَّاحِبَيْنِ، وَيَلْزَمُهَا الْغُسْل احْتِيَاطًا عِنْدَ الإِْمَامِ؛ لأَِنَّ الْوِلاَدَةَ لاَ تَخْلُو ظَاهِرًا عَنْ قَلِيل دَمٍ (١) .
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أَلْقَتِ الْحَامِل وَلَدًا أَوْ عَلَقَةً أَوْ مُضْغَةً وَلَمْ تَرَ دَمًا وَلاَ بَلَلًا لَزِمَهَا الْغُسْل عَلَى الأَْصَحِّ؛ لأَِنَّهُ لاَ يَخْلُو عَنْ بَلَلٍ غَالِبًا، فَأُقِيمَ مَقَامَهُ كَالنَّوْمِ مَعَ الْخَارِجِ، وَتَفْطُرُ بِهِ الْمَرْأَةُ عَلَى الأَْصَحِّ (٢) .
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ خُرُوجَ الْعَلَقَةِ وَالْمُضْغَةِ لاَ تُوجِبُ الْغُسْل بِلاَ نِزَاعٍ (٣) .
الْوِلاَدَةُ بِجُرْحٍ فِي الْبَطْنِ:
١٨ - لَمَّا كَانَ النِّفَاسُ هُوَ الدَّمُ الْخَارِجُ مِنَ الْفَرْجِ عَقِبَ الْوِلاَدَةِ، فَقَدْ نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا وَلَدَتْ مِنْ سُرَّتِهَا - مَثَلًا - وَسَال مِنْهَا دَمٌ لاَ تَكُونُ نُفَسَاءَ، بَل هِيَ صَاحِبَةُ جُرْحٍ مَا لَمْ
_________
(١) فَتْحُ الْقَدِيرِ ١ / ١٦٤، وَمَرَاقِي الْفَلاَحِ مَعَ حَاشِيَةِ الطَّحْطَاوِيِّ ص ٧٥.
(٢) مُغْنِي الْمُحْتَاجِ ١ / ٦٩، وَالْمَجْمُوعُ ٢ / ٥٢٣، وَالإِْقْنَاعُ ١ / ٢٦١، وَرَوْضَةُ الطَّالِبِينَ ١ / ٨١.
(٣) الإِْنْصَافُ ١ / ٢٤٢.
يَسِل مِنْ فَرْجِهَا، لَكِنْ يَتَعَلَّقُ بِالْوَلَدِ سَائِرُ أَحْكَامِ الْوِلاَدَةِ (١) .
خُرُوجُ بَعْضِ الْوَلَدِ ثُمَّ رُجُوعُهُ:
١٩ - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ بَعْضُ الْوَلَدِ ثُمَّ رَجَعَ لاَ يُجِبُ الْغُسْل وَيَجِبُ الْوُضُوءُ (٢) .
مَا يَحِل وَمَا يَحْرُمُ عَلَى النُّفَسَاءِ:
٢٠ - صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ (٣) بِأَنَّ حُكْمَ النُّفَسَاءِ حُكْمُ الْحَائِضِ فِي حِل مَا يَحْرُمُ عَلَيْهَا وَيَسْقُطُ عَنْهَا.
وَذَلِكَ لأَِنَّ دَمَ النِّفَاسِ هُوَ دَمُ الْحَيْضِ، إِنَّمَا امْتَنَعَ خُرُوجُهُ مُدَّةَ الْحَمْل لِكَوْنِهِ يَنْصَرِفُ إِلَى غِذَاءِ الْحَمْل.
فَيَحْرُمُ عَلَى النُّفَسَاءِ الصَّلاَةُ وَالصَّوْمُ وَتَقْضِي الصَّوْمَ وَلاَ تَقْضِي الصَّلاَةَ.
انْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (حَيْضٌ ف ٣)، وَمُصْطَلَحِ (قَضَاءُ الْفَوَائِتِ ف ٦) .
وَهُنَاكَ أَحْكَامٌ فِقْهِيَّةٌ أُخْرَى تَتَعَلَّقُ بِالنُّفَسَاءِ، مِنْهَا:
- حُكْمُ قِرَاءَةِ النُّفَسَاءِ الْقُرْآنَ - انْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (قِرَاءَةٌ ف ٦) .
-
_________
(١) حَاشِيَةُ الطَّحْطَاوِيِّ عَلَى مَرَاقِي الْفَلاَحِ ص ٧٥.
(٢) تُحْفَةُ الْحَبِيبِ ١ / ٢٠٥.
(٣) بَدَائِعُ الصَّنَائِعِ ١ / ٤٤، وَالْخُرَشِيُّ ١ / ٢٠٩، وَمُغْنِي الْمُحْتَاجِ ١ / ١٢٠، وَالْمُغْنِي ١ / ٣٥٠، وَنِهَايَةُ الْمُحْتَاجِ ١ / ٣٣٩.
- حُكْمُ مَسِّهَا الْمُصْحَفَ - انْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (مُصْحَفٌ ف ٣ - ٩) .
- حُكْمُ دُخُولِهَا الْمَسْجِدَ - انْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (مَسْجِدٌ ف ٣٥) .
- حُكْمُ طَوَافِهَا الْبَيْتَ - انْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (طَوَافٌ ٢٢) .
- حُكْمُ قُرْبَانِ النُّفَسَاءِ فِي حَالَةِ النِّفَاسِ - انْطُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (غُسْلٌ ف ١٨ - ١٩) .
- قَطْعُ النِّفَاسِ التَّتَابُعَ فِي صَوْمِ الْكَفَّارَاتِ وَالنَّذْرِ الْمُعَيَّنِ - انْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَتَابُعٌ ف ١١٠)، وَمُصْطَلَحِ (نَذْرٌ ف ٣٤ - ٣٥) .
- حُكْمُ إِيقَاعِ الطَّلاَقِ عَلَى النُّفَسَاءِ - انْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (طَلاَقٌ ف ٤٠) .
- وَيَخْتَلِفُ حُكْمُ النِّفَاسِ عَنِ الْحَيْضِ فِي مَسَائِل - انْظُرْ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (حَيْضٌ ف ٥٠) .
نِفَاقٌ
التَّعْرِيفُ:
١ - النِّفَاقُ لُغَةً: مَصْدَرُ نَافَقَ، يُقَال: نَافَقَ الْيَرْبُوعُ إِذَا دَخَل فِي نَافِقَائِهِ، وَمِنْهُ قِيل: نَافَقَ الرَّجُل: إِذَا أَظْهَرَ الإِْسْلاَمَ لأَِهْلِهِ وَأَضْمَرَ غَيْرَ الإِْسْلاَمِ وَأَتَاهُ مَعَ أَهْلِهِ (١) .
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.
قَال ابْنُ مَنْظُورٍ: وَالنِّفَاقُ اسْمٌ مِنَ الأَْسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي وَضَعَهَا الشَّرْعُ، لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً بِمَعْنَاهَا الاِصْطِلاَحِيِّ هَذَا قَبْل الإِْسْلاَمِ، وَهُوَ الَّذِي يَسْتُرُ كُفْرَهُ وَيُظْهِرُ إِسْلاَمَهُ (٢) .
عَلَى أَنَّ النِّفَاقَ يُطْلَقُ تَجَوُّزًا عَلَى مَنِ ارْتَكَبَ خَصْلَةً مِنْ خِصَال النِّفَاقِ الآْتِي ذِكْرُهَا، كَالْكَذِبِ وَإِخْلاَفِ الْوَعْدِ، أَوْ يُقَال: هَذَا نِفَاقٌ عَمَلِيٌّ، وَلَيْسَ اعْتِقَادِيًّا حَقِيقِيًّا (٣) .
_________
(١) الْمِصْبَاحُ الْمُنِيرُ.
(٢) لِسَانُ الْعَرَبِ.
(٣) الصَّارِمُ الْمَسْلُول عَلَى شَاتِمِ الرَّسُول لاِبْنِ تَيْمِيَّةَ ص ٣٥ - ٣٦. بَيْرُوتُ، الْمَكْتَبُ الإِْسْلاَمِيُّ ١٤١٤هـ.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْكُفْرُ:
٢ - الْكُفْرُ لُغَةً هُوَ: السَّتْرُ.
وَاصْطِلاَحًا: هُوَ إِنْكَارُ مَا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ (١) .
وَالْعِلاَقَةُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ.
ب - التَّقِيَّةُ:
٣ - التَّقِيَّةُ وَالتُّقَاةُ اسْمَا مَصْدَرٍ بِمَعْنَى الاِتِّقَاءِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ قَال السَّرَخْسِيُّ: التَّقِيَّةُ أَنْ يَقِيَ الإِْنْسَانُ نَفْسَهُ بِمَا يُظْهِرُهُ، وَإِنْ كَانَ يُضْمِرُ خِلاَفَهُ (٢) .
وَالصِّلَةُ أَنَّ كُلًّا مِنَ التَّقِيَّةِ وَالنِّفَاقِ فِيهِمَا إِظْهَارُ خِلاَفِ مَا يُبْطِنُ.
وَتَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (تَقِيَّةٌ ف ١، ٤) .
ج - الرِّيَاءُ:
٤ - أَصْل الرِّيَاءِ الرِّئَاءُ، مَصْدَرُ رَاءَى يُرَائِي. وَالرِّيَاءُ شَرْعًا: الْمُرَاءَاةُ، أَيْ أَنْ يَقْصِدَ الإِْنْسَانُ بِأَقْوَالِهِ أَوْ أَعْمَالِهِ الصَّالِحَةِ أَنْ يَرَاهُ النَّاسُ لِيَظُنُّوهُ مُؤْمِنًا، أَوْ يَسْتَحْسِنُوا فِعْلَهُ (٣) .
_________
(١) لِسَانُ الْعَرَبِ، وَالْمَنْثُورُ ٣ / ٨٤.
(٢) الْمَبْسُوطُ لِلسَّرَخْسِيِّ ٢٤ / ٤٥ بَيْرُوتُ - دَارُ الْمَعْرِفَةِ.
(٣) فَتْحُ الْبَارِي ١٠ / ٥٢٨.
فَالرِّيَاءُ أَمْرٌ يَتَّصِفُ بِهِ الْمُنَافِقُونَ فِي أَعْمَال الإِْيمَانِ الَّتِي يَتَظَاهَرُونَ بِهَا، كَمَا قَدْ يَتَّصِفُ بِهِ غَيْرُهُمْ مِمَّنْ كَانَ صَحِيحَ الإِْيمَانِ، وَلَكِنْ يَعْرِضُ لَهُ الرِّيَاءُ.
أَنْوَاعُ النِّفَاقِ:
٥ - قَال ابْنُ رَجَبٍ: النِّفَاقُ فِي الشَّرْعِ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ:
الأَْوَّل: النِّفَاقُ الأَْكْبَرُ، وَهُوَ أَنْ يُظْهِرَ الإِْنْسَانُ الإِْيمَانَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ، وَيُبْطِنُ مَا يُنَاقِضُ ذَلِكَ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ. وَهَذَا هُوَ النِّفَاقُ الَّذِي كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ ﷺ، وَنَزَل الْقُرْآنُ بِذَمِّ أَهْلِهِ وَتَكْفِيرِهِمْ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ فِي الدَّرْكِ الأَْسْفَل مِنَ النَّارِ.
وَالثَّانِي: النِّفَاقُ الأَْصْغَرُ، أَوْ نِفَاقُ الْعَمَل، وَهُوَ أَنْ يُظْهِرَ الإِْنْسَانُ عَلاَنِيَةً صَالِحَةً، وَيُبْطِنَ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ (١) .
وَمِنْ هُنَا فَإِنَّ كُل مَا ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ وَعِيدٍ لِلْكَافِرِينَ يَدْخُل فِيهِ أَهْل النِّفَاقِ الأَْكْبَرِ؛ لأَِنَّ كُفْرَهُمُ اعْتِقَادِيٌّ حَقِيقِيٌّ، لَيْسَ مَعَهُ مِنَ الإِْيمَانِ شَيْءٌ. وَحَيْثُ قُرِنَ الْكُفَّارُ بِالْمُنَافِقِينَ فِي وَعِيدٍ، يُرَادُ بِالْكُفَّارِ مَنْ كَانَ كُفْرُهُمْ مُعْلَنًا ظَاهِرًا، وَبِالْمُنَافِقِينَ أَهْل الْكُفْرِ الْبَاطِنِ (٢) .
_________
(١) جَامِعُ الْعُلُومِ وَالْحِكَمِ لاِبْنِ رَجَبٍ ٢ / ٣٤٣ط الرِّسَالَةِ.
(٢) الإِْيمَانُ لاِبْنِ تَيْمِيَّةَ ص ٤٨ - ٥٠.
أَمَّا أَهْل النِّفَاقِ الْعَمَلِيِّ - الَّذِي لَيْسَ مَعَهُ نِفَاقُ اعْتِقَادٍ - فَلاَ يَدْخُلُونَ فِي وَعِيدِ الْكَافِرِينَ، وَإِنَّمَا هُمْ مِنْ عُصَاةِ أَهْل الْمِلَّةِ. وَقَدْ يُطْلَقُ اسْمُ النِّفَاقِ مِنْ هَذَا النَّوْعِ عَلَى مَنْ يَرْتَكِبُ خَصْلَةً مِنْ خِصَال النِّفَاقِ الآْتِي بَيَانُهَا (١) .
اجْتِمَاعُ النِّفَاقِ وَالإِْيمَانِ:
٦ - قَال ابْنُ تَيْمِيَّةَ: كَانَ الصَّحَابَةُ وَالسَّلَفُ يَقُولُونَ: إِنَّهُ يَكُونُ فِي الْعَبْدِ إِيمَانٌ وَنِفَاقٌ، وَنَقَل عَنْ حُذَيْفَةَ ﵁، أَنَّهُ قَال: " الْقُلُوبُ أَرْبَعَةٌ " فَذَكَرَ مِنْهَا " وَقَلْبٌ فِيهِ إِيمَانٌ وَنِفَاقٌ " (٢)، ثُمَّ ذُكِرَ عَنْ عَلِيٍّ ﵁ أَنَّهُ قَال: " النِّفَاقُ يَبْدُو لُمْظَةً سَوْدَاءَ فِي الْقَلْبِ، فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ نِفَاقًا ازْدَادَ الْقَلْبُ سَوَادًا، حَتَّى إِذَا اسْتَكْمَل النِّفَاقَ اسْوَدَّ الْقَلْبُ " (٣)، وَقَال: بَل يَدُل لِذَلِكَ قَوْل اللَّهِ تَعَالَى: ﴿هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ
_________
(١) الصَّارِمُ الْمَسْلُول عَلَى شَاتِمِ الرَّسُول لاِبْنِ تَيْمِيَّةَ ص ٣٥ - ٣٦.
(٢) أَثَرُ حُذَيْفَةَ: " الْقُلُوبُ أَرْبَعَةٌ. . . " أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي حِلْيَةِ الأَْوْلِيَاءِ (١ / ٢٧٦ - السَّعَادَةِ) .
(٣) أَثَرُ عَلِيٍّ: " النِّفَاقُ يَبْدُو لُمْظَةً سَوْدَاءَ فِي الْقَلْبِ ". أَخْرَجَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ ص ٥٠٤ نَشْرُ دَارِ الْكُتُبِ الْعِلْمِيَّةِ، وَذَكَرَهُ ابْنُ الأَْثِيرِ فِي النِّهَايَةِ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ ١ / ٢٧٦ ط دَارِ الْفِكْرِ.
لِلإِْيمَانِ (١)﴾ قَال: وَلِلنِّفَاقِ شُعَبٌ، وَقَدْ يَجْتَمِعُ مَعَ شُعَبِ النِّفَاقِ شُعَبٌ مِنَ الإِْيمَانِ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الإِْيمَانِ أَقَل الْقَلِيل لَمْ يَخْلُدْ فِي النَّارِ. قَال: وَضَعْفُ الإِْيمَانِ هُوَ الَّذِي يُوقِعُ فِي الْمَعَاصِي، أَمَّا مَنْ كَانَ مُخْلِصًا لِلَّهِ حَقَّ الإِْخْلاَصِ فَإِنَّهُ يُعْصَمُ مِنْهَا (٢) .
عُقُوبَةُ الْمُنَافِقِ:
٧ - حُكْمُ الْمُنَافِقِ حُكْمُ الزِّنْدِيقِ الْمُظْهِرِ لِلإِْسْلاَمِ، وَهُوَ أَنَّهُ يُقْتَل إِذَا نَطَقَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ، أَوْ وُجِدَ مِنْهُ مُكَفِّرٌ، وَقَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ، وَلَمْ يَتُبْ قَبْل الاِطِّلاَعِ عَلَيْهِ (٣) .
إِلاَّ أَنَّ ابْنَ تَيْمِيَّةَ قَال: فَحَيْثُمَا كَانَ لِلْمُنَافِقِينَ ظُهُورٌ، وَتُخَافُ مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ فِتْنَةٌ أَكْبَرُ مِنْ بَقَائِهِ - عَمِلْنَا بِآيَةِ ﴿وَدَعْ أَذَاهُمْ (٤)﴾ وَحَيْثُمَا حَصَل لَنَا الْقُوَّةُ وَالْعِزُّ خُوطِبْنَا بِقَوْلِهِ: ﴿جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ (٥)﴾ .
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا مَا قَالَهُ ابْنُ مُفْلِحٍ: يَتَوَجَّهُ جَوَازُ الْقَتْل، وَتَرْكُهُ، لِمُعَارِضٍ (٦) .
_________
(١) سُورَةُ آل عِمْرَانَ
(٢) الإِْيمَانُ ص ٢٦١ - ٢٦٣.
(٣) الدُّسُوقِيُّ عَلَى الشَّرْحِ الْكَبِيرِ ٤ / ٣٠٦، وَجَوَاهِرُ الإِْكْلِيل ١ / ٢٥٦.
(٤) سُورَةُ الأَْحْزَابِ / ٤٨
(٥) سُورَةُ التَّحْرِيمِ / ٩
(٦) الصَّارِمُ الْمَسْلُول ص ٣٦٥ - ٣٦٧، وَالْفُرُوعُ ٦ / ٢٠٦.