الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٤١
الإِْعْسَارِ، فَلاَ يُنَافِيهَا اخْتِلاَفُ الدِّينِ كَالصَّدَاقِ وَالأُْجْرَةِ (١) .
خِلاَفًا لِلْجُمْهُورِ الَّذِينَ لَمْ يَشْتَرِطُوا هَذَا الشَّرْطَ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ (٢)﴾، فَهَذِهِ الآْيَةُ تَدُل عَلَى أَنَّ الْوِلاَدَةَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ نَفَقَةِ الأَْوْلاَدِ عَلَى الآْبَاءِ. اتَّحَدَ الدِّينُ أَوِ اخْتَلَفَ.
الشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْمُنْفِقُ وَارِثًا، وَبِهَذَا قَال الْحَنَابِلَةُ، مُسْتَدِلِّينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْل ذَلِكَ (٣)﴾ مُوَجِّهِينَ اسْتِدْلاَلَهُمْ بِأَنَّ بَيْنَ الْمُتَوَارِثِينَ قَرَابَةٌ تَقْتَضِي كَوْنَ الْوَارِثِ أَحَقَّ بِمَال الْمَوْرُوثِ مِنْ سَائِرِ النَّاسِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَخْتَصَّ بِوُجُوبِ صِلَتِهِ بِالنَّفَقَةِ دُونَهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثًا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ (٤) .
تَعَدُّدُ الأُْصُول:
٥٦ - إِذَا تَعَدَّدَتِ الأُْصُول (الأَْبُ وَالأُْمُّ وَالْجَدُّ وَالْجَدَّةُ) فَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ نَفَقَةَ الْفُرُوعِ تَكُونُ وَاجِبَةً عَلَى الأَْبِ إِذَا كَانَ مَوْجُودًا وَقَادِرًا عَلَى الإِْنْفَاقِ لاَ يُشَارِكُهُ فِيهَا أَحَدٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ (٥)﴾، فَالآْيَةُ
_________
(١) المغني ٧ / ٥٨٥.
(٢) سورة البقرة / ٢٣٣
(٣) سورة البقرة / ٢٣٣
(٤) الإنصاف ٩ / ٣٩٢ وما بعدها.
(٥) سورة البقرة / ٢٣٣
تَدُل عَلَى حَصْرِ النَّفَقَةِ فِي الأَْبِ دُونَ سِوَاهُ (١) .
وَاخْتَلَفُوا فِي حَالَةِ عَدَمِ وُجُودِ الأَْبِ، وَكَذَا إِذَا كَانَ مَوْجُودًا لَكِنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الإِْنْفَاقِ.
فَالْحَنَفِيَّةُ: يَرَوْنَ أَنَّهُ يُنْظَرُ إِلَى الأُْصُول الْمَوْجُودَةِ، فَإِنْ كَانُوا جَمِيعًا وَارِثِينَ، فَهُمْ جَمِيعًا مُطَالَبُونَ بِالنَّفَقَةِ عَلَى حَسَبِ أَنْصِبَائِهِمْ فِي الْمِيرَاثِ، فَإِذَا وُجِدَ جَدٌّ لأَِبٍ مَعَ الأُْمِّ فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا بِنِسْبَةِ مِيرَاثِهِمَا، فَيَكُونُ عَلَى الأُْمِّ الثُّلُثُ وَعَلَى الْجَدِّ الثُّلُثَانِ.
وَلَوْ وُجِدَتْ جَدَّةٌ لأُِمٍّ وَجَدَّةٌ لأَِبٍ فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا بِالتَّسَاوِي، لأَِنَّ مِيرَاثَهُمَا مُتَسَاوٍ.
وَإِنْ كَانُوا جَمِيعًا غَيْرَ وَارِثِينَ، بِأَنْ كَانُوا مِنْ ذَوِي الأَْرْحَامِ، فَالنَّفَقَةُ عَلَى أَقْرَبِهِمْ دَرَجَةً، فَإِنِ اتَّحَدَتْ دَرَجَتُهُمْ كَانَتِ النَّفَقَةُ عَلَيْهِمْ بِالتَّسَاوِي.
وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ وَارِثًا وَبَعْضُهُمْ غَيْرَ وَارِثٍ، كَانَتِ النَّفَقَةُ عَلَى الأَْقْرَبِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثًا، فَإِنِ اتَّحَدُوا فِي دَرَجَةِ الْقَرَابَةِ كَانَتِ النَّفَقَةُ عَلَى الْوَارِثِ دُونَ غَيْرِهِ (٢) .
وَأَمَّا الْمَالِكِيَّةُ: فَإِنَّ صُورَةَ تَعَدُّدِ الأُْصُول
_________
(١) فتح القدير ٤ / ٤١٠، وشرح الخرشي ٤ / ٢٠٤، والمهذب ٢ / ١٦٦، والإنصاف ٩ / ٣٩٢.
(٢) فتح القدير ٤ / ٤٢١.
الَّتِي يَجِبُ عَلَيْهَا نَفَقَةُ الْفُرُوعِ غَيْرُ وَارِدَةٍ عِنْدَهُمْ، وَذَلِكَ لأَِنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ النَّفَقَةَ لاَ تَجِبُ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الأُْصُول سِوَى الأَْبِ (١) .
وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ: فَإِذَا لَمْ يُوجَدِ الأَْبُ، أَوْ كَانَ عَاجِزًا، وَجَبَتِ النَّفَقَةُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الأُْصُول الذُّكُورِ دُونَ الإِْنَاثِ، فَمَثَلًا إِذَا وُجِدَ جَدٌّ لأُِمٍّ وَجَدَّةٌ لأَِبٍ، أَوْ لأُِمٍّ كَانَتِ النَّفَقَةُ عَلَى الْجَدِّ لأُِمٍّ، وَإِذَا تَعَدَّدَتِ الأُْصُول وَلَمْ يَكُنْ مِنْ بَيْنِهِمْ ذَكَرٌ بِأَنْ كَانُوا جَمِيعًا مِنَ الإِْنَاثِ، كَانَتِ النَّفَقَةُ عَلَى الأَْقْرَبِ فِي الدَّرَجَةِ.
فَمَثَلًا إِذَا وُجِدَتْ أُمُّ الأَْبِ وَأُمُّ أَبِ الأَْبِ وَأُمُّ أُمِّ الأَْبِ، كَانَتِ النَّفَقَةُ عَلَى أُمِّ الأَْبِ، لأَِنَّهَا أَقْرَبُ (٢) .
وَأَمَّا عِنْدُ الْحَنَابِلَةِ فِي الْمُعْتَمَدِ: فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلصَّبِيِّ أَبٌ فَالنَّفَقَةُ عَلَى وَارِثِهِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ وَارِثَانِ فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ إِرْثِهِمَا مِنْهُ، وَإِنْ كَانُوا ثَلاَثَةً أَوْ أَكْثَرَ فَالنَّفَقَةُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ إِرْثِهِمْ مِنْهُ، فَإِذَا كَانَ لَهُ أُمٌّ وَجَدٌّ فَعَلَى الأُْمِّ الثُّلُثُ، وَالْبَاقِي عَلَى الْجَدِّ، لأَِنَّهُمَا يَرِثَانِهِ كَذَلِكَ.
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْل ذَلِكَ (٣)﴾ وَالأُْمُّ وَارِثَةٌ، فَكَانَ عَلَيْهِمَا بِالنَّصِّ.
_________
(١) حاشية الدسوقي ٢ / ٥٢٣.
(٢) الشرواني وابن القاسم على تحفة المحتاج ٨ / ٣٥٢، ومغني المحتاج ٣ / ٤٥١.
(٣) سورة البقرة / ٢٣٣
وَلأَِنَّ الإِْنْفَاقَ مَعْنًى يُسْتَحَقُّ بِالنَّسَبِ فَلَمْ يَخْتَصُّ بِهِ الْجَدُّ دُونَ الأُْمِّ كَالْوِرَاثَةِ.
وَإِنْ كَانَتْ جَدَّةً وَأَخًا فَعَلَى الْجَدَّةِ سُدُسُ النَّفَقَةِ وَالْبَاقِي عَلَى الأَْخِ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّ الصَّبِيَّ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ تَكُونُ النَّفَقَةُ عَلَى الْعَصَبَاتِ خَاصَّةً (١) .
مِقْدَارُ نَفَقَةِ الأَْقَارِبِ:
٥٧ - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي نَفَقَةِ الأَْقَارِبِ قَدْرُ الْكِفَايَةِ مِنَ الْخُبْزِ وَالأُْدْمِ وَالْكُسْوَةِ وَالسُّكْنَى وَالرَّضَاعِ إِنْ كَانَ رَضِيعًا، لأَِنَّهَا وَجَبَتْ لِلْحَاجَةِ فَتُقَدَّرُ بِمَا تَنْدَفِعُ بِهِ الْحَاجَةُ.
فَقَدْ قَال ﷺ: " خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ " (٢)، فَقَدَّرَ نَفَقَتَهَا وَنَفَقَةَ وَلَدِهَا بِالْكِفَايَةِ.
وَإِنِ احْتَاجَ الْمُنْفَقُ عَلَيْهِ إِلَى خَادِمٍ، فَعَلَى الْمُنْفِقِ إِخْدَامُهُ، لأَِنَّ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ كِفَايَتِهِ (٣) .
_________
(١) المغني ٧ / ٥٩١،٥٩٢.
(٢) حديث: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروفة " سبق تخريجه ف (٨) .
(٣) البدائع ٤ / ٣٨ ط الجمالية بمصر، وحاشية الدسوقي ٢ / ٥٢٣، ومغني المحتاج ٣ / ٤٤٨، والمغني ٧ / ٥٩٥.
اجْتِمَاعُ الأُْصُول وَالْفُرُوعِ:
٥٨ - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا إِذَا كَانَ لِلْمُسْتَحِقِّ لِلنَّفَقَةِ أُصُولٌ وَفُرُوعٌ:
فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ الأُْصُول وَالْفُرُوعُ لِمُسْتَحِقِّ النَّفَقَةِ، كَمَا لَوْ كَانَ لَهُ أَبٌ وَابْنٌ: فَإِنَّ نَفَقَتَهُ عَلَى الاِبْنِ لاَ عَلَى الأَْبِ - وَإِنِ اسْتَوَيَا فِي الْقُرْبِ وَالْوِرَاثَةِ - لِتَرَجُّحِ الاِبْنِ بِإِيجَابِ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ، لِكَوْنِهِ مِنْ كَسْبِ الأَْبِ (١)، كَمَا يَدُل عَلَيْهِ قَوْلُهُ ﷺ: " إِنَّ أَوْلاَدَكُمْ مِنْ أَطْيَبِ كَسْبِكُمْ، فَكُلُوا مِنْ كَسْبِ أَوْلاَدِكُمْ " (٢) .
وَلأَِنَّ مَال الاِبْنِ مُضَافٌ إِلَى الأَْبِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: " أَنْتَ وَمَالُكَ لِوَالِدِكَ " (٣) .
وَلاَ يُشَارِكُ الْوَلَدُ فِي نَفَقَةِ وَالِدِهِ أَحَدٌ مِنَ الأَْبِ أَوِ الأُْمِّ أَوِ الْجَدِّ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ الاِبْنُ وَتَفَاوَتُوا فِي دَرَجَةِ الْقَرَابَةِ كَمَا لَوْ كَانَ لِمُسْتَحَقِّ النَّفَقَةِ أَبٌ وَابْنُ ابْنٍ وَجَبَتِ النَّفَقَةُ عَلَى الأَْقْرَبِ، فَتَكُونُ النَّفَقَةُ عَلَى الأَْبِ، لأَِنَّهُ أَقْرَبُ دَرَجَةً.
وَإِنْ تَسَاوَوْا فِي دَرَجَةِ الْقَرَابَةِ وَجَبَتِ النَّفَقَةُ
_________
(١) البدائع ٤ / ٣٢.
(٢) حديث: " إن أولادكم من أطيب كسبكم. . . " سبق تخريجه ف ١٥.
(٣) حديث: " أنت ومالك لوالدك " سبق تخريجه ف (٥١) .
عَلَى حَسَبِ أَنْصِبَائِهِمْ فِي الْمِيرَاثِ، فَلَوْ كَانَ لَهُ جَدٌّ وَابْنُ ابْنٍ فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمَا، السُّدُسُ عَلَى الْجَدِّ، وَالْبَاقِي عَلَى ابْنِ الاِبْنِ كَالْمِيرَاثِ (١) .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ: أَنَّهُ لَوِ اجْتَمَعَ لِمُسْتَحِقِّ النَّفَقَةِ أَصْلٌ وَفَرْعٌ فَالأَْصَحُّ عِنْدَهُمْ: أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْفَرْعِ وَإِنْ بَعُدَ كَأَبٍ وَابْنِ ابْنٍ، لأَِنَّ عُصُوبَتَهُ أَقْوَى، وَهُوَ أَوْلَى بِالْقِيَامِ بِشَأْنِ أَبِيهِ لِعَظِمِ حُرْمَتِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا عَلَى الأَْصْل اسْتِصْحَابًا لِمَا كَانَ فِي وُجُوبِهَا عَلَيْهِ لَهُ فِي الصِّغَرِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا تَجِبُ عَلَيْهِمَا، لاِشْتِرَاكِهِمَا فِي الْعِلَّةِ وَهِيَ الْبَعْضِيَّةُ (٢) .
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ: فَيَرَوْنَ أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ لِمُسْتَحَقِّ النَّفَقَةِ أَبٌ وَابْنٌ مِنْ أَهْل الإِْنْفَاقِ كَانَتِ النَّفَقَةُ عَلَى الأَْبِ وَحْدَهُ، وَلاَ تَجِبُ عَلَى مَنْ سِوَاهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ (٣)﴾، وَقَوْلِهِ: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ (٤)﴾، وَلِقَوْل النَّبِيِّ ﷺ لِهِنْدَ: " خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ " (٥) .
_________
(١) فتح القدير ٤ / ٤١٩، والبدائع ٤ / ٣٣.
(٢) مغني المحتاج ٣ / ٤٥١.
(٣) سورة الطلاق / ٦
(٤) سورة البقرة / ٢٣٣
(٥) حديث: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " سبق تخريجه ف (٨) .
فَهَذِهِ النُّصُوصُ جَعَلَتِ النَّفَقَةَ عَلَى الأَْبِ دُونَ غَيْرِهِ (١)، فَوَجَبَ اتِّبَاعُ النَّصِّ، وَتَرْكُ مَا عَدَاهُ.
فَإِذَا لَمْ يُوجَدُ الأَْبُ أُجْبِرَ وَارِثُهُ عَلَى نَفَقَتِهِ بِقَدْرِ مِيرَاثِهِ مِنْهُ، فَمَنْ كَانَ لَهُ جَدٌّ لأُِمٍّ وَابْنُ ابْنٍ كَانْتِ النَّفَقَةُ عَلَى ابْنِ الاِبْنِ لأَِنَّهُ الْوَارِثُ، وَلاَ شَيْءَ عَلَى الْجَدِّ لأُِمٍّ لِعَدَمِ إِرْثِهِ، وَمَنْ كَانَ لَهُ أُمٌّ وَابْنٌ، وَجَبَ عَلَى أُمِّهِ سُدُسُ نَفَقَتِهِ، وَوَجَبَ عَلَى الاِبْنِ الْبَاقِي، لأَِنَّ مِيرَاثَهُمَا كَذَلِكَ (٢) .
وَإِذَا اجْتَمَعَ أَصْلٌ وَفَرْعٌ وَارِثَانِ، وَكَانَ أَقْرَبُهُمَا مُعْسِرًا وَالأَْبْعَدُ مُوسِرًا، وَجَبَتِ النَّفَقَةُ عَلَى الْمُوسِرِ الأَْبْعَدِ، لأَِنَّ الْمُعْسِرَ كَالْمَعْدُومِ، فَمَثَلًا مَنْ كَانَ لَهُ أُمٌّ فَقِيرَةٌ وَجَدَّةٌ مُوسِرَةٌ كَانَتِ النَّفَقَةُ عَلَى الْجَدَّةِ فَقَطْ (٣) .
نَفَقَةُ الْحَوَاشِي:
٥٩ - الْحَوَاشِي هُمُ الأَْقَارِبُ الَّذِينَ لَيْسُوا مِنْ عَمُودَيِ النَّسَبِ، كَالإِْخْوَةِ وَأَبْنَاءِ الإِْخْوَةِ وَالأَْخْوَال وَالْخَالاَتِ وَالأَْعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ (٤) . وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي نَفَقَةِ الْحَوَاشِي.
فَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: أَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ
_________
(١) المغني ٧ / ٥٨٧.
(٢) المغني ٧ / ٥٨٩.
(٣) المصدر السابق ٧٥٩٣.
(٤) المصباح المنير ٧ / ٥٩٣.
لَهُمْ فِي الْجُمْلَةِ (١)، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَءَاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ (٢)﴾، وَقَوْلِهِ: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى (٣)﴾ .
فَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ جَعَل حَقَّ ذِي الْقُرْبَى بَعْدَ حَقِّ الْوَالِدَيْنِ فِي الدَّرَجَةِ، وَأَمَرَ بِالإِْحْسَانِ إِلَيْهِمْ كَمَا أَمَرَ بِهِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ، وَمِنَ الإِْحْسَانِ إِلَيْهِمُ الإِْنْفَاقُ عَلَيْهِمْ.
وَلِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ فِيمَا رَوَاهُ طَارِقٌ الْمُحَارِبِيُّ ﵁ قَال: قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَإِذَا رَسُول اللَّهِ ﷺ قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ النَّاسَ وَهُوَ يَقُول: " يَدُ الْمُعْطِي الْعُلْيَا، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُول، أُمَّكَ وَأَبَاكَ، وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ " (٤) .
وَبِمَا رَوَاهُ كُلَيْبُ بْنُ مَنْفَعَةَ الْحَنَفِيُّ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ ﷺ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ مَنْ أَبَرُّ؟ قَال: " أُمَّكَ وَأَبَاكَ، وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ، وَمَوْلاَكَ الَّذِي يَلِي، ذَاكَ حَقٌّ
_________
(١) البحر الرائق ٤ / ٢٢٨ ط دار المعرفة بيروت، والمغني ٧ / ٥٨٦.
(٢) سورة الإسراء / ٣٦
(٣) سورة النساء / ٣٦
(٤) حديث: " يد المعطي العليا، وابدأ بمن تعول، أمك وأباك. . . " أخرجه النسائي (٥ / ٦١ ط التجارية الكبرى)، وصححه ابن حبان (الإحسان ٨ / ١٣٠ - ١٣١ ط مؤسسة الرسالة) .
وَاجِبٌ وَرَحِمٌ مَوْصُولَةٌ " (١) .
فَالرَّسُول ﷺ قَدْ أَخْبَرَ بِأَنَّ النَّفَقَةَ عَلَى هَؤُلاَءِ الْمَذْكُورِينَ حَقٌّ وَاجِبٌ.
غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي تَعْيِينِ مَنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُ مِنَ الْحَوَاشِي:
فَالْحَنَفِيَّةُ: يُوجِبُونَهَا لِكُل ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ كَالْعَمِّ وَالْعَمَّةِ وَالْخَال وَالْخَالَةِ وَالأَْخِ وَابْنِ الأَْخِ، وَلاَ تَجِبُ عِنْدَهُمْ لِذِي رَحِمٍ غَيْرِ مَحْرَمٍ كَابْنِ الْعَمِّ وَبِنْتِ الْعَمِّ، وَلاَ تَجِبُ أَيْضًا لِمَحْرَمٍ غَيْرِ ذِي رَحِمٍ كَالأَْخِ مِنَ الرَّضَاعِ (٢) مُسْتَدِلِّينَ عَلَى وُجُوبِهَا لِكُل ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: (وَعَلَى الْوَارِثِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِثْل ذَلِكَ) .
وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ: فَيُوجِبُونَهَا لِكُل قَرِيبٍ وَارِثٍ بِفَرْضٍ أَوْ تَعْصِيبٍ، فَتَجِبُ عِنْدَهُمْ لِلأَْخِ الشَّقِيقِ أَوْ لأَِبٍ أَوْ لأُِمٍّ، وَالْعَمِّ وَابْنِ الْعَمِّ، وَلاَ تَجِبُ لِلْعَمَّةِ وَبِنْتِ الْعَمِّ وَالْخَال وَالْخَالَةِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّا لاَ إِرْثَ لَهُمْ بِالْفَرْضِ أَوِ التَّعْصِيبِ، وَذَلِكَ لأَِنَّ قَرَابَتَهُمْ ضَعِيفَةٌ، فَهُمْ كَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ يَأْخُذُونَ مَالَهُ عِنْدَ عَدَمِ الْوَارِثِ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَهُمْ.
_________
(١) حديث " يا رسول الله من أبر؟ قال: أمك وأباك، وأختك وأخاك. . . " أخرجه أبو داود (٥ / ٥٣١ ط حمص) .
(٢) فتح القدير ٤ / ٤٢٠، والبحر الرائق ٤ / ٢٢٨.
وَقَال أَبُو الْخَطَّابِ: إِنَّ النَّفَقَةَ تَلْزَمُ ذَوِي الأَْرْحَامِ الَّذِينَ لاَ يَرِثُونَ بِالْفَرْضِ أَوِ التَّعْصِيبِ عِنْدَ عَدَمِ الْعَصَبَاتِ وَذَوِي الْفُرُوضِ، لأَِنَّهُمْ وَارِثُونَ فِي تِلْكَ الْحَال (١) .
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ: أَنَّ نَفَقَةَ الْحَوَاشِي غَيْرُ وَاجِبَةٍ، فَلاَ نَفَقَةَ عِنْدَهُمْ لِمَنْ عَدَا الأُْصُول وَالْفُرُوعَ مِنَ الأَْقَارِبِ كَالإِْخْوَةِ وَالأَْخْوَال وَالأَْعْمَامِ، وَذَلِكَ لِوُرُودِ الشَّرْعِ بِإِيجَابِ نَفَقَةِ الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ، وَمَنْ سِوَاهُمَا لاَ يَلْحَقُ بِهِمْ فِي الْوِلاَدَةِ، فَلَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ (٢) .
شُرُوطُ وُجُوبِ نَفَقَةِ الْحَوَاشِي عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهَا:
٦٠ - يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ نَفَقَةِ الْحَوَاشِي عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهَا الشُّرُوطُ الَّتِي يَجِبُ تَوَافُرُهَا فِي نَفَقَةِ الأَْوْلاَدِ وَهِيَ:
أ - أَنْ يَكُونَ الْمُنْفِقُ عَلَيْهِ فَقِيرًا عَاجِزًا عَنِ الْكَسْبِ، بِسَبَبِ الصِّغَرِ أَوِ الأُْنُوثَةِ أَوِ الزَّمَانَةِ أَوِ الْعَمَى، لأَِنَّهَا أَمَارَةُ الْحَاجَةِ وَلِتَحَقُّقِ الْعَجْزِ، فَإِنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْكَسْبِ غَنِيٌّ بِكَسْبِهِ.
ب - أَنْ يَكُونَ الْمُنْفِقُ وَاجِدًا مَا يُنْفِقُهُ فَاضِلًا عَنْ نَفَقَةِ نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ وَخَادِمِهِ.
_________
(١) المغني ٧ / ٥٨٦، والإنصاف ٩ / ٣٩٥.
(٢) مواهب الجليل ٤ / ٢٠٩، ٢١٠.