الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٤١
أَمَّا إِذَا ثَبَتَ الإِْعْسَارُ تَوَلَّى الْحَاكِمُ أَوْ مَنْ يَأْذَنُ لَهُ أَمْرَ التَّفْرِيقِ بِطَلَبِهَا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ (١)، وَقَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ (٢)، لأَِنَّ هَذِهِ الْفُرْقَةَ مُجْتَهَدٌ فِيهَا فَافْتَقَرَتْ إِلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ كَالْفَسْخِ بِالْعُنَّةِ (٣) .
فَإِذَا حَضَرَ الزَّوْجُ مِنْ سَفَرِهِ وَغَابَ مَالُهُ فَقَدْ فَصَّل الشَّافِعِيَّةُ الْقَوْل، فَذَهَبُوا إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ غَائِبًا مَسَافَةَ الْقَصْرِ فَأَكْثَرَ كَانَ لِلزَّوْجَةِ الْفَسْخُ وَلاَ يَلْزَمُهَا الصَّبْرُ لِلضَّرَرِ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا بِنَحْوِ اسْتِدَانَةٍ، وَإِلاَّ فَلاَ فَسْخَ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ فَلَيْسَ لَهَا الْفَسْخُ لأَِنَّهُ فِي حُكْمِ الْحَضَرِ وَيُؤْمَرُ بِالإِْحْضَارِ عَاجِلًا.
وَإِنْ كَانَ لِلزَّوْجِ مَدِينٌ غَائِبٌ مُوسِرٌ وَكَانَ لَهُ مَالٌ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ فَفِي حَقِّ طَلَبِ الْفَسْخِ لَهَا وَجْهَانِ، أَوْجَهُهُمَا عَدَمُ الْفَسْخِ.
وَإِنْ كَانَ لَهُ مَدِينٌ حَاضِرٌ وَلَهُ مَالٌ بِمَسَافَةِ الْقَصْرِ كَانَ لَهَا الْفَسْخُ كَمَا لَوْ كَانَ مَال الزَّوْجِ غَائِبًا (٤) .
وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لاَ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِعَجْزِ الزَّوْجِ
_________
(١) مغني المحتاج ٣ / ٤٤٢.
(٢) كشاف القناع ٥ / ٤٨٠، والمغني ٩ / ٢٤٧، والمبدع ٨ / ١٣٣.
(٣) كشاف القناع ٥ / ٤٨٠.
(٤) نهاية المحتاج ٧ / ٢١٣، ومغني المحتاج ٣ / ٤٤٢، وروضة الطالبين ٩ / ٧٣.
عَنِ النَّفَقَةِ غَائِبًا كَانَ أَوْ حَاضِرًا مُعْسِرًا كَانَ أَوْ مُوسِرًا (١) .
التَّبَرُّعُ بِالنَّفَقَةِ:
٤٨ - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَقِّ طَلَبِ الزَّوْجَةِ الْفَسْخَ وَعَدَمِ قَبُولِهَا النَّفَقَةَ إِذَا تَبَرَّعَ بِهِ أَحَدٌ عَنِ الزَّوْجِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: تُجْبَرُ الزَّوْجَةُ عَلَى قَبُول النَّفَقَةِ مِنَ الْمُتَبَرِّعِ وَلَيْسَ لَهَا حَقُّ طَلَبِ الْفَسْخِ.
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلاَّ ابْنَ الْكَاتِبِ (٢)، وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ حَكَاهُ ابْنُ كَجٍّ وَبِهِ أَفْتَى الْغَزَالِيُّ (٣) .
الْقَوْل الثَّانِي: لاَ تُجْبَرُ الزَّوْجَةُ عَلَى قَبُول النَّفَقَةِ مِنَ الْمُتَبَرِّعِ وَلَهَا حَقُّ طَلَبِ الْفَسْخِ.
وَبِهِ قَال الْحَنَابِلَةُ (٤) وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ الْكَاتِبِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ (٥) وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمُتَبَرِّعُ أَبًا أَوْ جَدًّا لِلزَّوْجِ وَهُوَ فِي وِلاَيَةِ أَيٍّ مِنْهُمَا فَيَلْزَمُهَا الْقَبُول لِدُخُولِهَا فِي
_________
(١) رد المحتار ٢ / ٦٥٦.
(٢) مواهب الجليل ٤ / ١٩٩.
(٣) نهاية المحتاج ٧ / ٢١٣، ومغني المحتاج ٣ / ٤٤٣، وروضة الطالبين ٩ / ٧٣.
(٤) كشاف القناع ٥ / ٤٧٧.
(٥) مواهب الجليل ٤ / ١٩٩.
مِلْكِ الزَّوْجِ تَقْدِيرًا وَأَلْحَقَ بِهِمَا الأَْذْرَعِيُّ وَلَدَ الزَّوْجِ (١) .
لأَِنَّ فِي قَبُولِهَا مِنَ الْمُتَبَرِّعِ مِنَّةً عَلَيْهَا وَإِلْحَاقَ ضَرَرٍ بِهَا، فَلاَ تُجْبَرُ عَلَى قَبُولِهَا، كَمَا لاَ يُجْبَرُ رَبُّ الدَّيْنِ عَلَى الْقَبُول مِنَ الْمُتَبَرِّعِ سَدَادَ الدَّيْنِ الَّذِي لِلدَّائِنِ عَلَى غَيْرِهِ.
هَذَا بِخِلاَفِ مَا إِذَا دَفَعَ الْمُتَبَرِّعُ النَّفَقَةَ إِلَى الزَّوْجِ أَوَّلًا ثُمَّ قَامَ الزَّوْجُ بِدَفْعِهَا إِلَيْهَا.
فَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ أَنَّ الْمُتَبَرِّعَ لَوْ سَلَّمَ النَّفَقَةَ لِلزَّوْجِ ثُمَّ دَفَعَهَا الزَّوْجُ لَهَا أَوْ دَفَعَهَا إِلَيْهِ وَكِيلُهُ فَإِنَّهَا تُجْبَرُ عَلَى الْقَبُول مِنْهُ، لأَِنَّ الْمِنَّةَ حِينَئِذٍ عَلَى الزَّوْجِ دُونَهَا (٢) .
اعْتِبَارُ النَّفَقَةِ دَيْنًا عَلَى الزَّوْجِ:
٤٩ - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اعْتِبَارِ النَّفَقَةِ دَيْنًا عَلَى الزَّوْجِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
الْقَوْل الأَْوَّل: لاَ تُعْتَبَرُ النَّفَقَةُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ إِلاَّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ بِتَرَاضِي الزَّوْجَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ قَضَاءٌ وَلاَ تَرَاضٍ سَقَطَتْ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ، وَبِهَذَا قَال الْحَنَفِيَّةُ (٣) لأَِنَّ هَذِهِ النَّفَقَةَ تَجْرِي مَجْرَى الصِّلَةِ وَإِنْ
_________
(١) نهاية المحتاج ٧ / ٢١٣، ومغني المحتاج ٣ / ٤٤٣، وروضة الطالبين ٩ / ٧٣.
(٢) نهاية المحتاج ٧ / ٢١٣، ومغني المحتاج ٣ / ٤٤٣، وكشاف القناع ٥ / ٤٧٧.
(٣) البدائع ٤ / ٢٥ - ٢٨.
كَانَتْ تُشْبِهُ الأَْعْوَاضَ لَكِنَّهَا لَيْسَتْ بِعِوَضٍ حَقِيقَةً، لأَِنَّهَا لَوْ كَانَتْ عِوَضًا حَقِيقَةً لَكَانَتْ عِوَضًا عَنْ نَفْسِ الْمُتْعَةِ وَهِيَ الاِسْتِمْتَاعُ، أَوْ كَانَتْ عِوَضًا عَنْ مِلْكِ الْمُتْعَةِ وَهِيَ الاِخْتِصَاصُ بِهَا وَلاَ سَبِيل إِلَى الأَْوَّل، لأَِنَّ الزَّوْجَ مَلَكَ مُتْعَتَهَا بِالْعَقْدِ فَكَانَ هُوَ بِالاِسْتِمْتَاعِ مُتَصَرِّفًا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ بِاسْتِيفَاءِ مَنَافِعٍ مَمْلُوكَةٍ لَهُ، وَمَنْ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ لاَ يَلْزَمُهُ عِوَضٌ لِغَيْرِهِ.
وَلاَ وَجْهَ لِلثَّانِي لأَِنَّ مِلْكَ الْمُتْعَةِ قَدْ قُوبِل بِعِوَضٍ مَرَّةً فَلاَ يُقَابَل بِعِوَضٍ آخَرَ، فَخَلَتِ النَّفَقَةُ عَنْ مُعَوَّضٍ، فَلاَ يَكُونُ عِوَضًا حَقِيقَةً بَل كَانَتْ صِلَةً، وَلِذَلِكَ سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى رِزْقًا بِقَوْلِهِ ﷿: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ (١)﴾
الْقَوْل الثَّانِي: تَصِيرُ النَّفَقَةُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ إِذَا امْتَنَعَ عَنْ أَدَائِهَا بَعْدَ أَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي وَلاَ رِضَا الزَّوْجِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ (٢)، وَالْحَنَابِلَةُ لِقَوْل اللَّهِ ﷿: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ (٣)﴾، مُوَجِّهِينَ اسْتِدْلاَلَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ ﷾ أَخْبَرَ عَنْ وُجُوبِ النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ مُطْلَقًا دُونَ تَقَيُّدٍ بِزَمَانٍ دُونَ آخَرَ، وَلأَِنَّ النَّفَقَةَ قَدْ وَجَبَتْ، وَالأَْصْل أَنَّ مَا وَجَبَ
_________
(١) سورة البقرة / ٢٣٣.
(٢) روضة الطالبين ٩ / ٧٦.
(٣) سورة البقرة / ٢٣٣.
عَلَى إِنْسَانٍ لاَ يَسْقُطُ إِلاَّ بِالْوَفَاءِ أَوِ الإِْبْرَاءِ كَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ (١) .
ثَانِيًا: الْقَرَابَةُ:
تَجِبُ النَّفَقَةُ - فِي الْجُمْلَةِ - بِالْقَرَابَةِ وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيل التَّالِي:
الْقَرَابَةُ الْمُوجِبَةُ لِلنَّفَقَةِ وَبَيَانُ دَرَجَاتِهَا:
٥٠ - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ: إِلَى أَنَّ مُسْتَحِقِّيهَا هُمُ الآْبَاءُ وَإِنْ عَلَوْا، وَالأَْوْلاَدُ وَإِنْ سَفَلُوا، وَالْحَوَاشِي ذَوُو الأَْرْحَامِ الْمُحَرَّمَةِ كَالْعَمِّ وَالأَْخِ وَابْنِ الأَْخِ وَالْعَمَّةِ وَالْخَال وَالْخَالَةِ، وَلاَ تَجِبُ لِغَيْرِهِمْ كَابْنِ الْعَمِّ وَبِنْتِ الْعَمِّ وَبِنْتِ الْخَال وَبِنْتِ الْخَالَةِ، وَلاَ لِلْمَحْرَمِ غَيْرِ ذِي الرَّحِمِ كَابْنِ الْعَمِّ إِذَا كَانَ أَخًا مَنَ الرَّضَاعِ، وَيُشْتَرَطُ اتِّحَادُهُمْ فِي الدِّينِ فِيمَا عَدَا الزَّوْجِيَّةِ وَالْوِلاَدِ فَلاَ تَجِبُ لأَِحَدٍ النَّفَقَةُ مَعَ اخْتِلاَفِ الدِّينِ إِلاَّ بِسَبَبِ الزَّوْجِيَّةِ وَقَرَابَةِ الْوِلاَدِ (٢) .
أَمَّا الأَْوْلاَدُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ (٣)﴾، وَالْمَوْلُودُ لَهُ هُوَ
_________
(١) المغني ٩ / ٢٣٠، وبدائع الصنائع ٤ / ٢٥ - ٢٨.
(٢) تبيين الحقائق للزيلعي ٣ / ٦٣ ط دار المعرفة - بيروت.
(٣) سورة البقرة / ٢٣٣
الأَْبُ، فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ رِزْقَ النِّسَاءِ لأَِجْل الأَْوْلاَدِ، فَلأَنْ تَجِبَ عَلَيْهِ نَفَقَةُ الأَْوْلاَدِ بِالطَّرِيقِ الأَْوْلَى.
وَأَمَّا الأَْبَوَانِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا (١)﴾، فَقَدْ نَزَلَتْ فِي حَقِّ الأَْبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ بِدَلِيل مَا قَبْلَهَا وَوَصَّيْنَا الإِْنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ وَلَيْسَ مِنَ الإِْحْسَانِ وَلاَ مِنَ الْمَعْرُوفِ أَنْ يَعِيشَ فِي نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَيَتْرُكَهُمَا يَمُوتَانِ جُوعًا.
وَأَمَّا الأَْجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ فَكَالأَْبَوَيْنِ وَلِهَذَا يَقُومَانِ مَقَامَ الأَْبِ وَالأُْمِّ فِي الإِْرْثِ وَغَيْرِهِ، وَلأَِنَّهُمْ تَسَبَّبُوا لإِحْيَائِهِ فَاسْتَوْجَبُوا عَلَيْهِ الإِْحْيَاءَ كَالأَْبَوَيْنِ.
أَمَّا اسْتِثْنَاءُ الزَّوْجِيَّةِ مِنَ اتِّحَادِ الدِّينِ فَلأَِنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ بِاعْتِبَارِ الْحَبْسِ الْمُسْتَحَقِّ بِعَقْدِ النِّكَاحِ، وَأَمَّا اسْتِثْنَاءُ الْوِلاَدِ مِنَ اتِّحَادِ الدِّينِ أَيْضًا فَلأَِنَّ الْمَنْفَيَّ عَلَيْهِ جُزْؤُهُ، وَنَفَقَةُ الْجُزْءِ لاَ تَمْتَنِعُ بِالْكُفْرِ، إِلاَّ أَنَّهُ لاَ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ نَفَقَةُ أَبَوَيْهِ الْحَرْبِيَّيْنِ (٢) .
وَشَرَطَ الْحَنَفِيَّةُ الْفَقْرَ لِتَحَقُّقِ الْحَاجَةِ مُفَرِّقِينَ بَيْنَ نَفَقَةِ الزَّوْجِيَّةِ وَغَيْرِهَا قَائِلِينَ بِخِلاَفِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ حَيْثُ تَجِبُ مَعَ الْغِنَى، لأَِنَّهَا تَجِبُ لأَِجْل الْحَبْسِ الدَّائِمِ كَرِزْقِ الْقَاضِي (٣) .
_________
(١) سورة لقمان / ١٥
(٢) تبيين الحقائق ٣ / ٦٣.
(٣) تبيين الحقائق ٣ / ٦٣.
وَفِي نَفَقَةِ الْقَرِيبِ فَإِنَّمَا تَجِبُ لِكُل ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ صَغِيرًا أَوْ أُنْثَى وَلَوْ بَالِغَةً صَحِيحَةً، أَمَّا الذَّكَرُ الْبَالِغُ فَلاَ بُدَّ مِنْ عَجْزِهِ عَنِ الْكَسْبِ بِخِلاَفِ الأَْبَوَيْنِ فَإِنَّهَا تَجِبُ لَهُمَا مَعَ الْقُدْرَةِ، لأَِنَّهُمَا يَلْحَقُهُمَا تَعَبُ الْكَسْبِ، وَالْوَلَدُ مَأْمُورٌ بِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمَا.
وَيَجِبُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ عَلَى قَدْرِ الْمِيرَاثِ، لأَِنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى الْوَارِثِ تَنْبِيهٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْمِقْدَارِ، وَلأَِنَّ الْغُرْمَ بِالْغُنْمِ (١) .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَْوْلاَدِ الْمُبَاشِرِينَ فَقَطْ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَلاَ يَشْتَرِطُونَ اتِّحَادَ الدِّينِ بَيْنَ الأَْصْل وَالْفَرْعِ، أَيْ بَيْنَ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ وَبَيْنَ مَنْ تَجِبُ لَهُ، بَل يُوجِبُونَهَا لِكُلٍّ مِنْهُمْ وَإِنِ اخْتَلَفَ دَيْنُهُ مَعَ الآْخَرِ، مَا دَامَ مُسْتَحِقًّا لَهَا، شَرِيطَةَ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ غَيْرَ حَرْبِيٍّ (٢) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ مُسْتَحِقِّيهَا هُمُ الآْبَاءُ وَإِنْ عَلَوْا وَالأَْوْلاَدُ وَإِنْ نَزَلُوا (٣) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى وُجُوبِهَا لِلآْبَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿
_________
(١) حاشية رد المحتار ٢ / ٦٨١ ط بولاق.
(٢) حاشية الدسوقي ٢ / ٥٢٢، ٥٢٣ ط عيسى الحلبي، ومواهب الجليل ٤ / ٢٠٩ ط دار الفكر، بيروت.
(٣) المهذب للشيرازي ٢ / ٢١٢ ط عيسى الحلبي، ومغني المحتاج ٣ / ٤٤٦، ٤٤٧ ط مصطفى الحلبي.
وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا (١)﴾، وَمِنَ الْمَعْرُوفِ الْقِيَامُ بِكِفَايَتِهِمَا عِنْدَ حَاجَتِهِمَا، وَبِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ: " إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ، وَإِنَّ أَوْلاَدَكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ " (٢) .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى وُجُوبِهَا لِلأَْوْلاَدِ وَإِنْ نَزَلُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ (٣)﴾ فَإِيجَابُ الأُْجْرَةِ لإِرْضَاعِ الأَْوْلاَدِ يَقْتَضِي إِيجَابَ مُؤْنَتِهِمْ.
وَبِقَوْلِهِ ﷺ لِهِنْدَ: " خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ " (٤) .
وَالأَْحْفَادُ مُلْحَقُونَ بِالأَْوْلاَدِ وَإِنْ لَمْ يَتَنَاوَلْهُمْ إِطْلاَقُ مَا تَقَدَّمَ.
وَلَمْ يَشْتَرِطِ الشَّافِعِيَّةُ اتِّحَادَ الدِّينِ بَل يُوجِبُونَهَا مَعَ اخْتِلاَفِهِ. وَلَمْ يُوجِبْهَا الشَّافِعِيَّةُ لِغَيْرِهِمَا مِنْ سَائِرِ الْحَوَاشِي (٥) .
_________
(١) سورة لقمان / ١٥
(٢) حديث: " إن أطيب ما أكلتم من كسبكم. . . ". أخرجه الترمذي (٣ / ٦٠٣) من حديث عائشة ﵂، وقال: حديث حسن صحيح.
(٣) سورة الطلاق / ٦
(٤) حديث: " خذي ما يكفيك وولدك. . . ". سبق تخريجه ف (٨) .
(٥) مغني المحتاج ٣ / ٤٤٦، ٤٤٧.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ: إِلَى اسْتِحْقَاقِهَا لِلآْبَاءِ وَإِنْ عَلَوْا وَلِلأَْوْلاَدِ وَإِنْ نَزَلُوا، وَلِمَنْ يَرِثُهُمُ الْمُنْفِقُ دُونَ مِنْ سِوَاهُمْ، سَوَاءٌ أَكَانَ مِيرَاثُهُ مِنْهُمْ بِفَرْضٍ أَمْ بِتَعْصِيبٍ، وَإِنْ لَمْ يَرِثُوا مِنْهُ.
وَلاَ نَفَقَةَ عَلَى ذَوِي الأَْرْحَامِ مِنْ غَيْرِ عَمُودَيِ النَّسَبِ (١) .
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَهُمُ اشْتِرَاطُ اتِّحَادِ الدِّينِ لِوُجُوبِ النَّفَقَةِ، لأَِنَّهَا مُوَاسَاةٌ عَلَى سَبِيل الْبِرِّ وَالصِّلَةِ لَمْ تَجِبْ مَعَ اخْتِلاَفِ الدِّينِ كَنَفَقَةِ غَيْرِ عَمُودَيِ النَّسَبِ، وَلأَِنَّهُمَا غَيْرُ مُتَوَارِثَيْنِ، فَلَمْ تَجِبْ لأَِحَدِهِمَا عَلَى الآْخَرِ نَفَقَتُهُ بِالْقَرَابَةِ (٢) .
إِنْفَاقُ الْفُرُوعِ عَلَى الأُْصُول:
٥١ - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الأَْبَوَيْنِ الْمُبَاشِرَيْنِ عَلَى الْوَلَدِ (٣) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا (٤)﴾ .
_________
(١) الإنصاف للمرداوي ٩ / ٣٩٢، ٣٩٣، ٣٩٦، ط دار إحياء التراث العربي - بيروت، والمغني مع الشرح الكبير ٩ / ٢٥٩.
(٢) المغني مع الشرح الكبير ٩ / ٢٥٩، والروض المربع ٢ / ٣٦٢ ط دار الكتب العلمية.
(٣) تبيين الحقائق ٣ / ٦٢، وحاشية الدسوقي ٢ / ٥٢٢، ومغني المحتاج ٣ / ٤٤٦، والإنصاف ٩ / ٣٩٢.
(٤) سورة الإسراء / ٢٣.
وَمِنَ الإِْحْسَانِ الإِْنْفَاقُ عَلَيْهِمَا عِنْدَ حَاجَتِهِمَا.
وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا (١)﴾، وَمِنَ الْمَعْرُوفِ الْقِيَامُ بِكِفَايَتِهِمَا عِنْدَ الْحَاجَةِ.
وَلِمَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ ﷺ فَقَال: يَا رَسُول اللَّهِ إِنَّ لِي مَالًا وَوَالِدًا، وَإِنَّ وَالِدِي يَجْتَاحُ مَالِيَ، فَقَال النَّبِيُّ ﷺ: " أَنْتَ وَمَالُكَ لِوَالِدِكِ، إِنَّ أَوْلاَدَكُمْ مَنْ أَطْيَبِ كَسْبِكُمْ، فَكُلُوا مِنْ كَسْبِ أَوْلاَدِكُمْ " (٢) . فَإِذَا كَانَ كَسْبُ الْوَلَدِ يُعَدُّ مِنْ كَسْبِ الأَْبِ، فَإِنَّ نَفَقَةَ الأَْبِ تَكُونُ وَاجِبَةً فِيهِ، لأَِنَّ نَفَقَةَ الإِْنْسَانِ تَكُونُ مِنْ كَسْبِهِ.
وَقَدْ حَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ الإِْجْمَاعَ فِي هَذَا فَقَال: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ نَفَقَةَ الْوَالِدَيْنِ اللَّذَيْنِ لاَ كَسْبَ لَهُمَا وَلاَ مَال وَاجِبَةٌ فِي مَال الْوَلَدِ (٣) .
أَمَّا الأَْجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ، فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ
_________
(١) سورة لقمان / ١٥
(٢) أخرجه أبو داود (٣ / ٨٠١ ط حمص) وابن ماجه (٢ / ٧٦٩ ط الحلبي) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. واللفظ لأبي داود، وصححه البوصيري في مصباح الزجاجة (٢ / ٢٥ ط الجنان) .
(٣) مغني المحتاج ٣ / ٤٤٧، والمغني ١١ / ٣٧٣ ط هجر.