الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٤١ الصفحة 10

الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٤١

فَإِنْ لَمْ يَفْعَل مَا سَبَقَ، فَرَضَ الْحَاكِمُ عَلَيْهِ نَفَقَتَهَا مِنْ حِينِ الْوَقْتِ الَّذِي يَتَمَكَّنُ فِيهِ الْوُصُول إِلَيْهَا وَتَسَلُّمُهَا فِيهِ، لأَِنَّ الزَّوْجَ امْتَنَعَ مِنْ تَسَلُّمِهَا لإِمْكَانِ ذَلِكَ وَبَذْلِهَا نَفْسَهَا لَهُ، فَلَزِمَتْهُ نَفَقَتُهَا كَمَا لَوْ كَانَ حَاضِرًا، وَلأَِنَّ الزَّوْجَ بِامْتِنَاعِهِ عَنِ الْحُضُورِ لِتَسَلُّمِهَا يَكُونُ قَدْ تَرَكَ حَقَّهُ فِي ذَلِكَ، وَتَرْكُهُ لِحَقِّهِ لاَ يُسْقِطُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنَ النَّفَقَةِ لِزَوْجَتِهِ.

وَإِذَا بَذَلَتْ نَفْسَهَا لَهُ وَهُوَ حَاضِرٌ ثُمَّ غَابَ عَنْهَا بَعْدَ أَنْ عَرَضَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهَا وَامْتَنَعَ مِنْ تَسَلُّمِهَا فَالنَّفَقَةُ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ فِي غَيْبَتِهِ وَلاَ تَسْقُطُ عَنْهُ، لأَِنَّ الْمَانِعَ مِنْ جِهَتِهِ.

وَقَال الْمَالِكِيَّةُ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْخِطَابِ: إِذَا سَافَرَ الزَّوْجُ قَبْل الدُّخُول فَطَلَبَتْ زَوْجَتُهُ النَّفَقَةَ فَلَهَا ذَلِكَ عَلَى مَا رَجَّحَهُ ابْنُ رُشْدٍ وَهَذَا مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَقِيل: لاَ نَفَقَةَ لَهَا إِذَا كَانَ قَرِيبًا لأَِنَّهَا لاَ نَفَقَةَ لَهَا حَتَّى تَدْعُوَهُ وَهِيَ لَمْ تَدْعُ قَبْل مَغِيبِهِ فَيُكْتَبُ لَهُ إِمَّا أَنْ يَبْنِيَ أَوْ أَنْ يُنْفِقَ، وَقِيل: لَهَا النَّفَقَةُ مِنْ حِينِ تَدْعُو إِلَى الْبِنَاءِ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا عَلَى قُرْبٍ فَلَيْسَ عَلَيْهَا انْتِظَارُهُ وَهَذَا أَقْيَسُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ إِذْ لَمْ يُفَرَّقْ فِيهَا بَيْنَ قُرْبٍ وَلاَ بُعْدٍ (١) .

_________

(١) مواهب الجليل ٤ / ١٨٢ - ١٨٣، والتاج والإكليل ٤ / ٢٠٠، وشرح الخرشي ٤ / ١٩٩.

ثَانِيًا: نَفَقَةُ زَوْجَةِ الْغَائِبِ بَعْدَ الدُّخُول:

٢٤ - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي فَرْضِ النَّفَقَةِ عَلَى الزَّوْجِ أَوْ مَا فِي حُكْمِهِ إِنْ كَانَ غَائِبًا.

فَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ تَجِبُ عَلَى زَوْجِهَا الْغَائِبِ فِي مَالِهِ، حَاضِرًا كَانَ الْمَال أَوْ غَائِبًا، وَسَوَاءٌ أَكَانَ ذَلِكَ بِفَرْضِ الْقَاضِي لِلنَّفَقَةِ إِذَا طَلَبَتِ الزَّوْجَةُ أَمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ (١) . لِمَا وَرَدَ عَنْ رَسُول اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَال لِهِنْدَ امْرَأَةِ أَبِي سُفْيَانَ: خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ (٢) وَكَانَ ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ فَرْضًا لِلنَّفَقَةِ عَلَى أَبِي سُفْيَانَ وَكَانَ غَائِبًا.

وَلِلْحَنَفِيَّةِ قَوْلاَنِ فِي فَرْضِ النَّفَقَةِ عَلَى الْغَائِبِ:

الأَْوَّل: هُوَ أَنْ يَفْرِضَ الْقَاضِي لِلزَّوْجَةِ نَفَقَةً عَلَى زَوْجِهَا الْغَائِبِ بِشَرْطِ طَلَبِهَا، لأَِنَّ الْمَانِعَ مِنَ الزَّوْجِ، فَلاَ تُمْنَعُ النَّفَقَةُ عَنِ الزَّوْجَةِ، وَبِهِ قَال أَبُو حَنِيفَةَ أَوَّلًا وَهُوَ قَوْل النَّخَعِيِّ لِحَدِيثِ هِنْدَ السَّابِقِ.

وَالْقَوْل الثَّانِي: لاَ يَفْرِضُ لَهَا النَّفَقَةَ وَلَوْ طَلَبَتْ وَلَوْ كَانَ الْقَاضِي عَالِمًا بِالزَّوْجِيَّةِ لأَِنَّ

_________

(١) شرح الخرشي ٤ / ١٩٩، والتاج والإكليل ٤ / ٢٠٠، ومغني المحتاج ٣ / ٤٣٦، وكشاف القناع ٥ / ٤٧١.

(٢) حديث: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " سبق تخريجه ف ٨.

الْفَرْضَ مِنَ الْقَاضِي عَلَى الْغَائِبِ قَضَاءٌ عَلَيْهِ، وَقَدْ صَحَّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ لاَ يَجُوزُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ عَنْهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ، وَلَمْ يُوجَدْ، وَهُوَ قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ الآْخَرَ، وَهُوَ قَوْل شُرَيْحٍ (١) .

وَيُنْظَرُ تَفْصِيل ذَلِكَ فِي مُصْطَلَحِ (غَيْبَة ف ٤ وَمَا بَعْدَهَا) .

٢٥ - فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْقَاضِي عَالِمًا بِالزَّوْجِيَّةِ فَسَأَلَتِ الْقَاضِيَ أَنْ يَسْمَعَ بَيِّنَتَهَا بِالزَّوْجِيَّةِ وَيَفْرِضَ لَهَا نَفَقَةً عَلَى الْغَائِبِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْقَوْل الأَْوَّل: لاَ يَسْمَعُهَا الْقَاضِي وَلاَ يَفْرِضُ لَهَا، وَبِهِ قَال أَبُو يُوسُفَ (٢) . لأَِنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَصْل الْحَنَفِيَّةِ لاَ تُسْمَعُ إِلاَّ عَلَى خَصْمٍ حَاضِرٍ، وَلاَ خَصْمَ فَلاَ تُسْمَعُ.

الْقَوْل الثَّانِي: يَسْمَعُ الْقَاضِي بَيِّنَتَهَا وَيَفْرِضُ لَهَا نَفَقَةً وَتَسْتَدِينُ عَلَيْهِ، فَإِذَا حَضَرَ الزَّوْجُ وَأَنْكَرَ يَأْمُرُهَا الْقَاضِي بِإِعَادَةِ الْبَيِّنَةِ فِي وَجْهِهِ، فَإِنْ فَعَلَتْ نَفَّذَ الْفَرْضَ وَصَحَّتْ الاِسْتِدَانَةُ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَل لَمْ يُنَفِّذْ وَلَمْ يَصِحَّ، وَبِهِ قَال زُفَرُ.

لأَِنَّ الْقَاضِيَ إِنَّمَا يَسْمَعُ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ لاَ لإِثْبَاتِ النِّكَاحِ عَلَى الْغَائِبِ، بَل لِيَتَوَصَّل

_________

(١) البدائع ٤ / ٢٦.

(٢) لبدائع ٤ / ٢٧.

بِهَا إِلَى فَرْضِ النَّفَقَةِ، إِذْ يَجُوزُ سَمَاعُ الْبَيِّنَةُ فِي حَقِّ حُكْمٍ دُونَ حُكْمٍ، كَشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ عَلَى السَّرِقَةِ، فَإِنَّهَا تُقْبَل فِي حَقِّ الْمَال، وَلاَ تُقْبَل فِي حَقِّ الْقَطْعِ. كَذَا هَاهُنَا تُقْبَل هَذِهِ الْبَيِّنَةُ فِي حَقِّ صِحَّةِ الْفَرْضِ، لاَ فِي إِثْبَاتِ النِّكَاحِ.

فَإِذَا حَضَرَ وَأَنْكَرَ اسْتَعَادَ مِنْهَا الْبَيِّنَةَ، فَإِنْ أَعَادَتْ نَفَّذَ الْفَرْضَ وَصَحَّتْ الاِسْتِدَانَةُ عَلَيْهِ وَإِلاَّ فَلاَ. هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ الزَّوْجُ غَائِبًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ حَاضِرٌ (١) . فَإِذَا كَانَ لَهُ مَالٌ حَاضِرٌ: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ الزَّوْجَةِ أَوْ فِي يَدِ غَيْرِهَا.

فَإِذَا كَانَ الْمَال فِي يَدِهَا وَهُوَ مِنْ جِنْسِ النَّفَقَةِ فَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ لَهَا أَنْ تُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهَا بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي (٢) لِحَدِيثِ هِنْدَ امْرَأَةِ أَبِي سُفْيَانَ السَّابِقِ (٣) .

وَإِنْ كَانَ الْمَال فِي يَدِ غَيْرِهَا وَهُوَ مِنْ جَنْسِ النَّفَقَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي أَخْذِ الزَّوْجَةِ نَفَقَتَهَا مِنْ مَال زَوْجِهَا الَّذِي بِيَدِ الآْخَرِينَ سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَال وَدِيعَةً أَمْ دَيْنًا بِأَمْرِ الْقَاضِي عَلَى قَوْلَيْنِ:

_________

(١) البدائع ٤ / ٢٧.

(٢) البدائع ٤ / ٢٧.

(٣) سبق تخريجه ف ٨.

الْقَوْل الأَْوَّل: إِنْ كَانَ صَاحِبُ الْيَدِ مُقِرًّا بِالْوَدِيعَةِ وَالزَّوْجِيَّةِ، أَوْ كَانَ الْمَدِينُ مُقِرًّا بِالدَّيْنِ وَالزَّوْجِيَّةِ، أَوْ كَانَ الْقَاضِي عَالِمًا بِذَلِكَ فَرَضَ لَهَا فِي ذَلِكَ الْمَال نَفَقَتَهَا، وَبِهِ قَال أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ (١) .

لأَِنَّ صَاحِبَ السَّيِّدِ - وَهُوَ الْمُودَعُ - إِذَا أَقَرَّ بِالْوَدِيعَةِ وَالزَّوْجِيَّةِ، أَوْ أَقَرَّ الْمَدْيُونُ بِالدَّيْنِ وَالزَّوْجِيَّةِ فَقَدْ أَقَرَّا أَنَّ لَهَا حَقَّ الأَْخْذِ، لأَِنَّ لِلزَّوْجَةِ أَنْ تَمُدَّ يَدَهَا إِلَى مَال زَوْجِهَا فَتَأْخُذَ كِفَايَتَهَا مِنْهُ لِحَدِيثِ امْرَأَةِ أَبِي سُفْيَانَ، وَلأَِنَّهُ لَوْ لَمْ يَفْرِضِ الْقَاضِي لَهَا النَّفَقَةَ فِي ذَلِكَ الْمَال أُضِيرَتْ، فَكَانَ الْوَاجِبُ إِعَانَتَهَا عَلَى أَخْذِ حَقِّهَا وَاسْتِيفَاءِ نَفَقَتِهَا (٢) .

الْقَوْل الثَّانِي: لاَ يَفْرِضُ لَهَا نَفَقَةً، وَبِهِ قَال زُفَرُ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ. لأَِنَّ هَذَا قَضَاءٌ عَلَى الْغَائِبِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عَنْهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ، إِذِ الْمُودَعُ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنِ الزَّوْجِ وَكَذَا الْمَدْيُونُ فَلاَ يَجُوزُ (٣) .

هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَتِ الْوَدِيعَةُ وَالدَّيْنُ مِنْ جِنْسِ النَّفَقَةِ بِأَنْ كَانَتْ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ طَعَامًا أَوْ ثِيَابًا مَنْ جَنْسِ كُسْوَتِهَا.

_________

(١) البدائع ٤ / ٢٧

(٢) المرجع السابق.

(٣) البدائع ٤ / ٢٧.

أَمَّا إِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ بِأَنْ كَانَتْ عَقَارًا أَوْ عُرُوضًا فَبَيَانُ حُكْمِ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:

أَوَّلًا: إِنْ كَانَتْ أَمْوَال الْغَائِبِ عَقَارًا:

٢٦ - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَفْرِضُ الْقَاضِي لِلزَّوْجَةِ فِي عَقَارِ الْغَائِبِ نَفَقَةً، لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ إِيجَابُ النَّفَقَةِ فِي عَقَارِ الْغَائِبِ إِلاَّ بِالْبَيْعِ، وَلاَ يُبَاعُ الْعَقَارُ عَلَى الْغَائِبِ فِي النَّفَقَةِ، لأَِنَّ مَال الْمَدِينِ إِنَّمَا يُبَاعُ إِذَا امْتَنَعَ عَنِ الأَْدَاءِ وَلَمْ يَثْبُتِ امْتِنَاعُهُ فَلاَ يُبَاعُ عَلَيْهِ (١) .

ثَانِيًا: إِنْ كَانَ أَمْوَال الْغَائِبِ عُرُوضًا:

٢٧ - أَمَّا إِذَا كَانَتْ أَمْوَالُهُ عُرُوضًا فَقَدِ اخْتَلَفَ الْحَنَفِيَّةُ فِي فَرْضِ النَّفَقَةِ فِيهَا لِلزَّوْجَةِ بِبَيْعِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْقَوْل الأَْوَّل: لاَ يَفْرِضُ لَهَا النَّفَقَةَ فِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ وَلاَ تُبَاعُ فِي نَفَقَتِهَا، وَبِهِ قَال أَبُو حَنِيفَةَ، لأَِنَّهُ لاَ يُمْكِنُ إِيجَابُ النَّفَقَةِ فِيهِ إِلاَّ بِالْبَيْعِ، وَمَال الْمَدِينِ إِنَّمَا يُبَاعُ إِذَا امْتَنَعَ عَنِ الأَْدَاءِ، وَالْغَائِبُ لاَ يُعْلَمُ امْتِنَاعُهُ، فَلاَ يُعْلَمُ ظُلْمُهُ، فَلاَ يُبَاعُ عَلَيْهِ (٢) .

الْقَوْل الثَّانِي: يَفْرِضُ لِزَوْجَةِ الْغَائِبِ النَّفَقَةَ فِي مَالِهِ إِنْ كَانَتْ عُرُوضًا بِبَيْعِهِ، وَبِهِ قَال أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ (٣) .

_________

(١) البدائع ٤ / ٢٧.

(٢) البدائع ٤ / ٢٧.

(٣) البدائع ٤ / ٢٧.

وَاسْتَنَدَا فِي ذَلِكَ: إِلَى مَا اسْتَنَدَا إِلَيْهِ فِي فَرْضِ نَفَقَتِهَا إِذَا كَانَتْ أَمْوَالُهُ عَقَارًا مِنْ حَدِيثِ هِنْدَ.

قَال ابْنُ نُجَيْمٍ: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ أَصْلًا فَطَلَبَتْ مِنَ الْقَاضِي فَرْضَ النَّفَقَةِ فَعِنْدَنَا لاَ يَسْمَعُ الْبَيِّنَةَ لأَِنَّهُ قَضَاءٌ عَلَى الْغَائِبِ، وَعِنْدَ زُفَرَ يَسْمَعُ الْقَاضِي الْبَيِّنَةَ وَلاَ يَقْضِي بِالنِّكَاحِ وَيُعْطِيهَا النَّفَقَةَ مِنْ مَال الزَّوْجِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالِكٌ أَمَرَهَا الْقَاضِي بِالاِسْتِدَانَةِ، فَإِنْ حَضَرَ الزَّوْجُ وَأَقَرَّ بِالنِّكَاحِ أَمَرَهُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ، وَإِنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ كَلَّفَهَا الْقَاضِي إِعَادَةَ الْبَيِّنَةِ، فَإِنْ لَمْ تُعِدْهَا أَمَرَهَا الْقَاضِي بِرَدِّ مَا أَخَذَتْ، وَمَا يَفْعَلُهُ الْقُضَاةُ فِي زَمَانِنَا مِنْ قَبُول الْبَيِّنَةِ مِنَ الْمَرْأَةِ وَفَرْضِ النَّفَقَةِ عَلَى الْغَائِبِ إِنَّمَا يُنَفَّذُ لاَ لأَِنَّهُ قَوْل عُلَمَائِنَا الثَّلاَثَةِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ، وَإِنَّمَا يُنَفَّذُ لِكَوْنِهِ مُخْتَلَفًا فِيهِ إِمَّا مَعَ زُفَرَ أَوْ مَعَ أَبِي يُوسُفَ كَمَا ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ وَهُوَ أَرْفَقُ بِالنَّاسِ (١) .

نَفَقَةُ زَوْجَةِ الَّذِي لاَ مَال لَهُ:

٢٨ - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي وَقْتِ اعْتِبَارِ نَفَقَةِ زَوْجَةِ الَّذِي لاَ مَال لَهُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:

الْقَوْل الأَْوَّل: إِنْ أَنْفَقَتِ الزَّوْجَةُ عَلَى نَفْسِهَا مِنْ مَالِهَا أَوْ مِنْ مَال غَيْرِهَا بِدُونِ

_________

(١) البحر الرائق ٤ / ٢١٤.

قَضَاءٍ مِنَ الْقَاضِي بِالنَّفَقَةِ أَوْ تَرَاضٍ مَعَ زَوْجِهَا عَلَى مِقْدَارِ النَّفَقَةِ: لاَ تَكُونُ النَّفَقَةُ دَيْنًا عَلَى الزَّوْجِ أَصْلًا إِلاَّ إِذَا كَانَتِ الْمُدَّةُ الَّتِي طَلَبَتِ الْحُكْمَ بِنَفَقَتِهَا أَقَل مِنْ شَهْرٍ، فَيَسُوغُ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ لَهَا لِصُعُوبَةِ الاِحْتِرَازِ عَنْهَا.

لأَِنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ لَهَا شَبَهَانِ: شَبَهٌ بِالْعِوَضِ وَآخَرُ بِالصِّلَةِ عَطَاءٌ مِنْ غَيْرِ عِوَضِ، فَهِيَ لَيْسَتْ عِوَضًا مِنْ كُل وَجْهٍ وَلَيْسَتْ صِلَةً مِنْ كُل وَجْهٍ.

أَمَّا شَبَهُهَا بِالْعِوَضِ فَلأَِنَّهَا جَزَاءُ احْتِبَاسِ الزَّوْجَةِ لِحَقِّ زَوْجِهَا وَقِيَامِهَا بِشُؤُونِ الْبَيْتِ وَرِعَايَةِ الأَْوْلاَدِ. وَأَمَّا شَبَهُهَا بِالصِّلَةِ فَلِكَوْنِ الْمَنَافِعِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى الاِحْتِبَاسِ عَائِدَةً عَلَى كِلاَ الزَّوْجَيْنِ فَيَكُونُ وَاجِبًا عَلَيْهَا فَلاَ تَسْتَحِقُّ بِهِ شَيْئًا عَلَى الزَّوْجِ.

فَنَظَرًا لِشَبَهِهَا بِالصِّلَةِ تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ وَلاَ تَرَاضٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ كَنَفَقَةِ الأَْقَارِبِ.

وَلِشَبَهِهَا بِالْعِوَضِ تَصِيرُ دَيْنًا بِالْقَضَاءِ بِهَا أَوِ التَّرَاضِي عَلَيْهَا.

وَإِنْ أَنْفَقَتْ عَلَى نَفْسِهَا بَعْدَ تَرَاضِيهَا مَعَهُ أَوْ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالنَّفَقَةِ، وَلَكِنْ قَبْل الإِْذْنِ بِالاِسْتِدَانَةِ مِنْهُ أَوْ مِنَ الْقَاضِي، فَإِنَّ النَّفَقَةَ تَسْقُطُ بِأَدَاءِ الزَّوْجِ إِيَّاهَا لِلزَّوْجَةِ أَوْ

وَكِيلِهَا، أَوْ إِبْرَاءِ الزَّوْجَةِ زَوْجَهَا مِنْهَا، أَوْ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا.

وَإِنْ أَنْفَقَتْ عَلَى نَفْسِهَا بَعْدَ الْقَضَاءِ وَالإِْذْنِ بِالاِسْتِدَانَةِ، أَوْ بَعْدَ التَّرَاضِي مَعَ زَوْجِهَا وَالإِْذْنِ لَهَا بِالاِسْتِدَانَةِ - وَاسْتَدَانَتِ الزَّوْجَةُ بِالْفِعْل - كَانَتِ النَّفَقَةُ دَيْنًا صَحِيحًا ثَابِتًا عَلَى الزَّوْجِ لاَ يَسْقُطُ إِلاَّ بِالأَْدَاءِ إِلَيْهَا فِعْلًا أَوِ الإِْبْرَاءِ مِنْهَا، وَفَائِدَةُ الإِْذْنِ ثُبُوتُ الْحَقِّ لِلْغَرِيمِ فِي مُطَالَبَةِ الزَّوْجِ إِذَا أَحَالَتْهُ الزَّوْجَةُ عَلَيْهِ.

وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ (١) .

الْقَوْل الثَّانِي: تُعْتَبَرُ النَّفَقَةُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الزَّوْجِ بِمُجَرَّدِ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ وَامْتِنَاعِهِ عَنْ أَدَائِهَا، وَلاَ يَسْقُطُ هَذَا الدَّيْنُ عَنْهُ مُطْلَقًا إِلاَّ بِالأَْدَاءِ أَوِ الإِْبْرَاءِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ: سَوَاءٌ أَحَكَمَ بِهَا الْقَاضِي أَمْ تَرَاضَيَا عَلَيْهَا أَمْ لَمْ يَحْكُمْ بِهَا وَلَمْ يَتَرَاضَيَا عَلَيْهَا.

وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ (٢) وَالشَّافِعِيَّةُ (٣) وَالْحَنَابِلَةُ (٤) . مُسْتَنِدِينَ فِي ذَلِكَ إِلَى: مَا وَرَدَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ﵁ كَتَبَ إِلَى أُمَرَاءِ الأَْجْنَادِ فِيمَنْ غَابَ عَنْ نِسَائِهِ مِنْ أَهْل الْمَدِينَةِ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى نِسَائِهِمْ، إِمَّا

_________

(١) بدائع الصنائع ٤ / ٢٨، تبيين الحقائق ٣ / ٥٥، ٥٦.

(٢) شرح الخرشي ٤ / ١٩٩.

(٣) مغني المحتاج ٣ / ٤٤٢.

(٤) المغني ٩ / ٢٤٧.

أَنْ يُفَارِقُوا وَإِمَّا أَنْ يَبْعَثُوا بِالنَّفَقَةِ، فَمَنْ فَارَقَ مِنْهُمْ فَلْيَبْعَثْ بِنَفَقَةِ مَا تَرَكَ (١) .

وَلأَِنَّ النَّفَقَةَ حَقٌّ يَجِبُ مَعَ الْيَسَارِ وَالإِْعْسَارِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ كَأُجْرَةِ الْعَقَارِ وَالدُّيُونِ (٢) .

وَلأَِنَّ النَّفَقَةَ عِوَضٌ أَوْجَبَهُ الشَّارِعُ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ فِي مُقَابِل احْتِبَاسِ الزَّوْجَةِ لِمَنْفَعَةِ الزَّوْجِ وَقِيَامِهَا عَلَى شُؤُونِ الْبَيْتِ وَمَصَالِحِهِ، وَإِذَا كَانَتِ النَّفَقَةُ عِوَضًا فَإِنَّهَا تَكُونُ دَيْنًا كَسَائِرِ الدُّيُونِ مِنَ اسْتِحْقَاقِهَا كَمَا فِي كُل أُجْرَةٍ وَعِوَضٍ (٣) .

تَنَازُعُ الزَّوْجَيْنِ فِي الإِْنْفَاقِ:

٢٩ - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ إِذَا ادَّعَى الزَّوْجُ إِعْطَاءَ زَوْجَتِهِ نَفَقَتَهَا أَوْ إِرْسَالَهَا لَهَا وَأَنْكَرَتْ هِيَ ذَلِكَ وَلَمْ تُصَدِّقْهُ.

فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْقَوْل قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا (٤) .

_________

(١) أثر عمر ﵁: كتب إلى أمراء الأجناد فيمن غاب عن نسائه. أخرجه الشافعي في المسند (٢ / ٦٥ بترتيب السندي) وابن أبي شيبة في المصنف (٥ / ٢١٤ ط الدار السلفية)، واللفظ لابن أبي شيبة.

(٢) مغني المحتاج ٣ / ٤٤٢.

(٣) المغني ٩ / ٢٤٧.

(٤) البدائع ٤ / ٢٩، والمهذب ٢ / ١٦٤، والمغني مع الشرح ٩ / ٢٥٣.