الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٤
اسْتِقْبَال
التَّعْرِيفُ:
١ - الاِسْتِقْبَال فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ اسْتَقْبَل الشَّيْءَ إِذَا وَاجَهَهُ، وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لَيْسَتَا لِلطَّلَبِ، فَاسْتَفْعَل هُنَا بِمَعْنَى فَعَل، كَاسْتَمَرَّ وَاسْتَقَرَّ وَمِثْلُهُ الْمُقَابَلَةُ. (١)
وَيُقَابِلُهُ بِهَذَا الْمَعْنَى الاِسْتِدْبَارُ.
وَيَرِدُ الاِسْتِقْبَال فِي اللُّغَةِ أَيْضًا بِمَعْنَى: الاِسْتِئْنَافِ، يُقَال اقْتَبَل الأَْمْرَ وَاسْتَقْبَلَهُ: إِذَا اسْتَأْنَفَهُ. (٢)
وَقَدِ اسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ بِهَذَيْنِ الإِْطْلاَقَيْنِ فَيَقُولُونَ: اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ أَيْ مُقَابَلَتُهَا وَيَقُولُونَ: اسْتَقْبَل حَوْل الزَّكَاةِ أَيِ: ابْتَدَأَهُ وَاسْتَأْنَفَهُ. (٣)
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ إطْلاَقَهُ عَلَى طَلَبِ الْقَبُول الَّذِي يُقَابِل الإِْيجَابَ فِي الْعُقُودِ، فَقَالُوا: يَصِحُّ الْبَيْعُ بِالاِسْتِقْبَال، وَمَثَّلُوا لَهُ بِنَحْوِ: اشْتَرِ مِنِّي، فَإِنَّهُ اسْتِقْبَالٌ قَائِمٌ مَقَامَ الإِْيجَابِ، وَمِثْل الْبَيْعِ الرَّهْنُ، فَيَصِحُّ بِنَحْوِ: ارْتَهِنْ دَارِي بِكَذَا. (٤)
_________
(١) المصباح واللسان (قبل)، والبحر الرائق ١ / ٢٩٩ ط المطبعة العلمية، ورد المحتار ١ / ٢٨٦ ط أولى.
(٢) الأساس للزمخشري (قبل) .
(٣) منح الجليل ١ / ٣٤٨ ط بولاق.
(٤) البجيرمي على المنهج ٢ / ١٦٧ ط التجارية، والشرواني ٥ / ٥١ ط الميمنية.
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ
أ - الاِسْتِئْنَافُ:
٢ - الاِسْتِئْنَافُ: ابْتِدَاءُ الأَْمْرِ، (١) وَعَلَيْهِ فَهُوَ مُرَادِفٌ لِلاِسْتِقْبَال فِي أَحَدِ إطْلاَقَاتِهِ.
ب - الْمُسَامَتَةُ:
٣ - الْمُسَامَتَةُ بِمَعْنَى: الْمُقَابَلَةِ وَالْمُوَازَاةِ، وَهِيَ مُرَادِفَةٌ لِلاِسْتِقْبَال عِنْدَ الَّذِينَ فَسَّرُوا الاِسْتِقْبَال بِمَعْنَى التَّوَجُّهِ إلَى الشَّيْءِ بِعَيْنِهِ بِلاَ انْحِرَافٍ يَمْنَةً وَلاَ يَسْرَةً. وَأَمَّا الَّذِينَ لَمْ يَشْتَرِطُوا فِي الاِسْتِقْبَال هَذَا الشَّرْطَ كَالْمَالِكِيَّةِ فَإِنَّهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا، فَخَصُّوا الْمُسَامَتَةَ بِاسْتِقْبَال عَيْنِ الشَّيْءِ تَمَامًا بِجَمِيعِ الْبَدَنِ، وَجَعَلُوا الاِسْتِقْبَال أَعَمَّ مِنْ ذَلِكَ، لِصِدْقِهِ بِخُرُوجِ شَيْءٍ مِنَ الْبَدَنِ عَنْ مُحَاذَاةِ الْعَيْنِ.
ج - الْمُحَاذَاةُ:
٤ - الْمُحَاذَاةُ بِمَعْنَى: الْمُوَازَاةِ. (٢) وَمَا قِيل فِي الْمُسَامَتَةِ يُقَال هُنَا أَيْضًا.
د - الاِلْتِفَاتُ:
٥ - الاِلْتِفَاتُ صَرْفُ الْوَجْهِ ذَاتَ الْيَمِينِ أَوِ الشِّمَال. وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الاِنْحِرَافُ بِالْوَجْهِ وَالصَّدْرِ أَيْضًا كَمَا وَرَدَ فِي مُسْنَدِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ: " فَجَعَلَتْ تَلْتَفِتُ خَلْفَهَا " وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّحَوُّل إلَى خَلْفٍ لاَ يَكُونُ إلاَّ بِالْوَجْهِ وَالصَّدْرِ (٣) .
_________
(١) المصباح (أنف) .
(٢) المصباح (حذو)، والزرقاني ٣ / ١٨٥.
(٣) المصباح (لفت)، ومسند أحمد ٦ / ١١ ط الميمنية، وفتح الباري ٢ / ٢٣٤ ط السلفية.
٦ - هَذَا وَالاِسْتِقْبَال عِنْدَ الْفُقَهَاءِ قَدْ يَكُونُ إلَى الْقِبْلَةِ، وَقَدْ يَكُونُ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ. وَاسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ قَدْ يَكُونُ فِي الصَّلاَةِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي غَيْرِهَا
وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذِهِ الأَْقْسَامِ وَاحِدًا بَعْدَ الآْخَرِ.
اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ فِي الصَّلاَةِ:
٧ - الْمُرَادُ بِالْقِبْلَةِ مَوْضِعُ الْكَعْبَةِ، لأَِنَّهُ لَوْ نُقِل بِنَاؤُهَا إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ وَصُلِّيَ إلَيْهِ لَمْ يَجُزْ. (١) وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لأَِنَّ النَّاسَ يُقَابِلُونَهَا فِي صَلاَتِهِمْ. وَمَا فَوْقَ الْكَعْبَةِ إلَى السَّمَاءِ يُعَدُّ قِبْلَةً، وَهَكَذَا مَا تَحْتَهَا مَهْمَا نَزَل، فَلَوْ صَلَّى فِي الْجِبَال الْعَالِيَةِ وَالآْبَارِ الْعَمِيقَةِ جَازَ مَا دَامَ مُتَوَجِّهًا إلَيْهَا، لأَِنَّهَا لَوْ زَالَتْ صَحَّتِ الصَّلاَةُ إلَى مَوْضِعِهَا، وَلأَِنَّ الْمُصَلِّي عَلَى الْجَبَل يُعَدُّ مُصَلِّيًا إلَيْهَا (٢) .
اسْتِقْبَال الْحِجْرِ:
٨ - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ أَنَّهُ لَوْ اسْتَقْبَل الْمُصَلِّي الْحِجْرَ دُونَ الْكَعْبَةِ لَمْ يُجْزِهِ، لأَِنَّ كَوْنَهُ مِنَ الْبَيْتِ مَظْنُونٌ لاَ مَقْطُوعٌ بِهِ، وَهُوَ لاَ يُكْتَفَى بِهِ فِي الْقِبْلَةِ احْتِيَاطًا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ.
وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ وَاللَّخْمِيُّ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إلَى جَوَازِ الصَّلاَةِ إلَى الْحِجْرِ، لأَِنَّهُ مِنَ الْبَيْتِ، لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ ﷺ قَال: الْحِجْرُ مِنَ
_________
(١) نهاية المحتاج ٦ / ٤٠٦ ط الحلبي، ورد المحتار ١ / ٢٩٠.
(٢) البحر الرائق ١ / ٢٩٩، ٣٠٠، ونهاية المحتاج ١ / ٤٠٧، ٤١٧، ٤١٨، ورد المحتار ١ / ٢٩٠، وحاشية الدسوقي ١ / ٢٢٤، ٢٩٩، والشرح الكبير مع المغني ١ / ٤٩٠ ط الأولى، وكشاف القناع ١ / ٢٧٤، والجمل على المنهج ١ / ٣١٣، والتاج والمصباح (كعب) .
الْبَيْتِ. (١) وَفِي رِوَايَةٍ: سِتُّ أَذْرُعٍ مِنَ الْحِجْرِ مِنَ الْبَيْتِ (٢) وَلأَِنَّهُ لَوْ طَافَ فِيهِ لَمْ يَصِحَّ طَوَافُهُ. وَهُوَ وَجْهٌ مَشْهُورٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَإِنْ كَانَ خِلاَفَ الأَْصَحِّ فِي مَذْهَبِهِمْ، وَقَدَّرَهُ الْحَنَابِلَةُ بِسِتِّ أَذْرُعٍ وَشَيْءٍ، فَمَنِ اسْتَقْبَل عِنْدَهُمْ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ لَمْ تَصِحَّ صَلاَتُهُ أَلْبَتَّةَ. عَلَى أَنَّ هَذَا التَّقْدِيرَ بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ الطَّوَافِ، أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لَهُ فَلاَ بُدَّ مِنْ خُرُوجِهِ عَنْ جَمِيعِهِ احْتِيَاطًا (٣) .
حُكْمُ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ فِي الصَّلاَةِ:
٩ - لاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الصَّلاَةِ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَوَل وَجْهَكَ شَطْرَ
_________
(١) حديث " الحجر من البيت ". أخرجه البخاري ومسلم ومالك والترمذي والنسائي بهذا المعنى من حديث عائشة ﵂ مرفوعا، ولفظ الشيخين في إحدى الروايات عن عائشة ﵂ أنها قالت: " سألت النبي ﷺ عن الحجر أمن البيت هو؟ قال: نعم، قلت: فما لهم لم يدخلوه في البيت؟ قال: إن قومك قصرت بهم النفقة " وفي رواية لمسلم أن عائشة ﵂ قالت: " سألت ر (فتح الباري ٣ / ٤٣٩ - ٤٤٣ ط السلفية، وصحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ٢ / ٩٧٣ ط عيسى الحلبي ١٣٧٤ هـ، وجامع الأصول ٩ / ٢٩٤ وما بعدها نشر مكتبة الحلواني ١٣٩٢ هـ) .
(٢) حديت " ست أذرع من الحجر. . ". أخرجه مسلم من حديث عائشة مرفوعا بلفظ " يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بشرك، لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض وجعلت لها بابين بابا شرقيا وبابا غربيا، وزدت فيها ستة أذرع من الحجر، فإن قريشا اقتصرتها حيث بنت الكعبة " (صحيح مسلم بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي ٢ / ٩٦٩، ٩٧٠ ط عيسى الحلبي، وجامع الأصول ٩ / ٢٩٦ نشر مكتبة الحلواني ١٣٩٢ هـ) .
(٣) رد المحتار ١ / ٢٨٦ ط الأولى، ونهاية المحتاج ١ / ٤١٨، وحاشية الدسوقي ١ / ٢٢٩، والمجموع للنووي ٣ / ١٩٢ ط المنيرية، وكشاف القناع ١ / ٢٧٤.
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ أَيْ جِهَتَهُ. (١)
وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ أَحْوَالٌ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهَا الاِسْتِقْبَال، كَصَلاَةِ الْخَوْفِ، وَالْمَصْلُوبِ، وَالْغَرِيقِ، وَنَفْل السَّفَرِ الْمُبَاحِ وَغَيْرِهَا، (٢) وَنَصُّوا عَلَى أَنَّ نِيَّةَ الاِسْتِقْبَال لَيْسَتْ بِشَرْطٍ عَلَى الرَّاجِحِ، اُنْظُرِ الْكَلاَمَ عَلَى النِّيَّةِ فِي الصَّلاَةِ. (٣)
تَرْكُ الاِسْتِقْبَال:
١٠ - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ مِنْ مُفْسِدَاتِ الصَّلاَةِ تَحْوِيل الْمُصَلِّي صَدْرَهُ عَنِ الْقِبْلَةِ بِغَيْرِ عُذْرٍ اتِّفَاقًا، وَإِنْ تَعَمَّدَ الصَّلاَةَ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ عَلَى سَبِيل الاِسْتِهْزَاءِ يَكْفُرُ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ مَعَ الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ لِلشَّرِيعَةِ.
وَفَصَّل الْحَنَفِيَّةُ فِيمَا إِذَا صَلَّى بِلاَ تَحَرٍّ فَظَهَرَ أَنَّهُ أَصَابَ الْقِبْلَةَ أَثْنَاءَ الصَّلاَةِ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ، لِبِنَاءِ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ، فَإِنْ ظَهَرَ ذَلِكَ بَعْدَ الصَّلاَةِ صَحَّتْ صَلاَتُهُ، لأَِنَّ مَا فُرِضَ لِغَيْرِهِ - كَالاِسْتِقْبَال الْمَشْرُوطِ لِصِحَّةِ الصَّلاَةِ - يُشْتَرَطُ حُصُولُهُ لاَ تَحْصِيلُهُ، وَقَدْ حَصَل وَلَيْسَ فِيهِ بِنَاءُ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ. (٤)
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ لِجِهَةٍ فَخَالَفَهَا وَصَلَّى مُتَعَمِّدًا بَطَلَتْ صَلاَتُهُ وَإِنْ صَادَفَ الْقِبْلَةَ، وَيُعِيدُ أَبَدًا. وَأَمَّا لَوْ صَلَّى لِغَيْرِهَا نَاسِيًا وَصَادَفَ الْقِبْلَةَ فَهَل يَجْرِي فِيهِ مِنَ الْخِلاَفِ مَا يَجْرِي فِي
_________
(١) سورة البقرة / ١٤٤.
(٢) شرح الروض ١ / ١٣٣، والبحر الرائق ١ / ٢٩٩، والمغني ١ / ٤٣١ ط الرياض، ومواهب الجليل ١ / ٥٠٧.
(٣) ابن عابدين ١ / ٢٨٥.
(٤) ابن عابدين ١ / ٥٥، ٢٩٢.
النَّاسِي إِذَا أَخْطَأَ، أَوْ يُجْزَمُ بِالصِّحَّةِ لأَِنَّهُ صَادَفَ وَهُوَ الظَّاهِرُ؟ .
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ أَنَّهُ لاَ يَسْقُطُ اسْتِقْبَالُهَا بِجَهْلٍ وَلاَ غَفْلَةٍ وَلاَ إكْرَاهٍ وَلاَ نِسْيَانٍ، فَلَوْ اسْتَدْبَرَ نَاسِيًا لَمْ يَضُرَّ (١) لَوْ عَادَ عَنْ قُرْبٍ. (٢) وَيُسَنُّ عِنْدَ ذَلِكَ أَنْ يَسْجُدَ لِلسَّهْوِ لأَِنَّ تَعَمُّدَ الاِسْتِدْبَارِ مُبْطِلٌ. وَهَذَا بِخِلاَفِ مَا لَوْ أُمِيل عَنْهَا قَهْرًا فَإِنَّهَا تَبْطُل، وَإِنْ قَل الزَّمَنُ لِنُدْرَةِ ذَلِكَ. (٣) وَلَوْ دَخَل فِي الصَّلاَةِ بِاجْتِهَادٍ ثُمَّ ظَهَرَ الْخَطَأُ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ.
وَأَطْلَقَ الْحَنَابِلَةُ الْقَوْل بِأَنَّ مِنْ مُبْطِلاَتِ الصَّلاَةِ اسْتِدْبَارَ الْقِبْلَةِ حَيْثُ شُرِطَ اسْتِقْبَالُهَا. كَمَا نَصُّوا فِي بَابِ شُرُوطِ الصَّلاَةِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الشُّرُوطَ لاَ تَسْقُطُ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا أَوْ جَهْلًا. (٤)
هَذَا، وَلاَ بُدَّ مِنَ الْقَوْل أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ وَالْحَنَابِلَةَ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ إِذَا حَوَّل وَجْهَهُ وَصَدْرَهُ عَنِ الْقِبْلَةِ لَمْ تَفْسُدْ صَلاَتُهُ، حَيْثُ بَقِيَتْ رِجْلاَهُ إلَى الْقِبْلَةِ. وَنَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ بِلاَ ضَرُورَةٍ، وَقَالُوا: إنَّ هَذِهِ الْكَرَاهَةَ فِي حَقِّ مُعَايِنِ الْكَعْبَةِ حَيْثُ لَمْ يَخْرُجْ شَيْءٌ مِنْ بَدَنِهِ، فَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ أُصْبُعًا مِنْ سَمْتِهَا بَطَلَتْ صَلاَتُهُ. (٥)
_________
(١) عبارة حاشية الجمل " المطبوعة ": مطبوع حاشية الجمل: " لم يصح " وهو تحريف عما أثبت. ر: القليوبي ١ / ١٣٢ ط الحلبي.
(٢) الجمل ١ / ٣١٢.
(٣) نهاية المحتاج ١ / ٤١٨، ٤٢٨، وانظر حكم استقبال النساء لجماعة العراة (شرح الروض ١ / ١٧٧ شروط الصلاة - ستر العورة) .
(٤) مطالب أولي النهى ١ / ٥٣٦.
(٥) الزرقاني ١ / ٢١٩، ومواهب الجليل ١ / ٥٠٨ وكشاف القناع ١ / ٣٦٩ ط الرياض.
مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ فِي الصَّلاَةِ:
١١ - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي اسْتِقْبَال الْقِبْلَةِ فِي الصَّلاَةِ أَنْ يَكُونَ بِالصَّدْرِ لاَ بِالْوَجْهِ، خِلاَفًا لِمَا قَدْ يُتَوَهَّمُ مِنْ ظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: ﴿فَوَل وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ لأَِنَّ الْمُرَادَ بِالْوَجْهِ هُنَا الذَّاتُ، وَالْمُرَادُ مِنَ الذَّاتِ بَعْضُهَا وَهُوَ الصَّدْرُ فَهُوَ مَجَازٌ مَبْنِيٌّ عَلَى مَجَازٍ. (١) وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ الاِسْتِقْبَال بِالْقَدَمَيْنِ.
أَمَّا الاِسْتِقْبَال بِالْوَجْهِ فَهُوَ سُنَّةٌ، وَتَرْكُهُ مَكْرُوهٌ عِنْدَ الأَْئِمَّةِ الأَْرْبَعَةِ.
وَهَذَا فِي حَقِّ الْقَائِمِ وَالْقَاعِدِ. أَمَّا الَّذِي يُصَلِّي مُسْتَلْقِيًا أَوْ مُضْطَجِعًا لِعَجْزِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِمَا الاِسْتِقْبَال بِالْوَجْهِ، عَلَى تَفْصِيلٍ يُذْكَرُ فِي صَلاَةِ الْمَرِيضِ. (٢)
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي الاِسْتِقْبَال التَّوَجُّهُ بِالصَّدْرِ أَيْضًا، وَإِنَّمَا الَّذِي لاَ بُدَّ مِنْهُ فَهُوَ التَّوَجُّهُ بِالرِّجْلَيْنِ.
عَلَى أَنَّ الْفُقَهَاءَ تَعَرَّضُوا لأَِعْضَاءٍ أُخْرَى يَسْتَقْبِل بِهَا الْمُصَلِّي الْقِبْلَةَ فِي مُنَاسِبَاتٍ كَثِيرَةٍ فِي كِتَابِ الصَّلاَةِ، نَكْتَفِي بِالإِْشَارَةِ إلَى بَعْضِهَا دُونَ تَفْصِيلٍ لِكَوْنِهَا بِتِلْكَ الْمَوَاطِنِ أَلْصَقَ، وَلِسِيَاقِ الْفُقَهَاءِ أَنْسَبَ مِنْ جِهَةٍ، وَتَفَادِيًا لِلتَّكْرَارِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى. وَمِنْ ذَلِكَ:
اسْتِحْبَابِ الاِسْتِقْبَال بِبُطُونِ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ فِي
_________
(١) ابن عابدين ١ / ٤٣٢، ونهاية المحتاج ١ / ٤٠٦، والجمل على المنهج ١ / ٣١٢.
(٢) نهاية المحتاج ١ / ٤٠٦، والجمل على المنهج ١ / ٣١٢، وشرح الروض ١ / ١٤٧، وانظر صلاة الجالس والمستلقي. المغني ١ / ٧٨٣، وكشاف القناع ١ / ٣٧٠.
تَكْبِيرَةِ الإِْحْرَامِ وَبِالْيَدَيْنِ وَبِأَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ فِي السُّجُودِ، وَبِأَصَابِعِ يُسْرَاهُ فِي التَّشَهُّدِ. وَذَلِكَ حِينَ الْكَلاَمِ عَلَى " صِفَةِ الصَّلاَةِ ". (١) فَمَنْ أَرَادَهَا بِالتَّفْصِيل فَلْيَرْجِعْ إلَى مَوَاطِنِهَا هُنَاكَ.
اسْتِقْبَال الْمَكِّيِّ لِلْقِبْلَةِ:
اسْتِقْبَال الْمَكِّيِّ الْمُعَايِنِ:
١٢ - لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ فِي أَنَّ مَنْ كَانَ يُعَايِنُ الْكَعْبَةَ فَعَلَيْهِ إصَابَةُ عَيْنِهَا فِي الصَّلاَةِ، أَيْ مُقَابَلَةُ ذَاتِ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ يَقِينًا، وَلاَ يَكْفِي الاِجْتِهَادُ وَلاَ اسْتِقْبَال جِهَتِهَا، لأَِنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْيَقِينِ وَالْعَيْنِ تَمْنَعُ مِنْ الاِجْتِهَادِ وَالْجِهَةِ الْمُعَرَّضَيْنِ لِلْخَطَأِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ مَنِ انْحَرَفَ عَنْ مُقَابَلَةِ شَيْءٍ فَهُوَ لَيْسَ مُتَوَجِّهًا نَحْوَهُ. (٢)
وَذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَابْنُ عَقِيلٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ - وَأَقَرُّوهُ - أَنَّ الْمُصَلِّيَ فِي مَكَّةَ وَمَا فِي حُكْمِهَا مِمَّنْ تُمْكِنُهُ الْمُسَامَتَةُ لَوِ اسْتَقْبَل طَرَفًا مِنَ الْكَعْبَةِ بِبَعْضِ بَدَنِهِ وَخَرَجَ بَاقِيهِ - لَوْ عُضْوًا وَاحِدًا - عَنِ اسْتِقْبَالِهَا لَمْ تَصِحَّ صَلاَتُهُ. وَفِي قَوْلٍ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ يَكْفِي التَّوَجُّهُ بِبَعْضِ بَدَنِهِ. (٣)
_________
(١) كشاف القناع ١ / ٣٠٧، ٣٢٣، ٣٥٦، ٣٦٠ ط الرياض، والزرقاني ١ / ٢١٣، وشرح الروض ١ / ١٦٢.
(٢) رد المحتار ١ / ٢٨٧، والدسوقي ١ / ٢٢٣، ونهاية المحتاج ١ / ٤٠٨، والشرح الكبير مع المغني ١ / ٤٨٩، والطحطاوي على مراقي الفلاح ص ١١٥.
(٣) نهاية المحتاج ١ / ٤١٧، ٤١٨، والدسوقي ١ / ٢٢٣، والشرح الكبير مع المغني ١ / ٤٨٩، والفروع ١ / ٢٧٨، والمجموع ١ / ١٩٢ ط الأولى.
صَلاَةُ الْجَمَاعَةِ قُرْبَ الْكَعْبَةِ:
١٣ - ذَكَرَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ - وَهُوَ مَا يُسْتَفَادُ مِنْ كَلاَمِ الْحَنَابِلَةِ - أَنَّهُ إنِ امْتَدَّ صَفٌّ طَوِيلٌ بِقُرْبِ الْكَعْبَةِ وَخَرَجَ بَعْضُهُمْ عَنِ الْمُحَاذَاةِ بَطَلَتْ صَلاَتُهُ، لِعَدَمِ اسْتِقْبَالِهِمْ لَهَا، بِخِلاَفِ الْبُعْدِ عَنْهَا، فَيُصَلُّونَ فِي حَالَةِ الْقُرْبِ دَائِرَةً أَوْ قَوْسًا إنْ قَصُرُوا عَنِ الدَّائِرَةِ، لأَِنَّ الصَّلاَةَ بِمَكَّةَ تُؤَدَّى هَكَذَا مِنْ لَدُنْ رَسُول اللَّهِ ﷺ إلَى يَوْمِنَا هَذَا (١) .
اسْتِقْبَال الْمَكِّيِّ غَيْرِ الْمُعَايِنِ:
١٤ - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى أَنَّ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ حَائِلٌ فَهُوَ كَالْغَائِبِ عَلَى الأَْصَحِّ، فَيَكْفِيهِ اسْتِقْبَال الْجِهَةِ، وَسَيَأْتِي تَفْصِيل مَذْهَبِهِمْ فِي إصَابَةِ الْجِهَةِ فِي " اسْتِقْبَال الْبَعِيدِ عَنْ مَكَّةَ ". وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يُصَل بِالْمَسْجِدِ مِنْ أَهْل مَكَّةَ وَمَنْ أُلْحِقَ بِهِمْ عَلَيْهِ إصَابَةُ الْعَيْنِ، وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ. (٢)
وَتَفْصِيل مَذْهَبِ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُمْ أَوْجَبُوا إصَابَةَ الْعَيْنِ يَقِينًا عَلَى مَنْ كَانَ مِنْ أَهْل مَكَّةَ أَوْ نَاشِئًا بِهَا مِنْ وَرَاءِ حَائِلٍ مُحْدَثٍ كَالْحِيطَانِ.
وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهَا وَهُوَ غَائِبٌ عَنِ الْكَعْبَةِ فَفَرْضُهُ الْخَبَرُ، كَمَا إِذَا وَجَدَ مُخْبِرًا يُخْبِرُهُ عَنْ يَقِينٍ، أَوْ كَانَ غَرِيبًا نَزَل بِمَكَّةَ فَأَخْبَرَهُ أَهْل الدَّارِ بِهَا. (٣)
_________
(١) رد المحتار ١ / ٢٨٨، ٦١٣، والدسوقي ١ / ٢٢٣، ونهاية المحتاج ١ / ٤١٨.
(٢) قال الرافعي في تقريره على ابن عابدين ١ / ٥٢: " ليس في عبارته (يعني عبارة الفتح) دلالة على أنه لا يصار إلى الجهة مع إمكان التعيين. واستقبال الجهة فيه إصابة جزء من العين كما يأتي عن المعراج، والتصحيح الصريح أقوى ".
(٣) رد المحتار ١ / ٢٨٧، والدسوقي ١ / ٢٢٣، والمغني ١ / ٤٥٦.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ يَجِبُ عَلَى مَنْ نَشَأَ بِمَكَّةَ وَهُوَ غَائِبٌ عَنِ الْكَعْبَةِ إصَابَةُ الْعَيْنِ إنْ تَيَقَّنَ إصَابَتَهَا، وَإِلاَّ جَازَ لَهُ الاِجْتِهَادُ لِمَا فِي تَكْلِيفِهِ الْمُعَايَنَةَ مِنَ الْمَشَقَّةِ إِذَا لَمْ يَجِدْ ثِقَةً يُخْبِرُهُ عَنْ عِلْمٍ. (١)
١٥ - الاِسْتِقْبَال عِنْدَ صَلاَةِ الْفَرِيضَةِ فِي الْكَعْبَةِ:
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إلَى صِحَّةِ صَلاَةِ الْفَرِيضَةِ دَاخِل الْكَعْبَةِ. مِنْهُمُ الْحَنَفِيَّةُ، وَالشَّافِعِيَّةُ، وَالثَّوْرِيُّ، لِحَدِيثِ بِلاَلٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَلَّى فِي الْكَعْبَةِ. (٢) قَال الْحَنَفِيَّةُ: وَلأَِنَّ الْوَاجِبَ اسْتِقْبَال جُزْءٍ مِنْهَا غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ الْجُزْءُ قِبْلَةً بِالشُّرُوعِ فِي الصَّلاَةِ وَالتَّوَجُّهِ إلَيْهِ. وَمَتَى صَارَ قِبْلَةً فَاسْتِدْبَارُ غَيْرِهِ لاَ يَكُونُ مُفْسِدًا. وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنَّهُ لَوْ صَلَّى رَكْعَةً إلَى جِهَةٍ أُخْرَى لَمْ يَصِحَّ، لأَِنَّهُ صَارَ مُسْتَدْبِرًا الْجِهَةَ الَّتِي صَارَتْ قِبْلَةً فِي حَقِّهِ بِيَقِينٍ بِلاَ ضَرُورَةٍ.
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ لاَ تُصَلَّى الْفَرِيضَةُ وَالْوِتْرُ فِي الْكَعْبَةِ، لأَِنَّهَا مِنَ الْمَوَاطِنِ السَّبْعِ الَّتِي نَهَى عَنْهَا رَسُول اللَّهِ ﷺ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا، وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الإِْخْلاَل بِالتَّعْظِيمِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ (٣) قَالُوا: وَالشَّطْرُ: الْجِهَةُ. وَمَنْ صَلَّى فِيهَا أَوْ عَلَى سَطْحِهَا فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقْبِلٍ لِجِهَتِهَا، وَلأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ مُسْتَدْبِرًا مِنَ الْكَعْبَةِ مَا لَوِ اسْتَقْبَلَهُ مِنْهَا وَهُوَ فِي خَارِجِهَا صَحَّتْ صَلاَتُهُ،
_________
(١) نهاية المحتاج ١ / ٤٢٠.
(٢) حديث بلال: " أن النبي ﷺ صلى في الكعبة ". أخرجه البخاري (١ / ٥٠٠ - الفتح ط السلفية) ومسلم (٢ / ٩٦٧ ط الحلبي) .
(٣) سورة البقرة / ١٤٤.