الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٣٩
وَقَال ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ (١) ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُل يُطِيل السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ (٢) .
ثَانِيًا - الْقُيُودُ الْوَارِدَةُ عَلَى اسْتِعْمَال الْمِلْكِ ١١ - وَضَعَتِ الشَّرِيعَةُ قُيُودًا عَلَى الْمِلْكِ مِنْ حَيْثُ الاِسْتِعْمَال فَأَوْجَبَتْ عَلَى الْمَالِكِ:
أ - أَنْ لاَ يَكُونَ مُبَذِّرًا مُسْرِفًا، وَلاَ مُقَتِّرًا بَخِيلًا، قَال تَعَالَى: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيل وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾ (٣) وَقَال سُبْحَانَهُ ﴿وَلاَ تَجْعَل يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُل الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا﴾ (٤) .
وَالآْيَاتُ وَالأَْحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَجَال كَثِيرَةٌ
_________
(١) سورة البقرة / ١٧٢.
(٢) حديث: " أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا. . . ". أخرجه مسلم (٢ / ٧٠٣) .
(٣) سورة الإسراء / ٢٦ - ٢٧.
(٤) سورة الإسراء / ٢٩.
تَدُل عَلَى حُرْمَةِ الإِْسْرَافِ وَالتَّبْذِيرِ وَتَضْيِيعِ الْمَال بِدُونِ فَائِدَةٍ حَتَّى فِي مَجَال الأَْكْل، يَقُول مُحَمَّدٌ بْنِ حَسَنٍ الشَّيْبَانِيُّ: ثُمَّ الْحَاصِل أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمَرْءِ فِيمَا اكْتَسَبَهُ مِنَ الْحَلاَل الإِْفْسَادُ، وَالسَّرَفُ، وَالتَّقْتِيرُ. . . ثُمَّ السَّرَفُ فِي الطَّعَامِ أَنْوَاعٌ: وَمِنْهُ الاِسْتِكْثَارُ فِي الْمُبَاحَاتِ وَالأَْلْوَانِ (١) .
ب - أَلاَّ يَسْتَعْمِل الْمَالِكُ مَا حَرَّمَهُ الشَّرْعُ، وَمِنْ ذَلِكَ حُرْمَةُ لُبْسِ الْحَرِيرِ لِلرِّجَال وَاسْتِعْمَال الذَّهَبِ لَهُمْ وَاسْتِعْمَال أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِلرِّجَال وَالنِّسَاءِ
ج - وُجُوبُ الاْسْتِنْمَاءِ فِي الْجُمْلَةِ وَعَدَمِ تَعْطِيل الأَْمْوَال حَتَّى تُؤَدِّيَ دَوْرَهَا فِي التَّدَاوُل وَالتَّعْمِيرِ، تَدُل عَلَى ذَلِكَ الآْيَاتُ وَالأَْحَادِيثُ الْكَثِيرَةُ الَّتِي تُطَالِبُ بِالْعَمَل وَالتِّجَارَةِ وَالصِّنَاعَةِ وَالزِّرَاعَةِ بِصِيَغِ الأَْوَامِرِ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَل لَكُمُ الأَْرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ﴾ (٢) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَْرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْل اللَّهِ﴾ (٣) وَمِنَ الأَْحَادِيثِ قَوْل النَّبِيِّ ﷺ: مَنْ وَلِيَ يَتِيمًا لَهُ مَالٌ فَلْيَتَّجِرْ فِيهِ
_________
(١) الكسب للشيباني، تحقيق د. سهيل زكار، ط دمشق ص ٧٩ - ٨٢.
(٢) سورة الملك / ١٥.
(٣) سورة الجمعة / ١٠.
وَلاَ يَتْرُكُهُ حَتَّى تَأْكُلَهُ الصَّدَقَةُ (١) . كَمَا صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّ مَا لاَ تَتِمُّ مَصَالِحُ الأُْمَّةِ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَنَصُّوا عَلَى أَنَّ الْحِرَفَ وَالصَّنَائِعَ وَالتِّجَارَةَ الْمُحْتَاجَ إِلَيْهَا مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ لأَِنَّ قِيَامَ الدُّنْيَا بِهَا، وَقِيَامَ الدِّينِ يَتَوَقَّفُ عَلَى أَمْرِ الدُّنْيَا، حَتَّى لَوِ امْتَنَعَ الْخَلْقُ مِنْهُ أَثِمُوا، وَكَانُوا سَاعِينَ فِي إِهْلاَكِ أَنْفُسِهِمْ، لَكِنَّ النُّفُوسَ مَجْبُولَةٌ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ، فَلاَ تَحْتَاجُ إِلَى حَثٍّ عَلَيْهَا وَتَرْغِيبٍ فِيهَا (٢) .
وَقَال مُحَمَّدٌ بْنُ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ: ثُمَّ الْمَذْهَبُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْكَسْبَ بِقَدْرِ مَا لاَ بُدَّ مِنْهُ فَرِيضَةٌ (٣) .
وَيُنْظَرُ مُصْطَلَحُ (إِنْمَاءٌ ف ١٠ - ١٧) .
د - عَدَمُ الإِْضْرَارِ بِالْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ: اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لِلشَّخْصِ فِي اسْتِعْمَالِهِ مِلْكَهُ أَنْ يَقْصِدَ الإِْضْرَارَ بِالْغَيْرِ، لِقَوْلِهِ ﷺ: لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ (٤) وَهَذَا
_________
(١) حديث: " من ولي يتيمًا له مال. . . ". أخرجه الترمذي (٣ / ٢٤) من حديث عبد الله بن عمرو، ثم قال: في إسناده مقال، لأن المثنى بن الصباح يضعف في الحديث.
(٢) مغني المحتاج ٤ / ٢١٣، وإحياء علوم الدين ١ / ١٧، وتيسير التحرير ٢ / ٢١٣.
(٣) الكسب ص ٤٤، ٦٣.
(٤) حديث: " لا ضرر ولا ضرار. . . ". أخرجه مالك في الموطأ (٢ / ٧٤٥) من حديث يحيى المازني مرسلًا، وذكر ابن رجب في جامع العلوم والحكم (٢ / ٢٠٨ - ٢١١) طرقه وخرجها، ونقل عن ابن الصلاح أنه حسنه لطرقه.
يَدُل عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الإِْضْرَارِ بِأَحَدٍ لاَ فِي مَالِهِ، وَلاَ فِي نَفْسِهِ وَلاَ فِي عِرْضِهِ.
وَكَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ مُقَابَلَةُ الضَّرَرِ بِالضَّرَرِ وَالإِْتْلاَفِ بِالإِْتْلاَفِ، فَكُل تَصَرُّفٍ - وَلَوْ كَانَ فِي مِلْكِ الْمَالِكِ - يُمْنَعُ إِذَا أَدَّى إِلَى الإِْضْرَارِ بِالآْخَرِينَ، وَلِذَلِكَ مَنَعَ الْفُقَهَاءُ الْمَالِكَ مِنْ إِشْعَال النَّارِ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ، وَلَوْ كَانَ فِي مِلْكِهِ، مَا دَامَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ إِحْرَاقُ شَيْءٍ مِنْ أَمْوَال الْجِيرَانِ، حَيْثُ يُعْتَبَرُ مُتَعَدِّيًا، وَعَلَيْهِ الضَّمَانُ (١) .
١٢ - وَلَكِنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِي مَنْعِ الْجَارِ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْمُعْتَادَةِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الإِْضْرَارُ بِالْجَارِ عَلَى ثَلاَثَةِ مَذَاهِبَ:
فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ، وَهُمْ مُتَقَدِّمُو الْحَنَفِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةُ عَلَى الرَّاجِحِ، وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْنَعُ مَا دَامَ فِيهِ قَصْدُ الإِْضْرَارِ، أَوْ كَانَ الضَّرَرُ فَاحِشًا، وَهُمُ الْمَالِكِيَّةُ، وَأَحْمَدُ
_________
(١) المبسوط للسرخسي (١٥ / ١٢)، وفتح القدير ٥ / ٥٠٦، وحاشية ابن عابدين ٥ / ٤٤٣، ونهاية المحتاج ٥ / ٣٢٧، والقوانين الفقهية ص ٣٧٠، والمغني لابن قدامة ٤ / ٣٨٨.
فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَبَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الضَّرَرِ الْفَاحِشِ فَيُمْنَعُ، وَغَيْرُ الْفَاحِشِ الَّذِي لاَ يُمْنَعُ، وَهُوَ رَأْيُ أَبِي يُوسُفَ فِي رِوَايَةٍ، وَمُتَأَخِّرِي الْحَنَفِيَّةِ، وَبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ (١) .
وَكَمَا مَنَعَتِ الشَّرِيعَةُ الإِْضْرَارَ بِالأَْفْرَادِ مَنَعَتِ الإِْضْرَارَ بِالْمُجْتَمَعِ، وَلِذَلِكَ حَرَّمَتِ الاِحْتِكَارَ وَالرِّبَا، وَالْمُتَاجَرَةَ الْمُؤَدِّيَةَ إِلَى الْفَسَادِ.
ثَالِثًا - الْقُيُودُ الْوَارِدَةُ عِنْدَ انْتِقَال الْمِلْكِ
١٣ - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ لاِنْتِقَال الْمِلْكِ شُرُوطًا وَضَوَابِطَ، وَجَعَلَتِ الشَّرِيعَةُ وَسَائِل الاِنْتِقَال - كَقَاعِدَةٍ عَامَّةٍ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ - فِي الرِّضَا وَالإِْرَادَةِ، بَل اشْتَرَطَتْ أَنْ يَكُونَ الرِّضَا غَيْرَ مَشُوبٍ بِعُيُوبِ الرِّضَا وَعُيُوبِ الإِْرَادَة، مِنَ الْغِشِّ وَالتَّدْلِيسِ وَالاِسْتِغْلاَل وَالإِْكْرَاهِ وَالْغَلَطِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: ﴿لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ (٢)، وَلِقَوْل الرَّسُول ﷺ: إِنَّمَا الْبَيْعُ عَنْ تَرَاضٍ (٣)، وَقَوْلِهِ: لاَ يَحِل
_________
(١) المراجع السابقة.
(٢) سورة النساء / ٢٩.
(٣) حديث: " إنما البيع عن تراض. . . ". أخرجه ابن ماجه (٢ / ٧٣٧) من حديث أبي سعيد الخدري، وصحح إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (٢ / ١٠) .
مَال امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ مَا أَعْطَاهُ عَنْ طِيبِ نَفْسِهِ (١) .
وَلِلتَّفْصِيل ر: مُصْطَلَحَ (رِضًا ف ١٣ وَمَا بَعْدَهَا) .
كَذَلِكَ حَدَّدَ الْفُقَهَاءُ إِرَادَةَ الْمَالِكِ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ بِالثُّلُثِ إِذَا كَانَتْ تَصَرُّفَاتُهُ عَطَاءً وَهِبَةً، أَوْ مُحَابَاةً، أَوْ وَصِيَّةً (٢) .
ر: مُصْطَلَحَ (مَرَضُ الْمَوْتِ) .
وَقَدْ قَيَّدَتِ الشَّرِيعَةُ إِرَادَةَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ فِي الْعُقُودِ الَّتِي فِيهَا ضَرَرٌ، أَوْ مِنْ شَأْنُهَا الضَّرَرُ عَلَى تَفْصِيلٍ يُرَاجَعُ فِيهِ مُصْطَلَحُ: (حَجْرٌ، سَفَهٌ ف ٢٦ وَمَا بَعْدَهَا) .
_________
(١) حديث: " لا يحل مال امرئ مسلم إلا ما أعطاه من طيب نفس ". أخرجه البيهقي (٦ / ٩٧) من حديث ابن عباس.
(٢) فتح القدير مع العناية ٣ / ١٥٥، وجامع الفصولين ٢ / ١٨٣، وشرح التلويح على التوضيح ٢ / ٣٥٠، وتيسير التحرير ٢ / ٢٧٧، والبحر الرائق ٤ / ٥٠، وحاشية ابن عابدين ٣ / ٣٨٣، وبدائع الصنائع ٤ / ٢٠٧٠، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي ٣ / ٣٠٦، وبلغة السالك لأقرب المسالك ٢ / ٦٤٢، والقوانين الفقهية لابن جزي ص ٢٧٦، وشرح الخرشي ٥ / ٣٠٤، والأم للشافعي ٤ / ٣٥، والمختصر ٣ / ٢١٧، وروضة الطالبين ٧ / ٣٨٧، ٨ / ٧٢، والمغني لابن قدامة ٦ / ٨٤.
وَأَمَّا فِي حَالَةِ الْمَوْتِ فَإِنَّ جَمِيعَ أَمْوَال الْمَيِّتِ تَنْتَقِل إِلَى الْوَرَثَةِ حَسَبَ قَوَاعِدِ الْفَرَائِضِ، كَمَا أَنَّ وَصِيَّتَهُ تُنَفَّذُ فِي حُدُودِ الثُّلُثِ، وَتَنْتَقِل إِلَى الْمُوصَى إِلَيْهِمْ.
وَلِلتَّفْصِيل يُرَاجَعُ مُصْطَلَحُ (إِرْثٌ ف ١٤، وَصِيَّةٌ) .
رَابِعًا - الْقُيُودُ الَّتِي أُعْطِيَتْ لِوَلِيِّ الأَْمْرِ:
أَعْطَتِ الشَّرِيعَةُ الإِْسْلاَمِيَّةُ وَلِيَّ الأَْمْرِ حَقَّ وَضْعِ قُيُودٍ عَلَى الْمِلْكِ وَمِنْ ذَلِكَ:
الأَْوَّل - تَقْيِيدُ الْمِلْكِ الْخَاصِّ لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ
١٤ - تُقِرُّ الشَّرِيعَةُ الْمِلْكَ لِلأَْفْرَادِ وَتَحْمِيهِ وَتَصُونَهُ، وَمِعْيَارُ تَقْيِيدِهِ فِيهَا يَقُومُ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي لاَ تَخْتَصُّ بِوَاحِدٍ مُعَيَّنٍ، أَوْ جَمَاعَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَإِنَّمَا تَعُمُّ الْمُجْتَمَعَ، يَقُول الشَّاطِبِيُّ: لأَِنَّ الْمَصَالِحَ الْعَامَّةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْمَصَالِحِ الْخَاصَّةِ (١) .
فَحَقُّ الْمِلْكِ، وَإِنْ كَانَ خَاصًّا بِصَاحِبِهِ، وَمِنْ حَقِّهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ كَمَا يَشَاءُ، إِلاَّ أَنَّ حَقَّ الْغَيْرِ مَصُونٌ وَمُحَافَظٌ عَلَيْهِ شَرْعًا، فَمُرَاعَاةُ مَصَالِحِ الآْخَرِينَ قَيْدٌ عَلَى اسْتِعْمَال الْحُقُوقِ وَمِنْهَا الْمِلْكُ، يَقُول الشَّاطِبِيُّ: لأَِنَّ طَلَبَ
_________
(١) الموافقات ١ / ٣٠.
الإِْنْسَانِ لِحَظِّهِ حَيْثُ أُذِنَ لَهُ لاَ بُدَّ فِيهِ مِنْ مُرَاعَاةِ حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْمَخْلُوقِينَ (١) .
وَحَقُّ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّفْعِ الْعَامِّ.
الثَّانِي - الْقُيُودُ الَّتِي أُعْطِيَتْ لِوَلِيِّ الأَْمْرِ عَلَى حَقِّ التَّمَلُّكِ:
وَيَنْدَرِجُ تَحْتَهَا مَا يَلِي:
أ - إِحْيَاءُ الأَْرْضِ الْمَوَاتِ:
١٥ - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَمَلُّكِ الأَْرْضِ الْمَوَاتِ بِالإِْحْيَاءِ دُونَ إِذْنِ الإِْمَامِ، أَوْ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ إِذْنُ الإِْمَامِ لِتَمَلُّكِهَا، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ فِي الإِْحْيَاءِ إِذْنُ الإِْمَامِ.
وَخَالَفَهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى تَفْصِيلٍ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ ف ١٤) .
ب - تَمَلُّكُ الْمَعَادِنِ
١٦ - ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْمَعَادِنَ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ جَامِدَةً أَمْ سَائِلَةً، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ ظَاهِرَةً أَمْ فِي بَاطِنِ الأَْرْضِ، وَسَوَاءٌ أَكَانَتْ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ مِلْكًا خَاصًّا أَمْ غَيْرَ مَمْلُوكَةٍ فَهِيَ مِلْكٌ لِلدَّوْلَةِ (جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ) تَتَصَرَّفُ فِيهَا بِمَا يُحَقِّقُ الْمَصْلَحَةَ الْعَامَّةَ بِتَأْجِيرِهَا لِمُدَّةِ
_________
(١) الموافقات ٣ / ٢٤٧.
مَعْلُومَةٍ، أَوْ إِقْطَاعِهَا لاَ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ (١) .
وَكَذَلِكَ الأَْمْرُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الْمَعَادِنِ الظَّاهِرَةِ فِي أَرْضِ الْمَوَاتِ، حَيْثُ لاَ تُمْلَكُ عِنْدَهُمْ بِالإِْحْيَاءِ، لأَِنَّ فِي ذَلِكَ إِضْرَارًا بِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْمَعَادِنِ الْبَاطِنَةِ، فَلاَ تُمْلَكُ بِالإِْحْيَاءِ عَلَى الرَّاجِحِ فِي الْمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَعَلَى أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ ف ٢٩)
ج - الْحِمَى:
١٧ - الْحِمَى حَيْثُ هُوَ قَيْدٌ عَلَى الإِْحْيَاءِ، فَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِغَيْرِ رَسُول اللَّهِ ﷺ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَحْمُوا لأَِنْفُسِهِمْ شَيْئًا، وَلَكِنْ لَهُمْ أَنْ يَحْمُوا مَوَاضِعَ لِتَرْعَى فِيهَا خَيْل الْمُجَاهِدِينَ، وَنَعَمُ الْجِزْيَةِ وَإِبِل الصَّدَقَةِ وَضَوَال النَّاسِ عَلَى وَجْهٍ لاَ يَتَضَرَّرُ بِهِ مَنْ سِوَاهُمْ.
_________
(١) المقدمات الممهدات لابن رشد ١ / ٢٢٥، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير ١ / ٤٨٦، وبلغة السالك ١ / ٢٢٩.
ثُمَّ إِنَّ الْحِمَى نَفْسَهُ مُقَيَّدٌ بِالْمَصْلَحَةِ فَلاَ يَجُوزُ التَّوَسُّعُ فِيهِ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (إِحْيَاءُ الْمَوَاتِ ف ٢١، وَحِمًى ف ٦) .
الثَّالِثُ - الْقُيُودُ الَّتِي أُعْطِيَتْ لِوَلِيِّ الأَْمْرِ عَلَى حَقِّ التَّصَرُّفِ فِي الْمِلْكِ:
لِوَلِيِّ الأَْمْرِ الْحَقُّ فِي تَقْيِيدِ تَصَرُّفَاتِ الْمَالِكِ بِمَا تَقْتَضِيهِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ دُونَ ضَرَرٍ وَلاَ ضِرَارٍ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي:
أ - التَّسْعِيرُ:
١٨ - التَّسْعِيرُ هُوَ تَقْدِيرُ السُّلْطَانِ أَوْ نَائِبِهِ لِلنَّاسِ سِعْرًا وَإِجْبَارُهُمْ عَلَى التَّبَايُعِ بِمَا قَدَّرَهُ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الأَْصْل فِي التَّسْعِيرِ هُوَ الْحُرْمَةُ، أَمَّا جَوَازُ التَّسْعِيرِ فَمُقَيَّدٌ عِنْدَهُمْ بِشُرُوطِ مُعَيَّنَةٍ.
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (تَسْعِيرٌ ف ٥ وَمَا بَعْدَهَا) .
ب - الاِحْتِكَارُ:
١٩ - الاِحْتِكَارُ هُوَ شِرَاءُ طَعَامٍ وَنَحْوِهِ، وَحَبْسُهُ إِلَى الْغَلاَءِ.
وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الاِحْتِكَارَ بِالْقُيُودِ الَّتِي اعْتَبَرَهَا كُلٌّ مِنْهُمْ مَحْظُورٌ، لِمَا فِيهِ مِنَ الإِْضْرَارِ بِالنَّاسِ وَالتَّضْيِيقِ عَلَيْهِمْ، وَاتَّفَقُوا