الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٣٨ الصفحة 9

الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٣٨

وَلأَِنَّ الْقِيمَةَ قَدْ تَزِيدُ فِي أَحَدِهِمَا قَبْل بَيْعِهِ فَيُشَارِكُهُ الآْخَرُ فِي الْعَيْنِ الْمَمْلُوكَةِ لَهُ، وَلاَ يَجُوزُ وُقُوعُهَا عَلَى أَثْمَانِهَا لأَِنَّهَا مَعْدُومَةٌ حَال الْعَقْدِ وَلاَ يَمْلِكَانِهَا، وَلأَِنَّهُ إِنْ أَرَادَ ثَمَنَهَا الَّذِي اشْتَرَاهَا بِهِ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ مَكَانِهِ وَصَارَ لِلْبَائِعِ، وَإِِنْ أَرَادَ ثَمَنَهَا الَّذِي يَبِيعُهَا بِهِ فَإِِنَّهَا تَصِيرُ شَرِكَةً مُعَلَّقَةً عَلَى شَرْطٍ وَهُوَ بَيْعُ الأَْعْيَانِ، وَلاَ يَجُوزُ ذَلِكَ.

وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّ الشَّرِكَةَ وَالْمُضَارَبَةَ تَجُوزُ بِالْعُرُوضِ، وَتُجْعَل قِيمَتُهَا وَقْتَ الْعَقْدِ رَأْسَ الْمَال، قَال أَحْمَدُ: إِذَا اشْتَرَكَا فِي الْعُرُوضِ يُقْسَمُ الرِّبْحُ عَلَى مَا اشْتَرَطَا، وَقَال الأَْثْرَمُ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَسْأَل عَنِ الْمُضَارَبَةِ بِالْمَتَاعِ، قَال: جَائِزٌ، فَظَاهِرُ هَذَا صِحَّةُ الشَّرِكَةِ بِهَا، وَاخْتَارَ هَذَا أَبُو بَكْرٍ وَأَبُو الْخَطَّابِ وَصَوَّبَهُ الْمِرْدَاوِيُّ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ أَبِي لَيْلَى، وَبِهِ قَال فِي الْمُضَارَبَةِ طَاوُوسٌ وَالأَْوْزَاعِيُّ وَحَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، لأَِنَّ مَقْصُودَ الشَّرِكَةِ جَوَازُ تَصَرُّفِهِمَا فِي الْمَالَيْنِ جَمِيعًا، وَكَوْنُ رِبْحِ الْمَالَيْنِ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا يَحْصُل فِي الْعُرُوضِ كَحُصُولِهِ فِي الأَْثْمَانِ، فَيَجِبُ أَنْ تَصِحَّ الشَّرِكَةُ وَالْمُضَارَبَةُ بِهَا كَالأَْثْمَانِ، وَيَرْجِعُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ الْمُفَاصَلَةِ بِقِيمَةِ مَالِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ، كَمَا أَنَّنَا

جَعَلْنَا نِصَابَ زَكَاتِهَا قِيمَتَهَا (١) .

وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ عُرُوضًا فَقَال لَهُ: بِعْهَا وَاعْمَل بِثَمَنِهَا مُضَارَبَةً، فَبَاعَهَا بِدَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ وَتَصَرَّفَ فِيهَا جَازَ، لأَِنَّهُ لَمْ يُضِفِ الْمُضَارَبَةَ إِلَى الْعُرُوضِ وَإِِنَّمَا أَضَافَهَا إِلَى الثَّمَنِ، وَالثَّمَنُ تَصِحُّ بِهِ الْمُضَارَبَةُ، فَإِِنْ بَاعَهَا بِمَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ جَازَ الْبَيْعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي الْوَكِيل بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا: أَنَّهُ يَبِيعُ بِالأَْثْمَانِ وَغَيْرِهَا، إِلاَّ أَنَّ الْمُضَارَبَةَ فَاسِدَةٌ لأَِنَّهَا صَارَتْ مُضَافَةً إِلَى مَا لاَ تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ بِهِ وَهُوَ الْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ، وَأَمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا فَالْبَيْعُ لاَ يَجُوزُ لأَِنَّ الْوَكِيل بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا لاَ يَمْلِكُ الْبَيْعَ بِغَيْرِ الأَْثْمَانِ، وَلاَ تَفْسُدُ الْمُضَارَبَةُ لأَِنَّهَا لَمْ تَصِرْ مُضَافَةً إِلَى مَا لاَ يَصْلُحُ بِهِ رَأْسُ مَال الْمُضَارَبَةِ (٢) .

وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنْ قَال لَهُ: بِعْهُ وَاجْعَل ثَمَنَهُ رَأْسَ مَالٍ فَمُضَارَبَةٌ فَاسِدَةٌ، لِلْعَامِل فِيهَا أَجْرُ مِثْلِهِ فِي تَوْلِيَةِ وَمُضَارَبَةِ مِثْلِهِ فِي رِبْحِ الْمَال إِنْ رَبِحَ، وَإِِنْ لَمْ يَرْبَحْ فَلاَ شَيْءَ لَهُ فِي ذِمَّةِ رَبِّهِ، وَقَالُوا: لاَ تَجُوزُ بِغَيْرِ نَقْدٍ يُتَعَامَل بِهِ، وَلَوِ انْفَرَدَ التَّعَامُل بِهِ كَالْوَدْعِ، وَقَال بَعْضُهُمْ: الظَّاهِرُ الْجَوَازُ (٣) .

_________

(١) المغني ٥ / ١٣ - ١٧.

(٢) بدائع الصنائع ٦ / ٨٢.

(٣) الشرح الصغير وحاشية الصاوي عليه ٣ / ٦٨٦.

ب - الْمُضَارَبَةُ بِالتِّبْرِ

١٤ - ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ تَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ عَلَى تِبْرٍ وَلاَ حُلِيٍّ وَلاَ سَبَائِكَ لاِخْتِلاَفِ قِيمَتِهَا.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الْمُضَارَبَةِ بِتِبْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِشَرْطِ تَعَامُل النَّاسِ بِهِ، فَإِِنْ كَانَ النَّاسُ يَتَعَامَلُونَ بِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَتَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ بِهِ، وَإِِنْ كَانُوا لاَ يَتَعَامَلُونَ بِهِ فَهُوَ كَالْعُرُوضِ فَلاَ تَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ بِهِ.

وَأَجَازَ الْمَالِكِيَّةُ الْمُضَارَبَةَ بِالتِّبْرِ وَنَحْوِهِ بِشَرْطَيْنِ:

الأَْوَّل: أَنْ يُتَعَامَل بِالتِّبْرِ وَنَحْوِهِ فَقَطْ فِي بَلَدِ الْمُضَارَبَةِ.

الثَّانِي: أَنْ لاَ يُوجَدَ مَسْكُوكٌ يُتَعَامَل بِهِ، فَإِِنْ وُجِدَ مَسْكُوكٌ يُتَعَامَل بِهِ أَيْضًا لَمْ يَجُزِ التِّبْرُ وَنَحْوُهُ لِوُجُودِ الأَْصْل (١) .

ج - الْمُضَارَبَةُ بِالْمَغْشُوشِ مِنَ النَّقْدَيْنِ

١٥ - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ إِلَى جَوَازِ الْمُضَارَبَةِ بِالْمَغْشُوشِ مِنَ النَّقْدَيْنِ،

_________

(١) بدائع الصنائع ٦ / ٨٢، والشرح الصغير ٣ / ٦٨٣ - ٦٨٤، وشرح الزرقاني ٦ / ٢١٣، ومغني المحتاج ٢ / ٣١٠، ونهاية المحتاج ٥ / ٢١٩، وكشاف القناع ٣ / ٤٩٨.

وَهُوَ قَوْل السُّبْكِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ (١) .

وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الصَّحِيحِ عِنْدَهُمْ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ وَهْبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: لاَ تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ بِالْمَغْشُوشِ مِنَ الأَْثْمَانِ، لأَِنَّ الْغِشَّ الَّذِي فِيهَا عَرَضٌ، وَلأَِنَّ قِيمَتَهَا تَزِيدُ وَتَنْقُصُ، أَشْبَهَتِ الْعُرُوضَ.

وَأَضَافَ الشَّافِعِيَّةُ: لاَ تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْمَغْشُوشَةِ وَإِِنْ رَاجَتْ وَعُلِمَ مِقْدَارُ غِشِّهَا وَجَوَّزْنَا التَّعَامُل بِهَا (٢) .

وَقَال الْحَنَابِلَةُ: لاَ تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ فِي الْمَغْشُوشِ مِنَ النَّقْدَيْنِ غِشًّا كَثِيرًا عُرْفًا لأَِنَّهُ لاَ يَنْضَبِطُ غِشُّهُ، فَلاَ يَتَأَدَّى رَدُّ مِثْلِهِ، لأَِنَّ قِيمَتَهَا تَزِيدُ وَتَنْقُصُ فَهِيَ كَالْعُرُوضِ (٣) .

د - الْمُضَارَبَةُ بِالْفُلُوسِ

١٦ - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ - أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ، وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ - إِلَى أَنَّ الْمُضَارَبَةَ لاَ تَصِحُّ

_________

(١) بدائع الصنائع ٦ / ٨٢، والزرقاني ٦ / ٢١٤، ومغني المحتاج ٢ / ٣١٠.

(٢) روضة الطالبين ٥ / ١١٧، ومغني المحتاج ٢ / ٣١٠، والمهذب ١ / ٣٨٥، ونهاية المحتاج ٥ / ٢١٩.

(٣) كشاف القناع ٣ / ٤٩٨.

بِالْفُلُوسِ (١) لأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ عَقْدُ غَرَرٍ جُوِّزَ لِلْحَاجَةِ، فَاخْتَصَّ بِمَا يَرُوجُ غَالِبًا وَتَسْهُل التِّجَارَةُ بِهِ وَهُوَ الأَْثْمَانُ.

وَقَيَّدَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ جَوَازَ الْمُضَارَبَةِ بِهَا بِقُيُودٍ:

قَال الْكَاسَانِيُّ: إِنْ كَانَتِ الْفُلُوسُ كَاسِدَةً فَلاَ تَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ بِهَا لأَِنَّهَا عُرُوضٌ، وَإِِنْ كَانَتْ نَافِقَةً فَكَذَلِكَ فِي الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمِّدٍ تَجُوزُ (٢) .

وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: الْفُلُوسُ لاَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ رَأْسَ مَال الْمُضَارَبَةِ وَلَوْ تُعُومِل بِهَا عَلَى الْمَشْهُورِ، لأَِنَّ التِّبْرَ إِذَا كَانَ لاَ يَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ بِهِ إِلاَّ إِذَا انْفَرَدَ التَّعَامُل بِهِ - وَالْحَال أَنَّهُ لَيْسَ مَظِنَّةَ الْكَسَادِ - فَأَوْلَى الْفُلُوسُ الَّتِي هِيَ مَظِنَّةُ الْكَسَادِ، فَلاَ يَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ بِهَا إِلاَّ أَنْ تَنْفَرِدَ بِالتَّعَامُل بِهَا، وَإِِلاَّ جَازَ، وَقَال الدَّرْدِيرُ: وَظَاهِرُهُ وَلَوْ كَانَ الْعَامِل يَعْمَل بِهَا فِي الْمُحَقَّرَاتِ الَّتِي الشَّأْنُ فِيهَا التَّعَامُل بِهَا.

وَقَال بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ بِجِوَازِ الْمُضَارَبَةِ بِالْفُلُوسِ، لأَِنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَيْسَتْ

_________

(١) الفلوس جمع فلس، وهو القطعة المضروبة من النحاس يتعامل بها، وهي أثمان عند المقابلة بغير جنسها (قواعد الفقه للبركتي، وبدائع الصنائع ٥ / ٢٣٦) .

(٢) بدائع الصنائع ٦ / ٥٩.

مَقْصُودَةً لِذَاتِهَا حَتَّى تَمْتَنِعَ بِغَيْرِهَا حَيْثُ انْفَرَدَ التَّعَامُل بِهَا، بَل هِيَ مَقْصُودَةٌ مِنْ حَيْثُ التَّنْمِيَةِ (١) .

هـ - الْمُضَارَبَةُ بِالْمَنْفَعَةِ

١٧ - نَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لاَ تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ، وَقَالُوا: لاَ يَجُوزُ جَعْل رَأْسِ الْمَال سُكْنَى دَارٍ، لأَِنَّهُ إِذَا لَمْ يُجْعَل الْعَرَضُ رَأْسَ مَالٍ فَالْمَنْفَعَةُ أَوْلَى (٢) .

و الْمُضَارَبَةُ بِالصَّرْفِ

١٨ - نَصَّ الْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّ رَبَّ الْمَال لَوْ دَفَعَ نَقْدًا إِلَى الْعَامِل لِيَصْرِفَهُ مِنْ غَيْرِهِ بِنَقْدِ آخَرَ ثُمَّ يَعْمَل بِمَا يَقْبِضُهُ مُضَارَبَةً فَلاَ يَجُوزُ، فَإِِنْ عَمِل بِمَا قَبَضَهُ مِنَ الصَّرْفِ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ فِي تَوَلِّيهِ فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَال وَلَوْ تَلِفَ أَوْ خَسِرَ، ثُمَّ لَهُ أَيْضًا مُضَارَبَةُ مِثْلِهِ فِي رِبْحِهِ - أَيِ الْمَال - فَإِِنْ تَلِفَ أَوْ لَمْ يَرْبَحْ فَلاَ شَيْءَ لَهُ فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَال (٣) .

ثَانِيًا: كَوْنُ رَأْسِ مَال الْمُضَارَبَةِ مَعْلُومًا ١٩ - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي رَأْسِ مَال الْمُضَارَبَةِ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا لِلْعَاقِدَيْنِ، قَدْرًا

_________

(١) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي ٣ / ٥١٩، والشرح الصغير وحاشية الصاوي ٣ / ٦٨٤.

(٢) روضة الطالبين ٥ / ١١٩.

(٣) جواهر الإكليل ٢ / ١٧١.

وَصِفَةً وَجِنْسًا، عِلْمًا تَرْتَفِعُ بِهِ الْجَهَالَةُ وَيُدْرَأُ النِّزَاعُ، فَإِِنْ لَمْ يَكُنْ رَأْسُ الْمَال مَعْلُومًا لَهُمَا كَذَلِكَ فَسَدَتِ الْمُضَارَبَةُ.

وَقَالُوا فِي تَعْلِيل ذَلِكَ: إِنَّ كَوْنَ رَأْسِ مَال الْمُضَارَبَةِ غَيْرَ مَعْلُومٍ لِلْعَاقِدَيْنِ عَلَى النَّحْوِ الْمَذْكُورِ يُؤَدِّي إِلَى الْجَهْل بِالرِّبْحِ، وَكَوْنُ الرِّبْحِ مَعْلُومًا شَرْطُ صِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ (١) .

الْمُضَارَبَةُ بِأَحَدِ الْكِيسَيْنِ أَوِ الصُّرَّتَيْنِ

٢٠ - نَصَّ الْحَنَابِلَةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ وَبَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى أَنَّ رَبَّ الْمَال إِنْ دَفَعَ كِيسَيْنِ أَوْ صُرَّتَيْنِ مِنَ النَّقْدِ فِي كُلٍّ مِنَ الْكِيسَيْنِ أَوِ الصُّرَّتَيْنِ مَالٌ مَعْلُومٌ، وَقَال لِمَنْ دَفَعَ إِلَيْهِ ذَلِكَ: ضَارَبْتُكَ عَلَى أَحَدِ الْكِيسَيْنِ أَوْ عَلَى إِحْدَى الصُّرَّتَيْنِ. لَمْ تَصِحَّ الْمُضَارَبَةُ لِعَدَمِ التَّعْيِينِ، حَتَّى لَوْ تَسَاوَى مَا فِيهِمَا لِلإِِْبْهَامِ، وَفِيهِ غَرَرٌ لاَ ضَرُورَةَ إِلَى احْتِمَالِهِ.

وَفِي وَجْهٍ مُقَابِلٍ لِلأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ قَوْل بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ: أَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَصِحُّ عَلَى إِحْدَى الصُّرَّتَيْنِ الْمُتَسَاوِيَتَيْنِ فِي الْقَدْرِ وَالْجَنْسِ وَالصِّفَّةِ، فَيَتَصَرَّفُ الْعَامِل فِي أَيَّتِهِمَا شَاءَ

_________

(١) بدائع الصنائع ٦ / ٨٢، وحاشية ابن عابدين ٤ / ٤٨٤، وجواهر الإكليل ٢ / ١٧١، وحاشية الدسوقي ٣ / ٥١٨، والمهذب ١ / ٣٨٥، ونهاية المحتاج ٥ / ٢١٩ - ٢٢٠، ومغني المحتاج ٢ / ٣١٠، والمغني ٥ / ١٩.

فَتَتَعَيَّنُ لِلْمُضَارَبَةِ، وَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَا فِيهِمَا مَعْلُومًا.

وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يَتَفَرَّعُ عَلَى الْقَوْل الأَْوَّل الأَْصَحُّ عِنْدَهُمْ أَنَّ رَبَّ الْمَال لَوْ ضَارَبَ الْعَامِل عَلَى دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ ثُمَّ عَيَّنَهَا فِي الْمَجْلِسِ صَحَّ، وَقِيل: لاَ يَصِحُّ (١) .

ثَالِثًا: كَوْنُ رَأْسِ مَال الْمُضَارَبَةِ عَيْنًا

٢١ - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ مَالِهَا عَيْنًا، فَلاَ تَجُوزُ عَلَى مَا فِي الذِّمَّةِ، بِمَعْنَى أَنْ لاَ يَكُونَ رَأْسُ الْمَال دَيْنًا، فَإِِنْ كَانَ دَيْنًا لَمْ تَصِحَّ.

وَالْمُضَارَبَةُ بِالدَّيْنِ لاَ تَخْلُو إِمَّا أَنْ تَكُونَ بِالدَّيْنِ عَلَى الْعَامِل، وَإِِمَّا بِالدِّينِ عَلَى غَيْرِ الْعَامِل.

أ - الْمُضَارَبَةُ بِالدَّيْنِ عَلَى الْعَامِل

٢٢ - اتَّفَقَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ الْمُضَارَبَةَ بِدَيْنٍ لِرَبِّ الْمَال عَلَى الْعَامِل لاَ تَصِحُّ، وَقَال بَعْضُ الْحَنَابِلَةِ بِصِحَّتِهَا، وَذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيل التَّالِي:

_________

(١) روضة الطالبين ٥ / ١١٨، ومغني المحتاج ٢ / ٣١٠، وكشاف القناع ٣ / ٥٠٧، وروضة القضاة للسمناني ٢ / ٥٨٢.

ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَال عَيْنًا، فَإِِنْ كَانَ دَيْنًا فَالْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ، وَإِِذَا كَانَ لِرَبِّ الْمَال عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَقَال لَهُ: اعْمَل بِدَيْنِي الَّذِي فِي ذِمَّتِكَ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَالْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ بِلاَ خِلاَفٍ - أَيْ عِنْدَهُمْ - فَإِِنِ اشْتَرَى هَذَا الْمُضَارِبُ وَبَاعَ فَلَهُ رِبْحُهُ وَعَلَيْهِ وَضِيعَتُهُ (أَيْ خَسَارَتُهُ) وَالدَّيْنُ فِي ذِمَّتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ؛ لأَِنَّ مَنْ وَكَّل رَجُلًا يَشْتَرِي لَهُ بِالدَّيْنِ الَّذِي فِي ذِمَّتِهِ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُ، حَتَّى لَوِ اشْتَرَى لاَ يَبْرَأُ عَمَّا فِي ذِمَّتِهِ عِنْدَهُ، وَإِِذَا لَمْ يَصِحَّ الأَْمْرُ بِالشِّرَاءِ فِي الذِّمَّةِ لَمْ تَصِحَّ إِضَافَةُ الْمُضَارَبَةِ إِلَى مَا فِي الذِّمَّةِ.

وَقَال الصَّاحِبَانِ: مَا اشْتَرَى الْمُضَارِبُ - فِي الصُّورَةِ السَّابِقَةِ - وَبَاعَ هُوَ لِرَبِّ الْمَال لَهُ رِبْحُهُ وَعَلَيْهِ وَضِيعَتُهُ، لأَِنَّهُ يَصِحُّ عِنْدَهُمَا التَّوْكِيل وَلاَ تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ لأَِنَّ الشِّرَاءَ يَقَعُ لِلْمُوَكِّل، فَتَصِيرُ الْمُضَارَبَةُ بَعْدَ ذَلِكَ مُضَارَبَةً بِالْعُرُوضِ، لأَِنَّهُ فِي التَّقْدِيرِ كَأَنَّهُ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ الْعُرُوضِ ثُمَّ دَفَعَهُ إِلَيْهِ مُضَارَبَةً فَتَصِيرُ مُضَارَبَةً بِالْعُرُوضِ فَلاَ تَصِحُّ (١) .

وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ بِدَيْنٍ عَلَى الْعَامِل، فَلَيْسَ لِرَبِّ الْمَال أَنْ يَقُول لِمَدِينِهِ: اعْمَل

_________

(١) بدائع الصنائع ٦ / ٨٣، ورد المحتار ٤ / ٤٨٤.

فِيهِ مُضَارَبَةً بِنِصْفِ رِبْحِهِ مَثَلًا لأَِنَّهُ سَلَفٌ بِزِيَادَةٍ، وَإِِنْ قَال لَهُ ذَلِكَ اسْتَمَرَّ الدَّيْنُ عَلَى حَالِهِ فِي الضَّمَانِ وَاخْتِصَاصُ الْمَدِينِ بِرِبْحِهِ إِنْ كَانَ وَعَلَيْهِ خَسْرُهُ، مَا لَمْ يَقْبِضِ الدَّيْنَ مِنَ الْمَدِينِ، فَإِِنْ قَبَضَهُ رَبُّهُ مِنْهُ ثُمَّ دَفَعَهُ لَهُ مُضَارَبَةً صَحَّ (١) .

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ رَبَّ الْمَال لَوْ قَال لِمَنْ لَهُ دَيْنٌ عَلَيْهِ: ضَارَبْتُكَ عَلَى الدَّيْنِ الَّذِي لِي عَلَيْكَ لَمْ تَصِحَّ الْمُضَارَبَةُ، بَل لَوْ قَال لَهُ: اعْزِل مَالِي الَّذِي فِي ذِمَّتِكَ مِنْ مَالِكَ، فَعَزَلَهُ وَلَمْ يَقْبِضْهُ ثُمَّ ضَارَبَهُ عَلَيْهِ لَمْ تَصِحَّ الْمُضَارَبَةُ لأَِنَّهُ لاَ يَمْلِكُ مَا عَزَلَهُ بِغَيْرِ قَبْضٍ، فَإِِذَا تَصَرَّفَ الْعَامِل فَفِيمَا عَزَلَهُ نَظَرٌ، إِنِ اشْتَرَى بِعَيْنِهِ لِلْمُضَارَبَةِ فَهُوَ كَالْفُضُولِيِّ يَشْتَرِي لِغَيْرِهِ بِعَيْنِ مَالِهِ، وَإِِنِ اشْتَرَى فِي الذِّمَّةِ فَوَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الْبَغَوِيِّ أَنَّهُ لِلْمَالِكِ لأَِنَّهُ اشْتَرَى لَهُ بِإِِذْنِهِ، وَأَصَحُّهُمَا عِنْدَ أَبِي حَامِدٍ لِلْعَامِل.

وَحَيْثُ كَانَ الْمَعْزُول لِلْمَالِكِ فَالرِّبْحُ وَرَأْسُ الْمَال لَهُ لِفَسَادِ الْمُضَارَبَةِ، وَعَلَيْهِ الأُْجْرَةُ لِلْعَامِل (٢) .

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ رَبَّ الْمَال لَوْ قَال

_________

(١) جواهر الإكليل ٢ / ١٧١، والشرح الصغير وحاشية الصاوي عليه ٣ / ٦٨٣.

(٢) روضة الطالبين ٥ / ١١٨، ومغني المحتاج ٢ / ٣١٠.