الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٣٨ الصفحة 3

الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٣٨

أَبُو الأَْسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَتْ عَلاَمَاتُ الشَّكْل الَّتِي اخْتَرَعَهَا الْخَلِيل بْنُ أَحْمَدَ، وَاسْتُخْدِمَ النَّقْطُ لِتَمْيِيزِ الْحُرُوفِ الْمُتَشَابِهَةِ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ كَالْبَاءِ وَالتَّاءِ وَالثَّاءِ.

وَوَرَدَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمُ التَّرْخِيصُ فِي ذَلِكَ، قَال رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ: لاَ بَأْسَ بِشَكْلِهِ وَقَال مَالِكٌ: لاَ بَأْسَ بِالنَّقْطِ فِي الْمَصَاحِفِ الَّتِي تَتَعَلَّمُ فِيهَا الْعُلَمَاءُ، أَمَّا الأُْمَّهَاتُ فَلاَ.

وَقَال ابْنُ مُجَاهِدٍ وَالدَّانِيُّ: لاَ يُشْكَل إِلاَّ مَا يُشْكِل.

وَقَال النَّوَوِيُّ: نَقْطُ الْمُصْحَفِ وَشَكْلُهُ مُسْتَحَبٌّ لأَِنَّهُ صِيَانَةٌ لَهُ مِنَ اللَّحْنِ وَالتَّحْرِيفِ، قَال: وَأَمَّا كَرَاهَةُ الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ النَّقْطَ فَإِِنَّمَا كَرِهَاهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ خَوْفًا مِنَ التَّغْيِيرِ فِيهِ، وَقَدْ أُمِنَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمَ فَلاَ مَنْعَ (١) .

وَعَلَى هَذَا اسْتَقَرَّ الْعَمَل مُنْذُ أَمَدٍ طَوِيلٍ فِي الْمَصَاحِفِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِهَا فَالْعَمَل عَلَى قَوْل ابْنِ مُجَاهِدٍ وَالدَّانِيِّ.

_________

(١) المحكم في نقط المصاحف للداني ص ٢ وما بعدها، ط١ دمشق، وزارة الثقافة والإرشاد، ١٩٦٠م، وتفسير القرطبي ١ / ٦٣، ٥٩، والفتاوى الهندية ٥ / ٣٢٣، وابن عابدين ٥ / ٢٤٧، والإتقان في علوم القرآن ٢ / ١٧١، والتبيان في آداب حملة القرآن ص ١١٣.

التَّعْشِيرُ وَالتَّحْزِيبُ وَالْعَلاَمَاتُ الأُْخْرَى فِي الْمَصَاحِفِ

٢٠ - التَّعْشِيرُ: أَنْ يُجْعَل عَلاَمَةٌ عِنْدَ انْتِهَاءِ كُل عَشْرِ آيَاتٍ، وَالتَّخْمِيسُ: أَنْ يُجْعَل عَلاَمَةٌ عِنْدَ انْتِهَاءِ كُل خَمْسٍ، وَالتَّحْزِيبُ أَنْ يُجْعَل عَلاَمَةٌ عِنْدَ مُبْتَدَإِ كُل حِزْبٍ.

وَمِنْ أَوَّل الْعَلاَمَاتِ الَّتِي أُدْخِلَتْ فِي الْمَصَاحِفِ جَعْل ثَلاَثِ نِقَاطٍ عِنْدَ رُءُوسِ الآْيِ، قَال يَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ: مَا كَانُوا يَعْرِفُونَ شَيْئًا مِمَّا أُحْدِثَ فِي الْمَصَاحِفِ إِلاَّ النُّقَطَ الثَّلاَثَ عِنْدَ رُءُوسِ الآْيِ، وَقَال غَيْرُهُ: أَوَّل مَا أَحْدَثُوا النُّقَطُ عِنْدَ آخِرِ الآْيِ، ثُمَّ الْفَوَاتِحُ وَالْخَوَاتِمُ، أَيْ فَوَاتِحُ السُّوَرِ وَخَوَاتِمُهَا، وَقَدْ أَنْكَرَهُ بَعْضُ السَّلَفِ (انْظُرْ: تَعْشِيرٌ ف ٣)، وَرَخَّصَ فِيهِ غَيْرُهُمْ وَاسْتَقَرَّ الْعَمَل عَلَى إِدْخَال تِلْكَ الْعَلاَمَاتِ لِنَفْعِهَا لِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ، وَأُدْخِلَتْ أَيْضًا عَلاَمَاتُ السَّجَدَاتِ وَالْوُقُوفِ وَأَسْمَاءُ السُّوَرِ وَعَدَدُ الأَْجْزَاءِ وَعَدَدُ الآْيَاتِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، لَكِنْ بِوَضْعٍ يُمَيِّزُهَا عَمَّا هُوَ كَلاَمُ اللَّهِ تَعَالَى (١) .

أَخْذُ الأَْجْرِ عَلَى كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ

٢١ - اخْتَلَفَ النَّقْل عَنِ السَّلَفِ فِي أَخْذِ الأُْجْرَةِ

_________

(١) الإتقان في علوم القرآن ٢ / ١١٧، وتفسير القرطبي ١ / ٦٣، ٥٩.

عَلَى كِتَابَةِ الْمُصْحَفِ، فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ فِي كِتَابِ الْمَصَاحِفِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵄ أَنَّهُ كَرِهَ أَخْذَ الأُْجْرَةِ عَلَى كِتَابَةِ الْمَصَاحِفِ، وَمِثْلُهُ عَنْ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ.

وَأَخْرَجَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَابْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ أَنَّهُمْ قَالُوا: لاَ بَأْسَ بِذَلِكَ.

وَإِِلَى هَذَا الأَْخِيرِ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، فَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: لَوِ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَكْتُبَ لَهُ مُصْحَفًا وَبَيَّنَ الْخَطَّ جَازَ (١) .

تَحْلِيَةُ الْمَصَاحِفِ

٢٢ - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ تَحْلِيَةِ الْمَصَاحِفِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ سَوَاءٌ كَانَتْ لِلرِّجَال أَوِ النِّسَاءِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْظِيمِ الْقُرْآنِ، لَكِنْ قَال الْمَالِكِيَّةُ: إِنَّ الَّذِي يَجُوزُ تَحْلِيَتُهُ جِلْدُهُ مِنْ خَارِجٍ لاَ كِتَابَتُهُ بِالذَّهَبِ، وَأَجَازَهُ بَعْضُهُمْ، وَأَجَازُوا أَيْضًا كِتَابَتَهُ فِي الْحَرِيرِ وَتَحْلِيَتَهُ بِهِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ إِلَى جَوَازِ تَحْلِيَةِ الْمُصْحَفِ بِالْفِضَّةِ مُطْلَقًا، وَبِالذَّهَبِ لِلنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَتَحْرِيمِهِ بِالذَّهَبِ فِي مَصَاحِفِ الرِّجَال.

_________

(١) الفتاوى الهندية ٤ / ٤٤٩، مثله في فتاوى قاضيخان بهامش الهندية ٣ / ٣٢٣.

وَذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ إِلَى كَرَاهَةِ تَحْلِيَتِهِ بِشَيْءِ مِنَ النَّقْدَيْنِ، وَهُوَ قَوْل أَبِي يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ.

وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي قَوْلٍ إِلَى تَحْرِيمِ تَحْلِيَةِ الْقُرْآنِ بِالذَّهَبِ، وَقَال ابْنُ الزَّاغُونِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ: يَحْرُمُ سَوَاءٌ حَلاَّهُ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ (١) .

بَيْعُ الْمُصْحَفِ وَشِرَاؤُهُ

٢٣ - اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ سَلَفًا وَخَلَفًا فِي بَيْعِ الْمَصَاحِفِ وَشِرَائِهَا، فَذَهَبَ الْبَعْضُ إِلَى كَرَاهَةِ بَيْعِهَا وَشِرَائِهَا تَعْظِيمًا لَهَا وَتَكْرِيمًا، لِمَا فِي تَدَاوُلِهَا بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مِنَ الاِبْتِذَال، وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ وَقَوْلٌ لِلشَّافِعِيَّةِ، وَرُوِيَتْ كَرَاهِيَةُ بَيْعِهَا عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ ﵃ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَإِِسْحَاقَ وَالنَّخَعِيِّ، قَال ابْنُ عُمَرَ: وَدِدْتُ أَنَّ الأَْيْدِيَ تُقْطَعُ فِي بَيْعِهَا، وَوَرَدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ أَنَّهُ قَال: كَانَ أَصْحَابُ رَسُول اللَّهِ ﷺ يُشَدِّدُونَ فِي بَيْعِ الْمَصَاحِفِ.

وَذَهَبَ بَعْضُ السَّلَفِ إِلَى إِجَازَةِ بَيْعِهَا، مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ، وَالْحَسَنُ، وَعِكْرِمَةُ، وَالشَّعْبِيُّ، لأَِنَّ الْبَيْعَ يَقَعُ عَلَى الْوَرَقِ وَالْجِلْدِ

_________

(١) الفتاوى الهندية ٥ / ٣٢٣، وابن عابدين ١ / ٦٥٨، والمجموع للنووي ٦ / ٤٢، وشرح المنهاج مع حاشية القليوبي ٢ / ٢٤، ٢٥، وشرح منتهى الإرادات ١ / ٧٣.

وَبَدَل عَمَل يَدِ الْكَاتِبِ، وَبَيْعُ ذَلِكَ مُبَاحٌ، قَال الشَّعْبِيُّ: لاَ بَأْسَ بِبَيْعِ الْمُصْحَفِ، إِنَّمَا يَبِيعُ الْوَرَقَ وَعَمَل يَدَيْهِ.

وَفَرَّقَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ - وَنَقَلُوهُ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ - وَالْحَنَابِلَةُ فِي مُعْتَمَدِهِمْ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، فَكَرِهُوا الْبَيْعَ - وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ يَحْرُمُ وَيَصِحُّ - وَأَجَازُوا الشِّرَاءَ وَالاِسْتِبْدَال، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: اشْتَرِ الْمَصَاحِفَ وَلاَ تَبِعْهَا، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ فِي الْبَيْعِ ابْتِذَالًا بِخِلاَفِ الشِّرَاءِ، فَفِيهِ اسْتِنْقَاذُ الْمُصْحَفِ وَبَذْلٌ لِلْمَال فِي سَبِيل اقْتِنَائِهِ وَذَلِكَ إِكْرَامٌ، قَالُوا: وَلاَ يَلْزَمُ مِنْ كَرَاهَةِ الْبَيْعِ كَرَاهَةُ الشِّرَاءِ، كَشِرَاءِ دُورِ مَكَّةَ وَرِبَاعِهَا، وَشِرَاءِ أَرْضِ السَّوَادِ، لاَ يُكْرَهُ، وَيُكْرَهُ لِلْبَائِعِ (١) .

إِجَارَةُ الْمُصْحَفِ

٢٤ - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَابْنُ حَبِيبٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ إِجَارَةِ الْمُصْحَفِ.

أَمَّا الْحَنَفِيَّةُ فَعِلَّةُ الْمَنْعِ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الْمُصْحَفِ أَكْثَرُ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ، وَلاَ تَجُوزُ الإِِْجَارَةُ لِمِثْل ذَلِكَ، كَمَا لاَ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ سَقْفًا لِيَنْظُرَ إِلَى مَا فِيهِ مِنَ النُّقُوشِ أَوِ

_________

(١) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ٤ / ١٨، وشرح المنهاج بحاشية القليوبي ٢ / ١٥٧، والإتقان للسيوطي ٢ / ١٧٢، والمغني ٤ / ٢٦٣، وشرح المنتهى ٢ / ١٤٣.

التَّصَاوِيرِ، أَوْ يَسْتَأْجِرَ كَرْمًا لِيَنْظُرَ فِيهِ لِلاِسْتِئْنَاسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْخُلَهُ، وَمِنْ أَجْل ذَلِكَ لاَ تَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَيْضًا إِجَارَةُ سَائِرِ الْكُتُبِ.

وَأَمَّا الْحَنَابِلَةُ فِي الْوَجْهِ الْمُعْتَمَدِ عِنْدَهُمْ فَقَدْ بَنَوْا تَحْرِيمَ إِجَارَتِهِ عَلَى تَحْرِيمِ بَيْعِهِ، قَالُوا: وَلِمَا فِي إِجَارَتِهِ مِنَ الاِبْتِذَال لَهُ.

وَأَمَّا ابْنُ حَبِيبٍ فَقَدْ مَنَعَ إِجَارَتَهُ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّهُ يَرَى جَوَازَ بَيْعِهِ، لأَِنَّ الأُْجْرَةَ تَكُونُ كَالثَّمَنِ لِلْقُرْآنِ، أَمَّا بَيْعُهُ فَهُوَ ثَمَنٌ لِلْوَرَقِ وَالْجِلْدِ وَالْخَطِّ.

وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى جَوَازِ إِجَارَةِ الْمُصْحَفِ لِلْقِرَاءَةِ فِيهِ، قَالُوا: مَا لَمْ يَقْصِدْ بِإِِجَارَتِهِ التِّجَارَةَ، وَإِِلاَّ كُرِهَتْ.

وَوَجْهُ الْجَوَازِ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ نَفْعٌ مُبَاحٌ تَجُوزُ الإِِْعَارَةُ فِيهِ، فَجَازَتْ فِيهِ الإِِْجَارَةُ كَسَائِرِ الْكُتُبِ الَّتِي يَجُوزُ بَيْعُهَا (١) .

رَهْنُ الْمُصْحَفِ

٢٥ - الْقَاعِدَةُ: أَنَّ مَا جَازَ بَيْعُهُ جَازَ رَهْنُهُ، وَمَا لاَ يَجُوزُ بَيْعُهُ لاَ يَجُوزُ رَهْنُهُ، وَلِذَا يَصِحُّ رَهْنُ الْمُصْحَفِ عِنْدَ كُل مَنْ جَوَّزَ بَيْعَهُ، لأَِنَّهُ يُمْكِنُ بَيْعُهُ وَاسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ ثَمَنِهِ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ

_________

(١) الفتاوى الهندية ٤ / ٤٤٩، والدسوقي على الشرح الكبير ٤ / ٢٠، والمغني ٥ / ٥٠٤، وشرح المنتهى ٢ / ٣٥٧.

يُجَوِّزْ بَيْعَهُ فَلاَ يَجُوزُ عِنْدَهُ رَهْنُهُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ (١) .

وَقْفُ الْمُصْحَفِ

٢٦ - يَجُوزُ وَقْفُ الْمَصَاحِفِ لِلْقِرَاءَةِ فِيهَا عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، اسْتِثْنَاءً مِنْ عَدَمِ جَوَازِ وَقْفِ الْمَنْقُولاَتِ لِجَرَيَانِ التَّعَارُفِ بِوَقْفِ الْمَصَاحِفِ، وَإِِلَى قَوْلِهِ هَذَا ذَهَبَ عَامَّةُ مَشَايِخِ الْحَنَفِيَّةِ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى عِنْدَهُمْ، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْل غَيْرِهِمْ بِجِوَازِ وَقْفِ الْمَنْقُولاَتِ.

وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ وَقْفِهَا كَسَائِرِ الْمَنْقُولاَتِ غَيْرِ آلاَتِ الْجِهَادِ.

ثُمَّ إِنْ وَقَفَهُ عَلَى مَسْجِدٍ مُعَيَّنٍ يَجُوزُ، وَيَقْرَأُ بِهِ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ خَاصَّةً، نَصَّ عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّةُ، وَفِي قَوْلٍ عِنْدَهُمْ: لاَ يَكُونُ مَقْصُورًا عَلَى هَذَا الْمَسْجِدِ بِعَيْنِهِ (٢) .

إِرْثُ الْمُصْحَفِ

٢٧ - يُورَّثُ الْمُصْحَفُ عَلَى الْقَوْل الْمُفْتَى بِهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَهُوَ مُقْتَضَى قَوَاعِدِ غَيْرِهِمْ مِنْ أَنَّ كُل مَمْلُوكٍ يُورَّثُ عَنْ مَالِكِهِ.

وَفِي قَوْلٍ عِنْدً الْحَنَفِيَّةِ: لاَ يُورَّثُ، وَهُوَ قَوْل النَّخَعِيِّ، فَلَوْ كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلَدَانِ أَحَدُهُمَا

_________

(١) المغني ٤ / ٣٤٣، والفتاوى الهندية ٥ / ٤٣٥.

(٢) الفتاوى الهندية ٢ / ٣٦١.

قَارِئٌ وَالآْخَرُ غَيْرُ قَارِئٍ، يُعْطَى الْمُصْحَفُ لِلْقَارِئِ (١) .

الْقَطْعُ بِسَرِقَةِ الْمُصْحَفِ

٢٨ - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ، وَهُوَ قَوْل أَبِي بَكْرٍ وَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ سَارِقَ الْمُصْحَفِ لاَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، قَال ابْنُ عَابِدِينَ: لأَِنَّ آخُذَهُ يَتَأَوَّل فِي أَخْذِهِ الْقِرَاءَةَ وَالنَّظَرَ فِيهِ، وَلأَِنَّهُ لاَ مَالِيَّةَ لَهُ لاِعْتِبَارِ الْمَكْتُوبِ فِيهِ وَهُوَ كَلاَمُ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ لاَ يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ، وَإِِنَّمَا يُقْتَنَى الْمُصْحَفُ لأَِجْلِهِ، لاَ لأَِجْل أَوْرَاقِهِ أَوْ جِلْدِهِ.

وَيَسْرِي ذَلِكَ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ عَلَى مَا عَلَى الْمُصْحَفِ مِنَ الْحِلْيَةِ لِكَوْنِهِ فِي حُكْمِ التَّابِعِ لَهُ، وَلِلتَّابِعِ حُكْمُ الْمَتْبُوعِ، كَمَنْ سَرَقَ صَبِيًّا عَلَيْهِ ثِيَابٌ قِيمَتُهَا أَكْثَرَ مِنْ نِصَابٍ فَلاَ يُقْطَعُ بِهَا، لأَِنَّهَا تَابِعَةٌ لِلصَّبِيِّ وَلاَ قَطْعَ فِي سَرِقَتِهِ، وَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ نَقَل عَنِ السِّرَاجِ الْوَهَّاجِ: لاَ قَطْعَ فِي سَرِقَةِ الْمُصْحَفِ وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ حِلْيَةٌ تُسَاوِي أَلْفَ دِينَارٍ.

وَاخْتَارَ أَبُو الْخَطَّابِ، وَهُوَ مَا اسْتَظْهَرَهُ ابْنُ قُدَامَةَ مِنْ كَلاَمِ الإِِْمَامِ أَحْمَدَ إِلَى أَنَّهُ يُقْطَعُ بِسَرِقَةِ الْمُصْحَفِ، لِعُمُومِ آيَةِ السَّرِقَةِ، وَلأَِنَّهُ

_________

(١) الدر المختار بهامش حاشية ابن عابدين ٥ / ٤٨٦، والفتاوى الهندية ٢ / ٣٦١، والإتقان للسيوطي ٢ / ١٧٢.

مُتَقَوِّمٌ تَبْلُغُ قِيمَتُهُ نِصَابًا فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ، كَكُتُبِ الْفِقْهِ وَالتَّارِيخِ وَغَيْرِهَا (١) .

مَنْعُ الْكَافِرِ مِنْ تَمَلُّكِ الْمُصْحَفِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ

٢٩ - لاَ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْكَافِرُ مُصْحَفًا، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الإِِْهَانَةِ فَإِِنِ اشْتَرَاهُ فَالشِّرَاءُ فَاسِدٌ، وَاحْتَجَّ الْفُقَهَاءُ لِذَلِكَ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: نَهَى النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ مَخَافَةَ أَنْ تَنَالَهُ أَيْدِيهِمْ (٢) .

وَالشَّافِعِيَّةُ يَرَوْنَ حُرْمَةَ بَيْعَ الْمُصْحَفِ لِلْكَافِرِ، لَكِنْ إِنْ بَاعَهُ لَهُ فَفِي صِحَّةِ الْبَيْعِ عِنْدَهُمْ وَجْهَانِ: أَظْهَرُهُمَا: لاَ يَصِحُّ الْبَيْعُ، وَالثَّانِي: يَصِحُّ وَيُؤْمَرُ فِي الْحَال بِإِِزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْهُ (٣) .

قَال الْقَلْيُوبِيُّ: وَلَوْ وَكَّل الْكَافِرُ مُسْلِمًا بِشِرَاءِ مُصْحَفٍ لَمْ يَصِحَّ لأَِنَّ الْمِلْكَ لَهُ يَقَعُ، وَلَوْ وَكَّل الْمُسْلِمُ كَافِرًا بِالشِّرَاءِ صَحَّ لأَِنَّهُ يَقَعُ لِلْمُسْلِمِ، وَكَذَا لَوْ قَارَضَ مُسْلِمٌ كَافِرًا فَاشْتَرَى

_________

(١) الفتاوى الهندية ٢ / ١٧٧، وابن عابدين ٣ / ١٩٩، والمغني ٨ / ٢٤٧.

(٢) الفتاوى الهندية ٣ / ١١٥، والمغني ٤ / ٢٩٢، والقليوبي على شرح المنهاج ٢ / ١٥٦. شرح المنهاج ٢ / ١٥٦. وحديث: " نهى النبي ﷺ أن يسافر. . . ". # أخرج البخاري (فتح الباري ١٠ / ١٣٣) الشطر الأول منه، وأخرجه مسلم (٣ / ١٤٩١) بتمامه.

(٣) التبيان في آداب حملة القرآن ص ١١٣.

الْكَافِرُ مُصْحَفًا لِلْقِرَاضِ صَحَّ، لأَِنَّهُ لِلْقِرَاضِ، وَلاَ مِلْكَ لِلْمُضَارِبِ فِيهِ (١) .

وَلاَ تَصِحُّ هِبَةُ الْكَافِرِ مُصْحَفًا وَلاَ الْوَصِيَّةُ لَهُ بِهِ (٢) .

وَلاَ يَصِحُّ وَقْفُ الْمُصْحَفِ عَلَى كَافِرٍ (٣) .

وَيَحْرُمُ أَنْ يُعْطِيَ كَافِرًا مُصْحَفًا عَارِيَّةً لِيَقْرَأَ فِيهِ وَيَرُدَّهُ، وَلاَ تَصِحُّ الإِِْعَارَةُ، وَقَال الرَّمْلِيُّ: تَصِحُّ الإِِْعَارَةُ فِيهِ مَعَ الْحُرْمَةِ (٤) .

مَسُّ الْكَافِرِ الْمُصْحَفَ وَعَمَلُهُ فِي نَسْخِ الْمَصَاحِفِ وَتَصْنِيعِهَا

٣٠ - يُمْنَعُ الْكَافِرُ مِنْ مَسِّ الْمُصْحَفِ، كَمَا يُمْنَعُ مِنْهُ الْمُسْلِمُ الْجُنُبُ، بَل الْكَافِرُ أَوْلَى بِالْمَنْعِ، وَيُمْنَعُ مِنْهُ مُطْلَقًا، أَيْ سَوَاءٌ اغْتَسَل أَوْ لَمْ يَغْتَسِل، وَفِي الْفَتَاوَى الْهِنْدِيَّةِ: أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَال: إِنِ اغْتَسَل جَازَ أَنْ يَمَسَّهُ، وَحُكِيَ فِي الْبَحْرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبَى يُوسُفَ الْمَنْعَ مُطْلَقًا (٥) .

وَيُمْنَعُ الْكَافِرُ مِنَ الْعَمَل فِي تَصْنِيعِ الْمَصَاحِفِ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا قَال الْقَلْيُوبِيُّ: يُمْنَعُ الْكَافِرُ مِنْ تَجْلِيدِ الْمُصْحَفِ وَتَذْهِيبِهِ، لَكِنْ

_________

(١) القليوبي على شرح المنهاج ٢ / ١٥٦، ٣ / ٥٧.

(٢) المغني ٦ / ١٠٤.

(٣) شرح المنهاج وحاشية القليوبي ٣ / ٩٩.

(٤) شرح المنهاج وحاشية القليوبي ٣ / ١٩.

(٥) الفتاوى الهندية ٥ / ٣٢٣، وابن عابدين ١ / ١١٩، وشرح منتهى الإرادات ١ / ٧٤.