الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٣٨
وَالآْخَرُ عَامِلًا وَلَوْ مُتَعَدِّدًا لاَ مِلْكَ لَهُ، فَلاَ يَعْدِل إِلَى أَنْ يَعْقِدَهَا عَامِلاَنِ، وَمَحِل الْمَنْعِ بِالنِّسْبَةِ لِلثَّانِي أَمَّا الأَْوَّل فَالْمُضَارَبَةُ بَاقِيَةٌ فِي حَقِّهِ، فَإِِنْ تَصَرَّفَ الثَّانِي فَلَهُ أُجْرَةُ الْمِثْل عَلَى الْمَالِكِ، وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِلْمَالِكِ، وَلاَ شَيْءَ لِلْعَامِل الأَْوَّل حَيْثُ لَمْ يَعْمَل شَيْئًا، قَال الشَّبْرَامَلِّسِيُّ: أَمَّا لَوْ عَمِل فَالأَْقْرَبُ أَنَّ الرِّبْحَ يَكُونُ لَهُمَا بِحَسَبِ مَا شَرَطَاهُ، وَمُقَابِل الأَْصَحِّ: أَنَّهُ يَجُوزُ كَمَا يَجُوزُ لِلْمَالِكِ أَنْ يُضَارِبَ شَخْصَيْنِ فِي الاِبْتِدَاءِ.
وَلَوْ أَذِنَ الْمَالِكُ لِلْعَامِل فِي أَنْ يُضَارِبَ غَيْرَهُ لِيَنْسَلِخَ مِنَ الْمُضَارَبَةِ وَيَكُونَ وَكَيْلًا فَيَصِحُّ، وَمَحِلُّهُ - كَمَا قَال ابْنُ الرِّفْعَةِ - إِذَا كَانَ الْمَال مِمَّا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْمُضَارَبَةُ لأَِنَّهُ ابْتِدَاءُ مُضَارَبَةٍ، فَلَوْ وَقَعَ بَعْدَ تَصَرُّفِهِ وَصَيْرُورَةِ الْمَال عَرَضًا لَمْ تَجُزْ.
وَلَوْ ضَارَبَ الْعَامِل شَخْصًا آخَرَ بِغَيْرِ إِذْنِ الْمَالِكِ فَسَدَتِ الْمُضَارَبَةُ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ أَقَصَدَ الْمُشَارَكَةَ فِي عَمَلٍ وَرِبْحٍ أَمْ رِبْحٍ فَقَطْ أَمْ قَصَدَ الاِنْسِلاَخَ، لاِنْتِفَاءِ إِذْنِ الْمَالِكِ فِيهَا وَائْتِمَانِهِ عَلَى الْمَال غَيْرَهُ، فَإِِنْ تَصَرَّفَ الْعَامِل الثَّانِي بِغَيْرِ إِذْنِ الْمَالِكِ فَتَصَرُّفُ غَاصِبٍ فَيَضْمَنُ مَا تَصَرَّفَ فِيهِ، لأَِنَّ الإِِْذْنَ صَدَرَ مِمَّنْ لَيْسَ بِمَالِكٍ وَلاَ وَكِيلٍ، فَإِِنِ اشْتَرَى لِلأَْوَّل فِي الذِّمَّةِ وَنَقَدَ الثَّمَنَ مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ وَرَبِحَ فَالرِّبْحُ لِلْعَامِل الأَْوَّل فِي الأَْصَحِّ لأَِنَّ الثَّانِيَ تَصَرَّفَ بِإِِذْنِهِ فَأَشْبَهَ الْوَكِيل، وَعَلَيْهِ
لِلثَّانِي أُجْرَتُهُ هُوَ مِنْ زِيَادَتِهِ مِنْ غَيْرِ تَمْيِيزٍ لأَِنَّهُ لَمْ يَعْمَل مَجَّانًا، وَقِيل: الرِّبْحُ كُلُّهُ لِلثَّانِي لأَِنَّهُ لَمْ يَتَصَرَّفْ بِإِِذْنِ الْمَالِكِ فَأَشْبَهَ الْغَاصِبَ، وَاخْتَارَهُ السُّبْكِيُّ، أَمَّا لَوِ اشْتَرَى فِي الذِّمَّةِ لِنَفْسِهِ فَيَقَعُ لِنَفْسِهِ، وَإِِنِ اشْتَرَى بِعَيْنِ مَال الْمُضَارَبَةِ فَبَاطِلٌ شِرَاؤُهُ لأَِنَّهُ فُضُولِيٌّ (١) .
وَلِلْعَامِل أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ بِنَسِيئَةٍ أَوْ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ إِذَا أَذِنَ لَهُ رَبُّ الْمَال لأَِنَّ الْمَنْعَ لَحِقَهُ وَقَدْ زَال بِإِِذْنِهِ، وَمَعَ الْجَوَازِ يَنْبَغِي أَنْ لاَ يُبَالِغَ فِي الْغَبْنِ فَيَبِيعَ مَا يُسَاوِي مِائَةً بِعَشَرَةٍ، بَل يَبِيعُ بِمَا تَدُل الْقَرِينَةُ عَلَى ارْتِكَابِهِ عَادَةً فِي مِثْل ذَلِكَ، فَإِِنْ بَالَغَ لَمْ يَصِحَّ تَصَرُّفُهُ، وَيَجِبُ الإِِْشْهَادُ فِي النَّسِيئَةِ وَإِِلاَّ ضَمِنَ، بِخِلاَفِ الْحَال، لِعَدَمِ جَرَيَانِ الْعَادَةِ بِالإِِْشْهَادِ فِي الْبَيْعِ الْحَال (٢) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَجُوزُ لِرَبِّ الْمَال أَنْ يَنُصَّ لِلْمُضَارِبِ عَلَى التَّصَرُّفِ نَقْدًا أَوْ نَسِيئَةً وَلَمْ تَجُزْ مُخَالَفَتُهُ لأَِنَّ الْمُضَارِبَ مُتَصَرِّفٌ بِالإِِْذْنِ، فَلاَ يَتَصَرَّفُ فِي غَيْرِ مَا أُذِنَ لَهُ فِيهِ، وَلأَِنَّ ذَلِكَ لاَ يَمْنَعُ مَقْصُودَ الْمُضَارَبَةِ، وَقَدْ يُطْلَبُ بِذَلِكَ الْفَائِدَةُ فِي الْعَادَةِ (٣) .
وَقَالُوا: لَيْسَ لِلْعَامِل أَنْ يَشْتَرِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ
_________
(١) نهاية المحتاج ٥ / ٢٢٧، ٢٢٨، ٢٣٢.
(٢) نهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي ٥ / ٢٢٩ - ٢٣١، والمهذب ١ / ٣٨٧، ومغني المحتاج ٢ / ٣١٥.
(٣» المغني ٥ / ٣٩.
رَأْسِ الْمَال لأَِنَّ الإِِْذْنَ مَا تَنَاوَل أَكْثَرَ مِنْهُ، فَإِِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَال أَلْفًا فَاشْتَرَى سِلْعَةً بِأَلْفِ، ثُمَّ اشْتَرَى أُخْرَى بِالأَْلْفِ عَيْنِهِ فَالشِّرَاءُ فَاسِدٌ لأَِنَّهُ اشْتَرَاهَا بِمَال يَسْتَحِقُّ تَسْلِيمَهُ فِي الْبَيْعِ الأَْوَّل، وَإِِنِ اشْتَرَاهَا فِي ذِمَّتِهِ صَحَّ الشِّرَاءُ وَهِيَ لَهُ، لأَِنَّهُ اشْتَرَى فِي ذِمَّتِهِ لِغَيْرِهِ مَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي شِرَائِهِ فَوَقَعَ لَهُ (١) .
وَإِِنْ أَذِنَ رَبُّ الْمَال فِي دَفْعِ الْمَال مُضَارَبَةً جَازَ ذَلِكَ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَلاَ نَعْلَمُ فِيهِ خِلاَفًا وَيَكُونُ الْعَامِل الأَْوَّل وَكَيْلًا لِرَبِّ الْمَال فِي ذَلِكَ، فَإِِنْ دَفَعَهُ إِلَى آخَرَ وَلَمْ يَشْرِطْ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِنَ الرِّبْحِ كَانَ صَحِيحًا، وَإِِنْ شَرَطَ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِنَ الرِّبْحِ لَمْ يَصِحَّ لأَِنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِهَتِهِ مَالٌ وَلاَ عَمَلٌ، وَالرِّبْحُ إِنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِوَاحِدِ مِنْهُمَا (٢) .
وَإِِذَا تَعَدَّى الْمُضَارِبُ وَفَعَل مَا لَيْسَ لَهُ فِعْلُهُ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلْمَال لأَِنَّهُ مُتَصَرِّفٌ فِي مَال غَيْرِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَلَزِمَهُ الضَّمَانُ كَالْغَاصِبِ، وَمَتَى اشْتَرَى مَا لَمْ يُؤْذَنْ فِيهِ فَرَبِحَ فِيهِ فَالرِّبْحُ لِرَبِّ الْمَال، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَعَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُمَا يَتَصَدَّقَانِ بِالرِّبْحِ، قَال الْقَاضِي: قَوْل أَحْمَدَ يَتَصَدَّقَانِ بِالرِّبْحِ عَلَى سَبِيل الْوَرَعِ وَهُوَ لِرَبِّ الْمَال فِي الْقَضَاءِ (٣) .
_________
(١) المغني ٥ / ٤٧.
(٢) المغني ٥ / ٥٤.
(٣) المرجع نفسه.
الثَّالِثُ: مَا لِلْمُضَارِبِ عَمَلُهُ إِذَا قِيل لَهُ: اعْمَل بِرَأْيِكَ وَإِِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ
٣٥ - قَال الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْمُضَارِبَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ مَال الْمُضَارَبَةِ إِلَى غَيْرِهِ مُضَارَبَةً، وَأَنْ يُشَارِكَ غَيْرَهُ فِي مَال الْمُضَارَبَةِ شَرِكَةَ عَنَانٍ، وَأَنْ يَخْلِطَ مَال الْمُضَارَبَةِ بِمَال نَفْسِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمَل شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إِذَا لَمْ يَقُل لَهُ: اعْمَل بِرَأْيِكَ.
أَمَّا الْمُضَارَبَةُ: فَلأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ مِثْل الْمُضَارَبَةِ، وَالشَّيْءُ لاَ يَسْتَتْبِعُ مِثْلَهُ، فَلاَ يُسْتَفَادُ بِمُطْلَقِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ مِثْلُهُ.
وَأَمَّا الشَّرِكَةُ: فَهِيَ أَوْلَى أَنْ لاَ يَمْلِكَهَا بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ، لأَِنَّهَا أَعَمُّ مِنَ الْمُضَارَبَةِ، وَالشَّيْءُ لاَ يَسْتَتْبِعُ مِثْلَهُ فَمَا فَوْقَهُ أَوْلَى.
وَأَمَّا الْخَلْطُ فَلأَِنَّهُ يُوجِبُ فِي مَال رَبِّ الْمَال حَقًّا لِغَيْرِهِ فَلاَ يَجُوزُ إِلاَّ بِإِِذْنِهِ (١) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِذَا قَال رَبُّ الْمَال لِلْمُضَارِبِ
اعْمَل بِرَأْيِكَ أَوْ تَصَرَّفْ كَيْفَ شِئْتَ فَلَهُ الْبَيْعُ بِالنَّسَاءِ، لأَِنَّهُ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ لَفْظِهِ، وَقَرِينَةُ حَالِهِ تَدُل عَلَى رِضَائِهِ بِرَأْيِهِ فِي صِفَاتِ الْبَيْعِ وَفِي أَنْوَاعِ التِّجَارَةِ وَهَذَا مِنْهَا، قَال ابْنُ قُدَامَةَ فَإِِذَا قُلْنَا: لَهُ الْبَيْعُ نَسَاءً فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ وَمَهْمَا
_________
(١) بدائع الصنائع ٦ / ٩٥، وحاشية ابن عابدين ٤ / ٤٨٥.
فَاتَ مِنَ الثَّمَنِ لاَ يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ، إِلاَّ أَنْ يُفَرِّطَ بِبَيْعِ مَنْ لاَ يَوْثُقُ بِهِ أَوْ مَنْ لاَ يَعْرِفُهُ فَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ الثَّمَنِ الَّذِي انْكَسَرَ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَإِِنْ قُلْنَا: لَيْسَ لَهُ الْبَيْعُ نَسَاءً فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ، لأَِنَّهُ فَعَل مَا لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ مِنَ الأَْجْنَبِيِّ، إِلاَّ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تَقُول: يَقِفُ بَيْعُ الأَْجْنَبِيِّ عَلَى الإِِْجَازَةِ فَهَاهُنَا مِثْلُهُ، وَيَحْتَمِل قَوْل الْخِرَقِيِّ صِحَّةَ الْبَيْعِ. وَعَلَى كُل حَالٍ يَلْزَمُ الْعَامِل الضَّمَانُ لأَِنَّ ذَهَابَ الثَّمَنِ حَصَل بِتَفْرِيطِهِ.
وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ بِأَقَل مِنْ ثَمَنِ الْمِثْل وَلاَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِأَكْثَرَ مِنْهُ مِمَّا لاَ يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثْلِهِ، فَإِِنْ فَعَل فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْبَيْعَ يَصِحُّ وَيَضْمَنُ النَّقْصَ لأَِنَّ الضَّرَرَ يَنْجَبِرُ بِضَمَانِ النَّقْصِ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَالْقِيَاسُ أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ لأَِنَّهُ بَيْعٌ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِيهِ فَأَشْبَهَ بَيْعَ الأَْجْنَبِيِّ، وَإِِنْ تَعَذَّرَ رَدُّ الْمَبِيعِ ضَمِنَ النَّقْصَ أَيْضًا، وَإِِنْ أَمْكَنَ رَدُّهُ وَجَبَ رَدُّهُ إِنْ كَانَ بَاقِيًا أَوْ قِيمَتُهُ إِنْ كَانَ تَالِفًا، وَلِرَبِّ الْمَال مُطَالَبَةُ مَنْ شَاءَ مِنَ الْعَامِل وَالْمُشْتَرِي.
وَبَيْعُ الْمُضَارِبِ أَوْ شِرَاؤُهُ بِغَيْرِ نَقْدِ الْبَلَدِ عَلَى رِوَايَتَيْنِ: الأُْولَى: جَوَازُهُ إِذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ وَالرِّبْحُ حَاصِلٌ بِهِ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ عَرَضًا بِعَرَضِ وَيَشْتَرِيهِ بِهِ. وَالثَّانِيَةُ: لاَ يَجُوزُ، قَال ابْنُ قُدَامَةَ: فَإِِنْ قُلْنَا لاَ يَمْلِكُ ذَلِكَ فَفَعَلَهُ فَحُكْمُهُ
حُكْمُ مَا لَوِ اشْتَرَى أَوْ بَاعَ بِغَيْرِ ثَمَنِ الْمِثْل، وَإِِنْ قَال لَهُ: اعْمَل بِرَأْيِكَ فَلَهُ ذَلِكَ (١) .
الرَّابِعُ: مَا لَيْسَ لِلْمُضَارِبِ عَمَلُهُ أَصْلًا
٣٦ - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَامِل شِرَاءُ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ (٢) لأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ تَتَضَمَّنُ الإِِْذْنَ بِالتَّصَرُّفِ الَّذِي يَحْصُل بِهِ الرِّبْحُ، وَالرِّبْحُ لاَ يَحْصُل إِلاَّ بِالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ، فَمَا لاَ يُمْلَكُ بِالشِّرَاءِ لاَ يَحْصُل فِيهِ الرِّبْحُ، وَمَا يُمْلَكُ بِالشِّرَاءِ لَكِنْ لاَ يُقْدَرُ عَلَى بَيْعِهِ لاَ يَحْصُل فِيهِ الرِّبْحُ أَيْضًا، فَلاَ يَدْخُل تَحْتَ الإِِْذْنِ، فَإِِنِ اشْتَرَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ لاَ لِلْمُضَارَبَةِ، فَإِِنْ دَفَعَ فِيهِ شَيْئًا مِنْ مَال الْمُضَارَبَةِ يَضْمَنُ (٣) .
الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ فِي عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ
٣٧ - قَسَّمَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ الشُّرُوطَ الْفَاسِدَةَ مِنْ حَيْثُ أَثَرِهَا عَلَى الْمُضَارَبَةِ صِحَّةً أَوْ فَسَادًا.
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ فِي الْمُضَارَبَةِ إِذَا كَانَ يُؤَدِّي إِلَى جَهَالَةِ الرِّبْحِ فَإِِنَّهُ يُفْسِدُ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ، وَإِِنْ كَانَ لاَ يُؤَدِّي إِلَى جَهَالَةِ الرِّبْحِ فَإِِنَّهُ يَبْطُل، وَتَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَفِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ.
_________
(١) المغني ٥ / ٤٠ - ٤٣.
(٢) بدائع الصنائع ٦ / ٩٨، وروضة الطالبين ٥ / ١٤٧، والمغني ٥ / ٥١.
(٣) بدائع الصنائع ٦ / ٩٨.
قَال الْكَاسَانِيُّ: الأَْصْل فِي الشَّرْطِ الْفَاسِدِ إِذَا دَخَل هَذَا الْعَقْدَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ يُؤَدِّي إِلَى جَهَالَةِ الرِّبْحِ يُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ، لأَِنَّ الرِّبْحَ هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ، وَجَهَالَةُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ تُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ، وَإِِنْ كَانَ لاَ يُؤَدِّي إِلَى جَهَالَةِ الرِّبْحِ يَبْطُل الشَّرْطُ وَتَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ، لأَِنَّ هَذَا عَقْدٌ تَقِفُ صِحَّتُهُ عَلَى الْقَبْضِ، فَلاَ يُفْسِدُهُ الشَّرْطُ الزَّائِدُ الَّذِي لاَ يَرْجِعُ إِلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَالْهِبَةِ وَالرَّهْنِ، وَلأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ وَكَالَةٌ وَالشَّرْطُ الْفَاسِدُ لاَ يَعْمَل فِي الْوَكَالَةِ (١) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا يُنَافِي مُقْتَضَى الْعَقْدِ مِثْل أَنْ يَشْتَرِطَ لُزُومَ الْمُضَارَبَةِ، أَوْ لاَ يَعْزِلَهُ مُدَّةً بِعَيْنِهَا، أَوْ لاَ يَبِيعَ إِلاَّ مِمَّنِ اشْتَرَى مِنْهُ أَوْ بِرَأْسِ الْمَال أَوْ أَقَل، فَهَذِهِ شُرُوطٌ فَاسِدَةٌ لأَِنَّهَا تُنَافِي الْمَقْصُودَ مِنَ الْمُضَارَبَةِ وَهُوَ الرِّبْحُ، أَوْ تَمْنَعُ الْفَسْخَ الْجَائِزَ بِحُكْمِ الأَْصْل.
الثَّانِي: مَا يَعُودُ إِلَى جَهَالَةِ الرِّبْحِ مِثْل أَنْ يَشْتَرِطَ لِلْمُضَارِبِ جُزْءًا مِنَ الرِّبْحِ مَجْهُولًا، أَوْ رِبْحَ أَحَدِ الأَْلْفَيْنِ أَوْ إِحْدَى السَّفْرَتَيْنِ، فَهَذِهِ شُرُوطٌ فَاسِدَةٌ لأَِنَّهَا تُفْضِي إِلَى جَهْل حَقِّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنَ الرِّبْحِ أَوْ إِلَى فَوَاتِهِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَمِنْ شَرْطِ الْمُضَارَبَةِ كَوْنُ الرِّبْحِ مَعْلُومًا.
_________
(١) بدائع الصنائع ٦ / ٨٦.
الثَّالِثُ: اشْتِرَاطُ مَا لَيْسَ مِنْ مَصْلَحَةِ الْعَقْدِ لاَ مُقْتَضَاهُ، مِثْل أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الْمُضَارِبِ ضَمَانَ الْمَال أَوْ سَهْمًا مِنَ الْوَضِيعَةِ أَوْ أَنْ يُضَارِبَ لَهُ فِي مَالٍ آخَرَ، فَهَذِهِ شُرُوطٌ فَاسِدَةٌ.
وَمَتَى اشْتَرَطَ شَرْطًا فَاسِدًا يَعُودُ إِلَى جَهَالَةِ الرِّبْحِ فَسَدَتِ الْمُضَارَبَةُ، لأَِنَّ الْفَسَادَ لِمَعْنَى فِي الْعِوَضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَأَفْسَدَ الْعَقْدَ، وَلأَِنَّ الْجَهَالَةَ تَمْنَعُ مِنَ التَّسْلِيمِ فَتُفْضِي إِلَى التَّنَازُعِ وَالاِخْتِلاَفِ، وَلاَ يَعْلَمُ مَا يَدْفَعُهُ إِلَى الْمُضَارِبِ.
وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ فَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ، لأَِنَّهُ عَقْدٌ يَصِحُّ عَلَى مَجْهُولٍ فَلَمْ تُبْطِلْهُ الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ كَالنِّكَاحِ وَالْعَتَاقِ وَالطَّلاَقِ.
وَنَقَل الْقَاضِي وَأَبُو الْخَطَّابِ رِوَايَةً أُخْرَى أَنَّهَا تُفْسِدُ الْعَقْدَ، لأَِنَّهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ فَأَفْسَدَ الْعَقْدَ (١) .
وَفِيمَا يَلِي نَذْكُرُ بَعْضَ الأَْمْثِلَةِ لِلشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ.
أ - شَرْطُ اشْتِرَاكِ الْمَالِكِ فِي الْعَمَل:
٣٨ - ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَابْنُ حَامِدٍ وَالْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّ شَرْطَ عَمَل رَبِّ الْمَال فِي عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ يُفْسِدُهَا، لأَِنَّ الْمَال أَمَانَةٌ فَلاَ يَتِمُّ إِلاَّ بَعْدَ تَسْلِيمِ رَأْسِ الْمَال إِلَى
_________
(١) المغني ٥ / ٧٠ - ٧١.
الْمُضَارِبِ كَالْوَدِيعَةِ، وَإِِذَا شَرَطَ عَمَل رَبِّ الْمَال مَعَهُ لاَ يَتَحَقَّقُ التَّسْلِيمُ، لأَِنَّ يَدَهُ تَبْقَى عَلَى الْمَحِل، فَيَمْنَعُ مِنْ تَمَامِ التَّسْلِيمِ (١) .
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ مَنْ أَخْرَجَ مَالًا لِيَعْمَل فِيهِ هُوَ وَآخَرُ وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا صَحَّ (٢) .
ب - شَرْطُ قَدْرٍ مُعَيَّنٍ مِنَ الرِّبْحِ:
٣٩ - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ اشْتِرَاطَ عَدَدِ مِقْدَارٍ مِنَ الرِّبْحِ لِلْعَاقِدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا يُفْسِدُ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ فَإِِنْ شَرَطَا أَنْ يَكُونَ لأَِحَدِهِمَا مِائَةُ دِرْهَمٍ مِنَ الرِّبْحِ أَوْ أَقَل أَوْ أَكْثَرُ وَالْبَاقِي لِلآْخَرِ لاَ يَجُوزُ وَالْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ، لأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ نَوْعٌ مِنَ الشَّرِكَةِ، وَهِيَ الشَّرِكَةُ فِي الرِّبْحِ، وَهَذَا شَرْطٌ يُوجِبُ قَطْعَ الشَّرِكَةِ فِي الرِّبْحِ، لِجَوَازِ أَنْ لاَ يَرْبَحَ الْمُضَارِبُ إِلاَّ هَذَا الْقَدْرَ الْمَذْكُورَ فَيَكُونُ ذَلِكَ لأَِحَدِهِمَا دُونَ الآْخَرِ، فَلاَ تَتَحَقَّقُ الشَّرِكَةُ، فَلاَ يَكُونُ التَّصَرُّفُ مُضَارَبَةً (٣) .
ج - اشْتِرَاطُ ضَمَانِ الْمُضَارِبِ عِنْدَ التَّلَفِ
٤٠ - نَصَّ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ
_________
(١) حاشية الشلبي بهامش تبيين الحقائق ٥ / ٥٦، والشرح الصغير ٣ / ٦٠٩، وروضة الطالبين ٥ / ١١٨، ومغني المحتاج ٢ / ٣٠٩ - ٣١٠.
(٢) الإنصاف ٥ / ٤٣٢.
(٣) بدائع الصنائع ٦ / ٨٥ - ٨٦، والشرح الصغير ٣ / ٦٨٢، وروضة الطالبين ٥ / ١٢٣، ومغني المحتاج ٢ / ٣١٣، والمغني ٥ / ٣٨.
رَبُّ الْمَال عَلَى الْعَامِل ضَمَانَ رَأْسِ الْمَال إِذَا تَلِفَ أَوْ ضَاعَ بِلاَ تَفْرِيطٍ مِنْهُ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا (١) .
وَهَذَا مَا يُؤْخَذُ مِنْ عِبَارَاتِ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ، لأَِنَّهُمْ صَرَّحُوا بِأَنَّ الْعَامِل أَمِينٌ فِيمَا فِي يَدِهِ، فَإِِنْ تَلِفَ الْمَال فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ لَمْ يَضْمَنْ، فَاشْتِرَاطُ ضَمَانِ الْمُضَارِبِ يَتَنَافَى مَعَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ (٢) .
تَوْقِيتُ الْمُضَارَبَةِ أَوْ تَعْلِيقُهَا
٤١ - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَوْقِيتِ الْمُضَارَبَةِ أَوْ تَعْلِيقُهَا:
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ فِي الْمَذْهَبِ إِلَى أَنَّهُ يَصِحُّ تَوْقِيتُ الْمُضَارَبَةِ بِزَمَنٍ مُعَيَّنٍ، فَلَوْ قَال رَبُّ الْمَال لِلْمُضَارِبِ: ضَارَبْتُكَ عَلَى هَذِهِ الدَّرَاهِمِ أَوِ الدَّنَانِيرِ سَنَةً جَازَ، لأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ تَصَرُّفٌ يَتَقَيَّدُ بِنَوْعِ مِنَ الْمَتَاعِ فَجَازَ تَقْيِيدُهُ بِالْوَقْتِ، وَلأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ تَوْكِيلٌ وَهُوَ يَحْتَمِل التَّخْصِيصَ بِوَقْتِ دُونَ وَقْتٍ.
وَأَضَافَ الْحَنَابِلَةُ: لَوْ قَال رَبُّ الْمَال لِلْعَامِل: ضَارِبْ بِهَذَا الْمَال شَهْرًا، وَمَتَى مَضَى الأَْجَل فَهُوَ قَرْضٌ صَحَّ ذَلِكَ، فَإِِنْ مَضَى الأَْجَل وَالْمَال
_________
(١) الفتاوى الأنقروية ٢ / ٢٣٢، والشرح الصغير ٦ / ٦٨٧، والكافي لابن عبد البر ٢ / ١١٢ ط. مطبعة حسان.
(٢) المهذب ١ / ٣٩٥، وكشاف القناع ٣ / ٥٢٢.