الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٣٨
ضَارَبْتُكَ عَلَى أَنَّ لَكَ فِي الرِّبْحِ شِرْكًا فَسَدَتِ الْمُضَارَبَةُ.
الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ مِنْ حَيْثُ الْجُزْئِيَّةُ لاَ مِنْ حَيْثُ التَّقْدِيرُ، فَلَوْ قَال: لَكَ مِنَ الرِّبْحِ، أَوْ لِي مِنْهُ، دِرْهَمٌ أَوْ مِائَةٌ وَالْبَاقِي بَيْنَنَا نِصْفَانِ لَمْ تَصِحَّ الْمُضَارَبَةُ (١) .
٣٠ - قَال الْحَنَفِيَّةُ: لَوْ شَرَطَ جَمِيعَ الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ فَالْعَقْدُ قَرْضٌ، لأَِنَّهُ إِذَا لَمْ يُمْكِنْ تَصْحِيحُهُ مُضَارَبَةً يُصَحَّحْ قَرْضًا، لأَِنَّهُ أَتَى بِمَعْنَى الْقَرْضِ، وَالْعِبْرَةُ فِي الْعُقُودِ لِمَعَانِيهَا.
وَعَلَى هَذَا لَوْ شَرَطَ جَمِيعَ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَال فَهُوَ إِبْضَاعٌ لِوُجُودِ مَعْنَى الإِِْبْضَاعِ (٢) .
وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَالُوا: يَجُوزُ جَعْل الرِّبْحِ كُلِّهُ لأَِحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَوْ لِغَيْرِهِمَا، لأَِنَّهُ مِنْ بَابِ التَّبَرُّعِ، وَإِِطْلاَقُ الْقِرَاضِ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ مَجَازٌ (٣) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ قَال رَبُّ الْمَال: خُذْ هَذَا الْمَال فَاتَّجِرْ بِهِ وَرِبْحُهُ كُلُّهُ لَكَ كَانَ قَرْضًا لاَ قِرَاضًا، لأَِنَّ قَوْلَهُ: خُذْهُ فَاتَّجِرْ بِهِ يَصْلُحُ لَهُمَا وَقَدْ قَرَنَ بِهِ حُكْمَ الْقَرْضِ فَانْصَرَفَ إِلَيْهِ، وَإِِنْ قَال مَعَ ذَلِكَ: وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْكَ فَهَذَا شَرْطٌ فِيهِ
_________
(١) روضة الطالبين ٥ / ١٢٢ - ١٢٤، ومغني المحتاج ٢ / ٣١٢ - ٣١٣.
(٢) حاشية ابن عابدين ٤ / ٤٨٥.
(٣) الشرح الصغير ٣ / ٦٩٢، والخرشي ٦ / ٢٠٩.
نَفْيُ الضَّمَانِ فَلاَ يَنْتَفِي بِشَرْطِهِ، كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ فَقَال: خُذْ هَذَا قَرْضًا وَلاَ ضَمَانَ عَلَيْكَ، وَإِِنْ قَال: خُذْهُ فَاتَّجِرْ بِهِ وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لِي كَانَ إِبْضَاعًا، وَإِِنْ قَال: خُذْهُ مُضَارَبَةً وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لَكَ أَوْ كُلُّهُ لِي فَهُوَ عَقْدٌ فَاسِدٌ، وَإِِلَى هَذَا ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْصَحِّ عِنْدَهُمْ.
وَفِي قَوْلٍ مُقَابِلٍ لِلأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ مَنْ قَال لِلْعَامِل: قَارَضْتُكَ عَلَى أَنَّ كُل الرِّبْحِ لَكَ فَهُوَ مُضَارَبَةٌ صَحِيحَةٌ، وَإِِنْ قَال رَبُّ الْمَال: كُل الرِّبْحِ لِي فَهُوَ إِبْضَاعٌ (١) .
خَامِسًا: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَمَل مِنَ الشُّرُوطِ:
٣١ - ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ - فِي الْجُمْلَةِ - إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْعَمَل بِالْمُضَارَبَةِ شُرُوطٌ تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ بِوُجُودِهَا، وَتَفْسُدُ إِنْ تَخَلَّفَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ أَوْ بَعْضُهَا، وَهِيَ:
أَنْ يَكُونَ الْعَمَل تِجَارَةً، وَأَنْ لاَ يُضَيِّقَ رَبُّ الْمَال عَلَى الْعَامِل فِي عَمَلِهِ، وَأَنْ لاَ يُخَالِفَ الْعَامِل مُقْتَضَى الْعَقْدِ.
تَصَرُّفَاتُ الْمُضَارِبِ
لاَ تَخْرَجُ تَصَرُّفَاتُ الْمُضَارِبِ عَنْ أَقْسَامٍ أَرْبَعَةٍ:
الأَْوَّل: مَا لَهُ عَمَلُهُ مِنْ غَيْرِ نَصٍّ عَلَيْهِ:
٣٢ - إِذَا لَمْ يُعَيِّنْ رَبُّ الْمَال لِلْمُضَارِبِ الْعَمَل أَوِ
_________
(١) المغني ٥ / ٣٥، ومغني المحتاج ٢ / ٣١٢.
الْمَكَانَ أَوِ الزَّمَانَ أَوْ صِفَةَ الْعَمَل أَوْ مَنْ يُعَامِلُهُ، بَل قَال لَهُ: خُذْ هَذَا الْمَال مُضَارَبَةً عَلَى كَذَا فَلَهُ الْبَيْعُ، وَلَهُ الاِسْتِئْجَارُ، وَلَهُ التَّوْكِيل، وَلَهُ الرَّهْنُ، وَلَهُ الإِِْبْضَاعُ، وَالإِِْحَالَةُ، لأَِنَّ كُل ذَلِكَ مِنْ عَمَل التُّجَّارِ.
بِهَذَا قَال الْحَنَفِيَّةُ (١)، وَيَقْرُبُ مِنْهُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ.
فَقَدْ صَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ لِلْعَامِل الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ بِعَرْضِ وَإِِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْمَالِكُ إِذِ الْغَرَضُ الرِّبْحُ وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ (٢) .
وَنَصَّ الْحَنَابِلَةُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْمُضَارَبَةِ حُكْمُ الشَّرِكَةِ فِيمَا لِلْعَامِل أَنْ يَفْعَلَهُ مِنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ أَوِ الْقَبْضِ وَالإِِْقْبَاضِ وَنَحْوِ ذَلِكَ (٣) .
وَإِِنْ أَطْلَقَ رَبُّ الْمَال فَلاَ خِلاَفَ عِنْدَهُمْ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ حَالًّا.
وَفِي جَوَازِ الْبَيْعِ نَسِيئَةً رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لأَِنَّهُ نَائِبٌ فِي الْبَيْعِ، فَلَمْ يَجُزْ لَهُ الْبَيْعُ نَسِيئَةً بِغَيْرِ إِذْنٍ صَرِيحٍ كَالْوَكِيل وَذَلِكَ لأَِنَّ النَّائِبَ لاَ يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ إِلاَّ عَلَى وَجْهِ الْحَظِّ وَالاِحْتِيَاطِ، وَفِي النَّسِيئَةِ تَغْرِيرٌ بِالْمَال، وَقَرِينَةُ الْحَال تُقَيِّدُ مُطْلَقَ الْكَلاَمِ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَال: بِعْهُ حَالًّا.
_________
(١) بدائع الصنائع ٦ / ٨٧ - ٩٠، وانظر الاختيار ٣ / ٢٠.
(٢) نهاية المحتاج ٥ / ٢٢٩ - ٢٣١، والمهذب ١ / ٣٨٧.
(٣) كشاف القناع ٣ / ٥١١.
وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْبَيْعُ نَسَاءً - وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ عَقِيلٍ - لأَِنَّ إِذْنَهُ فِي التِّجَارَةِ وَالْمُضَارَبَةِ يَنْصَرِفُ إِلَى التِّجَارَةِ الْمُعْتَادَةِ، وَهَذَا عَادَةُ التُّجَّارِ، وَلأَِنَّهُ يَقْصِدُ الرِّبْحَ، وَهُوَ فِي النَّسَاءِ أَكْثَرُ، وَيُفَارِقُ الْوَكَالَةَ الْمُطْلَقَةَ فَإِِنَّهَا لاَ تَخْتَصُّ بِقَصْدِ الرِّبْحِ وَإِِنَّمَا الْمَقْصُودُ تَحْصِيل الثَّمَنِ فَحَسْبُ، فَإِِذَا أَمْكَنَ تَحْصِيلُهُ مِنْ غَيْرِ خَطَرٍ كَانَ أَوْلَى (١) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ لِلْعَامِل شِرَاءَ الْمَعِيبِ إِنْ رَأَى ذَلِكَ لأَِنَّ الْمَقْصُودَ طَلَبُ الْحَظِّ، وَقَدْ يَكُونُ الرِّبْحُ فِي الْمَعِيبِ (٢) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لِلْعَامِل الرِّدُّ بِعَيْبٍ تَقْتَضِيهِ مَصْلَحَةٌ، فَإِِنِ اقْتَضَتِ الْمَصْلَحَةُ إِمْسَاكَهُ فَلاَ يَرُدُّهُ فِي الأَْصَحِّ لإِِخْلاَلِهِ بِمَقْصُودِ الْعَقْدِ (٣) .
٣٣ - وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سَفَرِ الْعَامِل بِمَال الْمُضَارَبَةِ وَالأَْصْل عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ فِي الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ - نَقَلَهُ الْبُوَيْطِيُّ - أَنَّ لِلْمُضَارِبِ السَّفَرَ بِمَال الْمُضَارَبَةِ إِنْ أَطْلَقَ رَبُّ الْمَال الإِِْذْنَ لِلْعَامِل وَلَمْ يُقَيِّدْهُ، لأَِنَّ الإِِْذْنَ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إِلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، وَهِيَ جَارِيَةٌ بِالتِّجَارَةِ
_________
(١) المغني ٥ / ٣٩ - ٤٠.
(٢) نهاية المحتاج ٥ / ٢٢٩ - ٢٣١، والمهذب ١ / ٣٨٧، والمغني ٥ / ٤٤.
(٣) المراجع السابقة.
سَفَرًا وَحَضَرًا، وَلأَِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ اسْتِنْمَاءُ الْمَال وَهَذَا الْمَقْصُودُ بِالسَّفَرِ أَوْفَرُ، وَلأَِنَّ الْعَقْدَ صَدَرَ مُطْلَقًا عَنِ الْمَكَانِ فَيَجْرِي عَلَى إِطْلاَقِهِ، وَلأَِنَّ مَأْخَذَ الاِسْمِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ لأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الضَّرْبِ فِي الأَْرْضِ وَهُوَ السَّيْرُ طَلَبًا لِلْفَضْل. فَمَلَكَ السَّفَرَ بِمُطْلَقِهَا، قَال تَعَالَى: ﴿وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَْرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْل اللَّهِ﴾ (١) .
وَنَقَل أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قَال: إِذَا دَفَعَ إِلَيْهِ الْمَال بِالْكُوفَةِ وَهُمَا مِنْ أَهْلِيهَا فَلَيْسَ لِلْعَامِل أَنْ يُسَافِرَ بِالْمَال، وَلَوْ كَانَ الدُّفَعُ فِي مِصْرٍ آخَرَ غَيْرِ الْكُوفَةِ فَلِلْمُضَارِبِ أَنْ يَخْرُجَ بِهِ حَيْثُ شَاءَ، لأَِنَّ الْمُسَافَرَةَ بِالْمَال مُخَاطَرَةٌ بِهِ فَلاَ تَجُوزُ إِلاَّ بِإِِذْنِ رَبِّ الْمَال نَصًّا أَوْ دَلاَلَةً، فَإِِذَا دَفَعَ إِلَيْهِ الْمَال فِي بَلَدِهِمَا فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِالسَّفَرِ نَصًّا وَلاَ دَلاَلَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ، وَإِِذَا دَفَعَ إِلَيْهِ فِي غَيْرِ بَلَدِهِمَا فَقَدْ وَجَدَ دَلاَلَةَ الإِِْذْنِ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْوَطَنِ، لأَِنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الإِِْنْسَانَ لاَ يَأْخُذُ الْمَال مُضَارَبَةَ وَيَتْرُكُ بَلَدَهُ، فَكَانَ دَفْعُ الْمَال فِي غَيْرِ بَلَدِهِمَا رِضًا بِالرُّجُوعِ إِلَى الْوَطَنِ فَكَانَ إِذْنًا دَلاَلَةً (٢) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: سَفَرُ الْعَامِل بِمَال الْمُضَارَبَةِ
_________
(١) سورة المزمل / ٢٠.
(٢) بدائع الصنائع ٦ / ٨٨، والشرح الصغير ٣ / ٦٩٤، وروضة الطالبين ٥ / ١٣٤، والإنصاف ٥ / ٤١٨، والمغني ٥ / ٤١.
يَجُوزُ إِنْ لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ (أَيْ لَمْ يَمْنَعْهُ) رَبُّ الْمَال قَبْل شَغْل الْمَال، فَإِِنْ حَجَرَ عَلَيْهِ قَبْل شَغْلِهِ وَلَوْ بَعْدَ الْعَقْدِ لَمْ يَجُزْ، فَإِِنْ خَالَفَ وَسَافَرَ ضَمِنَ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ خَالَفَ وَسَافَرَ بَعْدَ شَغْلِهِ إِذْ لَيْسَ لِرَبِّ الْمَال مَنْعُهُ مِنَ السَّفَرِ بَعْدَهُ (١) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: إِنْ أَذِنَ رَبُّ الْمَال فِي السَّفَرِ أَوْ نَهَى عَنْهُ أَوْ وُجِدَتْ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى أَحَدِ الأَْمْرَيْنِ تَعَيَّنَ ذَلِكَ، وَثَبَتَ مَا أَمَرَ بِهِ وَحَرُمَ مَا نَهَى عَنْهُ، وَلَيْسَ لَهُ السَّفَرُ فِي مَوْضِعٍ مَخُوفٍ عَلَى الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا، وَكَذَلِكَ لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي السَّفَرِ مُطْلَقًا لَمْ يَكُنْ لَهُ السَّفَرُ فِي طَرِيقٍ مَخُوفٍ وَلاَ إِلَى بَلَدٍ مَخُوفٍ، فَإِِنْ فَعَل فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا يَتْلَفُ، لأَِنَّهُ مُتَعَدٍّ بِفِعْل مَا لَيْسَ لَهُ فِعْلُهُ (٢) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ فِي الْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ وَهُوَ وَجْهٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ وَقَوْل أَبِي يُوسُفَ - فِي رِوَايَةِ أَصْحَابِ الإِِْمْلاَءِ عَنْهُ - أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَامِل أَنْ يُسَافِرَ بِالْمَال وَلَوْ كَانَ السَّفَرُ قَرِيبًا وَالطَّرِيقُ آمِنًا وَلاَ مُؤْنَةَ فِي السَّفَرِ بِلاَ إِذْنٍ مِنَ الْمَالِكِ، لأَِنَّ السَّفَرَ مَظِنَّةُ الْخَطَرِ.
وَقَال الشَّبْرَامَلِّسِيُّ: مَحَل امْتِنَاعِ السَّفَرِ إِلَى مَا يَقْرُبُ مِنْ بَلَدِ الْمُضَارَبَةِ إِذَا لَمْ يَعْتَدْ أَهْل بَلَدِ
_________
(١) الشرح الصغير ٣ / ٦٩٤.
(٢) المغني ٥ / ٤١، والإنصاف ٥ / ٤١٨.
الْمُضَارَبَةِ الذَّهَابَ إِلَيْهِ لِيَبِيعَ وَيَعْلَمُ الْمَالِكُ بِذَلِكَ، وَإِِلاَّ جَازَ، لأَِنَّ هَذَا بِحَسَبِ عُرْفِهِمْ يُعَدُّ مِنْ أَسْوَاقِ الْبَلَدِ.
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لَوْ ضَارَبَهُ بِمَحِل لاَ يَصْلُحُ لِلإِِْقَامَةِ - كَالْمَفَازَةِ - فَالظَّاهِرُ كَمَا قَال الأَْذْرَعِيُّ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ السَّفَرُ بِالْمَال إِلَى مَقْصِدِهِ الْمَعْلُومِ لَهُمَا، ثُمَّ لَيْسَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُحْدِثَ سَفَرًا إِلَى غَيْرِ مَحِل إِقَامَتِهِ، فَإِِنْ أَذِنَ لَهُ جَازَ بِحَسَبِ الإِِْذْنِ، وَإِِنْ أَطْلَقَ الإِِْذْنَ سَافَرَ لِمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنَ الْبِلاَدِ الْمَأْمُونَةِ، فَإِِنْ سَافَرَ بِغَيْرِ إِذْنٍ أَوْ خَالَفَ فِيمَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ ضَمِنَ وَأَثِمَ، وَلَمْ تَنْفَسِخِ الْمُضَارَبَةُ وَلَوْ عَادَ مِنَ السَّفَرِ، ثُمَّ إِنْ كَانَ الْمَتَاعُ بِالْبَلَدِ الَّذِي سَافَرَ إِلَيْهِ أَكْثَرَ قِيمَةً، أَوْ تَسَاوَتِ الْقِيمَتَانِ، صَحَّ الْبَيْعُ وَاسْتَحَقَّ نَصِيبَهُ مِنَ الرِّبْحِ وَإِِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا بِالسَّفَرِ، وَيَضْمَنُ الثَّمَنَ الَّذِي بَاعَ بِهِ مَال الْقِرَاضِ فِي سَفَرِهِ وَإِِنْ عَادَ الثَّمَنُ مِنَ السَّفَرِ، لأَِنَّ سَبَبَ الضَّمَانِ وَهُوَ السَّفَرُ لاَ يَزُول بِالْعَوْدِ، وَإِِنْ كَانَ - الْمَتَاعُ هُنَاكَ - أَقَل مِنَ الْقِيمَةِ لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ النَّقْصُ قَدْرًا يَتَغَابَنُ بِهِ.
وَقَالُوا: وَلاَ يُسَافِرُ فِي الْبَحْرِ إِلاَّ إِنْ نَصَّ لَهُ عَلَيْهِ لِخَطَرِهِ، فَلاَ يَكْفِي فِيهِ الإِِْذْنُ فِي السَّفَرِ، نَعَمْ إِنْ عَيَّنَ لَهُ بَلَدًا وَلاَ طَرِيقَ لَهُ إِلاَّ الْبَحْرُ - كَسَاكِنِ الْجَزَائِرِ الَّتِي يُحِيطُ بِهَا الْبَحْرُ - كَانَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ فِيهِ وَإِِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ وَالإِِْذْنُ
مَحْمُولٌ عَلَيْهِ، قَالَهُ الأَْذْرَعِيُّ وَغَيْرُهُ، وَالْمُرَادُ بِالْبَحْرِ الْمِلْحُ كَمَا قَالَهُ الإِِْسْنَوِيُّ، وَهَل يُلْحَقُ بِالْبَحْرِ الأَْنْهَارُ الْعَظِيمَةُ كَالنِّيل وَالْفُرَاتِ؟ قَال الأَْذْرَعِيُّ: لَمْ أَرَ فِيهِ نَصًّا، وَقَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ الأَْحْسَنُ أَنْ يُقَال: إِنْ زَادَ خَطَرُهَا عَلَى خَطَرِ الْبَرِّ لَمْ يَجُزْ إِلاَّ أَنْ يَنُصَّ عَلَيْهِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ شُهْبَةَ (١) .
الثَّانِي: مَا لَيْسَ لِلْمُضَارِبِ عَمَلُهُ إِلاَّ بِالنَّصِّ عَلَيْهِ:
٣٤ - يَنْتَظِمُ هَذَا النَّوْعُ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي لاَ تَقَعُ مِنَ التُّجَّارِ عَادَةً وَلاَ يَنْتَظِمُهُ عَقْدُ الْمُضَارَبَةِ بِإِِطْلاَقِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ الاِسْتِدَانَةُ عَلَى مَال الْمُضَارَبَةِ بِشِرَاءِ الْمُضَارِبِ شَيْئًا بِثَمَنِ دَيْنٍ لَيْسَ فِي يَدِهِ مِنْ جَنْسِهِ، فَلَوِ اسْتَدَانَ الْمُضَارِبُ كَانَ دَيْنًا عَلَيْهِ فِي مَالِهِ وَلَمْ يَجُزْ عَلَى رَبِّ الْمَال، لأَِنَّ الاِسْتِدَانَةَ إِثْبَاتُ زِيَادَةٍ فِي رَأْسِ الْمَال مِنْ غَيْرِ رِضَا رَبِّ الْمَال، وَفِيهِ إِثْبَاتُ زِيَادَةِ ضَمَانِ عَلَى رَبِّ الْمَال مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ؛ لأَِنَّ ثَمَنَ الْمُشْتَرِي بِرَأْسِ الْمَال فِي الْمُضَارَبَةِ مَضْمُونٌ عَلَى رَبِّ الْمَال، بِدَلِيل أَنَّ الْمُضَارِبَ لَوِ اشْتَرَى بِرَأْسِ الْمَال ثُمَّ هَلَكَ الْمُشْتَرَى قَبْل التَّسْلِيمِ فَإِِنَّ الْمُضَارِبَ يَرْجِعُ إِلَى
_________
(١» مغني المحتاج ٢ / ٣١٧، ونهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي ٥ / ٣٢ - ٢٣٥، وروضة الطالبين ٥ / ١٣٤، وبدائع الصنائع ٦ / ٨٨، والإنصاف ٥ / ٤١٨، والمغني ٥ / ٤١.
رَبِّ الْمَال بِمِثْلِهِ، فَلَوْ جَوَّزْنَا الاِسْتِدَانَةَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ لأَلْزَمَنَاهُ زِيَادَةَ ضَمَانٍ لَمْ يَرْضَ بِهِ وَهَذَا لاَ يَجُوزُ، وَكَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ الاِسْتِدَانَةُ عَلَى إِصْلاَحِ مَال الْمُضَارَبَةِ.
وَإِِذَا أَذِنَ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَسْتَدِينَ عَلَى مَال الْمُضَارَبَةِ جَازَ لَهُ الاِسْتِدَانَةُ، وَمَا يَسْتَدِينُهُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا شَرِكَةَ وُجُوهٍ، وَلاَ يَأْخُذُ الْمُضَارِبُ سَفْتَجَةً لأَِنَّ أَخْذَهَا اسْتِدَانَةٌ وَهُوَ لاَ يَمْلِكُهَا إِلاَّ بِالنَّصِّ عَلَيْهَا، وَكَذَا لاَ يُعْطَى سَفْتَجَةً لأَِنَّ إِعْطَاءَهَا إِقْرَاضٌ وَهُوَ لاَ يَمْلِكُهُ إِلاَّ بِالنَّصِّ عَلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِمَا لاَ يَتَغَابَنُ بِهِ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ وَإِِنْ قَال لَهُ: اعْمَل بِرَأْيِكَ، وَلَوِ اشْتَرَى يَصِيرُ مُخَالِفًا لأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ تَوْكِيلٌ بِالشِّرَاءِ، وَالتَّوْكِيل بِالشِّرَاءِ مُطْلَقًا يَنْصَرِفُ إِلَى الْمُتَعَارَفِ، وَهُوَ مَا يَكُونُ بِمِثْل الْقِيمَةِ أَوْ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ، وَلأَِنَّ الشِّرَاءَ بِمَا لاَ يَتَغَابَنُ فِي مِثْلِهِ مُحَابَاةٌ، وَالْمُحَابَاةُ تَبَرُّعٌ، وَالتَّبَرُّعُ لاَ يَدْخُل فِي عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ، هَذَا مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ (١) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لِلْعَامِل أَنْ يُشَارِكَ بِإِِذْنِ رَبِّ الْمَال، أَوْ يَخْلِطَ الْمَال بِمَالِهِ أَوْ بِمَال قِرَاضٍ عِنْدَهُ، وَلِلْعَامِل الإِِْبْضَاعُ بِإِِذْنِ رَبِّ الْمَال، وَإِِذَا شَارَكَ الْعَامِل فِي مَال الْمُضَارَبَةِ غَيْرَهُ بِغَيْرِ إِذْنِ رَبِّ الْمَال فَإِِنَّهُ يَضْمَنُ، لأَِنَّ رَبَّ الْمَال لَمْ يَسْتَأْمِنْ غَيْرَهُ.
_________
(١) بدائع الصنائع ٦ / ٩٠.
وَلاَ يَجُوزُ لِلْعَامِل أَنْ يَشْتَرِيَ سِلَعًا لِلْمُضَارَبَةِ بِنَسِيئَةِ وَإِِنْ أَذِنَ لَهُ رَبُّ الْمَال فِي ذَلِكَ.
قَال الصَّاوِيُّ: إِنَّمَا مُنِعَ ذَلِكَ لأَِكْل رَبِّ الْمَال رِبْحَ مَا لَمْ يُضْمَنْ وَنَهْيِ النَّبِيِّ ﷺ عَنْهُ (١)، ثُمَّ إِنَّ الْمَنْعَ مُقَيَّدٌ بِمَا إِذَا كَانَ الْعَامِل غَيْرَ مُدِيرٍ، وَأَمَّا الْمُدِيرُ فَلَهُ الشِّرَاءُ لِلْمُضَارَبَةِ بِالدَّيْنِ كَمَا فِي سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ (٢) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَتَّجِرُ الْعَامِل إِلاَّ فِيمَا أَذِنَ فِيهِ رَبُّ الْمَال، فَإِِنْ أَذِنَ لَهُ فِي صِنْفٍ لَمْ يَتَّجِرْ فِي غَيْرِهِ لأَِنَّ تَصَرُّفَهُ بِالإِِْذْنِ فَلَمْ يَمْلِكْ مَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيهِ.
وَلاَ يَشْتَرِي الْعَامِل لِلْمُضَارَبَةِ بِأَكْثَرِ مِنْ رَأْسِ الْمَال وَرِبْحِهِ إِلاَّ بِإِِذْنِ الْمَالِكِ، لأَِنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِأَنْ يَشْغَل الْعَامِل ذِمَّتَهُ إِلاَّ بِذَلِكَ، فَإِِنْ فَعَل لَمْ يَقَعِ الزَّائِدُ لِجِهَةِ الْمُضَارَبَةِ (٣) .
وَلَوْ ضَارَبَ الْعَامِل شَخْصًا آخَرَ بِإِِذْنِ الْمَالِكِ لِيُشَارِكَهُ فِي الْعَمَل وَالرِّبْحِ لَمْ تَجُزْ فِي الأَْصَحِّ، لأَِنَّ الْمُضَارَبَةَ عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ، وَمَوْضُوعُهَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ مَالِكًا لاَ عَمَل لَهُ
_________
(١) حديث: " نهى عن ربح ما لم يضمن ". أخرجه الترمذي (٣ / ٥٢٧) من حديث عبد الله بن عمرو، وقال: حديث حسن صحيح.
(٢) الشرح الصغير ٣ / ٦٩٥ - ٦٩٨.
(٣) المهذب ١ / ٣٨٦ - ٣٨٧، ومغني المحتاج ٢ / ٣١٦.