الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٣٦
فَرْضٌ عِنْدَهُمْ (١) .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ إِيصَال الْمَاءِ إِلَى الْمَارِنِ دَاخِل الأَْنْفِ سُنَّةٌ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْل (٢) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: لاَ يَجِبُ فِي الْوُضُوءِ غَسْل دَاخِل الأَْنْفِ قَطْعًا، وَلَكِنْ يَجِبُ غَسْل ذَلِكَ إِنْ تَنَجَّسَ (٣) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: يَجِبُ الاِسْتِنْشَاقُ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْل، وَهُوَ اجْتِذَابُ الْمَاءِ بِالنَّفَسِ إِلَى بَاطِنِ الأَْنْفِ، وَلاَ يَجِبُ إِيصَال الْمَاءِ إِلَى جَمِيعِ بَاطِنِ الأَْنْفِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مُبَالَغَةٌ مُسْتَحَبَّةٌ فِي حَقِّ غَيْرِ الصَّائِمِ (٤) .
دِيَةُ الْمَارِنِ
٥ - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَارِنَ إِذَا قُطِعَ مِنَ الأَْنْفِ فِي غَيْرِ عَمْدٍ فَفِيهِ دِيَةٌ كَامِلَةٌ لِخَبَرِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فِي الأَْنْفِ إِذَا أُوعِبَ جَدْعُهُ الدِّيَةُ (٥) "، وَلأَِنَّ فِيهِ جَمَالًا وَمَنْفَعَةً زَالَتَا بِالْقَطْعِ فَوَجَبَتِ الدِّيَةُ الْكَامِلَةُ (٦) .
_________
(١) مراقي الفلاح ص٣٧، ٣٨، والفتاوى الهندية ١ / ١٣.
(٢) مواهب الجليل ١ / ٢٤٥، ٢٤٦، والذخيرة ١ / ٣٠٩.
(٣) مغني المحتاج ١ / ٥٠.
(٤) المغني ١ / ١١٨، ١٢٠.
(٥) حديث: " في الأنف إذا أوعب جدعه الدية ". أخرجه النسائي (٨ / ٥٨) من حديث عمرو بن حزم، ونقل ابن حجر في التلخيص (٤ / ١٨) تصحيحه عن جماعة من العلماء.
(٦) بدائع الصنائع ٧ / ٣١١، وحاشية الدسوقي ٤ / ٢٧٢، ومواهب الجليل ٦ / ٢٦١، ومغني المحتاج ٤ / ٦٢، والمغني ٨ / ١٢ - ١٣، وكشاف القناع ٦ / ٣٧.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (دِيَاتٌ ف ٣٥) .
الْقِصَاصُ فِي الْمَارِنِ
٦ - الْجِنَايَةُ عَلَى الْمَارِنِ عَمْدًا مُوجِبَةٌ لِلْقِصَاصِ عِنْدَ الأَْئِمَّةِ الأَْرْبَعَةِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالأَْنْفَ بِالأَْنْفِ﴾ (١) .
وَلأَِنَّ اسْتِيفَاءَ الْمِثْل فِيهِ مُمْكِنٌ؛ لأَِنَّ لَهُ حَدًّا مَعْلُومًا وَهُوَ مَا لاَنَ مِنْهُ (٢) .
وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ يُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ (جِنَايَةٌ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ ف ٢٠) .
هَل انْفِرَاقُ أَرْنَبَةِ الْمَارِنِ مِنْ عَلاَمَاتِ الْبُلُوغِ؟
٧ - ذَكَرَ الْمَالِكِيَّةُ أَنَّ مِنْ عَلاَمَاتِ الْبُلُوغِ فِي الذَّكَرِ وَالأُْنْثَى فَرْقُ أَرْنَبَةِ الْمَارِنِ (٣) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ انْفِرَاقَ الأَْرْنَبَةِ لَيْسَ مِنْ عَلاَمَاتِ الْبُلُوغِ (٤) .
وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ (بُلُوغٌ ف ١٦) .
_________
(١) سورة المائدة / ٤٥.
(٢) حاشية ابن عابدين ٥ / ٣٥٤، وبدائع الصنائع ٧ / ٣٠٨، وشرح منح الجليل ٤ / ٣٦٦، ونهاية المحتاج ٧ / ٢٨٤، والمغني ٧ / ٧١٢.
(٣) شرح الزرقاني على خليل ٥ / ٢٩١، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير ٣ / ٢٦٤، ومواهب الجليل ٥ / ٥٩.
(٤) الجمل على شرح المنهج ٣ / ٣٣٩، والقليوبي وعميرة ٢ / ٣٠٠، ونهاية المحتاج ٤ / ٣٤٨.
مَالٌ
التَّعْرِيفُ:
١ - يُطْلَقُ الْمَال فِي اللُّغَةِ: عَلَى كُل مَا تَمَلَّكَهُ الإِْنْسَانُ مِنَ الأَْشْيَاءِ (١) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعْرِيفِ الْمَال ذَلِكَ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
عَرَّفَ فُقَهَاءُ الْحَنَفِيَّةِ الْمَال بِتَعْرِيفَاتٍ عَدِيدَةٍ، فَقَال ابْنُ عَابِدِينَ: الْمُرَادُ بِالْمَال مَا يَمِيل إِلَيْهِ الطَّبْعُ، وَيُمْكِنُ ادِّخَارُهُ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ.
وَالْمَالِيَّةُ تَثْبُتُ بِتَمَوُّل النَّاسِ كَافَّةً أَوْ بَعْضِهِمْ (٢) .
وَعَرَّفَ الْمَالِكِيَّةُ الْمَال بِتَعْرِيفَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَقَال الشَّاطِبِيُّ: هُوَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْمِلْكُ، وَيَسْتَبِدُّ بِهِ الْمَالِكُ عَنْ غَيْرِهِ إِذَا أَخَذَهُ مِنْ وَجْهِهِ (٣) . وَقَال ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هُوَ مَا تَمْتَدُّ إِلَيْهِ الأَْطْمَاعُ، وَيَصْلُحُ عَادَةً وَشَرْعًا لِلاِنْتِفَاعِ
_________
(١) المغرب، والمصباح، والمغني في الإنباء عن غريب المهذب والأسماء لابن باطيش ١ / ٤٤٧.
(٢) رد المحتار ٤ / ٣.
(٣) الموافقات ٢ / ١٠.
بِهِ (١) . وَقَال عَبْدُ الْوَهَّابِ الْبَغْدَادِيُّ: هُوَ مَا يُتَمَوَّل فِي الْعَادَةِ وَيَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ (٢) .
وَعَرَّفَ الزَّرْكَشِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ الْمَال بِأَنَّهُ مَا كَانَ مُنْتَفَعًا بِهِ، أَيْ مُسْتَعِدًّا لأَِنْ يُنْتَفَعَ بِهِ (٣) . وَحَكَى السُّيُوطِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَال: لاَ يَقَعُ اسْمُ الْمَال إِلاَّ عَلَى مَا لَهُ قِيمَةٌ يُبَاعُ بِهَا، وَتَلْزَمُ مُتْلِفَهُ، وَإِنْ قَلَّتْ، وَمَا لاَ يَطْرَحُهُ النَّاسُ، مِثْل الْفَلْسِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ (٤) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ: الْمَال شَرْعًا مَا يُبَاحُ نَفْعُهُ مُطْلَقًا، أَيْ فِي كُل الأَْحْوَال، أَوْ يُبَاحُ اقْتِنَاؤُهُ بِلاَ حَاجَةٍ (٥) .
مَا اخْتُلِفَ فِي مَالِيَّتِهِ:
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَالِيَّةِ الْمَنَافِعِ كَمَا تَبَايَنَتْ أَنْظَارُهُمْ حَوْل مَالِيَّةِ الدُّيُونِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِيمَا يَلِي:
أ - مَالِيَّةُ الْمَنَافِعِ:
٢ - الْمَنَافِعُ: جَمْعُ مَنْفَعَةٍ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ: سُكْنَى الدَّارِ وَلُبْسُ الثَّوْبِ وَرُكُوبُ الدَّابَّةِ (٦) .
_________
(١) أحكام القرآن لابن العربي ٢ / ٦٠٧.
(٢) الإشراف على مسائل الخلاف للقاضي عبد الوهاب ٢ / ٢٧١.
(٣) المنثور في القواعد للزركشي ٣ / ٢٢٢.
(٤) الأشباه والنظائر للسيوطي ص٣٢٧.
(٥) شرح منتهى الإرادات ٢ / ١٤٢.
(٦) مغني المحتاج ٢ / ٣٧٧.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَالِيَّتِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا لِلْحَنَفِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّ الْمَنَافِعَ لَيْسَتْ أَمْوَالًا مُتَقَوِّمَةً فِي حَدِّ ذَاتِهَا؛ لأَِنَّ صِفَةَ الْمَالِيَّةِ لِلشَّيْءِ إِنَّمَا تَثْبُتُ بِالتَّمَوُّل، وَالتَّمَوُّل يَعْنِي صِيَانَةَ الشَّيْءِ وَادِّخَارَهُ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ، وَالْمَنَافِعُ لاَ تَبْقَى زَمَانَيْنِ، لِكَوْنِهَا أَعْرَاضًا، فَكُلَّمَا تَخْرُجُ مِنْ حَيِّزِ الْعَدَمِ إِلَى حَيِّزِ الْوُجُودِ تَتَلاَشَى، فَلاَ يُتَصَوَّرُ فِيهَا التَّمَوُّل.
غَيْرَ أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَعْتَبِرُونَ الْمَنَافِعَ أَمْوَالًا مُتَقَوِّمَةً إِذَا وَرَدَ عَلَيْهَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، كَمَا فِي الإِْجَارَةِ، وَذَلِكَ عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ، وَمَا كَانَ عَلَى خِلاَفِ الْقِيَاسِ فَغَيْرُهُ عَلَيْهِ لاَ يُقَاسُ (١) .
وَالثَّانِي لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ: وَهُوَ أَنَّ الْمَنَافِعَ أَمْوَالٌ بِذَاتِهَا؛ لأَِنَّ الأَْعْيَانَ لاَ تُقْصَدُ لِذَاتِهَا، بَل لِمَنَافِعِهَا، وَعَلَى ذَلِكَ أَعْرَافُ النَّاسِ وَمُعَامَلاَتُهُمْ.
وَلأَِنَّ الشَّرْعَ قَدْ حَكَمَ بِكَوْنِ الْمَنْفَعَةِ مَالًا عِنْدَمَا جَعَلَهَا مُقَابَلَةً بِالْمَال فِي عَقْدِ الإِْجَارَةِ، وَهُوَ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ، وَكَذَا عِنْدَمَا أَجَازَ جَعْلَهَا مَهْرًا فِي عَقْدِ النِّكَاحِ، وَلأَِنَّ فِي عَدَمِ اعْتِبَارِهَا أَمْوَالًا تَضْيِيعًا لِحُقُوقِ
_________
(١) المبسوط ١١ / ٧٨، ٧٩، وتبيين الحقائق ٥ / ٢٣٤، وكشف الأسرار عن أصول البزدوي ١ / ١٧٢، وفتح الغفار شرح المنار لابن نجيم ١ / ٥٢.
النَّاسِ وَإِغْرَاءً لِلظَّلَمَةِ فِي الاِعْتِدَاءِ عَلَى مَنَافِعِ الأَْعْيَانِ الَّتِي يَمْلِكُهَا غَيْرُهُمْ، وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْفَسَادِ وَالْجَوْرِ مَا يُنَاقِضُ مَقَاصِدَ الشَّرِيعَةِ وَعَدَالَتَهَا.
وَقَال الشِّرْبِينِيُّ الْخَطِيبُ: الْمَنَافِعُ لَيْسَتْ أَمْوَالًا عَلَى الْحَقِيقَةِ، بَل عَلَى ضَرْبٍ مِنَ التَّوَسُّعِ وَالْمَجَازِ، بِدَلِيل أَنَّهَا مَعْدُومَةٌ لاَ قُدْرَةَ عَلَيْهَا (١) .
ب - مَالِيَّةُ الدُّيُونِ:
٣ - الدَّيْنُ فِي الاِصْطِلاَحِ الْفِقْهِيِّ هُوَ لُزُومُ حَقٍّ فِي الذِّمَّةِ (٢) . وَقَدْ يَكُونُ مَحَلُّهُ مَالًا كَمَا أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ عَمَلًا أَوْ عِبَادَةً كَصَوْمِ وَصَلاَةٍ وَحَجٍّ وَغَيْرِ ذَلِكَ. (ر: دَيْنٌ ف ٣٧، دَيْنُ اللَّهِ ف ٣) .
وَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ الْحَقَّ الْوَاجِبَ فِي الذِّمَّةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَالِيًّا، فَإِنَّهُ لاَ يُعْتَبَرُ مَالًا، وَلاَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِهِ.
أَمَّا إِذَا كَانَ الدَّيْنُ الشَّاغِل لِلذِّمَّةِ مَالِيًّا، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي اعْتِبَارِهِ مَالًا حَقِيقَةً، وَذَلِكَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا لِلْحَنَفِيَّةِ: وَهُوَ أَنَّ الدَّيْنَ فِي الذِّمَّةِ
_________
(١) روضة الطالبين ٥ / ١٢، ١٣، ومغني المحتاج ٢ / ٢، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير ٣ / ٤٤٢، والمنثور في القواعد للزركشي ٣ / ١٩٧، ٢٢٢، وتخريج الفروع على الأصول للزنجاني ص ٢٢٥، والمغني مع الشرح الكبير ٦ / ٣.
(٢) فتح الغفار لابن نجيم ٣ / ٢٠.
لَيْسَ مَالًا حَقِيقِيًّا؛ إِذْ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ وَصْفٍ شَاغِلٍ لِلذِّمَّةِ، وَلاَ يُتَصَوَّرُ قَبْضُهُ حَقِيقَةً، وَلَكِنْ نَظَرًا لِصَيْرُورَتِهِ مَالًا فِي الْمَآل سُمِّيَ مَالًا مَجَازًا (١) .
وَالثَّانِي قَال الزَّرْكَشِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ: الدَّيْنُ: هَل هُوَ مَالٌ فِي الْحَقِيقَةِ أَوْ هُوَ حَقُّ مُطَالَبَةٍ يَصِيرُ مَالًا فِي الْمَآل؟ فِيهِ طَرِيقَانِ حَكَاهُمَا الْمُتَوَلِّي، وَوَجْهُ الأَْوَّل: أَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ حُكْمُ الْيَسَارِ حَتَّى تَلْزَمَهُ نَفَقَةُ الْمُوسِرِينَ وَكَفَّارَتُهُمْ وَلاَ تَحِل لَهُ الصَّدَقَةُ.
وَوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَالِيَّةَ مِنْ صِفَاتِ الْمَوْجُودِ، وَلَيْسَ هَهُنَا شَيْءٌ مَوْجُودٌ، قَال: وَإِنَّمَا اسْتُنْبِطَ هَذَا مِنْ قَوْل الشَّافِعِيِّ: فَمَنْ مَلَكَ دُيُونًا عَلَى النَّاسِ، هَل تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ؟ الْمَذْهَبُ الْوُجُوبُ، وَفِي الْقَدِيمِ قَوْلٌ أَنَّهَا لاَ تَجِبُ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ فُرُوعٌ.
مِنْهَا: هَل يَجُوزُ بَيْعُ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ؟ إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مَالٌ جَازَ، أَوْ حَقٌّ فَلاَ؛ لأَِنَّ الْحُقُوقَ لاَ تَقْبَل النَّقْل إِلَى الْغَيْرِ. وَمِنْهَا: أَنَّ الإِْبْرَاءَ عَنِ الدَّيْنِ إِسْقَاطٌ أَوْ تَمْلِيكٌ؟ وَمِنْهَا: حَلَفَ لاَ مَال لَهُ، وَلَهُ دَيْنٌ حَالٌّ عَلَى مَلِيءٍ، حَنِثَ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَكَذَا الْمُؤَجَّل، أَوْ عَلَى الْمُعْسِرِ فِي الأَْصَحِّ (٢) .
_________
(١) الأشباه والنظائر لابن نجيم ص٣٥٤، وبدائع الصنائع ٥ / ٣٢٤.
(٢) المنثور في القواعد للزركشي ٢ / ١٦٠، ١٦١.
أَقْسَامُ الْمَال:
قَسَّمَ الْفُقَهَاءُ الْمَال تَقْسِيمَاتٍ كَثِيرَةً بِحَسَبِ الاِعْتِبَارَاتِ الْفِقْهِيَّةِ الْمُتَعَدِّدَةِ، وَذَلِكَ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي:
أ - بِالنَّظَرِ إِلَى التَّقَوُّمِ:
٤ - لَمْ يَجْعَل الْحَنَفِيَّةُ مِنْ عَنَاصِرِ الْمَالِيَّةِ إِبَاحَةَ الاِنْتِفَاعِ شَرْعًا، وَاكْتَفَوْا بِاشْتِرَاطِ الْعَيْنِيَّةِ وَالاِنْتِفَاعِ الْمُعْتَادِ وَتَمَوُّل النَّاسِ فِي اعْتِبَارِ الشَّيْءِ مَالًا، وَقَدْ حَدَاهُمُ الْتِزَامُ هَذَا الْمَفْهُومِ لِلْمَال إِلَى تَقْسِيمِهِ إِلَى قِسْمَيْنِ: مُتَقَوِّمٍ، وَغَيْرِ مُتَقَوِّمٍ. فَالْمَال الْمُتَقَوِّمُ عِنْدَهُمْ: هُوَ مَا يُبَاحُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ شَرْعًا فِي حَالَةِ السَّعَةِ وَالاِخْتِيَارِ.
وَالْمَال غَيْرُ الْمُتَقَوِّمِ: هُوَ مَا لاَ يُبَاحُ الاِنْتِفَاعُ بِهِ فِي حَالَةِ الاِخْتِيَارِ، كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُسْلِمِ. أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلذِّمِّيِّينَ فَهِيَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ؛ لأَِنَّهُمْ لاَ يَعْتَقِدُونَ حُرْمَتَهَا ويَتَمَوَّلُونَها، وَقَدْ أُمِرْنَا بِتَرْكِهِمْ وَمَا يَدِينُونَ (١) .
وَقَدْ بَنَوْا عَلَى ذَلِكَ التَّقْسِيمِ: أَنَّ مَنِ اعْتَدَى عَلَى مَالٍ مُتَقَوِّمٍ ضَمِنَهُ، أَمَّا غَيْرُ الْمُتَقَوِّمِ فَالْجِنَايَةُ عَلَيْهِ هَدَرٌ، وَلاَ يَلْزَمُ مُتْلِفَهُ ضَمَانٌ. كَمَا أَنَّ إِجَازَةَ التَّصَرُّفِ الشَّرْعِيِّ بِالْمَال مَنُوطَةٌ بِتَقَوُّمِهِ، فَالْمَال الْمُتَقَوِّمُ يَصِحُّ التَّصَرُّفُ فِيهِ
_________
(١) منحة الخالق على البحر الرائق ٥ / ٢٧٧، تبيين الحقائق ٥ / ٢٣٥ المبسوط ١٣ / ٢٥.
بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ وَالرَّهْنِ وَغَيْرِهَا.
أَمَّا غَيْرُ الْمُتَقَوِّمِ فَلاَ يَصِحُّ التَّصَرُّفُ فِيهِ شَرْعًا بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ وَنَحْوِهَا.
عَلَى أَنَّهُ لاَ تَلاَزُمَ بَيْنَ التَّقَوُّمِ بِهَذَا الْمَعْنَى وَبَيْنَ الْمَالِيَّةِ فِي نَظَرِ الْحَنَفِيَّةِ، فَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ مُتَقَوِّمًا، أَيْ مُبَاحَ الاِنْتِفَاعِ، وَلاَ يَكُونُ مَالًا، لِفُقْدَانِ أَحَدِ عَنَاصِرِ الْمَالِيَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عِنْدَهُمْ، وَذَلِكَ كَالْحَبَّةِ مِنَ الْقَمْحِ وَالْكِسْرَةِ الصَّغِيرَةِ مِنْ فُتَاتِ الْخُبْزِ وَالتُّرَابِ الْمُبْتَذَل وَنَحْوِ ذَلِكَ.
نَقَل ابْنُ نُجَيْمٍ عَنِ الْكَشْفِ الْكَبِيرِ: الْمَالِيَّةُ تَثْبُتُ بِتَمَوُّل النَّاسِ كَافَّةً أَوْ بَعْضِهِمْ، وَالتَّقَوُّمُ يَثْبُتُ بِهَا وَبِإِبَاحَةِ الاِنْتِفَاعِ بِهِ شَرْعًا، فَمَا يُبَاحُ بِلاَ تَمَوُّلٍ لاَ يَكُونُ مَالًا، كَحَبَّةِ حِنْطَةٍ، وَمَا يَتَمَوَّل بِلاَ إِبَاحَةِ انْتِفَاعٍ لاَ يَكُونُ مُتَقَوِّمًا كَالْخَمْرِ، وَإِذَا عُدِمَ الأَْمْرَانِ لَمْ يَثْبُتْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا كَالدَّمِ.
قَال ابْنُ عَابِدِينَ: وَحَاصِلُهُ أَنَّ الْمَال أَعَمُّ مِنَ الْمُتَقَوِّمِ؛ لأَِنَّ الْمَال مَا يُمْكِنُ ادِّخَارُهُ وَلَوْ غَيْرَ مُبَاحٍ كَالْخَمْرِ، وَالْمُتَقَوِّمُ مَا يُمْكِنُ ادِّخَارُهُ مَعَ الإِْبَاحَةِ، فَالْخَمْرُ مَالٌ لاَ مُتَقَوِّمٌ (١) .
وَيَرَى الْحَنَفِيَّةُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ عَدَمَ التَّقَوُّمِ لاَ يُنَافِي الْمِلْكِيَّةَ، فَقَدْ تَثْبُتُ الْمِلْكِيَّةُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى مَالٍ غَيْرِ مُتَقَوِّمٍ، كَمَا لَوْ تَخَمَّرَ
_________
(١) رد المحتار ٤ / ٣، وانظر البحر الرائق ٥ / ٢٧٧