الموسوعة الفقهية الكويتية المجلد ٣٥
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الرِّدَّةُ:
٢ - الرِّدَّةُ لُغَةً: الرُّجُوعُ عَنِ الشَّيْءِ.
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: هِيَ كُفْرُ الْمُسْلِمِ بِقَوْلٍ صَرِيحٍ أَوْ لَفْظٍ يَقْتَضِيهِ أَوْ فِعْلٍ يَتَضَمَّنُهُ (١) .
وَالْكُفْرُ أَعَمُّ مِنَ الرِّدَّةِ، لأَِنَّهُ قَدْ يَكُونُ كُفْرًا أَصْلِيًّا بِخِلاَفِ الرِّدَّةِ.
ب - الإِْشْرَاكُ:
٣ - الإِْشْرَاكُ مَصْدَرُ أَشْرَكَ، وَهُوَ: اتِّخَاذُ الشَّرِيكِ، يُقَال: أَشْرَكَ بِاللَّهِ، جَعَل لَهُ شَرِيكًا فِي مُلْكِهِ. وَالاِسْمُ: الشِّرْكُ (٢) .
وَالْفُقَهَاءُ يَسْتَعْمِلُونَ الإِْشْرَاكَ بِمَعْنَى الاِشْتِرَاكِ فِي الْمُعَامَلاَتِ، وَبِمَعْنَى الْكُفْرِ بِاللَّهِ تَعَالَى (٣) .
وَالإِْشْرَاكُ أَعَمُّ مِنَ الْكُفْرِ، لأَِنَّهُ يَشْمَل الإِْشْرَاكَ فِي الْمُعَامَلاَتِ وَيَشْمَل الْكُفْرَ بِاللَّهِ تَعَالَى.
ج - الإِْلْحَادُ:
٤ - الإِْلْحَادُ فِي اللُّغَةِ: الْمَيْل وَالْعُدُول عَنِ الشَّيْءِ (٤) .
وَفِي الاِصْطِلاَحِ: قَال ابْنُ عَابِدِينَ:
_________
(١) لسان العرب، والصحاح والخرشي ٨ / ٦٢، والقليوبي ٤ / ١٧٤.
(٢) لسان العرب والمصباح المنير.
(٣) حاشية الجمل ٣ / ١٧٧، ١٧٩، ٤ / ١٩٩، والفواكه الدواني ١ / ٩١.
(٤) المصباح المنير.
الإِْلْحَادُ فِي الدِّينِ: هُوَ الْمَيْل عَنِ الشَّرْعِ الْقَوِيمِ إِلَى جِهَةٍ مِنْ جِهَاتِ الْكُفْرِ.
وَمِنَ الإِْلْحَادِ: الطَّعْنُ فِي الدِّينِ مَعَ ادِّعَاءِ الإِْسْلاَمِ، أَوِ التَّأْوِيل فِي ضَرُورَاتِ الدِّينِ لإِجْرَاءِ الأَْهْوَاءِ (١) .
وَالصِّلَةُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالإِْلْحَادِ:
أَنَّ الإِْلْحَادَ قَدْ يَكُونُ نَوْعًا مِنَ الْكُفْرِ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
٥ - الْكُفْرُ حَرَامٌ وَهُوَ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ (٢) قَال اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ (٣)، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُول اللَّهِ ﷺ قَال: أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ الإِْشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ (٤) .
جَزَاءُ الْكَافِرِ فِي الآْخِرَةِ وَالدُّنْيَا:
٦ - جَزَاءُ الْكَافِرِ فِي الآْخِرَةِ الْخُلُودُ فِي النَّارِ لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ (٥) .
_________
(١) الدر المختار وحاشية ابن عابدين ٣ / ٢٩٦.
(٢) المستصفى ١ / ٩٩، والزواجر لابن حجر ١ / ٢٤، والفواكه الدواني ١ / ٩١.
(٣) سورة لقمان / ١٣.
(٤) حديث: " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري ١٠ / ٤٠٥)، ومسلم (١ / ٩١) من حديث أبي بكرة
(٥) سورة التغابن / ١٠.
وَأَمَّا فِي الدُّنْيَا فَيَخْتَلِفُ حُكْمُ الْكَافِرِ فِي حَالَةِ الْعَهْدِ عَنْهُ فِي غَيْرِ حَالَةِ الْعَهْدِ:
فَفِي غَيْرِ حَالَةِ الْعَهْدِ يَجُوزُ قَتْل الْمُقَاتِلِينَ مِنَ الْكُفَّارِ، لأَِنَّ كُل مَنْ يُقَاتِل يَجُوزُ قَتْلُهُ.
(ر: أَهْل الْحَرْبِ ف ١١)
وَلاَ يَجُوزُ قَتْل النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَالْخُنْثَى الْمُشْكِل بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ، وَكَذَلِكَ لاَ يَجُوزُ قَتْل الشُّيُوخِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ.
وَصَرَّحَ الْحَنَابِلَةُ بِأَنَّ الْفَلاَّحَ الَّذِي لاَ يُقَاتِل لاَ يَنْبَغِي أَنْ يُقْتَل لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ ﵁ أَنَّهُ قَال: (اتَّقُوا اللَّهَ فِي الْفَلاَّحِينَ الَّذِينَ لاَ يَنْصِبُونَ لَكُمُ الْحَرْبَ) وَقَال الأَْوْزَاعِيُّ: لاَ يُقْتَل الْحَرَّاثُ إِذَا عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ (١) .
(ر: جِهَادٌ ف ٢٩) .
وَأَمَّا فِي حَالَةِ الْعَهْدِ فَيُعْصَمُ دَمُ الْكَافِرِ وَمَالُهُ بِتَفْصِيلٍ فِي مُصْطَلِحَاتِ (أَهْل الذِّمَّةِ، مُسْتَأْمَنٌ، هُدْنَةٌ) .
الإِْكْرَاهُ عَلَى الْكُفْرِ:
٧ - مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ فَأَتَى بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لَمْ يَصِرْ كَافِرًا لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى: ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ
_________
(١) المغني ٨ / ٤٧٩.
مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (١) .
وَوَرَدَ أَنَّ عَمَّارًا ﵁ أَخَذَهُ الْمُشْرِكُونَ فَلَمْ يَتْرُكُوهُ حَتَّى سَبَّ النَّبِيَّ ﷺ، وَذَكَرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ ﷺ فَأَخْبَرَهُ فَقَال لَهُ النَّبِيُّ: إِنْ عَادُوا فَعُدْ (٢) قَال ابْنُ قُدَامَةَ: وَرُوِيَ أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يُعَذِّبُونَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلاَّ أَجَابَهُمْ إِلاَّ بَلاَلًا فَإِنَّهُ كَانَ يَقُول: أَحَدٌ أَحَدٌ (٣)، وَقَال النَّبِيُّ ﷺ: إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ (٤)، وَلأَِنَّهُ قَوْلٌ أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَمْ يَثْبُتْ حُكْمُهُ، كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الإِْقْرَارِ (٥) .
وَهَذَا أَصْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، إِلاَّ أَنَّ لِلْفُقَهَاءِ تَفْصِيلاَتٍ وَقُيُودًا تَخْتَلِفُ مِنْ مَذْهَبٍ إِلَى مَذْهَبٍ وَبَيَانُهَا كَمَا يَأْتِي:
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الإِْكْرَاهَ عَلَى الْكُفْرِ
_________
(١) سورة النحل / ١٠٦.
(٢) حديث: " أن عمارًا أخذه المشركون. . . ". أخرجه الحاكم (٢ / ٣٥٧) وصححه ووافقه الذهبي.
(٣) حديث: " تعذيب بلال وقوله: أحد أحد. . . ". أخرجه البيهقي في السنن (٨ / ٢٠٩) .
(٤) حديث: " إن الله وضع عن أمتي الخطأ. . . ". أخرجه ابن ماجه (١ / ٦٥٩)، والحاكم (٢ / ١٩٨) واللفظ لابن ماجه، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(٥) المغني ٨ / ١٤٥ - ١٤٦، والبدائع ٧ / ١٧٦ - ١٧٧، والدردير مع الدسوقي ٢ / ٣٦٩، والشبراملسي مع نهاية المحتاج ٧ / ٢٤٧، وأسنى المطالب ٤ / ٩.
لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ إِكْرَاهًا تَامًّا (١)، جَاءَ فِي الْهِدَايَةِ وَشُرُوحِهَا:
إِنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ بِاللَّهِ تَعَالَى - وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ - أَوْ سَبَّ رَسُول اللَّهِ ﷺ بِقَيْدٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ ضَرْبٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِكْرَاهًا حَتَّى يُكْرَهَ بِأَمْرٍ يَخَافُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، فَإِذَا خَافَ عَلَى ذَلِكَ وَسِعَهُ أَنْ يُظْهِرَ مَا أُمِرَ بِهِ (٢) .
وَجَاءَ فِي الدُّرِّ الْمُخْتَارِ وَحَاشِيَةِ ابْنِ عَابِدِينَ عَلَيْهِ: وَيُوَرِّي وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ، ثُمَّ إِنْ وَرَّى لاَ يَكْفُرُ كَمَا إِذَا أُكْرِهَ عَلَى السُّجُودِ لِلصَّلِيبِ، أَوْ سَبِّ مُحَمَّدٍ ﷺ فَفَعَل وَقَال: نَوَيْتُ بِهِ الصَّلاَةَ لِلَّهِ تَعَالَى وَمُحَمَّدًا آخَرَ غَيْرَ النَّبِيِّ، وَبَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ قَضَاءً لاَ دِيَانَةً.
وَإِنْ خَطَرَ بِبَالِهِ التَّوْرِيَةُ وَلَمْ يُوَرِّ كَفَرَ وَبَانَتْ مِنْهُ زَوْجَتُهُ دِيَانَةً وَقَضَاءً، لأَِنَّهُ أَمْكَنَهُ دَفْعُ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ عَنْ نَفْسِهِ وَوَجَدَ مَخْرَجًا عَمَّا ابْتُلِيَ بِهِ ثُمَّ لَمَّا تَرَكَ مَا خَطَرَ عَلَى بَالِهِ وَشَتَمَ مُحَمَّدًا ﷺ كَانَ كَافِرًا، وَإِنْ وَافَقَ الْمُكْرِهَ فِيمَا أَكْرَهَهُ، لأَِنَّهُ وَافَقَهُ بَعْدَمَا وَجَدَ مَخْرَجًا عَمَّا ابْتُلِيَ بِهِ، فَكَانَ غَيْرَ مُضْطَرٍّ.
وَإِنْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ وَفَعَل مَا يَكْفُرُ بِهِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ لَمْ يَكْفُرْ وَلَمْ تَبِنْ زَوْجَتُهُ لاَ قَضَاءً وَلاَ دِيَانَةً، لأَِنَّهُ تَعَيَّنَ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ وَلَمْ
_________
(١) البدائع ٧ / ١٧٦.
(٢) تكملة فتح القدير والهداية ٨ / ١٧٤ نشر دار إحياء التراث، وأشباه ابن نجيم ص ٢٨٢.
يُمْكِنْهُ دَفْعُهُ عَنْ نَفْسِهِ إِذْ لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِ غَيْرُهُ (١) .
وَيَقُول الْحَنَفِيَّةُ: إِنَّ الْكُفْرَ مُحَرَّمٌ فِي نَفْسِهِ مَعَ ثُبُوتِ الرُّخْصَةِ بِهِ فَأَثَرُ الرُّخْصَةِ فِي تَغَيُّرِ حُكْمِ الْفِعْل وَهُوَ الْمُؤَاخَذَةُ، لاَ فِي تَغَيُّرِ وَصْفِهِ وَهُوَ الْحُرْمَةُ، لأَِنَّ كَلِمَةَ الْكُفْرِ مِمَّا لاَ يَحْتَمِل الإِْبَاحَةَ بِحَالٍ فَكَانَتِ الْحُرْمَةُ قَائِمَةً، إِلاَّ أَنَّهُ سَقَطَتِ الْمُؤَاخَذَةُ لِعُذْرِ الإِْكْرَاهِ (٢) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (٣) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ: لاَ يَجُوزُ لِلْمُكْرَهِ الإِْقْدَامُ عَلَى الْكُفْرِ إِلاَّ إِذَا كَانَ الإِْكْرَاهُ بِالْقَتْل فَقَطْ، فَمَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُقْتَل جَازَ لَهُ الإِْقْدَامُ عَلَى الْكُفْرِ مَا دَامَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالإِْيمَانِ.
أَمَّا الإِْكْرَاهُ بِغَيْرِ الْقَتْل كَالضَّرْبِ وَقَتْل الْوَلَدِ وَنَهْبِ الْمَال وَقَطْعِ عُضْوٍ فَلاَ يَجُوزُ مَعَهُ الإِْقْدَامُ عَلَى الْكُفْرِ، وَلَوْ فَعَل ذَلِكَ كَانَ مُرْتَدًّا (٤) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ: يُبَاحُ بِالإِْكْرَاهِ التَّكَلُّمُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ مَا دَامَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالإِْيمَانِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ﴾ .
_________
(١) الدر المختار وحاشية ابن عابدين ٥ / ٨٣ - ٨٤، وتكملة فتح القدير ٨ / ١٧٤ - ١٧٦.
(٢) بدائع الصنائع ٧ / ١٧٦ - ١٧٧، وتكملة فتح القدير ٨ / ١٧٥.
(٣) سورة النحل / ١٠٦.
(٤) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي ٢ / ٣٦٩.
وَقَال الأَْذْرَعِيُّ يَظْهَرُ الْقَوْل بِالْوُجُوبِ فِي بَعْضِ الأَْحْوَال عَلَى بَعْضِ الأَْشْخَاصِ إِذَا كَانَ فِيهِ صِيَانَةٌ لِلْحُرُمِ وَالذُّرِّيَّةِ وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ الصَّبْرَ يُؤَدِّي إِلَى اسْتِبَاحَتِهِمْ أَوِ اسْتِئْصَالِهِمْ، وَقِسْ عَلَى هَذَا مَا فِي مَعْنَاهُ أَوْ أَعْظَمَ مِنْهُ (١) .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ قَال ابْنُ قُدَامَةَ: مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ فَأَتَى بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لَمْ يَصِرْ كَافِرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِْيمَانِ﴾، ثُمَّ قَال: مَنْ كَانَ مَحْبُوسًا عِنْدَ الْكُفَّارِ وَمُقَيَّدًا عِنْدَهُمْ فِي حَالَةِ خَوْفٍ، وَقَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ نَطَقَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لَمْ يُحْكَمْ بِرِدَّتِهِ، لأَِنَّ ذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي الإِْكْرَاهِ وَإِنْ شَهِدَتِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ كَانَ آمِنًا حَال نُطْقِهِ حُكِمَ بِرِدَّتِهِ (٢) .
وَمَنْ نَطَقَ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لإِكْرَاهِ وَقَعَ عَلَيْهِ، ثُمَّ زَال عَنْهُ الإِْكْرَاهُ أُمِرَ بِإِظْهَارِ إِسْلاَمِهِ، فَإِنْ أَظْهَرَهُ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى إِسْلاَمِهِ، وَإِنْ أَظْهَرَ الْكُفْرَ حُكِمَ أَنَّهُ كَفَرَ مِنْ حِينِ نَطَقَ بِهِ، لأَِنَّنَا تَبَيَّنَّا بِذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ بِالْكُفْرِ مِنْ حِينِ نَطَقَ بِهِ مُخْتَارًا لَهُ (٣) .
٨ - وَيَتَّفِقُ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَهُوَ الأَْصَحُّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى أَنَّ الصَّبْرَ وَالثَّبَاتَ
_________
(١) أسنى المطالب مع هامشه حاشية الرملي ٤ / ٩.
(٢) المغني ٨ / ١٤٥، ١٤٦.
(٣) المغني ٨ / ١٤٦.
عَلَى الإِْيمَانِ مَعَ الإِْكْرَاهِ وَلَوْ كَانَ بِالْقَتْل أَفَضْل مِنَ الإِْقْدَامِ عَلَى الْكُفْرِ حَتَّى لَوْ قُتِل كَانَ مَأْجُورًا، لِمَا وَرَدَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ ﷺ قَال: قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُل فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَْرْضِ فَيُجْعَل فِيهَا، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَل نِصْفَيْنِ، وَيُمَشَّطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مِنْ دُونِ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ (١) .
وَمُقَابِل الأَْصَحِّ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَوْجُهٌ:
أَحَدُهَا: الأَْفْضَل الإِْتْيَانُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ.
صِيَانَةً لِنَفْسِهِ.
وَالثَّانِي: إِنْ كَانَ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُقْتَدَى بِهِمْ فَالأَْفْضَل الثُّبُوتُ (٢) .
وَالثَّالِثُ: إِنْ كَانَ يُتَوَقَّعُ مِنْهُ الإِْنْكَاءُ وَالْقِيَامُ بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ فَالأَْفْضَل أَنْ يَنْطِقَ بِهَا لِمَصْلَحَةِ بَقَائِهِ، وَإِلاَّ فَالأَْفْضَل الثُّبُوتُ.
أَصْنَافُ الْكُفَّارِ:
٩ - ذَكَرَ الْكَاسَانِيُّ أَنَّ الْكَفَرَةَ أَصْنَافٌ أَرْبَعَةٌ
صِنْفٌ مِنْهُمْ يُنْكِرُونَ الصَّانِعَ أَصْلًا، وَهُمُ الدَّهْرِيَّةُ الْمُعَطِّلَةُ.
وَصِنْفٌ مِنْهُمْ يُقِرُّونَ بِالصَّانِعِ، وَيُنْكِرُونَ
_________
(١) حديث: " قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل. . . ". أخرجه البخاري (فتح الباري ١٢ / ٣١٥ - ٣١٦) من حديث خباب بن الأرت.
(٢) الشبراملسي مع نهاية المحتاج ٧ / ٢٤٧، وحاشية الجمل ٥ / ٩.
تَوْحِيدَهُ، وَهُمُ الْوَثَنِيَّةُ وَالْمَجُوسُ.
وَصِنْفٌ مِنْهُمْ يُقِرُّونَ بِالصَّانِعِ وَتَوْحِيدِهِ، وَيُنْكِرُونَ الرِّسَالَةَ رَأْسًا، وَهُمْ قَوْمٌ مِنَ الْفَلاَسِفَةِ.
وَصِنْفٌ مِنْهُمْ يُقِرُّونَ الصَّانِعَ وَتَوْحِيدَهُ وَالرِّسَالَةَ فِي الْجُمْلَةِ، لَكِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ رِسَالَةَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى (١) .
مَا اتُّفِقَ عَلَى اعْتِبَارِهِ كُفْرًا وَمَا اخْتُلِفَ فِيهِ
١٠ - الْكُفْرُ قِسْمَانِ: قِسْمٌ يَكُونُ بِأَحَدِ أُمُورٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا، وَقِسْمٌ يَكُونُ بِأُمُورٍ مُخْتَلَفٍ فِيهَا.
فَالأَْوَّل: نَحْوُ الشِّرْكِ بِاللَّهِ وَجَحْدِ مَا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، كَجَحْدِ وُجُوبِ الصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهِمَا، وَالْكُفْرُ الْفِعْلِيُّ كَإِلْقَاءِ الْمُصْحَفِ فِي الْقَاذُورَاتِ، وَكَذَلِكَ جَحْدُ الْبَعْثِ أَوِ النُّبُوَّاتِ (٢) .
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: فَمِنْهُ مَا يَكُونُ بِالاِعْتِقَادِ أَوْ بِالْقَوْل أَوْ بِالْفِعْل أَوْ بِالتَّرْكِ.
وَالتَّفْصِيل فِي (رِدَّةٌ ف ١٠ - ٢١) .
مُخَاطَبَةُ الْكُفَّارِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ:
١١ - قَال الزَّرْكَشِيُّ: حُصُول الشَّرْطِ الْعَقْلِيِّ مِنَ التَّمَكُّنِ وَالْفَهْمِ وَنَحْوِهِمَا شَرْطٌ فِي صِحَّةِ
_________
(١) البدائع ٧ / ١٠٢ - ١٠٣، وينظر المغني ٨ / ٣٦٢، والشبراملسي بهامش نهاية المحتاج ٢ / ٤٢١.
(٢) الفروق للقرافي ١ / ١٢٣ - ١٢٤، وتهذيب الفروق بهامشه ١ / ١٣٦ - ١٣٧.
التَّكْلِيفِ، أَمَّا حُصُول الشَّرْطِ الشَّرْعِيِّ فَلاَ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ التَّكْلِيفِ بِالْمَشْرُوطِ خِلاَفًا لِلْحَنَفِيَّةِ وَهِيَ (الْمَسْأَلَةُ) مَفْرُوضَةٌ فِي تَكْلِيفِ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ وَإِنْ كَانَتْ أَعَمَّ مِنْهُ.
وَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ خِطَابِ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ عَقْلًا (١) .
أَمَّا خِطَابُ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ شَرْعًا فَفِيهِ - كَمَا قَال الزَّرْكَشِيُّ - مَذَاهِبُ:
الْقَوْل الأَْوَّل: أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ مُطْلَقًا فِي الأَْوَامِرِ وَالنَّوَاهِي بِشَرْطِ تَقْدِيمِ الإِْيمَانِ بِالْمُرْسَل كَمَا يُخَاطَبُ الْمُحْدِثُ بِالصَّلاَةِ بِشَرْطِ تَقْدِيمِ الْوُضُوءِ.
وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ﴾ (٢)، فَأَخْبَرَ ﷾ أَنَّهُ عَذَّبَهُمْ بِتَرْكِ الصَّلاَةِ وَحَذَّرَ الْمُسْلِمِينَ بِهِ، وقَوْله تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَل ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ (٣) .
فَالآْيَةُ نَصٌّ فِي مُضَاعَفَةِ عَذَابِ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْقَتْل وَالزِّنَا، لاَ كَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ
_________
(١) البحر المحيط للزركشي ١ / ٣٩٧ - ٣٩٨.
(٢) سورة المدثر / ٤٢ - ٤٣.
(٣) سورة الفرقان / ٦٨ - ٦٩.